المسألة الثانية والتسعون

ما سبب رغبة الإنسان في العلم؟

ثم ما فائدة العلم؟ ثم ما غائلة الجهل؟ ثم ما عائدة الجهل الذي قد شَمِلَ الخَلْق؟

وما سر العلم الذي قد طُبِعَ عليه الخَلْق؟

فإن استشفاف هذه الفصول واستكشاف هذه الأصول يُثِيرَان علمًا وحكمًا جمًّا، وإن كان فيها — في البحث عنها وبعض أوائلها وأواخرها — مشقة على النفس وثقَل على الكاهل، ولولا معونة الخالق مَنْ كان يقطع هذه التَّنَائِفَ المُلْس؟ ومَن كان يسلك هذه المهامِه الخُرْس؟ ولكن الله تعالى وليُّ المخلصين، وناصر المطيعين، ومغيث المستصرخين.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

مرَّ لنا في عرض كلامنا على هذه المسائل ما يُنبِّه على جواب هذه المسألة، ولكنه لا بد من إعادة شيء منه يزيد في كشف الشبهة وإزالة الشك، وهو أن العلم كمال الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأنه إنما صار إنسانًا بصورته التي ميَّزته عن غيره، أعني النبات والجماد والبهائم.

وهذه الصورة التي ميَّزته ليست في تخاطيطه وشكله ولونه، والدليل على ذلك أنك تقول: فلان أكثر إنسانية من فلان، فلا تعني به أنه أتم صورة بدن، ولا أكمل في الخلق التخطيطي، ولا في اللون، ولا في شيء آخر غير قوته الناطقة التي يُميِّز بها بين الخير والشر في الأمور، وبين الحسن والقبيح في الأفعال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات؛ ولذلك قيل في حد الإنسان: إنه حي ناطق مائت، فمُيِّز بالنطق؛ أعني بالتمييز بينه وبين غيره، دون تخطيطه وشكله وسائر أغراضه ولواحقه.

وإذا كان هذا المعنى من الإنسان هو ما صار به إنسانًا، فكلما كثُرت إنسانيته كان أفضل في نوعه، كما أن كل موجود في العالم إذا كان فِعله الصادر عنه بحسب صورته التي تخصُّه، فإنه إذا كان فِعله أجود كان أفضل وأشرف، مَثَلُ ذلك الفرس والبازي من الحيوان، والقلم والفأس من الآلات؛ فإن كل واحد من هذه إذا صَدَرَ عنه فِعله الخاص بصورته كاملًا كان أشرف في نوعه ممن قصر عنه، وكذلك الحال في النبات والجماد؛ فإن لكل واحد من أشخاص الموجودات خاص صورة يصدُر عنه فِعله وبحسبه يشرُف أو يَخُس إذا كان تامًّا أو ناقصًا، فأيُّ فائدة أعظم مما يُكمِّل وجودك، ويتمم نوعك، ويعطيك ذاتك حتى يميِّزك عن الجماد والنبات والحيوانات التي ليست بناطقة، ويقرِّبك من الملائكة والإله عز وجل وتقدَّس وتعالى؟ وأي غائلة أدهى وأمَرُّ وأكْلَمُ وأطَمُّ مما يُنَكِّسُك في الخَلْق، ويرُدُّك إلى أرذل وجودك، ويحُطُّك عن شرف مقامك إلى خساسة مقامات ما هو دونك؟

أظنك تذهب إلى أن العلم يجب أن يفيدك لا محالة جاهًا أو سلطانًا أو مالًا تتمكن به من شهوات ولذَّات، فلعمري إن العلم قد يفعل ذلك، ولكن بالعرَض لا بالذات؛ لأن غاية العلم، والذي يسوق إليه، ويكمُل به الإنسان ليس هو غايات الحواس، ولا كمال البدن، وإن كان قد يتم به ذلك في كثير من الأحوال، ومتى استعملته في هذا النوع فإنه يُكمِّل صورتك البهيمية والنباتية، وكأنه استُعمِل في أرذل الأشياء، وهو مُعَدٌّ لأن يُستعمَل في أشرفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤