المسألة السابعة والتسعون

ما السبب في طلب الإنسان فيما يسمعه ويقوله ويفعله ويرتئيه ويُرَوِّي فيه، الأمثال؟
وما فائدة المَثَل؟ وما غناؤه من مَأْتَاه؟ وعلى ماذا قراره؟
فإن في المَثَل والمِثْل والمماثَلة والتمثيل كلامًا رائقًا وغايةً شريفةً.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن الأمثال إنما تُضرَب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه.

والسبب في ذلك أُنْسُنَا بالحواس، وإلْفُنَا لها منذ أول كونها، ولأنها مبادئ علومنا، ومنها نرتقي إلى غيرها، فإذا أُخبِر الإنسان بما لم يدركه، أو حُدِّثَ بما لم يشاهده، وكان غريبًا عنده، طلب له مِثالًا من الحس، فإذا أُعطِيَ ذلك أَنِسَ به وسكن إليه لإلفه له.

وقد يعرِض في المحسوسات أيضًا هذا العارض، أعني أن إنسانًا لو حُدِّثَ عن النعامة والزَّرافة والفيل والتمساح لطلب أن يُصوَّر له ليقع بصره عليه، ويحصل تحت حسه البصري، ولا يقنع فيما طريقه حِس البصر بحس السمع حتى يردَّه إليه بعينه.

وهكذا الأمر في الموهوبات فإن إنسانًا لو كُلِّف أن يتوهَّم حيوانًا لم يشاهد مثله لسأل عن مثله وكلَّف مخبره أن يُصوِّره له، مثل عَنْقَاء مغْرِب؛ فإن هذا الحيوان وإن لم يكن له وجود فلا بد لمُتوهِّمه أن يتوهَّمه بصورةٍ مركَّبة من حيوانات قد شاهدها.

فأما المعقولات فلما كانت صورها ألطف من أن تقع تحت الحس، وأبعد من أن تُمَثَّل بمثال الحسي إلا على جهة التقريب، صارت أحرى أن تكون غريبةً غير مألوفة، والنفس تسكن إلى مِثْل وإن لم يكن مِثْلًا لتأنس به من وحشة الغربة، فإذا ألِفَتْها وقويت على تأمُّلها بعين عقلها من غير مثال سَهُلَ حينئذٍ عليها تأمُّل أمثالها، والله الموفق لجميع الخيرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤