المسألة الثامنة

ما سبب الحياء من القبيح مرة وما سبب التبجح به مرة؟

وما الحياء أولًا؛ فإن في تحديده ما يُقرِّب من البُغْيَة ويُسهِّل دَرَكَ الحق؟

وما ضمير قول النبي : «الحياء شعبةٌ من الإيمان»؟ فقد قال بعض العلماء: كيف يكون الحياء — وهو من آثار الطبيعة — شُعبةً من الإيمان والإيمان فعل؟ يَدُلُّكَ آمَنَ يؤمِن إيمانًا، وهناك تقول حَيِيَ الرجل واستحيا، فيصير من باب الانفعال أي المطاوعة.

وهل يُحمد الحياء في كل موضع أم هو موقوف على شأن دون شأن ومقبول في حال دون حال؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

أما الحياء الذي أحببتَ أن نبدأ به فحقيقته انحصار نفسٍ مخافة فعلٍ قبيح يصدر عنها.

وهو خُلُق مَرْضِيٌّ في الأحداث؛ فإنه يدل على أن نفسه قد شعرت بالشيء القبيح وأشفقت من مُواقعته وكرهت ظهوره منه، فعرض لنفسه هذا العارض.

وإحساس النفس بالأفعال القبيحة ونفورها عنها دليلٌ على كرم جوهرها ومُطْمِعٌ في استصلاحها جدًّا.

قال صاحب الكتاب في تدبير المنزل:

ليس يوجد في الصبي فراسةٌ أصحُّ ولا دليلٌ أصدقُ لمن آثر أن يعرف نجابته وفلاحه وقبوله الأدب؛ من الحياء.

وذلك لِما ذكرناه من علة الحياء وبيَّناه من أمره.

فأما المشايخ فلا يجب أن يعرض لهم هذا العارض؛ لأنه لا ينبغي لهم أن يحذروا وقوع فعل قبيح منهم لِما سبق من علمهم ودُرْبَتهم ومعرفتهم بمواضع القبيح والحسن، ولأن نفوسهم يجب أن تكون قد تهذبت وأمِنت وقوع شيء قبيح منهم، فلذلك لا ينبغي أن يعرض لهم الحياء.

وقد بيَّن الحكيم هذا في كتاب «الأخلاق».

فقد ذكرنا الحياء ما هو وأنه انفعال، وأنه يحسُن بالأحداث خاصة وذكرنا سبب حُسْنه فيهم.

•••

فأما المسألة عن سبب التبجح بالقبيح فمسألةٌ غير لازمة؛ لأن هذا العارض سببه الجهل بالقبيح، وليس يعرض إلا للجهال من الناس، والدليل على ذلك أنهم إذا عرفوا القبيح أنه قبيح اعتذروا منه وتركوا التبجح به، وإنما يتبجح حين لا يعلم وجه قبحه، وهو في تلك الحال إذا تبجح به خرَّج له وجهًا مموَّهًا في الحسن، فيصير تبجُّحه بالحسن الذي خرَّجه أو موَّه به، فإذا تيقن أنه قبيح أو ليس يُتموَّه وجهُ الحسن فيه؛ عدَل عنه، واستحيا منه، وترك التبجح به.

•••

فأما قوله عليه السلام: «الحياء شعبةٌ من الإيمان» فكلامٌ في غاية الحُسن والصحة والصدق، وكيف لا يكون شعبةً منه وإنما الإيمان التصديق بالله عز وجل، والمصدِّق به مصدِّق بصفاته وأفعاله التي هي من الحُسن في غايةٍ لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيءٌ من المستحسنات؛ لأنها هي سبب حُسْن كل حَسَن، وهي التي تفيض بالحُسن على غيرها؛ إذ كانت معدنه ومبدأه، وإنما نالت الأشياء كلها الحُسن والجمال والبهاء منها وبها.

وكذلك جميع أوامر الله تعالى وشرائعه وموجبات العقل الذي هو رسوله الأول ووكيله — عند جميع خلقه — الأقدم.

ومن عرف الحُسن عرف ضده لا محالة، ومن عرف ضده حَذِره وأشفق منه، فعرض له الحياء الذي حرَّرناه ولخَّصناه.

وصديقك أبو عثمان يقول: «الحياء لباسٌ سابغ، وحجاب واقٍ، وسِتر من المساوئ، أخو العفاف، وحليف الدين، ومصاحب بالتصنع، ورقيبٌ من العصمة، وعين كالئة، يذُود عن الفساد، وينهى عن الفحشاء والأدناس.»

وإنما حكيتُ لك ألفاظه لشغفك به وحُسن قَبولك كل ما يشير إليه ويدل عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤