المسألة الثامنة والتسعون

كيف قَوِيَ الوهم على أن ينقُش في نفس الإنسان أوحش صورةٍ، وأمقت شكلٍ، وأقبح تخطيط، ولم يقوَ على أن يُصوِّر أحسن صورةٍ، وألطف شكلٍ، وأملح تخطيط؟

ألا ترى أن الإنسان كلما اعترض في وهمه أوحش شيء عرته شُمَأْزِيزَةٌ، وعَلَتْه قُشَعْرِيرةٌ، ولَحِقَه صُدُوفٌ، ورهِقَه نفور؟

فلو قَوِيَ الوهم على تصوير أحسن الحسن تعلل به الإنسان عند فراغ باله وخلوته، فما هذا؟ وكيف هذا؟

ولا عجب فلهذا الإنسان من هذه النَّفْس والعقل والطبيعة أمورٌ تستنفد العجب وتُحيِّر القلب، جلَّ من أودع هذا الوعاء هذه الطرائف، وعرَّضه لهذه الغايات، وزيَّن ظاهره، وحسَّن باطنه، وصرَّفه بين أمنٍ وخوف، وعدلٍ وحيْف، وحجبه في أكثر ذلك عن لِمَ وكيف.

الجواب

قال أبو علي مسكويه، رحمه الله:

إن الحُسْن هو صورةٌ تابعةٌ لاعتدال المزاج وصحة مناسباتٍ من الأعضاء بعضها إلى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات، وهذه حال لا يتفق اجتماع جميع أجزائها على الصحة؛ ولذلك لا تقوى الطبيعة نفسها على اتخاذها في الهيولى على الكمال؛ لأن الأسباب لا تساعد عليها، أعني أنه لا يتفق في الهيولى والأشكال والصورة والمزاج أن تقبل الصورة الأخيرة على غاية الصحة.

فإذا كانت الطبيعة تعجز عن إيجاد هذا الاعتدال وهذه المناسبة الصحيحة التي يتبعها الحسن التام، فكم بالحَرَى يكون الوهم أعجز عنه؟ وإنما الوهم تابع للحس، والحس تابع للمزاج، والمزاج تابعُ أثرٍ من آثار الطبيعة، ومثال ذلك أن الأوتار الكثيرة إنما يُطلَب بها وبكثرة الدَّسَاتِين عليها أن تخرج من بينها نغمة مقبولة، وتلك النغمة إنما يُتوصَّل إليها بجميع الآلة وأجزائها من الأوتار والدساتين بالقَرَعَات المختلفة، فالنغمة وإن كانت واحدةً فإنها تتم بمساعدة جميع تلك الأجزاء، فإذا خان واحد منها خرجت النغمة كريهةً: إما بعيدةً من القبول، وإما قريبةً على قدر عجز الأسباب وقصور بعضها.

فكذلك الهيولى في حاجتها إلى مزاج ما بين أسْطُقُصَّاتٍ وصور أخرى كثيرة تصير بجميعها مستعدةً لقبول صور الحسن الذي هو اعتدال ما ومناسبة ما صحيحة بين أمزجة وأعضاء في الهيئة والشكل واللون وغيرها من الأحوال التي مجموعها كلها هو الحسن.

والحسن وإن كان أمرًا واحدًا وصورةً واحدةً، فهو مثل النغمة الواحدة المقبولة التي تحتاج إلى هيئات كثيرة وصورٍ مختلفة جمةٍ ليحصل من بينها هذا الاعتدال المقبول.

والوهم في خروجه عن الاعتدال سهل الحركة، فأما في حفظه إياه وتوصُّله إليه فإنه يحتاج إلى تعب شديد، وأخذ مقامات كثيرةٍ واستخراج اعتدال بينها.

وهكذا الحال في كل اعتدال؛ فإن حفظه والثبات عليه صعب، فأما الخروج عنه فهو بأدنى حركة.

فإن اتفق أن يكون لذلك الاعتدال تماماتٌ من خارج ومعاوَناتٌ من أمور مختلفةٍ كانت الصعوبة في تحصيله أشد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤