المسألة السادسة والثمانون

ما الفضيلة السارية في الأجناس المختلفة كالعرب والرُّوم والفُرس والهند؟

وزعمت أنك حذفت التُّرك؛ لأن «أبا عثمان» لا يعتد بهم، إلى ما يتصل به من كلامك مما لم أحكه؛ إذ كانت المسألة هي في قدْر ما خرج من حكايتي.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

لما كانت هذه المسألة متوجهة إلى خصائص الأمم، والتعجب واقعًا مما تفرَّد به قوم دون قوم، أقبلتُ على البحث عن ذلك وتركتُ تهذيب ألفاظ المسألة.

وهذه سبيلي في سائر المسائل؛ لأن صاحبها يسلك مسلك الخطابة ولا يذهب مذهب أهل المنطق في تحقيق المسألة وتَوْفِيَتِها حظها على طُرُقهم، فأقول وبالله التوفيق:

قد تقدَّم فيما مضى من كلامنا أن النفس تستعمل الآلات البدنية فتصدر أفعالها بحسب أمزجتها، وحكينا عن جالينوس مذهبه، ودللنا على الموضع الذي يُستخرج منه ذلك، وضربنا له مثلًا من الحرارة الغريزية وغيرها إذا كانت حاضرة كيف تستعملها النفس الناطقة حتى تكون كما ينبغي، وعلى ما ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وأن الرياضة وحُسْن التقدير والترتيب ولزوم ذلك حتى يصير سجية ومَلَكَة هي الفضيلة والخُلُق المحمود.

فإذا كان هذا الأصل محفوظًا فما أيسر الجواب عن مسألتك هذه!

وذاك أن لكل أُمَّة مزاجًا هو الغالب عليهم، وإن كان يوجد في النادر وفي الفرط ما هو مخالف لذلك المزاج، وذلك لأجل التربة والهواء والأغذية والمزاج التابع لذلك، ولما كرهتهُ أنت أيضًا من آثار الفلك والكواكب فإن ذلك العالم هو المؤثِّر في هذا العالم بالجملة.

أما أولًا فبتمييز العناصر بعضها عن بعض ثم بمزجها على الأقل والأكثر، ثم بإعطائها الصور والأشكال.

وليس لاستعفائك من الحق وجه، ولا لإعفائك إياك منه طريق؛ فالتزمه فإنه واجب.

ولولا أن مسألتك وقعت عن غير هذا المعنى لاشتغلت به، ولكن هذا أصل له، فلا بد في ذكر الفرع من ذكر الأصل.

وإذا كان هذا على هذا فحيث يعتدل مزاجٌ ما من الأمزجة الشريفة — أعني في الأعضاء الشريفة وهي: القلب والكبد والدماغ — وأضيف إلى ذلك ما ذكرناه من أخلاق فاضلة — أعني ترتيب الأفعال الغامرة، وبحسب المزاج، وتهذيبها ولزومها يتكرر الفعل وإدمان العادة — فهناك تحصيل الفضيلة الصادرة عنها.

وسواء أكان ذلك في أُمَّة أو شخص، أو كان ذلك عن ابتداء أخلاقٍ شريفة، أو تأديبٍ شيئًا فشيئًا بعد أن يكون المزاج مسعدًا، والبُغية قابلة، والعادة مستمرة؛ فإن الفضيلة حاصلة غير زائلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤