خاتمة البحث
نتائج البحث
-
(١)
إن القول بالمعجزة العلمية اليونانية يتنافى مع مفهوم العلم كنشاط عقلي وتجريبي يتصف بالموضوعية، ويتعامل مع الحقائق الثابتة، ويقوم على مسلَّمة أساسية هي وحدة العقل الإنساني، وتلك مقولة الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» من أن العقل أعْدَل الأشياء قِسمة بين الناس بالتساوي؛ بمعنى أن العلم لا شأن له بالقوميات أو الأعراق والأجناس. ولا يعوَّل على الادِّعاء الكاذب بأن العبقرية صِفة لشعب بعينه أو حِكرًا على أمة بذاتها، أو أن تستأثر بها جنسية دون أخرى. والأمم التي تردَّت في أحابِيل خُرافة العلم القومي طواها التاريخ في غياهب النسيان. وعلى العكس من ذلك، فأكثر الدول اليوم تقدُّمًا في العلم هي التي استطاعت ببراعة أن تستقطِب العقول العلمية النابِهةَ والمهاجرة من هنا وهناك. ولم تستنكِفْ أن تكون بعض هذه العقول من دول الشرق المتواضعة علميًّا، مما يُطلق عليها الآن بدول العالم الثالث. فالعلم لا وطن له.
-
(٢)
إذا كان بعض الغربيين قد ميَّزوا بين العلم الإغريقي الذي يرجو من العلم لذة المعرفة وحدها والوصول إلى الحقيقة لذاتها، وأن يقنعوا فحسب بلذة الاقتراب منها والإخلاص لها. وبين العلم الشرقي — مصر والصين والهند وغيرهم — الذي يتجه لحل مشكلات عملية أو تكريس معتقدات إيمانية، دفعت إليها ظروف الحياة في دول الأنهار فإنَّ هذا التمييز ليس مطلقًا ولا يقوم على أساس ميتافيزيقي؛ فثَمَّة بحوث المصريين القدماء عن الأصول النظرية للتطبيقات الهندسية والرياضية، وكذلك بحوثهم في الكيمياء.
-
(٣)
إذا كان اليونانيون القدماء — بشهادة معظم مؤرخي اليونان — مَدِينين بالكثير لحضارات الشرق القديم في مجال العلم، وأنهم كانوا على اتصال فعليٍّ وحقيقي بتلك الحضارات، وبالذات الحضارة المصرية؛ فإن هذا الاتصال لم يتوقف عند تلك المرحلة، فقد طوَّر المجتمع اليوناني ما أخذه عن مجتمعات الشرق الأدنى القديم، وزاد عليه وصاغ كل ذلك صياغة جديدة، وبخاصة خلال القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد لتكمل دورة الحضارة بعد فتوح الإسكندر الأكبر في الشرق، حيث عاد اليونانيون من جديد يرجعون للشرق ويجوبون فارسَ والهند وبلاد ما بين النهرين ومصر بحثًا عن العلم عند الشرقيين.
-
(٤)
إن القول بأن الحضارة اليونانية خَلْق عبقري أصيل جاء على غير منوال لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر ولا بابل ولا كنعان ولا آشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين … هي أوروبية النشأة والتطور، هو قولٌ لا أساسَ له من الصِّحة؛ فالأمة اليونانية قد استلهمت التراث الشرقي السابق عليها، واستحوذت عليه بروحها الفَتِية وحاولت تجاوزه، حينما صبغته بصبغتها النظرية النقدية، وقد فعل ذلك بالضبط فلاسفة وعلماء العرب مِن بعدهم، حينما نقلوا التراث اليوناني وحاولوا تطويعه ليتوافق مع مبادئ دينهم في شتى الميادين، ثم تجاوزوه بما قدموه من جديد في مختلف العلوم، وكذلك فعل الغربيون المحدثون مع التراث العربي في العصر الوسيط حينما نقلوا منجزاته وأخذوا عنه مبادئ المنهج الاستقرائي وتطبيقاته في العلوم المختلفة.
-
(٥)
إن العلم عند قدماء الشرقيين جدير بالاعتبار، فقد كان كهنة مصر يبنون الأهرام وَفْق أُسس هندسية وميكانيكية دقيقة، وكان الطب المصري قد وصل إلى أسرار الكثير من الأمراض، وكانت الكيمياء والصيدلة والفيزياء وعلم الحساب قد وصلت إلى درجة كبيرة من التقدم والرُّقي. كذلك كان العلم في بابل وفارس والصين قد خَطَا خطوات كبيرة وقدَّم العديد من الإنجازات. وإذا كان طاليس وديموقريطس وأفلاطون وغيرهم قد جاءوا إلى مصر لتلقي العلم والمعرفة، فإن هذا العلم قد ساهم في نشأة العلم اليوناني بجميع فروعه النظرية والعملية، واستفاد اليونانيون من الحساب والفلك والطب والهندسة.
-
(٦)
إن القول بالمعجزة العلمية اليونانية ليس من العلم في شيء. فالقول بأن اليونانيين قد أبدعوا فجأة، ودون سوابق أو مؤثرات خارجية، وأنها حضارة عبقرية في مختلف ميادين العلوم البحتة والتطبيقية قولٌ يتنافى مع التفسير السوسيولوجي الذي يؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعضها ببعض. كما أن لفظ «المعجزة» الذي وسَمَه اليونانيون على علومهم يبدو ليس تفسيرًا لأي شيء؛ بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير. فحين نقول إن ظهورَ العلم اليوناني كان جزءًا من «المعجزة العلمية اليونانية»، يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نعرف كيف نفسِّر ظهور العلم اليوناني.
-
(٧)
لقد كانت الإسكندرية البَوْتقة التي انصهرت فيها أصول الطب والتشريح عند قدماء المصريين مع اجتهادات اليونانيين القادمين مع الانتشار الهيليني شرقًا وغربًا؛ فأصبحت القاعدة التي انطلقت منها كل العبقريات والنظريات التي فتحت أبواب الكشوف الطبية والتشريحية أمام العلم أجمع عبر العصور التي تلت عصر الإسكندرية الذهبي الذي وإن كان قد انتهى ماديًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا، فإنه لم ينته فكريًّا وعلميًّا وحضاريًّا، إذ إنه تحوَّل إلى عصارة حيوية تسري في عروق الحضارة الإنسانية عبْر العصور. كما كانت أيضًا مدرسة الإسكندرية البَوْتقة التي انصهرت فيها كل الأجناس التي وفدت إليها، بحيث انقطعت صلتها — تقريبًا — بالمناطق التي جاءت منها، وكان سكانها يتألفون من الكهنة والعلماء المصريين الذين تمتعوا بمكانة رفيعة في نفوس الناس، وتعاونوا مع الحُكام ذوي الشأن، وعدد عظيم من المواطنين المصريين، وجالية كبيرة من اليهود بحكم أن فلسطين كانت جزءًا من المملكة البطلمية، حتى حوالي عام ٢٠٠ق.م.، وذلك فضلًا عن عدد من السوريين والعرب والهنود، وبذلك جسَّدت الإسكندرية بمفردها نظرية الإسكندر الأكبر في وحدة العالم التي تجمع بين الاختلافات الفكرية والعلمية والدينية في حضارة مدينة واحدة، بدلًا من النظرية اليونانية التقليدية عن المدينة الدولة، أي إن الإسكندرية لم تكن عاصمةً فحسْب، بل مدينة عالمية، وبذلك كانت الأولى من نوعها.
-
(٨)
عندما بدأت الحضارة المصرية تكشف عن وجهها العلمي المُبهر في أعقاب اكتشاف «شامبليون» لحجر رشيد، أصرَّ علماء الغرب على أن معارف المصريين، ربما كانت علمًا، غير أنه ليس علمًا صِرْفًا، أي إن تطبيق العلم على العمل ليس علمًا في نظرهم، فالعلم الصِّرف والبحت عندهم هو الذي يتعامل مع قوانين عامة، وليس مع حالات خاصة، وكأن الإنسان ابتكر العلم كهدف في حد ذاته، وليس كوسيلة للارتقاء بحياته من خلال التطبيقات المتعددة، وهل كان من الممكن للمصريين القدماء أن يقوموا بكل هذه التطبيقات العلمية دون دراية بالقوانين والمعادلات والمعايير العلمية التي تهديهم سواء السبيل؟! هل يمكن لحضارة علمية مثل الحضارة المصرية أن تنهض على مجرد صدفة محضة أو تجارِب عابرة أو خبرات طارئة أو خُرافات ساذجة؟!
-
(٩)
لا شك في أن الأعمال الهندسية والمعمارية التي اشتهر بها قدماء المصريين توحي بأنهم كانوا متقدِّمين في العلوم الرياضية، فقد اهتموا بمسح الأراضي الزراعية وتقسيمها إلى أحواض لغرض الزراعة وأعمال الري، وشيدوا المباني الضخمة، وكانوا يقدِّرون كميات المحاصيل الزراعية، وبنوا الأهرامات وحفروا الأنفاق والمناجم بزوايا مناسبة، وشقُّوا التُّرع والمصارف، ويحتاج كل ذلك إلى دراية كبيرة بعلوم الحساب والهندسة.
-
(١٠)
إن المجتمع اليوناني القديم لم يكن مجتمعًا مغلقًا تنحصر قيمته الثقافية والحضارية أساسًا في المنطقة التي قام بها على قسم من الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، بحيث لا تتعدى هذه النقطة أن تتأثر أو تؤثر في غيرها إلا بشكلٍ عابر أو جانبي، وإنما كان هذا المجتمع منفتحًا على غيره من المجتمعات التي سبقته إلى ازدهار النشاط الثقافي والحضاري، تلك التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى، وبخاصة مصر، وقد تبين لنا صدق ذلك من خلال شهادات مؤرخي اليونان الذين يؤكدون أن معظم اليونانيين الذين اشتهروا بعلمهم وحكمتهم زاروا مصر في العصور القديمة، حتى يتعرفوا على عاداتها وينهلوا من علومها. ولم تكن زيارات اليونانيين القدماء إلى مصر من أجل تحصيل العلوم والفنون فقط، بل تعدَّى ذلك إلى تبادل الهجرة والسلع.