مقدمة الكتاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد هيَّأ الله سبحانه وتعالى لي دراسة الطيران من وجهاته العلمية والعملية. بدأتُ الدراسة النظرية في جامعة برستل عام ١٩١٨، ثم واصلتُها مع الدراسة الهندسية العملية في جامعة لندن منذ سنة ١٩٢١، وقضيتُ فترة التمرين العملي في أكبر مستودعات إنجلترا للتصليح والتوريد بقرية هنلو من مقاطعة بدفردشير، ثم سنحتْ لي بعد أن أتممت الدراسة العلمية والعملية بلندن فُرص عدة للوقوف على المجهودات التي تبذلها إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وهولندا في سبيل ترقية الطيران وتنظيمه، وكان كل هذا بفضل ما تكرَّم به عليَّ أولو الأمر في تلك البلاد من تصريحات بزيارة المعاهد والمدارس والمصانع والمعامل وأسلحة الطيران الحربية ومحطات النقل التجاري الهوائي.

ولمَّا كانت كل مجهودات الطيران في العالم حديثة، وما تنشره عنها الصحف والمجلات المصرية من آنٍ لآخر لا يكفي لتفهيمها للرأي العام بشكلٍ جليٍّ، وإعطاء المتعلِّم فكرةً صحيحة واضحة عن الأجناس المختلفة لهذه الآلات التي تسبح في الهواء، وعن أجزائها الرئيسية ونظرية عملها، وليس أمام القارئ كتب عربية يرجع إليها إذا أراد؛ لذلك كله أحسَست بأن الواجبَ يقضي عليَّ بأن أبذُل جهدي في سبيل مساعدة المتعلم الراغب في تحصيلِ شيء من المعلوماتِ الصحيحة الواضحة عن هذا الفن الجديد.

وبعد البحث عن خير وسيلة لتحقيق ذلك، استقر الرأي على إلقاء سلسلة من المحاضرات تتناول ما يجِب على كل متعلم معرفتُه عن الطيران بوجهٍ عام، عن ماضيه وحاضره ومستقبله وأُسُسِه، وقد وضعتُ هذا الغرضَ نُصبَ عيني، فأعددتُ سلسلة من المحاضرات ألقيتُها بدار الجامعة الأمريكية في أوائل هذا العام، وكان لي من كثرة المستمعين لها وإقبالهم عليها بمُوالاة الحضور وبالإصغاء والسؤال والنقد خيرُ عِوَض هما لاقيتُه من عناءٍ في تحضيرها وإلقائها.

وكنتُ أظنُّ أن المجهودَ سيقف عند هذا الحدِّ، ولكن ما كادت المحاضرات تنتهي حتى بدأ كثير من الناس يُلحُّون عليَّ في وجوبِ طبعها تعميمًا لفائدتها، فتلبيةً لنداء الواجب أخذتُ في إعدادها للطبع في شكل كتاب، فاقتضى ذلك بعض إضافاتٍ وتغييرات في المادة وترتيبها، ولمَّا تمَّ ذلك قدَّمت الكتاب إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر فأقرَّتْ طبعَه، وأشارت بأن يُضاف له فصلٌ عن علاقة مصر بالطيران، وقد كان في النية من مبدأ الأمر إلقاء محاضرة في هذا الموضوع، ولم تسمَح الظروف بتنفيذ هذا العزم، غير أن الرغبة كانت لا تزال باقية؛ ولذلك قوبل رأي اللجنة، وهو اقتراح حضرة صاحب الفضيلة رئيسها بالارتياح، وقد أُضيف فعلًا إلى الكتاب هذا الفصل، والقصد منه إعانة القارئ على أن يُكوِّن لنفسه فكرةً عن السياسة التي يحسُن بمصر اتخاذها إزاءَ الطيران.

هذا وقد أفرغتُ قُصارى الجهد في تجنُّب التعمُّق في التفاصيل الفنية، مع الحِرص على ذكر الأساسيَّات وتبسيطها بقدر الإمكان، حتى يكون الكتاب في متناول المتعلِّم العادي.

•••

صادفتني صعوبات كبيرة في الحصول على المصطلحات العربية التي يستخدمها المهندسون الميكانيكيُّون، وكثيرًا ما كنتُ أسمع من المهندسين عدة تراجم للاصطلاح الإفرنجي الواحد، مما يدل على أن آراء المهندسين المصريين لم تستقرَّ بعد على المصطلحات العربية، هذا إلى أن كثيرًا من المصطلحات الخاصَّة بالطيران لم تكن قد تُرجمت من قبل، فاستخدمتُ لها اللفظ العربي الذي رأيته مناسبًا. ومن أجل هذين الأمرين وضعتُ في الكتاب كلَّ لفظ إفرنجي عقب مدلوله العربي، ثم جمعت كل تلك المصطلحات في قائمة واحدة ورتَّبتُها ترتيبًا أبجديًّا، وذيَّلتُ الكتاب بها ليرجع إليها من شاء. فإذا حان الوقت لمناقشة الألفاظ الاصطلاحية في مختلف العلوم والفنون، تمهيدًا لتوحيدها كما هو الواجب، فإني أكون قد قدَّمت بين يدي الباحث ما يكون مادة للمناقشة في مصطلحات هذا الموضوع الذي نحن بصَدَده.

•••

فإن كنتُ قد حققتُ الغرضَ الذي رميت إليه من تقريب فنٍّ صَعب كهذا إلى الأذهان، فحسبي ذلك السرور الذي يبعَثه النجاحُ في النفس، وإن كان في عملي تقصيرٌ فعسى أن يعذرني الناقد، فالغابةُ التي كنتُ أَهيم فيها كثيفة وَعرَة، وشقُّ الطريق فيها لأول مرة صعبٌ مُتعب، وها هو ذا قد فُتح الطريق على عِلَّاته، فليتعهَّده المصلحون حتى يبلغ الكمال ويوصلنا إلى حيث نرجو لمصر. سدَّد الله الخُطا في سبيل رفع المستوى الفكري والعلمي والفني في مصر، حتى تصل الأمة إلى المكان اللائق بها.

•••

بقى عليَّ قبل الختام أن أُسجِّل جزيلَ الشكر لجميع حضرات الذين ساعدوا في إخراج هذا الكتاب على الوجه الذي أردته: فأبدأ بشكر حضرات القائمين على الجامعة الأمريكية الذين قدَّموا دارَها للمحاضرات التي هي نواة هذا الكتاب عن طِيب خاطر، وبذلوا جهدًا عظيمًا في توفير أسباب الراحة لجميع الحاضرين، وأخصُّ بالذكر جناب المستر و. كليند رئيس قسم الخدمة العامة ومساعديه.

ثم لجنة التأليف والترجمة والنشر التي تدأب على نشر العلم وخدمة الجُمهور المصري، وتشجيع كل من يسعى وراء تحقيق آمالها في رفع المستوى العلمي والأدبي، تلك اللجنة التي يتجلَّى في جميع أعمالها الإخلاص ومبدأ التضحية وتقديم الصالح العام على كلِّ اعتبار آخر. رعاها الله وقوَّاها وجزى أعضاءها عن العلم والوطن خير الجزاء، إليهم أقدم خالص الشكر، وأخصُّ بالذكر فضيلة الرئيس الأستاذ الشيخ أحمد أمين الذي أمدَّني بكثير من آرائه الثَّاقبة ونصائحِه الغالية.

أما نظامُ الطبع وإتقانه فالمؤلف مدين بهما إلى المجهود العظيم الذي بذله حضرة الفاضل محمد أفندي نديم، ملاحظ المطبعة الأميرية بدار الكتب المصرية، فهو لم يترك بابًا للتحسين إلا سلَكه مهما كلَّفه من عناء، هذا عِلاوة على ما كان لذوقه الفني السليم من الأثَر الجميل، فإليه أتقدَّم بالشكر العظيم.

والحمد لله الموفِّق الهادي.

أحمد عبد السلام الكرداني
أكتوبر سنة ١٩٢٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤