المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن قضية إنسانية شائكة للغاية وخلافية إلى أقصى حدٍّ، ألا وهي قضية «الأبعاد الحقيقية لنشأة العلم عند اليونان»، وقد أصبحت مثل هذه الدراسة ضرورية ومُلحة، بسبب الخلط والفوضى الفكرية والأخلاقية التي تحيط بهذه القضية. فمعظم المؤرخين والعلماء والفلاسفة الغربيين يحاولون تعتيم هذه القضية، من خلال الغرس في الأذهان أن اليوناني هو مُبدع الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة … وغيرها. وكأن الحضارة اليونانية خَلْق عبقري أصيل جاء على غير منوال، لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا بابل ولا آشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين … بل هي — في زعمهم — أوروبية النشأة والتطور.
أصحاب هذا الرأي هم دُعاة «المعجزة العلمية اليونانية» الذين يسعون بكل ما أُوتوا من قوة إلى أن يمجِّدوا الحضارة اليونانية — حضارة أجدادهم، فتحدثوا طويلًا عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه اليونانيون فجأة دون أي مقدمات تُذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأي شعب أو حضارة سابقة عليهم.
وهؤلاء هم أكثر الناس إيمانًا بأن أقدم الحضارات كانت مزدهرة وناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها، ومن ثَم فقد كان من الضروري أن ترتكز في نهضتها على أساس من العلم.
وفي الوقت الذي كان فيه دعاة المعجزة العلمية اليونانية يصولون ويجولون لإثبات أن نشأة العلم يونانية خالصة، وأن اليونانيين قد توصلوا إلى اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، كانت هناك طائفة من المؤرخين والفلاسفة أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع التاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول بأن اليونانيين قد أبدعوا — فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية — حضارة عبقرية في مختلف الميادين، ومنها العلم؛ هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعضها ببعض، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة، وتتأثر هذه بتلك تأثرًا تتعدد أبعاده تارة وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته تارة أخرى.
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ممن يُنكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة أصلٍ واحد للمعرفة، ربما كان عادة أوروبية سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أننا ممن ينكرون على اليونانيين أصالتهم العلمية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة.
وفضلًا عن ذلك، فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة، وحرائق متعمدة أو غير متعمدة أدت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دُوِّن من هذا العلم في كتب، ونتيجة هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول الشرقية للعلم اليوناني تكاد تكون محدودة للغاية.
ومن هنا فإنني أعترف بأنني ترددت أكثر من مرة في أن أخوض غمار البحث في قضية الأصول الشرقية للعلم اليوناني، وفي كل مرة توقفت فيها عن الكتابة وقد عزمت على أن أُعرِض عن البحث في هذه القضية كنت أجدني في اليوم التالي مدفوعًا نحوها بقوة، وقد هزني الشوق وغمرني الحنين.
ولا شك في أن هذا التردد الذي انتابني، هو أنني أحسست بأن مثلي كباحث في قضية الأصول الشرقية للعلم اليوناني، كمثل السائح الذي يجتاز مفازة مترامية الأطراف، يتخللها بعض وِديانٍ ذات عيون تتفجر المياه من خلالها، وتلك الوِديان تقع على مسافات في أرجاء تلك المفازة الشاسعة، ومن عيونها المتفجرة يطفئ ذلك السائح غُلته ويتفيأ في ظلال واديها، فهو يقطع الميل تلو الميل عدة أيام، ولا يصادف في طريقه إلا الرمال القاحلة والصحاري الماحلة، على أنه قد يعترضه الفينة بعد الفينة بعض الكلأ الذي تخلف عن جود السماء بمائها في فترات متباعدة، وهكذا يسير هذا السائح ولا زاد معه ولا ماء إلا ما حمله من آخر عين غادرها إلى أن يستقر به المطاف في وادٍ خصيب آخر، وهناك ينعم مرة أخرى بالماء والزاد.
ولما كنت قد أحسست بهذا الموقف الحرج، وجدت أنه لا مندوحة من أن أصول وأجول وأَشفي غُلتي بما لدي من المعلومات عن الأصول الشرقية للعلم اليوناني، ولما كانت تلك المعلومات شاحبة أشد الشحوب ومقعرة بأقصى معاني التقعر اضطُررت إلى أن أمر مر الكرام بالنواحي المجهولة من قضية الأصول الشرقية، ثم أستعين بما لدي من قوة الخيال وما فُطرت عليه من تجارب على ملء ذلك الفراغ المقفر الذي اعترضني في طريقي أثناء الكتابة وأنا في ذلك لا آمنُ شر العِثار.
وبعد التقدم في السير في تلك الفجوة المقفرة استقر بي المُقام في وادٍ آخر تتفجر عيونه بالمعلومات الممتعة، فلقد ساعدتني روافد كثيرة ومتنوعة (حصلت عليها مؤخرًا) على أن أدرك بيقينٍ وجود أصول شرقية للعلم اليوناني؛ ومن هذه الروافد، على سبيل المثال لا الحصر: كتاب «أثينا السوداء» لمارتن برنال، وكتاب «التراث المسروق: الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة» لجورج جيمس، وكتاب «الأصول الزنجية للحضارة المصرية» للشيخ أنتا ديوب، وكتاب «تاريخ العلم» لجورج سارتون.
ومن ناحية أخرى، فلم يكن مقصدي من هذا البحث أي دوافع دينية أو عِرقية، وإنما كان لديَّ دافعان علميان رئيسيان إلى القيام بهذا البحث لا يختلف أحدهما عن الآخر في درجة الأهمية والاعتبار، كما أنهما في نفس الوقت هدفان أساسيان؛ أما أحدهما فهو أن نجلو للقارئ العربي غوامض المعجزة العلمية اليونانية، وهي — بدون شك — أكثر الجوانب إحكامًا في العلم عند اليونان، موضحين له الأبعاد الحقيقية لهذه المعجزة، بعد أن قد قدمها لنا التاريخ وكأنها أقرب إلى المعجزات الدينية. ووسيلتنا في هذا هي الكشف عن إرهاصات التقدم العلمي عند قدماء الشرقيين، وذلك من خلال علوم الطب والرياضيات والفلك. والهدف الثاني هو أن نثبت للقارئ أن نشأة العلم لم تكن يونانية خالصة، فلم يبدأ اليونانيون في اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، بل إن الأرض كانت مُمهَّدة لهم في الشرق الذي كانت تجمعهم به صلات تجارية وحربية وثقافية.
ولقد فرضت طبيعة موضوع البحث وأبعاده وأهدافه منهجًا خاصًّا التزمناه هو المنهج التاريخي التحليلي النقدي المقارن، ومن ثَم حاولت — قدر جهدي — أن أُقِيم هذه الدراسة على منظومة منهجية تضع التحليل والمقارنة موضع الاعتبار.
وأعتقد أن التزامي بهذا المنهج سوف يؤدي بي إلى القول بآراء تتفق قليلًا وتختلف كثيرًا عما قال به غيري من بعض الباحثين الغربيين الذين بحثوا في جذور العلم اليوناني. ولست أزعم أن آرائي ورؤاي التي سأُضمِّنها في هذا البحث هي الكلمة الأخيرة والفاصلة في هذا الموضوع؛ بل إنها مجرد اجتهادات تستمد مشروعيتها من ضبطية المعلومات التي وقفتُ عليها ودلالات منطق العقل ومعطيات المعرفة العلمية عند قُدامى الشرقيين واليونانيين، وخصوصية النظرة وذاتيتها التي توجب اختلاف الرؤى أحيانًا بين الباحثين بعيدًا عن التقليد الأسِن والتبعية العمياء والجمود الفكري البغيض.
وقد اقتضت طبيعة البحث وموضوعه أن يتضمن مقدمة وستة فصول وخاتمة، حيث نعرض في الفصل الأول: إرهاصات النهضة العلمية عند قدماء الشرقيين وأثرها على العلم عند اليونان؛ وأما الفصل الثاني فكان عن المعجزة العلمية اليونانية بين النقض والنقد. في حين يكشف الفصل الثالث والرابع والخامس عن الأبعاد الحقيقية لعلوم الطب والرياضيات والفلك عند اليونان. أما الفصل السادس والأخير فيبين إلى أي حدٍّ استفاد اليونانيون من الشرقيين في مجال العلم. وأما الخاتمة فنوضِّح من خلالها أهم النتائج التي توصَّلنا إليها خلال مسيرتنا في هذا البحث.
ومن ثم أتمنَّى أن يكون هذا البحث قد حقق ما كان يهدف إلى تحقيقه، حتى يكون ثمرة من ثمار الفِكْر المفيد في الدراسات التي تهتم بتأصيل جذور العلم الشرقي في العلم اليوناني.