مدة الفرسان (الشفاليه)

الشفاليه جمعية سياسية دينية تُعرف بجمعية فرسان أورشليم أو فرسان القديس يوحنا، أنشئت في بادئ الأمر لعمل الخير، وكان لها دار في أورشليم بناها بعض التجار الإيطاليين سنة ١٠٤٨م، بالقرب من كنيسة القيامة، وجعلوها مثوًى لفقراء الحجاج ومستشفًى للمرضى، ولما فتح الصليبيون مدينة أورشليم سنة ١٠٩٩، وانتُخب رئيسهم «غودفروا دي بويون» ملكًا عليها؛ أقطع هذه الجمعية أرضًا كبيرة، وانضم إليها في ذلك الوقت كثير من الصليبيين وبنوا كنيسة باسم القديس يوحنا، وتنقل هؤلاء الفرسان في بلاد شتَّى بين عكا وقبرص ورودس وإقريطش (كريد) ومالطة، ولما عقدوا النية على فتح رودس وجعلها مقرًّا لهم؛ كانت هذه الجزيرة في رعاية دولة الروم البيزنطية، وكان الحكم فيها مختلًّا والفوضى ضاربة فيها أطنابها، وقد أضحت ملجأ للقرصان، فحمل عليها الفرسان سنة ١٣٠٩م. وفتحوها بقيادة «فلك دي فيلاريه»، فانتُخب هذا القائد رئيسًا أعظم، وهو لقب من كان يتولى الحكم من أولئك الفرسان، ولما استقام لهم الأمر في هذه الجزيرة؛ قاموا بتحصينها فشادوا الأسوار والقلاع وغيرها من المباني العظيمة.

وفي عهد الرئيس «ريمون بيرانجه»، وهو سادس الرؤساء الذين تولوا الحكم على الجزيرة، غزا الفرسان سواحل سوريا واستولوا على طرابلس وطرسوس واللاذقية.

وفي سنة ١٤٤٤م جاء من مصر أسطول كبير وحاصر الجزيرة مدة ٤٢ يومًا، وكان ذلك في عهد الرئيس «جان دي لاستيك» الحادي عشر من الرؤساء الذين قاموا بالحكم فيها، فأبلى في الدفاع عنها بلاءً حسنًا، ولم يفز هذا الأسطول بطائل.

ومن أشهر الحوادث التي وقعت في عصر هؤلاء الفرسان، الحروب التي دارت رحاها بينهم وبين السلطان محمد الفاتح، فإنه حاصرها في سنة ١٤٥٤م بقصد فتحها، ولم يفز بمراده، وفي سنة ١٤٨٠م أعاد الكرَّة فسيَّر إليها أسطولًا عظيمًا من ١٦٠ بارجة ومائة ألف جندي، وكان ذلك في عهد الرئيس «دي بوسون» الخامس عشر من الرؤساء، ودامت هذه الحرب ثلاثة أشهر وقعت فيها معارك هائلة وقتل عدد كبير من الفريقين، ولم يتمكن السلطان محمد من فتحها، وبلغ عدد من قتل من الجيش العثماني في هذه الحرب على ما رواه المؤرخون ٩٠٠٠ جندي وعدد من جرح ١٥٠٠٠ غير السفن التي دُمِّرت والأموال التي أنفقت.

والرئيس «دي بوسون» أشهر الرؤساء الذين تولوا الحكم على الجزيرة لما له من المآثر الجليلة، وما اتصف به من البسالة والمهارة في الفنون الحربية، وكان حائزًا لرتبة كردينال.

وفي عهد الرئيس «أمري دامبواز» السادس عشر من الرؤساء، سيَّر قنصوه الغوري سلطان مصر أسطولًا مؤلفًا من ٢٥ سفينة حربية إلى سواحل آسيا الصغرى، ولما علم الرئيس بقدوم هذا الأسطول أرسل ٢٢ سفينة حربية، فالتقت به ودمَّرته.

ولم يقتصر هؤلاء الفرسان على الذود عن الجزيرة؛ بل كانوا عونًا لبعض ملوك أوروبا في حروب كثيرة، وأتوا من المهارة في الفنون الحربية ما بلغوا به أوج الشهرة والفخر.

ومن الحوادث الغريبة التي حدثت في أيامهم، ما رواه المؤرخون عن الحيوان الهائل الذي ظهر في الجزيرة، وهو أنه في عهد الرئيس «هليون دي فيلنوف» الذي تولى الرئاسة من سنة ١٣١٩ إلى سنة ١٣٤٦م وُجد في الجزيرة وحش مفترس شديد الأذى، وكان يأوي غيضة في سفح جبل سان أتيان القريب من المدينة،١ وكان إذا خيم الظلام يخرج من وجاره ويكمن في مكان قريب منه، حتى إذا رأى حيوانًا أو إنسانًا أسرع إليه وافترسه، وكانت تنبعث من مأواه رائحة كريهة وتنتشر في الأنحاء المجاورة، فبات أهل المدينة في رعب ووجل، وامتنعوا عن الخروج من مساكنهم بعد الغروب، وقد همَّ كثير من الفرسان بقتل هذا الوحش، فعاد بعضهم بالخيبة والبعض ذهب فريسته، فنهاهم الرئيس عن مهاجمته خوفًا عليهم من غائلته، وقضى بعقاب من خالف نهيه، بيد أن أحد الفرسان واسمه «ديودونيه دي جوزون» وكان مشهورًا بالشجاعة والإقدام، صمم على قتله، فرقبه عن كثب عدة ليالٍ حتى رآه وصنع تمثالًا من خشب على صورته، وأضرى كلبين من كلاب الصيد على مهاجمة التمثال، ثم قصد الغيضة ليلًا ومعه اثنان من خدامه والكلبان، ولما كان غير بعيد منها أمر الخادمين بأن يتواريا في أجمة هناك، ويرقبا ما يكون من أمره مع الوحش، فإن افترسه عادا أدراجهما، وإن رأيا أنه استظهر عليه خفَّا إلى نجدته، ثم قصد الغيضة يتبعه الكلبان، ولما رآه الوحش خرج إليه فاغرًا فاه فطعنه برمحه، فانكسر الرمح لغلظ جلده وصلابته، فأخذ الكلبان يناوشانه وينهشانه، فانتهز الفارس هذه الفرصة ونزل عن جواده وطعنه بالسيف في عنقه فنفذ فيه، وما زال يطعنه حتى سال دمه، وخارت قواه، فحضر الرجلان وأجهزا عليه برمحيهما، ووجدا الفارس مغشيًّا عليه من شدة المجاهدة والرعب، ولما علم بذلك أهل الجزيرة فرحوا، واطمأنت قلوبهم، أما الرئيس فلم يجد مندوحة من عقاب الفارس لمخالفته الأمر، كما يقضي بذلك القانون، فسجنه وبعد أيام عفا عنه وأثنى عليه. وقد وصف المؤرخون هذا الحيوان بأنه نوع من التماسيح كبير الجثة جدًّا واسع الفم، بأنياب كأسنة الرماح، وله أربع أرجل ذات براثن حادة، غائر العينين برَّاقهما، وجلده غليظ مغشى بحراشف صلبة لا يعمل الحديد فيها، وطوله مع ذَنَبه نحو ٢٠ قدمًا. وليس في هذا الحادث ما يبعث على الريب في صحته؛ فقد اشتهرت رودس قديمًا بكثرة الحيات ونحوها من الدواب الخبيثة، حتى سُمِّيت «أفيوزا» أي جزيرة الحيات، وقد تلاشت هذه الدواب بمرِّ الزمان وانتشار العمران، فلا يبعد أن يكون هذا الحيوان من بقايا تلك الدواب، فإنه ظهر في سنة ١٣٤٢م أي من نحو ستة قرون، وكانت الجزيرة وقتئذٍ قفرًا موحشًا، ويحتمل أن هذا التمساح كان في النيل فاكتسحه التيار في زمن الفيضان ولم يعترضه شيء، فوصل إلى البحر وما زال عائمًا حتى ألقت به الأمواج على ساحل الجزيرة، أو يكون قد تسرَّب وهو صغير في إحدى السفن التجارية الراسية في بعض الموانئ المصرية، واختفى فيها ثم أتت به إلى رودس، فخرج وآوى إلى تلك الغيضة وعاش فيها حتى كبر، وبلغ هذا الحجم الهائل. وعلى أي حال فلا غرابة في وجود مثل هذا الحيوان في الجزيرة، ولعل في ما ذكره المؤرخون من صفاته تهويل أملاه عليهم ما كان له من الروعة في النفوس لشدة بطشه.
هذه هي أشهر الحوادث التي وقعت في عصر أولئك الفرسان، أما ما شادوه من الحصون المنيعة والقصور الفاخرة، فهي باقية إلى الآن تشهد بما كان لهم من السؤدد وعظيم الشأن، وأشهرها حصن سان نيقولا،٢ بناه الرئيس زاكوستا الثالث عشر من رؤسائهم سنة ١٤٦٤م وهو في مدخل مينا مندراكي من جهة الشرق، عدا ما شادوه من الأبراج الشاهقة والقلاع والقصور في ضواحي المدينة وفي القرى، مثل تريانده وفيلانوفا وكاستلوس وكاتافيا ولندوس وأركنجلوس وسوروني وفانزومونوليتوس، وسيأتي الكلام على أشهر هذه الآثار. ومن أبدع وأفخم مبانيهم كنيسة القديس يوحنا التي تقدم ذكرها، وروى المؤرخون أن هذه الكنيسة أقيمت على أنقاض معبد يوناني قديم في عصر «فلك دي فيلاريه» أول من تولَّى الحكم على الجزيرة، وتم بناؤها في عهد خلفه الرئيس «دي فيلنوف» وكان طولها ٤٦ مترًا وعرضها ١٦ مترًا، وكان فيها كثير من النفائس والذخائر والآنية الثمينة.

وقد توالت أحكام الفرسان على رودس إلى أن افتتحها السلطان سليمان القانوني في سنة ١٥٢٢ بعد حصار دام نحو خمسة أشهر، وهو أهم ما وقع في هذه الجزيرة من الحوادث، بل هو أعظم حصار ورد ذكره في التاريخ؛ لما وقع فيه من المعارك الهائلة، وسيأتي ذكره فيما يلي. وتولى الرياسة على الجزيرة ١٩ من أولئك الفرسان ومدة حكمهم ٢١٢ سنة، وهاك جدولًا بأسمائهم ومدة حكم كل منهم وشارته الرسمية «الأمرة».

اسم الرئيس مدة حكمه شارته
(١) فلك دي فيلاريه Foulques de Villaret ١٣١٠–١٣١٩
(٢) هليون دي فيلنوف Helion de Villeneuve ١٣١٩–١٣٤٦
(٣) ديودونيه دي جوزون Dieudonné de Gozon ١٣٤٦–١٣٥٣
(٤) بيير دي كورنليون Pierre de Cornelion ١٣٥٣–١٣٥٥
(٥) روچيه دي بنس Roger de Pins ١٣٥٥–١٣٦٥
(٦) ريمون بيرانجيه Raymond Beranger ١٣٦٥–١٣٧٤
(٧) روبير دي جولياك Robert de Julliac ١٣٧٤–١٣٧٧
(٨) فردينان ديريديا Ferdinand d’Heridia ١٣٧٧–١٣٩٦
(٩) فيليبير دي نلياك Philibert de Naillac ١٣٩٦–١٤٢١
(١٠) أنطوان فلوفيان Antoine Fluvian ١٤٢١–١٤٣٧
(١١) جان دي لاستيك Jean Bonpar de Lastic ١٤٣٧–١٤٥٤
(١٢) جاك دي ميللي Jacques de Milly ١٤٥٤–١٤٦١
(١٣) بيير ريمون زاكوستا Pierre Raymond Zacosta ١٤٦١–١٤٦٧
(١٤) جان باتست دي زورسن Jean Baptiste des Ursins ١٤٦٧–١٤٧٦
(١٥) بيير دي بوسون Pierre d’Aubusson ١٤٧٦–١٥٠٥
(١٦) إمري دامبواز Emery d’Amboise ١٥٠٥–١٥١٢
(١٧) جي دي بلانشفور Guy de Blanchefort ١٥١٢-١٥١٣
(١٨) فابريس كاريتو Fabrice Caretto ١٥١٣–١٥٢١
(١٩) فيليه دي ليل آدم Villiers de l’Isle-Adam ١٥٢١-١٥٢٢
١  سُمِّي بذلك لأنه في زمن الرومانيين كان عليه كنيسة باسم سان أتيان (القديس إسطفان) ويعرف هذا الجبل الآن باسم «مون سميث» عند الإفرنج و«مرجان تبه» عند الترك.
٢  سُمِّي بذلك لأنه بُني على أنقاض كنيسة باسم القديس نيقولا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤