المسألة الثالثة والثمانون

ما التَّطَيُّر والفأل؟ ولِمَ أُولِعَ كثير من الناس بهما؟

وكيف نُفِيَ عن الشريعة أحدهما ورُخِّص الآخر؟

وهل لهما أصل يُرجَع إليه ويُوقَف لديه؟

أو هما جاريان مرة بالهاجس والاستشعار، ومرة بالاتفاق والاضطرار؟

والخبر عن النبي فاشٍ في هذا المعنى، وليس طريقه محْدثًا للعلم ولا متنه مجيلًا للرأي؛ إذ يقول: «لا عدوى ولا طِيرَة.» وقد قيل في مكان آخر: كان يحب الفأل الحسن.

وزعم الرواة أنه حين نزل المدينة عند أبي أيوب الأنصاري سمعه يقول لغلامين له: «يا سالم، يا يَسَار»، فقال لأبي بكر: «سلِمت لنا الدار في يُسْر.»

فكيف هذا وما طريقه؟

وهل يطَّرِد ذلك في تطايره أم يقف؟

•••

ثم حكيت الحكاية عن ابن إسماعيل في قصة الزعفراني.

•••

وحكيت أيضًا عن ابن الرُّومي قوله: الفأل لسان الزمان وعنوان الحِدْثَان.

وقلت: ما أكثر ما يقع ما لا يُتوقَّع مما لم يتقدم فيه قول ولا إرجاف، حتى إذا قارن ذلك شيء صار العجب العُجَاب والشيء المُستطرَف.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

الإنسان متطلع إلى الوقوف على كائنات الأمور ومستقبلاتها ومغيباتها، كما وصفنا مِنْ حاله فيما تقدَّم، فهو بالطبع يتشوَّفها ويروم معرفتها على قدر استطاعته وبحسب طاقته، فربما أمكنه التوصل إلى بعضها بطبيعة موافقة، في رأى صائب وحَدْسٍ صادق وتكهُّن في الأمور لا يكاد يخطئ فيها، فهو من أعلى درجة في هذا الباب وأوثق سبب فيه، فربما تعدَّد في بعضها ذلك، فيرُوم التوصل إليه بدلائل النجوم وحركات الأشخاص العُلوية وتأثيرها في العالم السفلي، ويصدُق حُكْمه أو يكذب بحسب قوته في أخذ الدلائل ومزْجها بعد ذلك.

ولهذه الصناعة أصول كثيرة جدًّا، وفروع بحسب الأصول.

وخطأُ المخطئ ليس من ضعف أصول الصناعة، ولكن من ضعف الناظر فيها، أو لأنه يرُوم من الصناعة أكثر مما فيها، فيحمل عليها زيادة على الموضوع منها، وربما فاتته هذه الأسباب ونظائرها من الدلائل الطبيعية.

وليس من شأن النفس أن تعمل عملًا بغير داعٍ إليه ولا سبب له فيصير كالعبث، فإذا سنح له أمران ولم يرجح أحدهما على الآخر طلب لنفسه حجة في ركوب أحدهما دون الآخر، فيستريح حينئذٍ إلى الأسباب الضعيفة، ويَتَمَحَّل العلل البعيدة بقدر ما يترجَّح أحد الرأيين المتكافئَين في نفسه على الآخر حتى يصل إليه ويأخذ به.

•••

وسبيل الرجل الفاضل أن يكون حسن الظن، قويم الرجاء، جميل النية، فيتفاءل حينئذٍ.

والفأل قد يكون بأصوات بسيطة ليس فيها أثر النطق، ولكن أكثره بالكلام المفهوم.

وقد يكون بصورة مقبولة وأشكال مستحسنة، ولكن معظمه في خلق الإنسان.

وقال النبي : «إذا أَبْرَدْتُمْ إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الاسم حسن الوجه.»

•••

فأما أصحاب الطِّيَرة فلأنهم أضداد لأصحاب النيات الجميلة والرجاء الحسن، فطريقتهم مكروهة، وتطيُّرهم من الأمور أكثر، وأنواع دلائلهم أغزر وأبسط، وذلك أنهم يأخذون بعضها من الخِيلان في الناس، والدوائر في الخيل، وأصناف الخِلق الطبيعية.

وبعضها من الأمزجة المتنافرة والخِلَق المكروهة كالبوم والهامة والعقرب والفأر وما أشبهها.

وبعض من الأصوات المنكرة كنهيق الحمير وأصوات الحديد وما أشبهها.

وبعضها من الأسماء والألقاب إذا اشتقُّوا لها ما يوافقها في بعض الحروف أو في كلها: كاسم الغراب من الغُرْبَة، والبان من البَيْن، والنوى — نوى التمر — من البُعد.

وبعضها من العاهات: كالأعور من اليمين، والمقعد من الرجل.

وبعضها من الحركات والجهات: كالسَّانح والبارح، والمُعْوَج والمائل.

وجميع ذلك لضعف النفس والنَّحِيزَة، واستيلاء اليأس والقنوط عليها.

وهذه الاستشعارات تزيدها سوء الحال فلذلك نُهِيَ عنها.

وكانت العرب خاصة من بين الأمم أحرص على هذه الطريقة وألزم لها، على أن شاعرهم يقول وقد أحسن:

تخبَّر طيره فيها زياد
لتُخبره وما فيها خبيرُ
أقام كأن لقمان بن عاد
أشار له بحكمته مشيرُ
تعلَّم أنه لا طير إلا
على متطيِّر وهو الثُّبُورُ
بلى شيءٌ يوافق بعض شيء
أحايينًا وباطله كثيرُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤