المسألة التاسعة والسبعون

ما السبب في محبة الإنسان الرئاسة؟

ومن أين ورث هذا الخُلُق؟

وأي شيء رمزت الطبيعة به؟

ولِمَ أفرط بعضهم في طلبها، حتى تلقَّى الأسِنَّة بنحره، وواجه المُرهَفات بصدره، وحتى هجر من أجلها الوِساد، وودَّع بسببها الرقاد، وطوى المَهَامِه والبلاد؟

وهل هذا الجنس من جنس من امتعض في ترتيب العنوان إذا كُوتب أو كاتب؟

وما ذاك من جميع ما تقدَّم؟ فقد تَشَاحَّ الناس في هذه المواضع وتباينوا وبلغوا المبالغ.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

قد تبيَّن أن في الناس ثلاث قوى، وهي: الناطقة، والبهيمية، والغضبية.

فهو بالناطقة منها يتحرك نحو الشهوات التي يتناول بها اللذات البدنية كلها، ويظهر أثرها من الكبد.

وبالغضبية منها يتحرك إلى طلب الرئاسات، ويشتاق إلى أنواع الكرامات، وتعرض له الحَمِيَّة والأنَفَة، ويلتمِس العز والمراتب الجليلة العالية، ويظهر أثرها من القلب.

وإنما تقوى فيه واحدة من هذه القوى بحسب مزاج قوة هذه الأعضاء التي تُسمَّى الرئيسية في البدن.

فربما خرج عن الاعتدال فيها إلى جانب الزيادة والإفراط أو إلى ناحية النقصان والتفريط، فيجب عليه حينئذٍ أن يعدِّلها ويرُدَّها إلى الوسط — أعني الاعتدال الموضوع له — ولا يسترسل لها بترك التقويم والتأديب؛ فإن هذه القوى تهيج لِما ذكرناه.

فإن تُرِكَتْ وَسَوْمَهَا، وترك صاحبها إصلاحها وعلاجها بالأعقال واتباع الطبيعة تفاقم أمرها، وغلبت حتى تجمح إلى حيث لا يُطْمَع في علاجها ويُؤْيس من بُرْئِها.

وإنما يُمْلك أمرها وتأديبها في مبدأ الأمر بالنَّفْس التي هي رئيسة عليها كلها — أعني المميزة العاقلة التي تُسمَّى القوة الإلهية — فإن هذه القوة ينبغي أن تستولي وتكون لها الرئاسة على الباقية.

فمحبة الإنسان للرئاسة أمر طبيعي له، ولكن يجب أن تكون مُقَوَّمة لتكون في موضعها وكما ينبغي.

فإن زادت أو نقصت في إنسان لأجل مزاج أو عادة سيئة وجب عليه أن يُعَدِّلها بالتأديب ليتحرك كما ينبغي، وعلى ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي.

وقد مضى من ذِكْر هذه القوى وآثارها في موضعه ما يجب أن يُقتصر بها هنا على هذا المقدار، ونقول:

إنه كما يعرض لبعض الناس أن يلقى الأسنَّة بنحره ويركب أهوال البر والبحر لنيل الشهوات بحسب حركة قوة النفس البهيمية فيه وتركه قمْعها، فكذلك يعرض لبعضهم في نهوض قوة النفس الغضبية فيهم إلى نيل الرئاسات والكرامات أن يركب هذه الأهوال فيها.

ومدار الأمر على العقل الذي هو الرئيس عليها وأن يجتهد الإنسان في تقوية هذه النفس لتكون هي الغالبة وتتعبَّد القوتان الباقيتان لها حتى تُصدِر عن أمره وتتحرك لِما ترسمه وتقف عند ما يحده؛ فإن هذه القوة هي التي تُسمَّى الإلهية، ولها قوة على رئاسة تلك الأُخر، وهداية إلى علاجها وإصلاحها، واستقلال بالرئاسة التامة عليها، ولكنها — كما قال أفلاطون — في لين الذهب وتلك في قوة الحديد، وللإنسان الاجتهاد والميل إلى تذليل هذه لتلك فإنها سَتَذِل وتنقاد، والله المعين وهو حسبنا ونِعمَ الوكيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤