المسألة الحادية والتسعون

لِمَ حنَّ بعض الناس إلى السفر من لدُن طفوليته إلى كهولته ومنذ صغره إلى كبره، حتى إنه يعُق الوالدين، ويشُق الخافقين صابرًا على وعثاء السفر، وذل الغربة، ومهانة الخمول، وهو يسمع قول الشاعر:

إن الغريب بحيث ما
حطت ركائبه ذليلُ
ويد الغريب قصيرةٌ
ولسانه أبدًا كليلُ
والناس ينصر بعضهم
بعضًا وناصره قليلُ

وآخر ينشأ في حضن أمه وعلى عانق ظئره، ولا ينزِع به حنين إلى بلد، ولا يغلبه شوق إلى أحد، كأنه حجر جبله، أو حصاة جدوله؟

لعلك تقول: مواضع الكواكب ودرجة الطالع وشكل الفلك اقتضت له هذه الأحوال وقَصَرَتْه على هذه الأمور، فحينئذٍ تكون المسألة عليك في آثار هذه النجوم، وتوزيعها هذه الأسباب على ما هي عليه من ظاهر التسخير أشد، وتكلُّف الجواب عنها آكد وأنكد.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن قوة النِّزاع إلى المحسوسات تنقسم بانقسام الحواس، وكما أن بعض المزاج تقوى فيه حاسة البصر وبعضه تقوى فيه حاسة السمع، فكذلك الحال في القوة النِّزاعية التي في تلك الحاسة؛ لأنها هي التي تشتاق إلى تكمُّل الحاسة وتصييرها بالفعل بعد أن كانت بالقوة، ومعنى هذا الكلام أن الحواس كلها هي حواس بالقوة إلى أن تدرك محسوساتها، فإذا أدركتها صارت حواس بالفعل.

وإذا كان الأمر على ما وصفنا فليس بعجب أن يكون هذا المعنى في بعض الحواس قويًّا ويضعف في بعض، فيكون بعض الناس يشتاق إلى السماع، وبعضهم إلى النظر، وبعضهم إلى المذُوقات من المأكول والمشروب، وبعضهم إلى المشمومات وألوان الروائح، وبعضهم إلى الملبوسات من الثياب وغيرها، وربما اجتمع لواحد بعد الواحد أن يشتاق إلى اثنين منها أو ثلاثة أو إليها كلها.

ولكل واحد من هذه المحسوسات أنواع كثيرة لا تُحصى، ولأنواعها أشخاص بلا نهاية، وهي على كثرتها وعددها الجم وخروجها إلى حد ما لا نهاية له ليست كمالات للإنسان من حيث هو إنسان، وإنما كماله الذي يُتمِّم إنسانيته هو فيما يدركه بعقله، أعني العلوم، وأشرفها ما أدى إلى أشرف المعلومات، وإنما صار البصر والسمع أشرف الحواس؛ لأنهما أخص بالمعارف، وأقرب إلى الفهم والتمييز، وبهما تُدرَك أوائل المعارف، ومنهما يُرتقَى إلى العلوم الخاصة بالنطق.

وإذا كانت الحالة على هذه الصورة في الشوق إلى ما يُتمِّم وجود الحواس ويخرجها إلى الفعل، وكان من الظاهر المتعارف أن بعض الناس يشتاق إلى نوع منها فيحتمل فيه كل مشقة وأذى حتى يبلغ أربَه فيه، لم يكن بديعًا ولا عجبًا أن يشتاق آخَر إلى نوع آخر فيحتمل مثل ذلك فيه، إلا أنَّا وجدنا اللغة في بعض هذه عُنِيت فوضعت له اسمًا، وفي بعضها لم تُعْنَ فأهملته؛ وذلك أنَّا قد وجدنا لمن يشتاق إلى المأكول والمشروب إذا أفرطت قوته النِّزاعية إليهما حتى يعرض له ما ذكرتُ من الحرص عليهما والتوصل إليهما ما يحتمل معه ضروب الكُلَف والمشاق اسمًا وهو الشَّرَه والنَّهَم، ولم نجد لمن يعرض له ذلك في المشموم والمسموع اسمًا. وأظن ذلك لأجل كثرة ما يوجد من ذلك الضرب، ولأن عيبه أفحش، وما يجلبه من الآثام والقبائح أكثر.

فقد ظهر السبب في تشوُّق بعض الناس إلى الغربة وجولان الأرض، وهو أن قوته النزاعية التي تختص بالبصر تحب الاستكثار من المبصرَات وتحديدها، ويظُن أن أشخاص المبصرَات تُستغرَق، فهو يحتمل كثيرًا من المشاق في الوصول إلى أَرَبه من إدراك هذا النوع.

وقد نجد من يحتمل أكثر من ذلك إذا تحرك بقوته النزاعية إلى سائر المحسوسات الأُخَر والاستكثار منها. فتأمَّل الجميع، وأعد نظرك، وتصفَّح جزئياتها تجد الأمر فيها واحدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤