خاتمة

هذا ما أتيح لي تدوينه عن تاريخ هذه الجزيرة وآثارها ومعاهدها. وأنَّى لليراع، مهما أوتي من البيان، أن يقوم بوصف ما حوته من أودية وجبال، وغابات وأدغال، ومروج زاهرة، ورياض ناضرة، وعيون جارية، إلى غير ذلك من المحاسن التي تبتهج لها النفس وتقر بها العين، ولهذه المناظر من التأثير في الوجدان ما لا يحتاج إلى بيان، فهي تصقل مرآة الخيال، فترتسم فيها تلك الصور التي توحي إلى الشعراء ما تجود به قرائحهم من المعاني، وتحوم حوله أفكارهم من التشبيهات والاستعارات، ألا ترى أنهم شبهوا الوجه بالبدر، والثغر بالدر، والخد بالورد، والجبين بالصبح، والشعر بالليل، والقد بالغصن.

ولولا اختلاف المؤثرات لما تباينت المعاني وتنوعت أساليب الكلام، فمن أنعم النظر في ما نظمه العرب في الجاهلية، يرَ أنهم أبدعوا وأجادوا في وصف الخيل والإبل والسيف والرمح والأطلال والرمال، ونحو ذلك من الأشياء التي لم يروا غيرها في البوادي والقفار، ولما قاموا بتلك الفتوحات الباهرة في صدر الإسلام وتجلَّت لهم محاسن البلاد التي افتتحوها؛ اتسع لهم مجال التصور والخيال، وفاضت قرائحهم ببدائع المعاني المنتزعة من مظاهر الجمال، وقس على ذلك سائر الفنون الجميلة، فما هي إلا تمثيل ومحاكاة لمظاهر الطبيعة، ولله در من قال:

إنما الأرض والفضاء كتاب
فاقرءوه معاشر الأذكياء

فمن تصفَّح هذا الكتاب — كتاب الكون — تجلت له صور الجمال في أبهى مظاهر الجلال، وشاهد من بديع آيات الخالق جلَّت قدرته ما تحار فيه العقول، وتعجز عن إدراكه الأفهام. ولما كانت التشبيهات والاستعارات كلها منتزعة مما تراه وتتأثر به من مناظر الكون، فلا عجب إذا عجز البلغاء عن وصف تلك المناظر بما ينطبق على الحقيقة، اللهم إلا إذا شبهوها بنفسها كالذي شبه الماء بالماء، والسماء بالسماء، أو كما قال أحد الشعراء:

لله ذياك الحبيب وما أرى
شيئًا أُشبِّهه به إلَّاه
هو ما أشبهه به فكأنه
هو فانظروا، بالله ما أحلاه

وفوق ما للمناظر الطبيعية من الروعة في النفس وتعذَّر وصفها بعبارة تمثلها للذهن بحسب ما هي عليه، فإننا لا ندرك منها غير أجزائها الظاهرة، ونرى هذه الأجزاء حسب مواقع النظر لا كما هي في الحقيقة، فقد نرى الكبير صغيرًا كما قيل:

والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

ونرى البعيد قريبًا، والقريب بعيدًا، والمستقيم معوجًّا، ونحو ذلك من الظواهر التي ينخدع بها البصر، وأغربها السراب، وهو ما يُرى أحيانًا في البوادي الجرداء من أشجار وماء، وسببه انعكاس ضوء الأشباح القريبة في طبقات الجوِّ وانتقالها بتموُّج الهواء على صفحات الصحراء.

ومن الناس من لا يرى بعض الألوان أو لا يميز بعضها من بعض، وقس على ذلك المسموعات، فإننا لا ندرك كل الأصوات، ومن الحيوان الأعجم ما هو أقوى سمعًا وأحدُّ نظرًا من الإنسان.

وإذا نظرنا إلى اللغة التي هي آلة التعبير عما نراه ونشعر به نجدها، على سعتها وغزارة مادتها، قاصرة في الدلالة على كثير من الصفات. هذه الألوان مثلًا، فإن أكثرها ليس له اسم خاص، ويسمى بما يشبهه من ألوان الأزهار والأثمار أو المعادن والحيوانات، فيقال اللون البنفسجي والوردي والزيتوني والفضي والذهبي والسنجابي والرمادي، وكذلك الروائح مثل رائحة المسك والقرنفل والورد، والأشكال كقولنا الشكل الصنوبري والبيضوي والإهليلجي ونحو ذلك، وليس هذا النقص خاصًّا باللغة العربية، بل عامًّا في سائر اللغات، ومن بحث في أسماء المعاني يجد أنها كانت في الأصل أفعالًا أو من أسماء الذوات أي المحسوسات، كالفصاحة مِن أفصَحَ اللبَن، إذا ذهبَتْ رغوتُه فبَانَ، والبَلاغَةُ مِن بلَغَ أي وصل، والجَزَالة في الرأيِ والكلام من الجَزَل للحَطَبِ الغَليظ، والمَجْدُ من مَجَدَتِ الدَّابة، إذا وقَعَتْ في مرعًى كثير، والشرَف في النَّسَب وغيره من الشرَّف للمَكان العالي، والرأي مِن رأَى بعينه، والعقَلُ مِن عَقَلَ البَعِير أي رَبَطَه، والحِكْمَة من حِكْمَة اللِّجام، ووعى جعَلَه في وِعائه أي حَفِظَه، والذَّكاء مِن ذَكَاء النار، والإِدرَاك مِن أدَرَك أي لَحِق، والرَّجُل المُهذَّب من هذَّبَ الشجرة، وغير ذلك مِمَّا يُعلَم بالبحث في الألفاظ الدَّالَّة على الأمور المَعنويَّة.

ولا يقتصر عجز اللغة على المعاني والألفاظ، بل يتناول الحروف، فإن في الطبيعة أصواتًا لا يوجد ما يحاكيها في حروف جميع اللغات، ولا يمكن التعبير عنها إلا بما يدل عليها من الأسماء كالهدير، والصفير، والصرير، والهزير، والزئير، والزفير، والرنين، والطنين، والهزيم، والصليل، والأزيز، ونحوها.

وقد اختلف العلماء قديمًا في نشأة اللغة، فذهب فريق إلى أنها توقيف ووحي، وقيل إنها اصطلاح وتواطؤ، والرأي الراجح أنها كانت في الأصل محاكاة لأصوات الحيوانات، وتفاعل قوى الطبيعة، ثم ترقَّت تدريجًا بعوامل النمو، كالتكرار، والزيادة، والقلب، والإبدال، والنحت، والاشتقاق، ونحوها من التغيرات التي حدثت في الألفاظ على مر الدهور، كما أثبت ذلك الباحثون في أصل اللغات، مثل مكس مولر وأرنست رينان، وغيرهما من العلماء المتأخرين. على أن للعرب فضل السبق في هذا الرأي؛ فقد قال به علماؤهم من نحو ثمانمائة سنة، ووافقهم فيه جلال الدين السيوطي،١ فقال في الزهر ما نصه: «وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم وُلِّدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل» انتهى كلام السيوطي. وهذا الرأي كما قال بعض العلماء المحققين لا ينافي ما ورد في الكتب المنزلة، فإن المراد من تعليم آدم الأسماء كلها كما ورد في التوراة والقرآن، إنما هو الإلهام إلى وضعها والإقدار على الارتجال بطبيعة القوة الناطقة التي أودعها الله في الإنسان، وميزه بها على سائر الحيوان، وما قيل في اللغة يصدق على النظم؛ فإنه كان في الأصل محاكاة لأصوات الطبيعة، وبيان ذلك أن الذي أوحى إلى الأمم نظم الكلام، إنما هو الغناء، وأصل الغناء محاكاة أصوات الطبيعة كخرير الماء، وحفيف الأشجار، ودوي الأمواج، وتغريد الطيور، ونحو ذلك، ولا فرق بين الأوزان الشعرية والنغمات الموسيقية، فإن أصلها كلها حركات وسكون، فالنظم طبيعي، ووُجِد قبل أن توضع له هذه الأحكام والأصول التي استنبطها الخليل قياسًا على ما نظمه شعراء الجاهلية، على أنه لم يُعرف كيف نظموا الشعر على هذه الأوزان، والغناء وُجد قبل وضع علم الأنغام، كما أن اللغة العربية وُضعت بهذه الصفة من الإعراب والبناء في الكلم قبل وضع علم النحو.

وهنا أستميح المطالع الكريم معذرةً لهذا الاستطراد الذي شطَّ بي عن موضوع الكلام، فقد هِمتُ بجمال الطبيعة واستهوتني محاسنها وغرائبها، فتشعبت أمامي سبل الحديث، والحديث شجون، والإنسان ميال بطبعه إلى محبة الانتقال من فن إلى فن، ومن معهود إلى مستجد، كالطير يتنقل من شجرة إلى شجرة، ومن فَنَنٍ إلى فَنَنٍ، ولله در من قال:

تَنَقَّلْ فلذَّاتُ الهوى في التَّنقُّلِ
ورِد كلَّ صافٍ لا تقفْ عند منهلِ
١  وُلد الإمام جلال الدين السيوطي سنة ٨٤٩ﻫ وتُوفِّي سنة ٩١١ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤