المسألة الرابعة والتسعون

لِمَ كلما شاب البدن شبَّ الأمل؟ قال أبو عثمان النَّهْدِي: قد أتت عليَّ مائة وثمانون سنة وأنكرت كل شيء إلا الأمل فإنه أحدُّ ما كان.

ما سبب هذه الحال؟ وعلى ماذا يدل الرمز فيها؟

وما الأمل أولًا؟ وما الأمنية ثانيًا؟ وما الرجاء ثالثًا؟

وهل تشتمل هذه على مصالح العالم؟

فإن كانت مشتملة فلِمَ تواصى الناس بقِصَر الأمل وقطْع الأماني وبصرف الرجاء إلا في الله تبارك وتعالى، وإلى الله فإنه ساتر العورة، وراحِم العَبرة، وقابل التوبة وغافر الخطيئة، وكل أمل في غيره باطل، وكل رجاء في سواه زائل؟

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

هذه المسألة قد أُخِذَ فيها فِعلٌ من أفعال النفس، فَقُرِنَ بفعل من أفعال الطبيعة التي بحسب البدن إلى الطبيعة والمزاج البدني، ثم وقعت المقايسة بينهما، وهما يتباينان لا يتشابهان فلذلك عرَض التعجب منها، وذلك أن الأمل والرجاء والمُنَى من خصائص القوة الناطقة، فأما الشيب والنُّقصانات التي تعرض للبدن، وعجز القوى التابعة للمزاج، فهي أمور طبيعية في آلات تَكِلُّ بالاستعمال، وتضعُف على مَرِّ الزمان.

وأما أفعال النفس فإنها كلما تكررت وأُديمت فإنها تقوى ويشتد أثرها فهي بالضد من حال البدن، مثال ذلك أن النظر العقلي كلما استُعمِل قوِيَ واحتد، وأدرك في الزمان القصير ما يدركه في الزمان الطويل، ولَحِقَ الأمر الذي كان خفيًّا عنه بسرعة.

والنظر الحسي كلما استُعمِل كَلَّ وضعُف ونقص أثره إلى أن يضمحل.

•••

فأما الفرق بين الأمل والرجاء وبين الأمنية فظاهر؛ وذاك أن الأمل والرجاء يَعْلَقَان بالأمور الاختيارية وبالأشياء التي لها هذا المعنى.

فأما الأمنية فقد تتعلق بما لا اختيار له ولا رويَّة؛ فإنه ليس يمنع مانع من تمنِّي المُحال والأشياء التي لا تمييز فيها ولا لها.

والأمل أخصُّ بالمختار، والرجاء كأنه مشترك، وقد يرجو الإنسان المطر والخِصْب، وليس يأمل إلا من له قدرة ورويَّة.

وأما المُنَى فهو — كما علمت — شائع في الكل ذاهب كل مذهب، فقد يتمنى الإنسان أن يطير أو يصير كوكبًا أو يصعد إلى الفلك فيشاهد أحواله، وليس يرجو هذا ولا يأمله، ثم قد يرجو المطر، وليس يأمل إلا مُنزل القطر ومُنشئ الغيث، فهذه فروق واضحة.

•••

فأما قولك: لِمَ تواصى الناس بقِصَر الأمل وقطع الأماني وصرف الرجاء إلا في الله تعالى؟ فأقول: لأن سائر الأشياء المأمولة والمرجوة والمُتَمَنَّاة منقطعة المَدد، متناهية العدد، ثم هي متلاشية في أنفسها، مضمحلة بائدة فاسدة، لا يثبت شيء منها على حال لحظةً واحدة، فلو وصل الواصل إليها وبلغ نَهْمَتَهُ منها لأوشك أن يتلاشى ويضمحل ذلك الشيء في نفسه، أو يتلاشى ويضمحل الأمل فيه، أو رجاؤه وتمنِّيه.

فأما ما اتصل من هذه بالله تعالى ذكره فهو أبدي غير منقطع ولا مضمحل، بل الله تعالى دائم الفيض به أبدي الجود منه، تعالى اسمه وتقدَّس ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ومعيننا وناصرنا وهادينا إلى صراط مستقيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤