نفس معلقة

مضوا مصعِّدين في طريق وعرة مدرَّجة ضيقة قد التوت حول الجبل، كأنما كانت تريد أن تأخذه أخذ السوار للمعصم. وكانت عن يمينهم — وهم يمضون في هذه الطريق الضيقة بطاءً ثقالًا متعثرين — هوة عميقة سحيقة ملتوية التواء الطريق نفسها، يتدفق في قرارها سيل عنيف غزير له هدير يملأ الجو صخبًا وضوضاء، حتى لا يكاد الإنسان يسمع صوت صاحبه إلا في شيء من الجهد والعناء. وكان على السفحين عن يمين القوم وشمالهم شجر كثيف ملتف، متصل صفيق الظل، قد علق في السفحين تعليقًا، وقام بعضه من فوق بعض حتى لا يكاد البصر يبلغ أعلاه، كما لا يكاد البصر يبلغ آخره طولًا، وقد امتدت أغصانه من هنا ومن هناك، وتكاثف بعضها فوق بعض حتى التقت وتناصت كما كان يقول القدماء، أو اعتنقت كما يحب أن يقول المحدثون، وانعقدت من هذه الأغصان الملتقية الملتوية، سقوف ضخام لا تنفذ من أثنائها أشعة الشمس إلا في مشقة وعناء.

وكان القوم يمضون بطاءً ثقالًا كما قلت يصعدون في هذا الدرج الوعر، وتتزلق أقدامهم على هذه الحجارة الملس، لولا أن عصيهم ذات الأطراف المحددة كانت تسبقهم شيئًا إلى أمام تتحسس لهم أخبار الطريق، وتبين لهم مواضع الخطو وتتثبت لهم من الأمن. وكان النهار قد تقدم حتى أدركته هذه الشيخوخة التي يسبغ الأصيل عليها رداءً شاحبًا حزينًا يبعث في النفوس شحوبًا وحزنًا. وكان القوم متعبين، ولكن التعب لم يستطع أن يفل من عزائمهم، ولا أن يثبط من هممهم، ولا أن يردهم عما قصدوا إليه أول النهار من أن يبلغوا منحدر السيل، وينتهوا إلى هذه الصخور العظام التي يتفجر منها الماء في منظر رائع رهيب، ثم ينحدر عنها في هدير يملأ النفوس هلعًا ورعبًا وشعورًا قويًّا بالجمال.

وكان صاحبي يسايرهم متابعًا لهم في الرأي على كره منه، نشيطًا للحركة والرياضة أول الأمر، ثم ضيقًا بهذا الحر الثقيل وهذه الطريق الوعرة، وهذه الخطى المتعثرة. فلما قرب القوم من هذه الصخور العظام ولم يبق بينهم وبين بلوغها إلا ساعة أو بعض ساعة، وقفوا يستريحون ويستجمعون ما بقي لهم من نشاط وقوة؛ ليهجموا بهما على هذا الشوط الأخير، ثم تم لهم ذلك فهمُّوا بالتصعيد. ولكن صاحبي أبى عليهم وأقسم لا يبلغ تلك الصخور، ولا يبرح مكانه الذي انتهى إليه، وطال بينه وبينهم جدال مؤلم، لم يخل من ألفاظ لاذعة، ولكنه صمم، وكان حسن التصميم، لا يتحول عن رأي إذا اطمأنت نفسه إليه، فتم بينه وبين القوم اتفاق مؤلم مظلم، على أن يظل في مكانه منتظرًا لهم حتى يصعدوا إلى منبع السيل فيرضوا منه حاجتهم، ثم يصاحبهم بعد ذلك في العودة حين ينحدرون إليه.

ولم يكن صاحبي قد فقد نشاطه كله، ولم يكن قد استيأس من القدرة على التصعيد، ولعل نفسه كانت تنازعه إلى المضي مع القوم فيما مضوا فيه، ولعله لم يبق في مكانه إلا بعد أن جاهد نفسه جهادًا غير قليل. ولكن ماذا تريد؟ لقد عرض له عارض حال بينه وبين المضي واضطره إلى البقاء، وقد ظل أصحابه بعد ذلك ينكرون عليه عناده، يحسن بعضهم به الظن فيقول إنه قد أدركه التعب وبلغ منه الجهد، وقيده الإعياء.

ويسيء بعضهم به الظن فيقول: إنما هو عارض من سوء الخلق، عرض له فصرفه عن هم أصحابه، وإنما هي خنزوانته التي تعرض له من حين إلى حين، فتفسد رأيه في الناس، وتفسد رأي الناس فيه، وتدفعه إلى شذوذ منكر، يحمل أصحابه على أن يتواصوا بأن يتركوه حتى يثوب إلى رشده أو يثوب رشده إليه. وقد أقسم لي صاحبي ما أثقله جهد ولا قيده إعياء ولا ألمت به خنزوانته. ولكنه صوت تردد في الغابة، فلم يكد يبلغ أذنه حتى انتهى إلى نفسه فمس منها موضعًا دقيق الحس سريع التأثر، وإذا هو يعنى بهذا الصوت ويلتفت إليه، فيزداد تأثره به، وإذا هو يحول نفسه كلها نحوه ويقف حسه كله عليه، وإذا هو يتبين مصدر هذا الصوت ويسأل أصحابه: أيسمعون؟ وماذا يسمعون؟ فلا يجد منهم إلا إهمالًا وفتورًا، وإعجابًا بهذين السفحين عن يمين وشمال، وبهذه الهوة ينحدر فيها السيل العنيف، وبهذه الطريق تلتوي حول الجبل كأنما تريد أن تطوقه، ثم بهذه الصخور العظام التي خرجوا مع الصبح يلتمسونها.

فأما هذا الصوت فقد أنبئوه فاترين بأنهم يسمعونه ويظنون أنه صوت حشرة من حشرات الغابة. ولما رأى فتورهم وإعراضهم كره أن يلح عليهم واستحيا أن يظهر نشاطه لما لا ينشطون له، وعنايته بما لا يعنون به. ولكنه ازداد إقبالًا على الصوت وفراغًا له، وتحليلًا لدقائقه، واقتنع بأنه إن طال الاستماع له، فقد يفهم عنه شيئًا ذا بال. وكان سعيدًا حقًّا حين تخفف من أصحابه، وحين تركهم يصعدون نحو صخورهم العظام، وحين انقطعت عنه أصواتهم، وحين خلا إلى نفسه فلم يسمع إلا هذا الصوت الملح المتصل في شيء من التقطع كأنه نداء، وكأنه نداء حزين فيه شكاة حزينة، يملؤها ألم لا يكاد يحد. وقد كلف نفسه كثيرًا من البحث لعله يتبين مصدر الصوت فلم ير شيئًا. ولم يتبين شيئًا، وإنما استيقن أن الصوت يأتي من يمين، واستيقن أنه ليس صوت طائر معروف، وليس صوت حشرة معروفة من حشرات الغابة، وكاد يقطع بأنه ليس صوت حيوان، وأخذت تصعد من قلبه إلى رأسه في أناة وهدوء فكرة غريبة لم يكن يقدر أن تخطر له، ولكنها مع ذلك عرضت له فاضطرب لها اضطرابًا شديدًا أول الأمر، وهمَّ أن يصعد في الجبل لاحقًا بأصحابه، أو أن ينحدر من الجبل عائدًا أدراجه.

ولكنه لم يستطع أن يتقدم ولا أن يتأخر، وإنما وجد نفسه مقيدًا مغلولًا، وكان هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي هو الذي قيده وغله واضطره إلى البقاء. على أنه أخذ يطمئن بعد دقائق قليلًا قليلًا؛ لأن شيئًا لم يسع إليه عن يمين، ولأن شيئًا لم يسع إليه عن شمال، ولأن شيئًا لم يخرج له من الأرض ولا من هذه الهوة العميقة التي يتحدر فيها الماء عنيفًا صاخبًا، ولأن شيئًا لم يهبط عليه من السماء، بل ما زالت الأغصان كشأنها متناصية ملتفة متكاثفة تتخللها أشعة مضطربة ضئيلة.

كل شيء هادئ مطمئن كعهده به حين أخذ يصعد في هذه الطريق لولا هذا الصوت المتصل الحزين الشاكي. فما يمنعه أن يطمئن إلى هذا الصوت، وأن يمزج بما ينبعث فيه من الحزن؛ حزنًا ينبعث من قلبه، وبما يفيض فيه من الشكاة؛ شكاة تفيض من نفسه التي أثقلها الحزن والسأم والملل. ولكن الفكرة التي صعدت من قلبه قد انتهت إلى عقله فاستأثرت به، وملكت عليه أمره، وصرفته عن كل جمال وعن كل حزن وعن كل ألم أو لذة، وأخذته بالبحث عن هذه النفس التي كان هذا الصوت يعرب عنها.

ولا تضحك أيها القارئ العزيز من صاحبي، فلم تكن قصته تثير ضحكًا أو تعرضه لقليل من السخرية أو كثير. وقع في قلبه أن هذا الصوت ليس صوت طائر ولا حشرة ولا حيوان، وإنما هو صوت نفس إنسانية متألمة تعرب عن ألمها، معذبة تعلن ما تحمل من عذاب، مستغيثة لا يغيثها أحد، مستنجدة لا تجد لها منجدًا.

أنكر هذا الخاطر أول الأمر، وظنه أثرًا من آثار الاضطراب، ثم ألح في إنكاره، ولكن هذا الخاطر قوي في قلبه لأنه نبت في قلبه، وصدر عن قلبه، ثم أخذ يصعد وقوته تزداد وتشتد، حتى انتهى إلى العقل فملكه وسيطر عليه. ولم يستطع صاحبي أن يشك في أنه يسمع نفسًا إنسانية تشكو ألمًا وحزنًا وحرمانًا. وما هي إلا أن أخذ يبحث عن هذه النفس، ويلتمس في هذا الصوت في طبيعته وفي حجمه وفي نبراته ما يدله على صاحب هذه النفس. والغريب أنه لم يشك في أنها نفس شخص من ذوي معرفته، والذين كانت بينهم وبينه صلة في قديم أيامه أو حديثها، فأخذ يستعرض صور أصحابه وأصدقائه وذوي معرفته الذين تصرمت عنهم الحياة وتقطعت بهم أسباب العيش، وأدركهم الموت شبانًا أو كهولًا أو شيبًا. وأغرب من هذا أنه لم يفكر في أن هذه النفس، إن كانت هناك نفس، يمكن أن تكون نفسًا إنسانية ما، لم يعرفها ولم تعرفه من قبل.

وما أكثر الذين يموتون في كل لحظة من لحظات الدهر وفي كل مكان من الأرض! وما أكثر النفوس التي تفارق الأجسام مع كل دقة من دقات الساعة أو حركة من حركات الزمان! ولكنه لاحظ أن هذا الصوت لم يلفت أحدًا من أصحابه، ولم يؤثر في أحد من هؤلاء الناس الذين يصعدون في هذه الطريق، ولم يبلغ إلا قلبه هو، ولم يؤثر إلا في نفسه هو. فيجب أن تكون هناك صلة بينه وبين مصدر هذا الصوت، ويجب أن تكون الأقدار قد دبرت الأمر تدبيرًا محكمًا، وهيأت له هذه النزهة ليقصد إلى هذا المكان وليسمع فيه هذا الصوت، وليعلم فيه علم هذه النفس، ويجب أن يكون هناك شيء ذو بال سينتهي إليه. ومن يدري لعل لهذه النفس رسالة تريد أن تبلغها إلى أحد من الأحياء.

كذلك خرج صاحبي عن طوره خروجًا تامًّا، كان هادئ الجسم كل الهدوء مضطرب النفس كل الاضطراب، أو قل: كان عاقل الجسم كل العقل، لا يظهر عليه شيء ينكره الناس، وكان مجنون العقل كل الجنون لو اطلع الناس على ضميره لأنكروه أشد الإنكار.

أأقام صاحبي طويلًا على هذه الحال؟ أأقام صاحبي قصيرًا على هذه الحال؟ أنبأني أنه لم يدر، ولكنه أحس يدًا توضع على كتفه، وصوتًا يصيح به في عذوبة لا توصف: أنائم أنت؟ فالتفت، فإذا زوجه قد أقبلت منحدرة مع أصحابه وإذا هي تدعوه إلى النهوض.

قال وقد سمع صوتها وفهم عنها: «لا لست نائمًا، ولكني كنت مغرقًا في الاستماع لهذه النفس.» قالت زوجه في شيء من العجب: «أي نفس؟» قال: «ألا تسمعين هذا الصوت؟ لقد سألتك عنه آنفًا فلم تحفلي بسؤالي، ولقد بقيت لأعلم علمه، وما أشك في أنه صوت إنساني يصدر عن نفس إنسانية معذبة شاكية …» قالت زوجه: «ويلي عليك يا صاحبي! ما أرى إلا أن قراءتك المتصلة ستمضي بما بقي من عقلك. هلم فقد أقبل الليل ولا ينبغي أن يفوتنا القطار.»

ونهض صاحبي فمضى مع القوم كارهًا، وهم يسخرون منه ويتندرون عليه، ويصفون له جمال ما رأوا، وروعة ما شهدوا، وهو يسمع لهم حينًا ويذهل عنهم حينًا. ثم كانت العودة وكان الاضطراب فيما يضطرب فيه المصطافون في مدينة فرنسية من مدن الجبل إذا أقبل الليل.

ثم أصبح صاحبي حائرًا لا يدري، أيتحدث بحديثه إلى زوجه أم يكتمها إياه؟ ذلك أنه كان يشفق أن يروعها إن تحدث إليها بهذا الحديث، وكان يشفق أن يسوء ظنها به أو أن يسوء رأيها فيه، أو أن تنتهي من أمره إلى أنه مجنون قد فقد الرشد وأضاع الصواب. على أنه آثر أن يخفي هذا الحديث، وأن يفارق هذه المدينة التي كان كل شيء فيها يدفعه إلى الجبل وطريقه الملتوية وأغصانه المتناصية، وهذا الصوت الذي يتردد متصلًا معلنًا للحزن معربًا عن الشكاة.

وما هي إلا أن يظهر الضجر بالمقام في هذه المدينة، ويزين الانتقال إلى مدينة أخرى، ويبذل الوعود والأماني، ويتلطف في السيرة والحديث، وينثر المغريات من حوله نثرًا، حتى انتهى إلى ما أحب وفارق هذه المدينة التي كره المقام فيها كرهًا شديدًا …

قصد مع أسرته إلى قرية هادئة من قرى المحيط، ولقيني في تلك القرية وحدثني فيها بهذا الحديث. ولما انتهى منه إلى حيث انتهيت، لاحظ في وجهي إنكارًا وسخرية، فرابه ذلك بعض الشيء، وقال: إنك لتذهب مذهب القوم وتتهمني في عقلي، وما تشك في أني مجنون أو مقبل على الجنون. وهممت أن أرد عليه وأن أزيل ارتيابه، فلم يحفل بي، ولكنه مضى في حديثه قائلًا: «يجب أن تستمع لآخر الحديث، وأن تجعل بيننا عهدًا لنحققه، فإن انتهينا إلى صدقه اعترفت معي بأني سمعت نفسًا إنسانية تتكلم، وإن انتهينا إلى كذبه اعترفت معك بأني كنت مريضًا مجنونًا أو مشرفًا على الجنون.»

قلت: وكيف ذاك؟ قال: «إن هذه النفس التي سمعت صوتها في الغابة عرضت لي بعد ذلك في النوم وحملتني رسالة إلى صديق تعرفه وأعرفه.» قلت، وقد ازداد إنكاري لصاحبي، ولكني مع ذلك أظهرت العناية والدهش: «ماذا تقول؟» قال: «أقول إن هذه النفس تراءت لي في النوم، وأنبأتني بأني لم أخطئ فيما قدرت حين استمعت لها وبأنها نفس إنسانية وبأنها نفس فلانة، أتعرفها؟» قلت: «نعم أعرفها، لقد شيعناها إلى القبر منذ أشهر.» قال: «فهل تعرف أن بينها وبين فلان صلة؟» قلت: لا، وما كان ينبغي أن توجد بينهما صلة. قال: «فإنها أنبأتني بأنها قد كانت له خليلة، وبأن أول أمرهما كان منذ أعوام في هذا المكان الذي سمعتها فيه، وبأنها بعد أن فارقت الحياة ومضت في طريقها المجهولة، إلى غايتها المجهولة، انقطعت بها الطريق في هذا المكان، وألقي إليها أنها ستبقى هنا وحيدة تنتظر صاحبها حتى إذا أدركتها نفسه بعد وقت طويل أو قصير مضتا معًا في طريقهما المجهولة إلى غايتهما المجهولة، ولكنهما يجب على كل حال أن يستأنفا سفرهما من هذا المكان الذي استكشفا فيه قلبيهما.»

وقلت وقد أدركني من حديث صاحبي شيء يشبه الذعر، إن لم يكن هو الذعر: «ما رأيت كاليوم حديثًا عجبًا.» قال: «بل قل: ما رأيت كاليوم جنونًا عجبًا، فهذا أصدق في الإعراب عما تريد. ولكنا سنلقى صاحبنا إذا عدنا إلى أرض الوطن، وسنتلطف له لنعلم أكان بينه وبين هذه السيدة شيء، وسنتبين أكان حديثي هذا عرضًا من أعراض الجنون أو أثرًا من آثار الأعصاب المريضة المكدودة.» قلت: ولكنك لم تحدثني بهذه الرسالة التي تحملها إلى صاحبنا عن هذه النفس. قال: «وبماذا تريد أن أحدثك؟ إنها تتعجل مقدمه عليها، وماذا يملك المسكين من أمره؟ ومتى استجاب الأحياء لدعاء الموتى؟ ومتى هانت الحياة على أصحابها، وإن استحلفهم الموتى بأصدق الحب وأبلغه في القلوب أثرًا؟»

ثم عدنا بعد أسابيع إلى أرض الوطن، ولست أشك في أن صاحبي قد كان حدثني ببعض الهذيان، ولم أفكر قط في أن أحقق حديثه، ولكنه هو فكر في ذلك وسعى إليَّ وألح عليَّ وسار معي إلى صاحبنا. ولكن ماذا؟ إن صاحبنا مريض، وإن مرضه ثقيل، وإن الأطباء يشفقون عليه أشد الإشفاق. قال صاحبي وقد خرجنا من عنده دون أن نتحدث إليه في شيء: ما أرى إلا أن الرسالة قد انتهت إليه من طريق غير طريقي، ومع ذلك فسنعوده إذا كان الغد. ثم عدناه مرة ومرة ومرة، وعرض له صاحبي ببعض الحديث، فما شككنا في أنه قد كان من تلك السيدة على أمر. ثم استحال التعريض إلى تصريح، فما شككنا في أن صاحبي قد قال حقًّا، ولكن صاحبي لم يبلغه الرسالة؛ لأن الرسالة كانت قد سبقت إليه، ولأنه لم يكن في حاجة إلى من يستعجله، ولأننا لم نلبث إلا أيامًا حتى شيعناه إلى مستقره الأخير.

ليت شعري، أكان لغوًا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أكان جدًّا ما قال صاحبي؟ ليت شعري، أأدركت نفس صاحبنا تلك النفس المعلقة في غابة من غابات فرنسا على جبل من الجبال حول ذلك السيل الذي ينهمر في قوة وعنف، فيملأ الجو ضجيجًا وعجيجًا واصطخابًا، ويتميز منه على ذلك الصوت المتصل الحزين الذي يعلن عن اللوعة ويعرب عن الشكاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤