الفصل الرابع

الأصول الشرقية للرياضيات اليونانية

تمهيد

عرضنا في الفصل السابق قضية الأصول الشرقية للطب عند اليونانيين، حيث أوضحنا النزعة العلمية في الطب عند قدماء الشرقيين، ومن خلال عرضنا لهذه النزعة فنَّدنا مزاعم الغربيين الذين يقولون إن الطب الشرقي طب قائم على السحر والشعوذة، في حين أن الطب اليوناني طب علمي قائم على الملاحظة والتجرِبة، ثم كشفنا بعد ذلك عن المؤثرات الشرقية في الطب اليوناني؛ فأوضحنا كيف ساهم الطب الشرقي — وخاصة الطب عند قدماء المصريين — في تأسيس الطب اليوناني وكيف تعلم الأطباء اليونانيون على أيدي قدماء المصريين. ولم نكتف بذلك، بل أوضحنا أن الطب الشرقي ليس فقط طبًّا قائمًا على الملاحظة والتجرِبة العملية، بل إن لدى الشرقيين — وبخاصة قدماء المصريين — نظريات في الطب شأنهم شأن اليونانيين.

وفي هذا الفصل سوف نحاول أن نستكمل المسيرة لبيان الأبعاد الحقيقية لنشأة الرياضيات اليونانية؛ ولذلك أود أن أشير في هذا الصدد بأن بعض الغربيين حاول أن يضع تفسيرات ساذجة لأسباب نشوء الرياضيات وتطورها في الحضارة اليونانية، وهذه التفسيرات يغلب عليها طابع حل المشكلات التاريخية بالاعتماد على قاعدة السبب والنتيجة Cause-Effect معتقدين بإمكانية الإجابة على أسئلة حضارية معقدة كظاهرة نشوء الرياضيات وتطورها؛ إجابة أحادية الجانب، فرغبة اليونانيين في البحث عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدف عملي، كان عندهم سببًا كافيًا لنشوء ظاهرة معقدة كظاهرة نشوء الرياضيات.
فمثلًا يقول «تشارلس سنجر»: «إن المعدات الفنية للرياضي تكاد جميعها يونانية، فقد وضع اليونانيون القواعد الأساسية وحددوا المصطلحات، وكانوا أول من اخترعوا الطرق، وفوق هذا فعلوا كل ذلك بغاية التحقيق، بدليل أنه لم تظهر حاجةٌ ما في كل القرون التي توالت بعدهم لأن ينشأ من جديد أي جزء أساسي من تعاليمهم، ومن باب أولى لم يَدْعُ الحال قط لأن يُطرح بعضها لثبوت عدم صحته؛ انظر — مثلًا — إلى المصطلحات الرياضية تجد أن كل الأسرار العامة الأساسية يونانيةٌ أو ترجمة لاتينية لأصل يوناني.»١
ومن ناحية أخرى يتساءل السير «توماس هيث» في كتابه المرجع في «الرياضيات الإغريقية» قائلًا: «ما هو الاستعداد الخاص الذي توفر عند الإغريق للرياضيات؟» ويجيب في ثقة أن عبقريتهم الخاصة بالرياضيات لم تكن سوى وجه آخر لعبقريتهم الفلسفية: «إن الإغريق دون الشعوب القديمة جميعها توفر لديهم حب المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، والحقيقة الجوهرية أن الإغريق سلالة مفكرين.»٢
وإذا كان معظم الغربيين ينسبون فضل نشأة علوم الرياضيات إلى اليونانيين، فإن بعضهم لم يتنصل لفكرة أن الشعوب الشرقية لديها إرهاصات أولية لعلوم الرياضيات، إلا إنها لم تصل إلى نفس المستوى الذي وصل إليه اليونانيون، لا سيما وأن علوم الرياضيات عند الشرقيين، كما يعتقدون، قائمة على أمور عملية بحتة.٣
فمثلًا يقول «دي بورج» عن الرياضيات المصرية في كتابه «تراث العالم القديم»: «كان ما يُسمى «حكمة» المصريين أمرًا ذا قيمة علمية يسيرة. لقد كانت موضوعات اهتماماتهم العقلية نفعية، ولم يُظهروا إلا ميلًا ضئيلًا للعلم الخالص، ولقد ابتكروا قواعد يتجلى فيها الحذق لقياس الحقول والأبنية، ولكن كان يعنيهم من الهندسة مساحة الأراضي ولا شيء أكثر … وقد كان أفلاطون على حق تمامًا عندما انتقد الرياضيات المصرية بأنها قاصرة على أغراض عملية بحتة.»٤
ويقول «رينيه تاتون» عن الرياضيات البابلية: «يمكننا أن نؤكد، على ضوء الوثائق الحديثة، أن ما أتى به البابليون قد أسهم إلى حدٍّ كبير في نشأة العلم الرياضي، وبخاصة الحساب، في العالم الشرقي، ومع ذلك فإن الطريقة الفنية البابلية فيما يبدو كانت حبيسة النزعة الفنية والتطبيقات العملية، وكان ينقصها الحاجة إلى المثل الأعلى والجمال اللذين كانا خاصية الرياضيات الهيلينية.»٥

وسوف نفند هذه المزاعم خلال هذا الفصل، وذلك بأن نكشف للقارئ إرهاصات علوم الرياضيات ومنهجها عند قدماء الشرقيين، ثم نكشف بعد ذلك عن مدى تأثير الرياضيات الشرقية ومنهجها في قيام المنهج الرياضي عند اليونانيين، ثم نبين بعد ذلك ما أضافة اليونانيون للمنهج الرياضي.

أولًا: إرهاصات علوم الرياضيات ومنهجها عند قدماء الشرقيين

تُعتبر الرياضيات من أكثر العلوم يقينًا، وقد سبق العد والحساب في الظهور سائر العلوم الرياضية، فهما من أقدم الفنون التي عرَفها الإنسان واستخدمها في حياته عندما احتاج إلى العمليات والمقاييس في معاملاته ونشاطاته، وربما كان ذلك قبل تطور اللغة المكتوبة بأزمانٍ بعيدة. وكأي فرع من فروع المعرفة تطوَّرت الرياضيات وتفرَّعت إلى عدد من الفروع؛ هي الحساب والجبر والهندسة وحساب المثلثات وتطبيقاتها العملية، والرياضيات ضرورية لدراسة مختلف المعارف وفَهم فلسفتها.٦ ويُروى عن أمير الرياضيات الفلكي والفيزيائي «جاوس» (١٧٧٧– ١٨٥٥م) قوله: إن «الرياضيات هي ملِكة العلوم، والحساب ملِك الرياضيات؛ فالحساب يُعَد دِعامة الرياضيات بأسرها؛ بحتة كانت أم تطبيقية، بل هو أعظم العلوم كلها نفعًا، وربما لا يوجد فرع آخر من فروع المعرفة البشرية أكثر منه انتشارًا بين البشر.»٧
وتُعتبر بداية الرياضيات في العصور المبكرة من تاريخ البشرية بمثابة مرحلة هامة ومتقدمة من النظر العقلي والتجريد. ومن التطورات الرئيسية في الرياضيات فكرة العدد، تلك الفكرة التي أتت بها عبقريات مجهولة، ولا يُعرف متى وكيف نشأت هذه الفكرة، والمفترض أنها راودت الإنسان عندما تطور فكره، وعندما لاحظ تعدد الموجودات في البيئة أحيانًا، أو ازدواج الأشياء في كثير من الحالات، ففي جسم الإنسان يوجد عينان وأذنان ويدان ورجلان، وربما لاحظ الإنسان كذلك الضِّدية الجنسية، فجميع البشر والطيور والحيوان ينقسم إلى ذكر وأنثى، وإن الشمس تشرق في موقع وتغرب في موقع آخر، وهناك ليل ونهار، وشمس وقمر، والرياح تهب من اتجاه إلى اتجاه آخر … فإذا نظر إلى السماء لاحظ تعدد النجوم وأنها تظهر بالليل وتختفي عن ناظريه في النهار … إلخ. وإذا وقف الإنسان في موقع انكشف له أربع جهات متميزة: إحداها امتداد بصره، وثانيها خلفه، والاتجاهان الآخران هما امتداد ذراعيه، ربما عبرت لغة الإنسان آنذاك عن كل هذه بكلمات محددة لم يحفظها التاريخ لنا، فإذا امتدت يده اليمنى نحو مكان شروق الشمس، وامتدت يده اليسرى إلى مكان غروب الشمس، ثبت في ذهنه فكرة الجهات الأربعة، وربما أضاف عبقري إلى هذه الجهات جهة هي الموقع الذي يقف فيه الإنسان، فضلًا عن جهة سادسة هي السماء، وسابعة هي الأرض من تحته. ومن هنا نشأت فكرة الخمسية والستية والسبعية، واكتسبت فكرة الخمسية قوةً بوجود الأصابع الخمسة في يد الإنسان ورجْله، ومن ثَم كان من الطبيعي عند عد الأشياء على يدٍ أو قدم واحدة أن تقسَّم تقسيمًا خماسيًّا، وأن تُوصَف كمياتها بأنها كذا وكذا من الأيدي. كذلك لاحظ الإنسان مرور السنة في فصول أربعة مما دعَّم فكرة الأربعة أو «الدورة» في عد الأشياء، بحيث توصف كمياتها بأنها كذا «دورة»، كما هو متَّبع حتى اليوم في ريفنا المصري، أما المجموعات الأكبر من الأربعة والخمسة كالعشرة والعشرين، فإنها جاءت طبيعية كذلك لكنها كانت أكثر صعوبة، وقد أخذ الناس هذه المجموعات العددية «٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧ … إلخ» قضية مسلَّمة، وربما لم يعيروها تفكيرًا، أو ربما ظهر من بينهم عبقري، كما هي العادة في تاريخ العلم، أدرك بذكائه وجود الأعداد المجردة المستقلة عن الأشياء المعدودة، وكانت هذه مرحلة هامة جدًّا في تاريخ الرياضيات وتطورها.٨

ولكن لما كانت هذه المرحلة تمثل «عصر ما قبل التاريخ» فلن نستطيع هنا أن نتخذ بدايتنا منها، وإنما سنبدأ من «العصور التاريخية» أعني من تلك الحضارات الشرقية القديمة التي تركت لنا وثائق تعيننا على معرفة تاريخها — سواء اتخذت هذه الوثائق شكل آثار مادية أو آثار كتابات مدونة تتيح للباحث أن يستنتج منها نوع الرياضيات ومناهجها.

وسبيلنا الآن هو أن نعرض للرياضيات ومناهجها في الحضارات الشرقية القديمة، ونبدأ الآن بالحضارة المصرية القديمة:

(١) المنهج الرياضي عند قدماء المصريين

توحي الأعمال الهندسية والمعمارية التي اشتُهر بها قدماء المصريين بأنَّهم كانوا متقدمين في العلوم الرياضية، فقد اهتموا بمسح الأراضي الزراعية وتقسيمها إلى أحواض لغرض الزراعة وأعمال الري، وشيدوا المباني الضخمة، وكانوا يقدِّرون كميات المحاصيل الزراعية، وبنوا الأهرامات وحفروا الأنفاق والمناجم بزوايا مناسبة، وشقوا التُّرع والمصارف، ويحتاج كل ذلك إلى دراية كبيرة بعلوم الحساب والهندسة.٩
وقد أثبتت البرديات المصرية التي بقيت عبر التاريخ مدى تقدم قدماء المصريين في العلوم الرياضية، وأول مرجع رياضي هو «بردية أحمس» أو «قرطاس أحمس» وقد عثر عليها «ريند» Rhind عام ١٨٥٨م، وترجمها «إيزنلور» Eisenlohr عام ١٨٧٧م، وهذب الترجمة «بيت» Peet عام ١٩٢٣م. وهذه البردية من عهد الأسرة الثانية عشرة (١٨٤٩–١٨٠١ق.م.).
وتحتوي «بردية أحمس» على خمسة أبواب موزعة على النحو التالي: الباب الأول في العد وكتابة الأرقام، والباب الثاني في القواعد الأربعة، ويحتوي الباب الثالث على الكسور، أما الباب الرابع فهو عن الجذر التربيعي وحل معادلات من الدرجة الأولى والمتواليات، والباب الخامس عن الهندسة.١٠
وهناك برديات أخرى اكتُشفت حديثًا تدل على تقدم قدماء المصريين في الرياضيات، مثل «بردية كاهون» Kahun، وبردية «برلين» Berlin، وبردية «موسكو» Moscow، وبردية «أخميم»، وقد نشرها العالم «بابيه»، وهي متأخرة عن بردية أحمس بأكثر من ألفي سنة، فيها صور مركزة للحساب المصري. وهناك مخطوطة على جلد قصير (بريتش ميزوم ليذر رول) ولوحتان من خشب في متحف القاهرة. تلك هي المصادر المتاحة لنا عن الرياضيات المصرية.١١
ويؤكد العلماء الذين درسوا البرديات أن المصريين القدماء كانوا على معرفة بطرق الحساب والهندسة وقياس الأحجار، وكذلك الهندسة الوصفية، ولا بد أنهم كانوا يملكون أجهزة هندسية وحسابية ذات كفاءة عالية، وبدونها لم يكن من الممكن بلوغ هذا الإعجاز الهندسي الذي تمثَّل في بناء الأهرامات والمعابد والمسلات.١٢
وقد جمع العالم «أرشيبالد» مع «تشيس» و«بل وماننج» في كتاب «البرديات الرياضية» حوالي ست وثلاثين وثيقة أصلية خاصة بالرياضيات المصرية، وهي مكتوبة باللغات المصرية والقبطية واليونانية، ويمتد تاريخها من عام ٣٥٠٠ق.م. إلى عام ١٠٠٠ ميلادي، وهذه البرديات توضح أن الحاجة في أعمال الإنشاء الضخمة التي تمت في عصر الأهرامات دعت إلى استخدام الكتَبَة الذين حفظوا بكتاباتهم تقاليد فن البناء وشرحوها وصاغوها في نماذج ووصفات ومسائل وحسابات وجداول تشبه الهندسة الحديثة.١٣
فإحدى هذه البرديات تسجل جدولًا لنظام العد الذي اعتمد فيه قدماء المصريين على الأساس العشري، وهو النظام الذي يبدو طبيعيًّا إذا وضعنا في الاعتبار أن عدد أصابع اليدين عشرة، وفي هذا النظام مجموعة من الرموز المستقلة للعشرة، والمائة، والألف، والعشرة آلاف، والمائة ألف، فكان الرقم «٩» مثلًا يُعبَّر عنه بتسع علامات متشابهة، كل منها يرمز للرقم «١». والأمر المؤسف أنهم لم يبتكروا للصفر رمزًا، كذلك لم يبتكروا رموزًا مستقلة للأرقام «٢–٩». كذلك كان نظامهم تكراريًّا جمعيًّا في الأعداد البسيطة، كما أنهم استخدموا التكرار الضربي لكتابة الأعداد الكبيرة، فلو كان المطلوب هو إيجاد ضرب ١٢ × ٥ مثلًا فإنهم كانوا يبدءون بالآتي: ١ × ١٢ = ١٢ ثم يضاعفونه مرة ٢ × ١٢ = ٢٤ ثم مرة أخرى ٤ × ١٢ = ٤٨، ولما كان ١ + ٤ = ٥ فإن ٥ × ١٢ تصبح عبارة عن ١٢ + ٤٨ = ٦٠، وكانت القسمة تُعتبر نوعًا من الضرب، ولكنها كانت تصاغ بطريقة عكسية، أي أنها كانت تُحدد بالرقم الذي يجب ضربه في المقسوم عليه كي نحصل على الرقم المقسوم.١٤
وأما طريقة الأرقام فتسجل البرديات أن قدماء المصريين كانوا يكتبونها في صورة خطوط وأشكال هندسية بسيطة، فالأرقام ١، ٢، ٣، كتبت على هيئة خطوط عمودية متجاورة، وكان الخط الأفقي عندهم يمثل الرقم «٤»، وكتبوا الثمانية على شكل خطين أفقيين أحدهما فوق الآخر، والعشرة على شكل «حدوة الحصان»، والألف على شكل «زهرة اللوتس»، والمائة على شكل «لفافة مطوية»، والمائة ألف على شكل «سمكة»، والمليون على شكل «رجل رافع يديه إلى أعلى متعجبًا»، والعشرة ملايين على شكل «رأس إنسان». وحينما نكتب عددًا بطريقة قدماء المصريين فإنا نرسم العلامات الدالة على الأرقام المكونة لهذا العدد ولا يشترط الترتيب بالنسبة لموقع العشرات والمئات والآلاف؛ لأن لكل علامة قيمة محددة تُقرأ أينما وُضعت.١٥
وأما عن الكسور، فقد عقَّدت طريقتهم في كتابة الكسور حسابات كثيرة، ولقد استخدم قدماء المصريين رموزًا خاصة للتعبير عن ، ، بينما استعملوا لقياسات الغلال طائفة أخرى من الرموز للتعبير عن ، ، ، ، ولم يستطع المصريون القدماء، في حالة الكسور الأخرى، أن يكتبوا سوى الكسور البسيطة، ومن ثم كتبوا على أنها جزء «٥» (الجزء الخامس). أما فقد كانت بالنسبة لهم لغوًا؛ إذ ليس هناك سوى «جزء خامس» واحد فقط. ومن ثَم كانت لديهم جداول تساعدهم على تحليل إلى + . ولم يكن من الممكن القيام بحسابات بها كسور إلا عن طريق أساليب خاصة ما زالت موجودة في أوراق البردي التي ترجع إلى الفترة الإغريقية الرومانية، وفي كتب المساحة اللاتينية، كانت لا تزال تُدرس في بلاد اليونان القديمة على أنها «طريقة الحساب المصرية».١٦
كما تحتوي البرديات الرياضية المصرية أيضًا على معلومات رياضية أخرى، منها أنهم — أي قدماء المصريين — تمكنوا من حساب أطوال الأوتار في الدائرة، وعرَفوا المثلثات وأشباه المنحرف والأهرامات الناقصة وقانون حجومها، ونصف الكرة وكيفية إيجاد مساحة سطوحها، كما عرَفوا مسائل دقيقة تتعلق بالمستطيلات وخواصها، وفي الجبر عرَفوا معادلات الدرجة الأولى ومعادلات الدرجة الثانية على صورة س٢ + ص٢ = ١٠٠، ص = فتكون س = ٨، ص = ٦. وتتصل هذه المعادلة اتصالًا مباشرًا بالحل الهندسي للعلاقة بين الأعداد ٣، ٤، ٥ في مثلث قائم الزاوية، والتي صاغ منها «فيثاغورس» نظريته المعروفة في حساب المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. وقد استدل العلماء على معرفة قدماء المصريين بنظرية فيثاغورس هذه من وجود مثلثات قائمة الزاوية في أشكال الأهرامات، ومن وجود مسائل مدونة على البرديات يحتاج حلها إلى العلاقة ٢٣ + ٤٢ = ٢٤، وهي العلاقة المميزة لمثلث قائم الزاوية أضلاعه ٣، ٤، ٥.١٧
كما حل بعض قدماء المصريين مسائل متعلقة بتقسيم المربع إلى مربعين، بحيث تكون النسبة بين ضلعين متساويين نسبة معلومة. وتبين بردية «ريند» — كما يقول العلماء — أنهم كانوا على دراية تامة بالمتواليات العددية والهندسية، وكيفية إيجاد مجموعة عدد محدود من كل منها، وإيجاد الوسط العددي بين كميتين معلومتين.١٨
تلك هي أهم مظاهر تقدم المصريين القدماء في العلوم الرياضية، وهذا التقدم لم يقم فقط على مجموعة قواعد عملية ذات طابع تجريبي — كما يزعم بعض العلماء الغربيين — بل كان يقوم أيضًا على قواعد نظرية وارتقاء عقلي وتقدم فكري. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الرياضيات المصرية تملك قسطًا كبيرًا من حب الاستطلاع الهندسي، بدليل أن الكهنة ارتقوا في أمور كثيرة إلى النظرية في عمومها، كما اهتموا إلى حدٍّ ما بالهندسة المجردة وأدركوها على أنها تتابع من القضايا القابلة للبرهان ابتداءً من عدد قليل من الأوليات، ويكفينا دليلًا هنا ما قاله عالم الرياضيات الأمريكي «كاربنسكي»: «ولقد وصل المصريون حوالي سنة ٢٠٠٠ق.م. إلى درجة عالية في الرياضيات من الناحية التحليلية، وكان الفضل في وصولهم إلى هذه الدرجة يرجع إلى كهنتهم الذين كانوا يجدون في دراسة الرياضيات والبحث في موضوعاتها لذة ومتعة. ويزعم البعض أن اهتمام المصريين بالرياضيات لم يقتصر إلا على الناحية العملية، وأنهم لم يبلغوا مبلغًا عظيمًا في النظري منها، وقد أشار «هيرودوت» إلى ذلك فقال: «إن الحاجة هي التي دعت المصريين إلى استنباط طرق لمعرفة مساحات الأرض التي كان يغمرها النيل بفيضانه السنوي.» وأن ذلك قادهم إلى الاعتناء بالنواحي العملية التي تتعلق بالهندسة، ولكن من دراسة بعض الآثار المصرية التي وصلت إلينا عن طريق المحفوظات الرياضية تبين خطأ هذا الزعم، وهي توضح بجلاء أن الاهتمام لم يقتصر على الناحية العملية فحسب، بل تعدَّاه إلى النظري منها.»١٩

(٢) المنهج الرياضي عند البابليين

وإذا انتقلنا إلى البابليين الذين لا يقل دورهم في تاريخ الرياضيات شأنًا عن المصريين القدماء، حيث تدل الآثار التي اكتُشفت في منتصف القرن التاسع عشر على تقدم البابليين في الرياضيات. وذلك من خلال وثائق ولوحات تعود إلى فترات تمتد إلى حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. وإلى فترات تاريخية من عصر الملك «حمورابي» وحتى عام ١٦٠٠ق.م. وخلال فترة إمبراطورية بابل الجديدة في عهد الملك «نبوخذ نصَّر»، وتُعتبر الكشوف عن رياضيات البابليين حديثة نسبيًّا بالنسبة للكشوفات الخاصة برياضيات قدماء المصريين.٢٠
وتُظهر تلك الوثائق واللوحات أن البابليين كانوا متقدمين في علوم الحساب والجبر والهندسة، ففي الحساب كون البابليون نظامًا للعدِّ استخدموا فيه فكرة القيمة المكانية، وقد كان هذا النظام مزيجًا من الأساسين العشري والستيني، فقد كانت الأعداد الأقل من ٦٠ تمثَّل باستخدام نظام تجميعي عشري بسيط، والأعداد الأكبر من ٦٠ كان يُعبَّر عنها بالأساس الستيني، وقد كان لنظامهم العددي رموز مسمارية الشكل أفقية أو عمودية يحدد عددها ووضعها بالنسبة إلى بعضها البعض قيمةَ كل عدد من الأعداد، وكتبوا الواحد هكذا «T» والعشرة «<» والأحد عشر «T<» والمائة « T» والألف باعتباره عشرة مئات كتب هكذا « ».٢١
كما استعمل البابليون نظامين للترقيم؛ أحدهما تجميعي بسيط مثل الذي كان سائدًا في الأنظمة القديمة، والذي ما نزال نستعمله في الترقيم بالأرقام الرومانية، واستخدموه في حالة الأعداد الأقل من «٦٠». فالرقم ٣٥ مثلًا كان يُكتب بالصورة التالية:٢٢
< < < T T T
T T
والرقم ٥٩ يُكتب هكذا:٢٣
< T T T
< T T T
< T T T
أما النظام الآخر في الترقيم فهو نظام ستِّيني مواقعي، واستُخدم في كتابة الأعداد التي تزيد عن «٦٠»، وبخاصة في الأغراض الفلكية والعمليات الرياضية الأخرى، وتختلف قيمة الرقم في هذا النظام حسب موقعه، بحيث تأخذ أرقام الصف الأول قيمتها الذاتية، وتُضرب في «٦٠» وحداتُ الصف الثاني، وتُضرب في «٦٠٢» وحداتُ الصف الثالث، وتُضرب في «٦٠٣» وحدات الصف الرابع، وتُضرب في «٦٠٤» وحدات الصف الخامس، وهكذا.٢٤

وعلى هذا الأساس فإن العدد البابلي التالي يُقرأ هكذا:

T T T
T << T T T < < < TT <<
T T
٢٠ + ٥٢ × ٦٠ + ٢٨ × ٦٠٢ + ١ × ٦٠٣ = ٣١٩٩٤٠
وهناك من يعتقد أن البابليين قد عرَفوا الصفر في القرن الثالث قبل الميلاد، ورمزوا له في كتاباتهم الفلكية بالرمز «>>»، واستعملوه في الحسابات الرياضية كما نستعمله نحن اليوم؛ أي لحفظ المرتبة العددية الخالية من الأعداد، وهناك من يعتقد أن علامة الصفر هذه كانت تُستعمل للفصل بين الكلمات والجمل.٢٥

وعلى هذا الأساس فإنه يمكن قراءة العدد البابلي التالي هكذا:

< < T
<
١٠ + ٠ × ٦٠ + ١ × ٦٠٢ = ٣٦١٠
وعرَف البابليون الكسور وعبَّروا عنها في إطار نظامهم الستيني كما ذكرنا، ولقد صادف النظام الستيني رواجًا كبيرًا، فظل سائدًا لعدة آلاف من السنين حتى ظهرت الأرقام الهندية، ومع ذلك ظل مستعملًا في الفلك، حتى ظهرت الكسور العشرية، ولكنها لم تغلب عليه نهائيًّا، فظل سائدًا في قياس الأزمنة وفي قياس الزوايا. ويدين العالم أجمع للبابليين بالنظام الستيني، فما زلنا نقسم الساعة إلى ٦٠ دقيقة والدقيقة إلى ٦٠ ثانية.٢٦
كما كان للبابليين أيضًا دور بارز في الجبر، حيث تُظهر اللوحات التي آلت إلى حوالي ٢٠٠٠ق.م. أن الأعمال الحسابية عند البابليين كانت تصل إلى مرحلة جبرية ناضجة، فقد ظهرت في لوحاتهم المصنوعة من الصلصال العديد من الأمثلة ذات الطبيعة الجبرية:٢٧
  • (أ)
    أمثلة تدل على قدرة حسابية جيدة في إيجاد الجذور التربيعية. فقد وُجد عندهم أن:
    ، ، لاحظ النظام الستيني:
    = ١.٤٠٦٧١٢٩٦٣
  • (ب)

    جداول لحساب الأرباح المركبة. فقد وُجدت جداول لقوى الأعداد من ١ إلى ١٠ يمكن بواسطتها حل معادلات من صورة أ ن = ب. مثال ٢ × ن = ٢٠ إذن ن = ٢٠ ÷ ٢ = ١٠.

  • (جـ)

    أمثلة تدل على الحلول الهندسية للمسائل الجبرية، أو ما يمكن تسميته بالهندسة الجبرية، ومثال ذلك المسألة التالية التي تعود إلى عام ١٨٠٠ق.م.: «مساحة مقدارها ١٠٠٠ وحدة تتكون من مربعين، ضلع أحد المربعين أقل من ضلع المربع الآخر، ما طول كل من ضلعي المربعين؟»

    الحل:

    إذن تكون مساحة المربعين «أ» ٢ + «ب» ٢ = ١٠٠٠

    وبفرض أن أحد ضلعي المربعين يساوي ٢٠، إذن يكون طول الضلع الآخر × ١٠.
  • (د)

    وُجد في اللوحة المشهورة باللوحة رقم ٢، ٣ أنها تشتمل على ثلاثيات من الأعداد التي تُكوِّن مثلثات قائمة الزوايا، والتي عممها الإغريق في نظرية فيثاغورس بعد هذه اللوحة بحوالي ألف عام. ومن الثلاثيات التي ظهرت «١٢٠، ١١٩، ١٦٩»، «٧٢، ٦٥، ١٩٧»، «٦٠، ٤٥، ٧٥»، «٧٠٠، ١٧٧١، ٣٢٢٩». لاحظ أن من صفات أي من هذه الثلاثيات أن مربع العدد الأكبر يساوي مجموع مربعي العددين الآخرين.

  • (هـ)

    حل المعادلات من الدرجة الثانية. وتتمثل طريقة الحل في المثال التالي: «طول وعرض، إذا ضُرب الطول في العرض كانت المساحة ٢٥٢، وإذا جُمع الطول والعرض كان الناتج ٣٢، فأوجد الطول والعرض؟»

    وقد جاء الحل في الخطوات التالية:
    المجموع = ٣٢
    المساحة = ٢٥٢
    نصف المجموع = ١٦
    مربع الناتج = ١٦٢ = ٢٥٦
    الفرق بين مربع الناتج والمساحة = ٤
    الجذر التربيعي للفرق = ٢
    أضف نصف المجموع ينتج الطول.
    الطول = ١٦ + ٢ = ١٨
    اطرح نصف المجموع ينتج العرض.
    العرض = ١٦ – ٢ = ١٤
  • (و)
    وُجدت لوحات تتضمن قيم ن٣ + ن٢ للأعداد، وقد استُخدمت جداول هذه القيم في حل بعض أنواع المعادلات التكعيبية (من الدرجة الثالثة).
ويُشِيد بعض مؤرخي العلم هنا بجهود البابليين في علم الجبر، فنجد تاتون Taton يذهب إلى أن البابليين هم أول من طبقوا منهجًا نظريًّا في الرياضيات، وبالأخص الجبر.٢٨
أما في الهندسة فقد توصَّل البابليون إلى حساب المكعبات والمربعات وأوجدوا مساحة المثلثات والدائرة والأشكال الرباعية بشيء من التقريب، واستنتجوا من إيجادهم لمساحة المربع بطريقة علمية، أن مساحة المثلث المشترك معه في القاعدة والارتفاع تقدَّر بنصف مساحة هذا المربع، وتوصلوا من إيجادهم لمساحة المثلث إلى إيجاد مساحة أي شكل باعتباره مكونًا من مثلثات. وذلك في الألف الثالثة قبل الميلاد. ولقد قدَّروا مساحة الأشكال الرباعية بحاصل ضرب متوسطات الأضلاع المتقابلة، ويبدو أن هذه كانت طريقة حدسية تعطي نتيجة تقريبية يزداد قربها من الحقيقة، كلما اقتربت زوايا الشكل الرباعي من القوائم.٢٩
كما كان البابليون على علم بمربع الوتر في المثلث القائم الزاوية، وقد عرَفوا مساحة المستطيل والمربع والمثلث القائم الزوايا وشبه المنحرف، واعتبروا مساحة الدائرة = م٢، حيث م طول المحيط «١٩»، ويُستدل من هذا أنهم اعتبروا «ط = ٣». وعرَفوا حجم متوازي المستطيلات والأسطوانة، واتصل جبرهم بهندستهم.٣٠

(٣) المنهج الرياضي عند الصينيين والهنود

هناك إلى جانب المصريين والبابليين، حضارات شرقية أخرى قديمة ساهمت في تطور العلم الرياضي، ومن هذه الحضارات الصين والهند. أما بالنسبة للصين فأقدم كتاب رياضي صيني وصل إلينا هو Theoupie ويرجع إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وهذا الكتاب الذي نشره بالفرنسية «إدوار بيوت» Biot سنة ١٨٤١م، يبين أن الصينيين عرَفوا النظام العشري في الترقيم، وعرَفوا العديد من العمليات الحسابية والكسور والجذر التربيعي، وحسبوا مساحة العديد من الأشكال الهندسية كالمستطيلات والمربعات والمثلثات والأسطوانة، وحلوا معادلات من الدرجة الأولى ذات المجهول الواحد، ومعادلات من الدرجة الثانية، وعرَفوا قاعدة فيثاغورس، وحسبوا للنسبة التقريبية قيمة أكثر قليلًا من القيمة الحقيقية وهي: «٣٫١٥٤٧».٣١
وأما الهنود فقد كانوا توفيقًا من الصينيين في العلوم الرياضية، حيث اهتموا بها منذ زمن بعيد، ويوجد الآن ما يدل على أن قدماء الهنود قد تعاملوا مع الأعداد الكبيرة، حيث وُجدت في اللغة السنسكريتية القديمة أسماء لكل مضاعفات الرقم عشرة حتى ثلاثة وعشرين صفرًا، بعكس ما كان عند اليونان؛ حيث لا توجد أسماء يونانية للأعداد الأكثر من عشرة آلاف.٣٢ ويدل البناء المعقد للأديرة القديمة التي شُيدت وفقًا لمواصفاتٍ دينية معينة، وبعددٍ محدد من الأحجار … إلخ؛ يدل كل ذلك على أن الهنود القدماء كانوا على دراية بالعلوم الهندسية، ولقد تميز الهنود في الرياضيات بمعرفتهم بالنظام العشري في الترقيم، وجعلهم علامات مستقلة لتدوين الأرقام.٣٣
ويُعتبر اختراع الهنود للنظام العشري للترقيم من أعظم ما توصَّلوا إليه في مجال الرياضيات، فقد ساروا فيه على أساس القيم الوضعية، وكان هذا من أهم الخدمات التي قدموها للحضارة والعالم، وإلى هذا النظام يُرجع العلماء سبب بروزهم في الحساب والجبر وبراعتهم فيهما، وترجع القيمة الأساسية للأرقام الهندية إلى فضلها في القيمة الوضعية والصفر، ويمكن بواسطتها أن نعبر عن أكبر عدد وأصغر عدد، دون أن نحتاج إلى كتاب كامل يقوم به «أرشميدس» للتعبير عن الأعداد الكبيرة، فيكفي أن تزيد الأصفار عن يمين العدد ليكبر وعن يمين مقام الكسر ليصغر.٣٤
وللأرقام الهندية مميزات عديدة منها:٣٥
  • (أ)

    اقتصارها على تسعة أشكال فقط — عدا الصفر — للدلالة على التسعة الأولى، وعلى أي عدد فوق ذلك مهما يكن كبيرًا.

  • (ب)

    بساطة أشكال هذه الأرقام ووضوحها لا يشوبه شيء من الالتباس والتشويش.

  • (جـ)

    أن الأرقام الهندية تستخدم النظام العشري محدد المنازل، بحيث يكون للرقم الواحد قيمتان؛ قيمة في نفسه وقيمة أخرى بالنسبة إلى المنزلة التي يقع فيها. مثال: العدد ٢٢٢ الذي يتركب من «٢» مكررة ثلاث مرات، فالاثنان في منزلة الآحاد قيمتها «اثنان» وفي منزلة العشرات قيمتها «عشرون» وفي منزلة المئات قيمتها «مئتان» وهكذا.

ويروي «ابن النديم» في كتابه «الفهرست» أن: «فلكيًّا هنديًّا أخبره أن الهنود يستعملون تسعة أشكال للرموز إلى الأعداد من الواحد إلى التسعة، ثم يعيدونها مرة ثانية وتحت كل منها نقطة للدلالة على الأعداد من العشرة إلى التسعين، ثم يعيدونها مرة ثالثة وتحت كل منها نقطتان للدلالة على الأعداد من المائة إلى التسعمائة، وعلى نفس المقياس يزيدون النقاط تحت الرموز ليكتبوا بها ما يشاءون من الأعداد.»٣٦
غير أنه لم يكتمل للهنود فكرة اختراع الصفر، وإنما كانوا يعبرون عن الموضع الخالي من الأرقام بلفظ «سونيا» Sunya أو «خا» Kha، وكان هذا الفراغ مثل النقط تحت الرموز الدالة على الأعداد التي ذكرها «ابن النديم» يسبب بعض المتاعب، حيث ينسى الكاتب هذا الفراغ أو تلك النقط، أو قد يترك فراغًا واحدًا بدلًا من فراغين متتالين.٣٧
وفي مرحلة لاحقة وضع الهنود في هذا الفراغ دائرة صغيرة أو نقطة. ولقد جاء ذكر الصفر في الكتب الهندية حوالي ٤٠٠ق.م. واستخدمه الفلكي المشهور «براهما جوبتا» Brahmagupta في كتابه «سيدهانتا» Sidhanta حوالي ٦٢٨م واستخدم فيه الأرقام التسعة، والصفر كرقم عاشر.٣٨
كما عرض الهنود في مرحلة متأخرة، المتواليات العددية والهندسية وكشفوا طرقًا لبحوث التباديل والتوافيق، وعرَفوا الجذور التربيعية والتكعيبية، وتفنَّنوا في المربعات السحرية التي إذا جُمعت في خاناتها طولًا أو عرضًا أو توتيرًا كان لها مجموع ثابت. وتقدموا ببحوث الحساب شوطًا كبيرًا، فقد جاء في تراثهم الرياضي العديد من المسائل الحسابية وطرق حلها.٣٩
أما في الجبر فقد عرَفوا الثوابت الأربعة «الجمع والضرب والطرح والقسمة»، وكانوا يضعون لكل مجهول رمزًا خاصًّا به يميزه عن المجهول الآخر، وعرَفوا الكميات السالبة وميزوا بينها وبين الكميات الموجبة، وحلوا معادلات من الدرجة الثانية، وجمعوا بين المعادلات الثلاث وهي:
أ س٢ + ب س = ﺟ
ب س + ﺟ = أ س٢
أ س٢ + ﺟ = ب س
وكونوا معادلة عامة هي: ل س٢ + ع س + ن = صفر، وحلوها بطريقة من التي نعرضها الآن. وكان ذلك في القرن السابع الميلادي. وعرَفوا أن هناك جذرين للمعادلات ذات الدرجة الثانية والمعادلات السيَّالة أو غير المعينة، وابتكروا طرقًا لحلها. وفي الهندسة عرَفوا المربعات والمستطيلات والعلاقات بين الأقطار والأضلاع، وعرَفوا نظرية فيثاغورس بدون أن يتأثروا بها، وأعطوا للنسبة التقريبية قيمة قريبة جدا من القيمة الحقيقية، فقد أعطى «أريابهاتا» للنسبة المذكورة قيمة «٣» ۱۷۷ ١٢٥٠ أو «٣٫١٤١٦»، ولكنه كان يستعمل لها ٣ أو ۱۷۷، واهتموا بالمثلثات وحساباتها لارتباطها بعلوم الفلك، ووضعوا بعض الجداول التي تتعلق بالجيب.٤٠
ويؤكد بعض الباحثين أن الرياضيات الهندية تتميز عن الرياضيات اليونانية، ويشهد بعض العلماء الغربيين المتخصصين في مجال الرياضيات بأن الرياضيات الهندية تختلف كلًّا وجزءًا عن الرياضيات اليونانية، وهو يوضح هذا الاختلاف فيما يلي:٤١
  • (أ)

    أن الهنود درسوا الرياضيات من منطلق كونهم فلكيين في المحل الأول؛ لذا جاءت رياضياتهم خاضعة للفلك ومسخَّرة لخدمة قضاياه، على حين جاءت رياضيات اليونانيين مستقلة عن الفلك وقائمة بذاتها كعلم مستقل.

  • (ب)

    قصر الهنود دراسة الرياضيات على طبقة الكهنة ورجال الدين، على حين كانت دراستها متاحة عند اليونان للراغبين في ذلك.

  • (جـ)

    يختلف الهنود عن اليونانيين في اهتمامهم بدراسة فروع الرياضيات، فعلى حين اهتم الهنود اهتمامًا شديدًا بالعدد والإحصاء، ولم يُولُوا الهندسة عناية كبيرة؛ كان اهتمام اليونانيين عظيمًا بالهندسة دون الاهتمام كثيرًا بنظرية العدد.

  • (د)

    ومن ثم جاء حساب المثلثات الهندي حسابيًّا وعدديًّا في طبيعته، على حين كان حساب المثلثات اليوناني هندسيًّا في كل نظرياته.

  • (هـ)

    صاغ الهنود رياضياتهم في لغة مُبهمة غامضة، على حين صاغ اليونانيون رياضياتهم في عبارات منطقية واضحة.

  • (و)

    جاءت رياضيات الهنود مستمدَّة من أصول تجريبية دون الالتجاء كثيرًا إلى البرهان، على حين كانت رياضيات اليونان برهانية إلى حدٍّ بعيد.

  • (ز)
    كما أن الرياضيات الهندية لم تكن متجانسة بالقدر الكافي من حيث نظرياتها ومحتواها، فظهرت المعلومات الهزيلة إلى جانب المعلومات الرفيعة المستوى، على حين كان اليونانيون ذوي خبرة كبيرة في التمييز بين النوعية الجيدة والهزيلة منها، فدفعوا بالجيد، وحجبوا الهزيل منها.٤٢

مما سبق يتضح لنا أن الحضارات الشرقية قد لعبت دورًا كبيرًا في نشأة وتطور الرياضيات ومناهجها، ولقد استفاد منها اليونانيون استفادة كبيرة؛ حيث نقَّحوها وهذَّبوها حتى وصلت رياضياتهم إلى أعلى درجة من التنظير.

ثانيًا: مدى تأثير الرياضيات الشرقية ومنهجها في قيام المنهج الرياضي عند اليونانيين

أخذ اليونانيون كثيرًا من أصول الرياضيات عند المصريين والبابليين ودرسوها وأضافوا إليها إضافات هامة تُعتبر أساسًا لبعض فروع الرياضيات، خاصة الهندسة التي أقاموا لها البراهين العقلية ورتبوا عليها نظرياتهم.

ويشهد بذلك «هيرودوت» و«أفلاطون»؛ فأما هيرودوت فيؤكد أن المصريين اخترعوا علم الهندسة، وقد أخذه عنهم اليونانيون، حيث يقول: «ثم إن هذا الملك (يقصِد الملك «سيزوستريس» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة)، على ما قيل، قسم البلاد بين المصريين جميعًا، بأن أعطى كل واحد منهم قطعة مربعة من الأرض تساوي ما أعطاه للآخر، وجعل ذلك مصدر دخله، بأن حدد ضريبة تُدفع كل عام. وكان إذا طغى النهر وغمَر جزءًا من أرض أحدهم ذهب إلى سيزوستريس وأخبره بما أصابه، فيبعث الملك رجالًا ليرَوا الأرض ويقيسوا المساحة التي نقصت كي تُدفع الضريبة المحددة على حسب ما أصاب صاحب الأرض من خسارة، ومن هذا — بحسب رأيي — تعلم اليونانيون فن تقدير مساحة الأرض.»٤٣
وأما أفلاطون، وإن كان يعيب على الرياضيات المصرية بأنها تَغلِب عليها النزعة العملية التجريبية، إلا إنه يؤكد في محاورة «فايدروس» بأن المصريين أول من اخترعوا الأعداد والحساب والهندسة، وفي هذا يقول على لسان سقراط هذا النص: «سمعت أنه كان في أرض مصر إله من الآلهة القدماء في تلك البلاد، وهو الذي كان طائره المقدس يُسمى «أبيس» واسم ذلك الإله نفسه «توت» وهو الذي اخترع الأعداد والحساب والهندسة.»٤٤
كما شَهِد كثير من العلماء المعاصرين بأن الرياضيات الشرقية بصفة عامة والرياضيات المصرية بصفة خاصة، قد أثَّرت في الرياضيات اليونانية، فنجد «جيمس بيرك» يقول في كتابه «عندما تغير العالم»: «اقتبس الأيونيون علم الهندسة الذي استحدثه المصريون القدماء لبناء الأهرام واتخذوه أداة لكثير من التطبيقات الهندسية، ويقال إن «طاليس» نفسه أثبت أن قُطر الدائرة هو الخط الذي ينصِّفها، وأن زاويتي قاعدة المثلث المتساوي الساقين متساويتان، وأن الزاويتين المتقابلتين لمستقيمين متقاطعين متساويتان، وسرعان ما نجح الأيونيون باستخدام الهندسة في تحديد المسافة بين موقع سفينة تقف في عرض البحر وساحل الشاطئ، وأصبحت الهندسة هي الأداة الأساسية لقياس أي شيء، وأصبح من الممكن قياس أي ظاهرة طبيعية، بما في ذلك الضوء والصوت، فضلًا عن الظواهر الفلكية في فراغ هندسي محض.»٤٥
وإذا ما انتقلنا إلى المنهج الرياضي عند فيثاغورس نجد أنه تأثَّر بالرياضيات المصرية والبابلية، فنجد «جورج سارتون» يورد القصة المعروفة عن سفَر فيثاغورس إلى مصر وبابل للتعلُّم واكتساب المعرفة؛ حيث يقول: «إذا قيس بمقياس الروايات القديمة، أن فيثاغورس رحل عن ساموس هربًا من طغيان الحاكم «بوليقراطس»، وهي رواية مقبولة، أو لعله فرَّ — كغيره من الكثيرين — خوفًا من الفرس، ومن الطبيعي جدًّا أن يلتمس فيثاغورس في مصر ملاذًا؛ حيث عاش كثيرٌ من الساموسيين (كان لهم في نقراطيس معبد خاص بهم). وإذا ما أخذنا برواية «يامبليخوس»، فيكون فيثاغورس ذهب أولًا إلى ملطية حيث عرَفه طاليس وأدرك عبقريته وعلَّمه كل ما يعرفه، ثم زار بعد ذلك فينيقيا، حيث مكث بها زمنًا يكفي لأن يتعلَّم طقوس السوريين، وهناك قويت رغبة فيثاغورس في الرحيل إلى مصر التي كانت تعد حينذاك مَهْدَ التعاليم المضنون بها، فانتقل إليها ومكث بها ما لا يقل عن اثني عشر عامًا، يدرس الفلك والهندسة والأسرار الكهنوتية، وبعد أن غزا الملك «قمبيز» مصر سنة ٥٢٥ق.م. عاد معه فيثاغورس إلى بابل، وأنفق هناك اثني عشر عامًا أخرى يَدرُس الحساب والموسيقى وتعاليم أخرى للمجوس، ثم عاد إلى ساموس وهو في الخامسة والستين من العمر؛ لكنه لم يلبث أن استأنف التنقل، فرحل إلى ديلوس وكريت واليونان نفسها، حتى بلغ أخيرًا كروتون، حيث أسس مدرسته المشهورة.»٤٦
كان فيثاغورس رائدًا في التمييز بين الأعداد الزوجية والفردية؛ فالزوجية هي التي تُقسم إلى قسمين متساويين، أما الفردية فلا تقبل. وتكمن قيمة هذا التمييز في أن الإنسان يرغب عادة في قسمة المجموعة الواحدة إلى مجموعتين صغيرتين متعادلتين متماثلتين كلما أمكنه هذا، وإذا بنى مهندس معبدًا، حرص على أن يكون عدد الأعمدة في مدخله زوجية حتى لا يبرز عمود منها في وسط الباب فيفسد المنظر الداخلي أو الخارجي ويعطل الحركة، أما عدد الأعمدة على الجانبين فيكون إما زوجيًّا، وإما فرديًّا.٤٧
وقام حساب فيثاغورس على أساس استعمال النقط المرسومة على الرمل أو الحصى التي لا يمكن تجميعها بسهولة في مجموعة مختلفة، ثم استطاع بعد ذلك إجراء تجارِب حسابية كثيرة تتصل بعدد الحصى الذي يملأ سطحًا معينًا، وكيفية اشتقاق كل عدد من العدد السابق، وقد استخدم فيثاغورس الحصى؛ لأن الأعداد الحرفية لم تكن مستخدمة في زمنه، ولو فرضنا أنه كتب الأعداد، فأغلب الظن أنه استخدام الرموز العشرية التي ابتكرها المصريون.٤٨
ومن المؤكد أن جدول الضرب — المسمَّى في كثير من اللغات بالجدول الفيثاغورسي — لم يكن من اختراع فيثاغورس؛ لأنه من المحتمل جدًّا أن جداول أخرى سابقة عليه لا تزال مخطوطة بالهيروغليفية،٤٩ وكانت كل إنجازات المصريين القدماء في علم الحساب تؤكد ابتكارهم لمثل هذه الجداول، والدليل على ذلك أن هذا الجدول نفسه سبق وُروده في كتب «أرتماطيقا» ليوبتيوس الذي عاش قبل فيثاغورس بما يزيد على قرن من الزمان.٥٠
وإذا كان إنجاز فيثاغورس من الأصالة — كما يزعم الغربيون — بحيث تأسَّست مدرسة نُسبت إلى اسمه؛ فإن هذا لا يمنع من أن نظريته الشهيرة عن المثلث القائم الزاوية قد عرَفها المصريون بالفعل من قبله كقاعدة عملية، فها هو ذا «كاربنسكي» يؤكد بالدليل القاطع على صدق ذلك فيقول: «إن المصريين عرَفوا النظرية المعروفة باسم نظرية «فيثاغورس»، وإنهم استعملوا هذه النظرية في إنشاء المثلثات القائمة الزاوية. والدليل على ذلك أمران؛ الأول: أن بردية أحمس تؤكد وجود مثلثات قائمة الزاوية بالمعنى الهندسي الدقيق في أشكال الأهرامات. والثاني: وجود المسألة الآتية في «بردية كاهون»: اقسم مربعًا مساحته ١٠٠ إلا مربعًا (وحدة قياس كان يستعملها المصريون القدماء) بحيث يكون ضلع أحدهما يساوي ضلع الآخر. وقد كان الحل المتَّبع على هذه الكيفية: ٦٢ + ٨٢ = ١٠٢ أي إن العلاقة التي تبين خواص المثلث ٣٢ + ٤٢ = ٥٢ القائم الزاوية الذي أضلاعه ٣، ٤، ٥. وعلى هذا الأساس لا أعتقد أن أحدًا من المؤرخين يستطيع أن يُنكر أو ينفي معرفة المصريين لنظرية فيثاغورس، وليس المهم هنا معرفتهم لها، بل سَبْقَهم اليونان في معرفتها بزمنٍ طويل. ولدينا الآن من الآثار ما يدل على أن البابليين عرَفوا هذه النظرية في زمن يرجع عهده إلى ٢٠٠ سنة قبل الميلاد.»٥١
ويعضِّد «جون برنال» رأي «كاربنسكي»، حيث يقول: «كم من رياضيات فيثاغورس تخصه شخصيًّا، إن نظريته الشهيرة عن المثلث القائم الزاوية، قد عرَفها المصريون بالفعل من قبله كقاعدة عملية، ووضع البابليون جداول طويلة من المثلثات الفيثاغورسية في مواضعها الرمزية والرياضية على حد سواء، وربما تكون قد أُخذت من مصدر ما من الفكر الشرقي، وهو ما توحي به طبيعتها، ولكن سواء كان فيثاغورس مُبدعًا أو ناقلًا؛ فإن الرابطة التي قامت بين الرياضيات والعلم والفلسفة، بواسطة مدرسته، لم تُفقَد بعد ذلك.»٥٢
ومن ناحية أخرى يؤكد العالم الرياضي المعاصر «بيل» Bell أن هناك تأثيرًا للرياضيات المصرية والبابلية على الرياضيات الفيثاغورسية، حيث يذكر «أن فيثاغورس زار مصرَ وبابلَ وتعلَّم من أهلها الكثير، وأنه قد أخذ عن البابليين الدعوة إلى ضرورة استخدام البرهان في الرياضيات، وكان البابليون — فيما يُذكر — أول من دعا بإلحاح إلى ذلك.» وينتهي Bell إلى القول بأنه: «ليس من العدل أن يُنسب فضل البرهان الرياضي إلى فيثاغورس واليونانيين، فالبابليون — فيما يُذكر — هم أول من دعا إلى إدخاله في الرياضيات، وقد أخذه عنهم فيثاغورس عندما زار بابل.»٥٣

وإذا كان معظم العلماء الغربيين قد شهدوا بأن رياضيات فيثاغورس لم تنشأ من فراغ، بل تأثَّرت بالمعارف الرياضية المتراكمة عند المصريين والبابليين، فنفس الشيء يقال عن «إقليدس» الذي يُعتبر في نظر العلماء والباحثين من أعظم العلماء الرياضيين اليونانيين الذين تعلَّموا في الإسكندرية، والذي عُرف بكتابه «الأصول الهندسية»؛ وهو يقع في ثلاثة عشر كتابًا أو جزءًا، وتدور الأجزاء الستة الأولى حول الهندسة ومتوازيات الأضلاع … إلخ، ويدور الجزء الثاني حول ما يمكن تسميته بالجبر الهندسي، ويعالج الجزء الثالث هندسة الدائرة، والرابع كثيرات الأضلاع المنتظمة، والخامس يقدم نظرية جديدة في النسب المُستخدمة في الكميات التي تُعَد والكميات التي لا تُعَد، والسادس يطبق النظرية على الهندسة المستوية.

أما الأجزاء من السابع إلى العاشر، فتدور حول الحساب ونظرية الأعداد، وتعالج أعدادًا من أنواع متعددة أولية، وأولية بالنسبة لبعضها، والمضاعف المشترك الأصغر، والأعداد التي تكوِّن المتوالية الهندسية، وهكذا. ويُعتبر الجزء العاشر من أعظم ما ألَّف إقليدس، فقد خصصه للمستقيمات غير الجذرية، والتي أثبت أنها جذور صماء وكميات لا تُعَد.

أما الأجزاء من الحادي عشر إلى الثالث عشر فتشمل الهندسة الفراغية. ولذلك يقترب الجزء الحادي عشر كثيرًا من الجزأين الأول والسادس مع امتداده إلى البعد الثالث. أما الجزء الثاني عشر فيستخدم طريقة الاستفادة في قياس الدوائر والكرات والأهرام وغيرها، في حين يعالج الجزء الثالث عشر والأخير المجسمات المنتظمة.٥٤

وبعد عرضنا لهذا الكتاب، نود أن نتساءل: هل كان من الممكن لإقليدس أن يصل إلى ما حققه في هذا الكتاب من نظريات رائدة لو لم يعش في الإسكندرية واطلع على الإنجازات الرياضية والتطبيقات الهندسية والمعمارية المذهلة المنتشرة على أرض مصر؟!

ولا شك في أن كتاب «الأصول الهندسية» قد أخذ فيه إقليدس على عاتقه أن يعرض جميع الحقائق في الرياضيات التي تجمعت في عصره؛ سواء منها ما ابتكره الإغريق أو اكتشفوه، أو ما أخذوه عن المصريين والبابليين وسواهم، ولكنه توخَّى أن يضم كتابه الحقائقَ المثبتةَ، بمعزل عن غيرها مما يثبت له بطلانها أو يُوفَّق إلى إثبات صحتها. وفي هذا يقول سارتون: «إنه لا بد من أن نأخذ في الاعتبار إنجازات المصريين في مجال الهندسة قبل إقليدس، إذ إن أصول إقليدس في جوهرها عبارة عن تأملات استمرت أكثرَ من ألف عام، لكن إذا كان كثير من الاكتشافات قد حققها المصريون قبله، فقد كان أول من ربط بين كل معارفه ومعارف الآخرين، كما أنه أول من وضع النظريات المعروفة في ترتيب منطقي قوي. أي إنه سواء أخذنا في الاعتبارات النظرية الخاصة أو الطرق أو الترتيب الذي ورد في «الأصول» فإنما نلاحظ أنه يندر أن يكون إقليدس المخترع الوحيد، لكنه حسَّن كثيرًا مما قام به علماء الهندسة الآخرون، وعلى نطاق واسع، إذ يمكن أن يُعزى الكثير من النظريات في «الأصول» إلى علماء هندسة سابقين، في حين يمكن التأكد من أنه صاحب تلك النظريات التي لم يستطع أحد إرجاعها إلى الآخرين.»٥٥
ولم يكن الأثر الشرقي واضحًا فقط في كتاب «الأصول الهندسية» لإقليدس، بل كان سائدًا في كل كتابات العلماء والفلاسفة الرياضيين اليونانيين الذين تعلَّموا في مدرسة الإسكندرية من أمثال: «أرشميدس» و«هيرون» و«أبولونيوس» و«هيبسكليس» و«هيبارخوس» و«ديوفانتس» … وغيرهم.٥٦
فمثلًا نجد في كتاب الحساب Arithmetica لديوفانتس (وهو كتاب في الحسابات العددية مع الاهتمام بالأعداد وطبيعتها، وهو كتاب واسع يقع في ١٣ جزءًا ضاع أغلبه)، يقول عنه تاتون: «… فقد بدت حسابات كتاب «الحساب» لديوفانتس غامضة تمامًا قبل الاكتشافات الحديثة حول العِلْم البابلي … واليوم أصبحت البُنُوة ثابتة واضحة … ومعروف أن الألواح الرياضية البابلية تحتوي على أنواع عديدة من الجداول العددية، ومنها جداول الضرب والتربيع والتكعيب وغيرها … وقد جاء في كتاب ديوفانتس ما يلي: «إن كل الأعداد مكونة من كمية من الوحدات، ومن الواضح أن تعدداها يمتد إلى اللانهائي، ومن بين الأعداد نجد بشكل خاص المربعات المتكونة من عدد مضروب في نفسه، وهذا العدد يُسمى ضلع المربع. ومن جهة أخرى هناك المكعبات المتكونة من مربعات مضروبة في ضلعها، وهناك مزدوج المربعات، وتتكون من مربعات مضروبة في بعضها، ثم هناك المربعات المكعبة المكونة من مربعات مضروبة بمكعبات لها نفس ضلع هذه المربعات، وهناك مكعبات المكعبات المتكونة من مكعبات مضروبة في ذاتها …».»٥٧

ويحتوي كتاب ديوفانتس على مسائل جبرية بسيطة استخدم فيها أعدادًا كسرية أحيانًا، وهي تشبه المسائل الحسابية التي كان يستخدمها الرياضيون الهنود للمتعة العقلية والتسلية، مما يشير إلى أن الجبر الهندسي اليوناني منقول تمامًا عن الجبر العادي البابلي والهندي والمصري وغيرها.

ومن ناحية أخرى نجد أن اليونانيين الإسكندريين عرَفوا كثيرًا عن التناسب مثل:
وبرهنوا بالطرق الهندسية على بعض المتطابقات في الجبر مثل:
«أ + ب» «أ − ب» = أ٢ ب٢
أ «س + ص + ع» = أس + أص + أع
«أ − ب»٢ = أ٢ − ٢أب + ب٢
وحلوا معادلات الدرجة الثانية، والمعادلات غير المعينة أو السيالة، ومعادلات من الدرجة الثالثة من النوع البسيط. واستعمل «ديوفانتس» و«هيرون» طرقًا لجمع المساحات إلى الأطوال، كما كان يفعل البابليون، مما يؤكد مرة أخرى أنهم كانوا على دراية تامة بعلوم الحضارات الأقدم، وأنهم اقتبسوا علوم تلك الحضارات، وأنهم بَنَوا الكثير من نظرياتهم عليها، مما يشير مجددًا إلى فكرة اتصال الحضارات وتزاوج ثقافتها في كل العصور.٥٨

مما سبق يتضح لنا أن علوم الرياضيات عند اليونانيين قد تأثرت بالمعرفة الرياضية عند الشرقيين، ولكن هذا التأثر لا يقلل من أهمية الجوانب الإبداعية للرياضيات اليونانية.

ثالثًا: ما أضافه اليونانيون إلى المنهج الرياضي

إذا كنا قد بينا قبلًا أثر الرياضيات الشرقية على الرياضيات اليونانية، فلا يعني هذا أننا نريد إثبات فضل الشرق في الرياضيات، وأن نبخس فضل اليونان في الرياضيات أيضًا، فنحن لا ننكر أن اليونانيين قد اهتموا اهتمامًا بالغًا بتنظيم المكتشفات الرياضية تنظيمًا برهانيًّا واستدلاليًّا أكثر من اهتمامهم بالكشف عن حقائق جديدة، وقد دفعت العقلية اليونانية المنهج الرياضي دَفْعة قوية لم يعهدها من قبل، وقد أضفَتْ عليه سموًّا مثاليًّا وحققت له استقلالًا، وأكسبته كمالًا وجمالًا.

والحق أن اليونانيين — كما يقول الدكتور «فؤاد زكريا» — كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمق في المجردات والبحث فيها بلا كَلَل. ولن نستطيع أن ندرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكَّرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناء كبيرًا في التفكير في الأمور المجردة مدة طويلة. فمعظم الناس يشعرون بالعناء إذا قضوا ساعة في قراءة كتاب فلسفي يتسم بشيء من العمق؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجردة ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين، كما هي الحال في الروايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددًا كبيرًا من الناس يأبون قراءة الكتاب إذا تصفَّحوه فوجدوا فيه أرقامًا كثيرة. وما زالت دروس الرياضة تكوِّن عُقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون — عن خطأ في الغالب — أن عقولهم لم تُخلق لهذا النوع من العلوم. فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يصعب على كثير من الناس بذله، حتى في عصرنا الحاضر. ولكن اليونانيين كانت لديهم قدرة خارقة على التعامل مع المجردات بلا كلل. لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصَّل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميداني الفلسفة والرياضة، والواقع أن الحد الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أُزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيين، حيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسف أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يهيئه للتعمُّق في الفلسفة.٥٩

والسؤال الآن: ما الذي أضافه اليونانيون إلى المنهج الرياضي؟

ينبغي بادئ ذي بدء أن نُشير إلى أن المنهج الرياضي عند اليونانيين كان واضحًا في الهندسة منه في الحساب؛ لأن الإغريق على ما يبدو طبقوه في الهندسة بدرجة أكبر؛ ولأنهم عالجوا النظريات الحسابية للأعداد كنظريات تخص الأشكال. فنحن نجد في كتاب «الأصول» لإقليدس من الجزء السابع إلى الجزء العاشر نظريات عن الحساب الخالص معروضة كقضايا، تتناول قياسية الخطوط وعدم قياسية الخطوط، فالعدد الأصم الذي لا جِذْر له، عُولج ابتداء من الفيثاغوريين على أنه خاصية لقطر مربع طول ضلعه يساوي الوحدة. ونجد أيضًا إقليدس يعالج المساواة بصورة هندسية. كما عالج اليونانيون المسائل الجبرية معالجة هندسية، مما عُرف بالجبر الهندسي؛ حيث يقوم تمثيل المقادير بواسطة خطوط مقام الرموز الجبرية، وحيث يكفي ذلك لجمع وطرح المقادير الجذرية والصماء بوضع أحد الخطوط على الخط الآخر وعلى امتداده، حيث يمثَّل ضرب المقادير بالمستطيلات والمربعات.٦٠
ويبدو أن إهمال اليونان لفروع الرياضيات الأخرى يرجع إلى عدم كفاية نظامهم العددي. وهناك احتمال آخر، هو أن الهندسة قد طُورت في أول الأمر؛ لأن مجهود التجديد الذي تتطلبه أقل كثيرًا من المجهود الهائل الذي يتطلبه الجبر والتحليل. وكان من جرَّاء ذلك — كما يقول العالم المنطقي «وليم نيل» W. Kneale — أن قابل الرياضيون المتأخرون صعوبةً في تحرير أنفسهم من هذا الاعتماد المسرف على الحدس المكاني.٦١

ولما كان المنهج الرياضي عند اليونانيين واضحًا في الهندسة عنه في الحساب بهذه الصورة، فسوف نعرض للإضافات التي أضافها اليونانيون للمنهج الرياضي من خلال منهجهم في الهندسة، ابتداء من طاليس وفيثاغورس، ثم كيف أسهم كلٌّ من زينون وأبقراط الكيوسي وأفلاطون، بجانب المعارف الرياضية المصرية والبابلية، في بلورة المنهج الرياضي عند إقليدس.

وسبيلنا الآن هو أن نعرض للمنهج الرياضي قبل إقليدس، ثم بعد ذلك نعرض للمنهج الرياضي عند إقليدس.

(١) المنهج الرياضي قبل إقليدس

لا يستطيع الباحث — إذا أراد أن يدرس الرياضيات عند اليونان ليتعرف على منهجها — أن يتراجع إلى ما قبل القرن السابع قبل الميلاد، فليست هناك وثائق عن الفترة السابقة. ففي القرن السابع قبل الميلاد قامت في المدن الأيونية مدارس فلسفية يتدارس فيها الناس مبادئ العلوم المختلفة، ويبتكرون فيها النظريات الفلسفية والكونية، ومن أشهر هذه المدارس: «المدرسة الملطية»، وكان من أهم رجالها «طاليس المالطي» ٦٢٤–٥٤٨ق.م.، وقد كان أول الرياضيين اليونانيين، وقد تعلم في مصر طائفةً من الحقائق الهندسية، ثم حاول الاستفادة من هذه الحقائق في حل بعض المشكلات، ومنها: قياس ارتفاع بناء، أو بعد سفينة عن الشاطئ. ويذهب «سارتون» إلى أننا لسنا ندري بالضبط كيف حل هذه المشكلات؛ لأن ثمة حلولًا متعددة ممكنة، يتطلب كل منها الموازنة بين المثلثات المتشابهة، ومما هو أجدر بالتسجيل أن طاليس لم يقف عند ذلك الحد، بل أراد بما عنده من انتباه عقلي وعملي على السواء أن يفسر حلوله، مما أفضى به إلى الكشف عن مبادئ هندسية، بل عن علم الهندسة.٦٢
ويَعزو إليه «إقليدس» طائفة من القضايا الهندسية:٦٣
  • يقسم القطر الدائرة قسمين متساويين.

  • زاويتا المثلث المتساوي الساقين متساويتان.

  • إذا تقاطع مستقيمان فالزاويتان المتقابلتان بالرأس متساويتان.

  • الزاوية المرسومة في نصف الدائرة قائمة.

  • أضلاع المثلثات المتشابهة متناسبة.

  • يتطابق المثلثان إذا تساوت فيهما زاويتان وضلع.

ويؤكد «تشارلس سنجر» أن هذه الأشياء الأولية تشير — على بساطتها — إلى تطور جديد عظيم الأثر، فإنها تمثل الخطوات الأولية في سبيل تكوين هندسة نظرية.٦٤
وفي القرن السادس ظهرت مراكز علمية جديدة في مستعمرات اليونان الكبرى في إيطاليا، فقد أسس فيثاغورس «٥٨٦–٥٠٠ق.م.» مدرسة فلسفية صاغ فيها أسس الرياضيات، وتابع تلاميذه عمله فبرهنوا على بعض النظريات الهندسية، ودرسوا خصائص النسب.٦٥
ففي الهندسة مثلًا، اكتشف «فيثاغورس» أن زوايا المثلث الداخلة تساوي قائمتين، وأثبت هذه النظرية بأنه إذا قطع مستقيم متوازيين، كانت الزاويتان المتبادلتان متساويتين، ولعل فيثاغورس قد طبق هذا البرهان على الأشكال المتعددة للأضلاع. كما توصَّل مع تلاميذه وأتباعه إلى أن مستويات الأضلاع الوحيدة التي يمكن بها تغطية مساحة ما دون أن تترك فراغًا هي المثلث المتساوي الأضلاع والمربع والمسدس، وقد برهنوا على ذلك بأن كل زاوية من هذه المتساوية الأضلاع تساوي على التوالي ثلثي قائمة أو ثلاثة أثلاث أو أربعة أثلاث، ويمكن ملء فراغ حول النقطة في سطح حد بما يساوي أربع قوائم بستة مثلثات، أو أربعة مربعات أو ثلاثة مسدسات.٦٦
والنظرية التي أُطلقَ عليها اسم فيثاغورس في الهندسة الحديثة تثبت أن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين، ولعله كان أول من استخدم المسائل الهندسية المتعلقة بإيجاد المساحة المتساوية كمساحة أخرى، مثل مربع مساوٍ لمتوازي أضلاع أو بتطبيق الأشكال، إما بزيادة أحدهما عن الآخر، وإما بنقصه بمقدارٍ معين، ثم أدت تلك المسائل بمرور الوقت إلى الحل الهندسي للمعادلات التربيعية. كذلك كان فيثاغورس أو تلاميذه المقربون على علم ببعض المجسمات المتساوية الأضلاع مثل المكعب أو الهرم أو المُثمَّن.٦٧
وفي القرن الخامس قبل الميلاد ظهرت المدرسة الإيلية، وكان من أشهر ممثليها «بارمنيدس» Parmenides (٥١٤ق.م.)، ويُنسب إليه أنه أول من عرَف أن النقطة والخط والسطح وكافة الأشكال الهندسية ليس لها إلا وجود مثالي، وهذا نابع من إيمانه بأن طريق البحث العلمي قائم على العلم التجريدي. وقد روى عنه العلماء أنه كان يهاجم التجريبيين هجومًا شديدًا لدرجة أنه كان يقول: «اصرف ذهنك عن طريق البحث، ولا تدع العادة التي تأصَّلت عن طريق التجرِبة المتشعبة تُجبرك على اتخاذ هذا الطريق، فتستخدم العين الكفيفة أو الأذن المرددة، اللسانَ كأداة، بل اختبر بعقلك ما ساهمت به في المناقشات الكبرى.»٦٨
وقد جاء بعد بارمنيدس تلميذه «زينو» Zeno (٤٨٩ق.م.)، وقد ترك بصمة واضحة في الهندسة اليونانية، حيث اكتشف المنهج الجدلي وطبقه في الهندسة على نطاق واسع، وخلاصة هذا المنهج أننا نضع مسألة معينة لها إجابة محتملة يوافق عليها المخاطب المفترض، ثم نستنتج منها النتائج التي تتضمنها، وبين أن هذه النتائج المتعارضة فيما بينها تعارض القضية الأصلية ويؤدي إلى قبول القضية المقابلة التي ليست أقل احتمالًا من الأخرى.٦٩
وقد أخذ إقليدس بهذا المنهج فيما بعدُ في البرهان، حيث طبقه على بعض نظرياته، وما زال هذا المنهج يُستخدم في الهندسة وفي المنطق الرياضي إلى اليوم.٧٠
وفي القرن الخامس أيضًا نجد «أبقراط الكيوسي» الذي يقول عنه العلماء: إنه أول من ألَّف مبادئ أو أصولًا هندسية، وأنه كان معاصرًا لتيودور معلِّم أفلاطون. ولقد بحث أبقراط في السطوح التي تحصرها منحنيات قابلة لأن تكون مربعات، كالدائرة مثلًا التي حاول اليونانيون أن يربِّعوها؛ أعني أنهم حاولوا إنشاء مربع له مساحة دائرة معينة. كما بحث في تدوير المربع، وقد أدى به ذلك إلى البحث في علاقة الدائرة بالأشكال المتقدمة المرسومة داخلها وخارجها، كما بحث في مسألة تضعيف المكعب؛ أعني حاول إيجاد طول ضلع مكعبٍ حجمه ضعف حجم مكعب معلوم، وبالتالي حاول أن يحل المعادلة ك٢ = ٢ المعبِّرة عن هذه المسألة، عندما يكون طول ضلع المكعب هو الوحدة، بأن ردها إلى المعادلة ك٣ = أ ب٢ حيث استبدل بالمكعب الأصلي متوازي سطوح قائمًا مربع القاعدة.٧١
أما في القرن الرابع، فنجد أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م.) الذي يعتبره البعض صانع الرياضيين دون أن يكون هو نفسه رياضيًّا، بالمعنى المعروف للكلمة، ولقد اكتملت على يد أفلاطون العملية الجدلية والمنطقية، وهي الأداة الرئيسية للرياضي، وقدم لنا أفلاطون في محاوراته نماذج بلغت الذروة في الاستدلال العقلي الذي يسير وفق المنهج العلمي، وكان لديه نفس ما لدينا من أفكار عن المنهج وعن العقلية الهندسية، وقد كتب على باب مدرسته: «لا يدخل هنا إلا من كان مهندسًا.» لأنه يرى أن العلوم المضبوطة لها أثر كبير على التقدم العقلي، وأنها مدخل مناسب للفلسفة، ولذلك اهتم بالرياضيات.٧٢
لقد اهتم أفلاطون بالاستدلال اهتمامًا بالغًا، وأراد أن يكون منهج الرياضيات منهجًا صوريًّا بعيدًا عن المزاولة العملية، يقوم على الاستدلال غير التجريبي، فالعلوم الرياضية مع أنها تبدأ من المحسوسات وتستعين بها، إلا إن لها موضوعات متمايزة عن المحسوسات، ولها مناهج خاصة، فليست الهندسة — مثلًا — مسح الأرض، ولكنها النظر في الأشكال أنفسها، فالعلوم الرياضية تضع أمام الفكر صورًا كلية ونسبًا وقوانين تتكرر في الجزئيات؛ لذا يستخدم الفكر الصور المحسوسة في هذه الدرجة من المعرفة لا كموضوع، بل كواسطة لتنبيه المعاني الكلية المقابلة لها، ثم يستغني عن كل الصور الحسية وبكامل المعاني الخاصة، ثم يستغني عن التجرِبة في استدلاله ويستخدم المنهج الفرضي الذي يضع المقدمات وضعًا ويستخرج النتائج.٧٣
يقول أفلاطون: «لا واحد من هؤلاء الذين يمكن أن نعتبرهم ناقلين للهندسة في القرن الخامس، يستطيع أن يعارضنا في أن هدف هذا العلم ليس له مطلقًا أية علاقة مع اللغة التي يتكلمها هؤلاء الذين يعالجونها، فهم يتكلمون عن التربيع والمد والإضافة إلى آخر ما هناك، وكأنهم يعملون في الواقع، وكأن كل براهينهم تميل إلى العمل. في حين أن هذا العلم ليس له بالمرة موضوع آخر سوى المعرفة … لما هو موجود دائمًا، لا لما هو يُولَد ويَهلك … وعلى ذلك تُجذب النفس نحو الحقيقة، وتكون فيها العقلية الفلسفية.»٧٤

(٢) المنهج الرياضي عند إقليدس

إذا كان إقليدس قد أخذ على عاتقه أن يعرض جميع الحقائق الرياضية التي تجمعت في عصره، سواء منها ما ابتكره الإغريق، أو ما اكتشفوه، وما أخذوه عن المصريين والبابليين وسواهم، إلا إنه نجح في أن يقيم كل المعارف الرياضية النظرية من هندسة وحساب وجبر، كبُنيانٍ مرصوص، يقوم بعضه على بعض، ويُفضي بعضه إلى بعض، بنظام متكاملٍ، وعلى هذا النظام قام ما أضافته فيما بعد الهندسة الكروية، وهندسة القطوع المخروطية والهندسة التحليلية، ونظرية التحليل، بل على هذا النظام قامت كل الرياضيات التقليدية التي يبدو اليوم للنظرة السطحية أن الرياضيات الحديثة تزحزحها عن عرشها، وليس الأمر كذلك، وليست الرياضيات الحديثة إلا منطقية استنتاجية، كما أراد إقليدس أن تكون الرياضيات، ولكن رياضيات اليوم ذات أولويات جديدة، وتستند إلى خبرات منطقية وعلمية وتربوية أكثر سعة وأكثر رصانة.٧٥
لقد بلغ المنهج الرياضي عند إقليدس حدًّا من الكمال جعل من كتابه «الأصول» يعيش أكثر من ألفي سنة، وهو يُعَد أعظم كتاب علمي أنجبه العقل البشري، ولعل من أروع ما أنجزه إقليدس كان الجزء الأول من أصوله؛ التعريفات والمسلَّمات والبديهيات، وأما التعريفات فهي في نظره مبادئ، ولكن ليست مبادئ بالمعنى الدقيق لكلمة مبادئ؛ فهي لا تعبر عن جواهر الأشياء أو ماهياتها، إنها تعريفات اسمية وليست واقعية، وقد وُضعت بغرض الوصول إلى أقصى درجة من الوضوح اللغوي مقتربة بذلك من المعطيات الأولية للتجرِبة. وعلى ذلك فتعريفات إقليدس لا تتضمن وجود الأشياء المعروفة وجودًا واقعيًا، فهو لا يعمل على أشياء جزئية، بل على أفكار عامة استخلصها باستقراءٍ من الجزئيات ثم يقوم بتركيبها.٧٦
ومن هذه التعريفات التي ذكرها إقليدس على سبيل المثال لا الحصر:٧٧
  • النقطة هي ما ليس له أجزاء أو هي ما ليس له مقدار.

  • الخط طول دون عرض.

  • نهاية الخط نقطتان.

  • الخط المستقيم هو الذي يقع باعتدال بين نقطتي النهاية.

  • السطح هو الذي له طول وعرض.

  • نهاية السطوح هي الخطوط.

  • الزاوية المنفرجة هي التي تكون أكبر من قائمة.

  • الزاوية الحادة هي التي تكون أقل من قائمة.

  • الأشكال ثلاثية الأضلاع أو المثلثات هي التي يحدها ثلاثة مستقيمات.

  • المثلث المتساوي الساقين هو المثلث الذي له ضلعان متساويان.

  • المثلث حاد الزوايا هو الذي يحتوي على ثلاث زوايا حادة.

  • المستقيمات المتوازنة هي مستقيمات على خط واحد بحيث لا تتقابل مهما امتدَّت من كلتا الجهتين.

وإذا انتقلنا إلى المسلَّمات، والمسلَّمة ليست سوى قضية لا يمكن برهنتها، وفي الوقت نفسه لا يمكن تجنبها؛ ولذلك عُني إقليدس بالمسلَّمات واخْتزَلها إلى أقل عدد ممكن، ولقد كان اختيار المسلَّمة الخامسة بصفة خاصة أعظم ما أنتجه إقليدس، وأصبحت علَمًا على اسمه في كل العصور، تقول هذه المسلَّمة: «إذ قطع مستقيم مستقيمين، وكان مجموع الزاويتين الداخلتين في نفس الجانب أقل من قائمتين؛ فإن المستقيمين إذا مُدا بدون حدٍّ يتلاقيان على نفس الجانب الذي تكون فيه الزاويتان أقل من قائمتين.» وهكذا كان إقليدس رائدًا للسهل الممتنع عن الرياضيين التقليديين.٧٨

وأما عن البديهيات فيرى إقليدس أنها قضايا نقبلها دون أن نطالِب بالبرهنة عليها، وذلك لشدة وضوحها فنحن نؤمن بصدقها؛ لأننا ندرك مضمونها بالحدس.

وبديهيات إقليدس هي:
  • الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية فيما بينها.

  • إذا أضفنا أشياء متساوية إلى أشياء متساوية فالنواتج الكلية تكون متساوية.

  • إذا طرحنا أشياء متساوية من أشياء متساوية فبواقي الطرح تكون متساوية.

  • إذا أضفنا أشياء متساوية إلى أشياء غير متساوية فالنواتج الكلية تكون غير متساوية.

  • إذا طرحنا أشياء متساوية من أشياء غير متساوية فبواقي الطرح تكون غير متساوية.

  • أضعاف شيء واحد بعينه تكون متساوية.

  • أنصاف الشيء الواحد بعينه متساوية.

  • المقادير التي ينطبق أحدها على الآخر أو التي تشغل نفس المكان تكون متساوية.

  • الكل أكبر من جزئه.

هذا بالإضافة إلى البديهيات الثلاث التي نُقلت إلى قائمة المسلَّمات، وبهذه البديهيات عرَف إقليدس تساوي المقادير الهندسية وعدم تساويها، فالبديهيات الأولى والثانية والثالثة والسادسة والسابعة والثامنة تتكلم عن التساوي، وتتكلم البديهيات الرابعة والخامسة والتاسعة عن عدم التساوي.٧٩
ويلاحظ أن البديهيات الأولى التي تتكلم عن تساوي الأشياء المساوية لشيء واحد بعينه من الممكن أن تسمَّى بمبدأ الاستدلال الرياضي، ومن الممكن أن توضع على الصورة: «إذا كانت أ = ب، ب = ﺟ، فإن أ = ﺟ».٨٠

وبعد أن عرض إقليدس في الجزء الأول من أصوله التعريفات والمسلَّمات والبديهيات، عرض ثماني وأربعين قضية مسلَّمة ومُبرهنة، اعتمدت برهنة كلٍّ منها على القضايا التي سبق البرهان عليها، وعلى تعريفات ومسلَّمات وبديهيات الجزء الأول، والحق أنه عندما توضع هذه الأفكار الأولية يكون من الممكن أن تتسلسل ابتداءً منها — وبواسطة الاستنباط المنطقي — سلسلةٌ من القضايا التي يصدر بعضها عن بعض.

وقد صنَّف إقليدس، في عرضه الاستنباطي، القضايا تبعًا لأهميتها وطبيعتها، فهناك النظرية أو القضية الأساسية، ثم القضية الثانوية أو القضية التي تحتل المركز الثاني من حيث الأهمية، وهي التي تُسهِّل البرهان على نظرية آتية. ثم هناك النتيجة أو القضية التي تلزم لزومًا مباشرًا على نظرية قد برهن عليها، وبذلك تكون هندسة إقليدس قد عُرضت على غِرار القياس الأرسطي.٨١
ولقد قسَّم إقليدس القضايا إلى مسائل وإلى نظريات تتناول خصائص الأشكال، وقد ميز بينها بأنْ وضَع في نهاية تناول المسألة الحروف Q E F التي هي اختصار للعبارة اللاتينية Quod Erat Faciendum؛ أي: «وهو المطلوب عمله»، وفي نهاية تناول النظرية الحروف Q E D التي هي اختصار للعبارة اللاتينية Quod Erat Domonstradum؛ أي: «وهو المطلوب البرهنة عليه».٨٢

ولا شك في أن إقليدس بتحرِّيه ألا يضع في كتابه إلا ما يقوم عليه برهان استنتاجي، قد خلَّص الرياضيات من شوائب كثيرة تراكمت عليها بصيغة قواعد عملية تقريبية، ولعله أيضًا استبعد من كتابه حقائق لم يستطع أن يثبتها. ومن ناحية أخرى نودُّ أن نشير إلى أن هندسة إقليدس قد أفادت البشرية إفادة كبيرة، فلولاها لما حاول كثير من الرياضيين المُحدَثين، من أمثال «لوباتشفسكي» و«ريمان»، ابتداع هندسات لا إقليدية ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى الآن.

١  تشارلس سنجر: الرياضيات والفلك، بحث منشور ضمن كتاب «ما خلفه اليونان»، ص١١٦-١١٧.
٢  Sir Thomas Heath: Greek Mathematics, Oxford, 1921, vol. I, pp. 3–6.
٣  David Eugene Smith, History of Mathematics, vol. I, Dover Publications, inc. New York, pp. 23-24.
٤  دي بورج: تراث العالم القديم، ج١، ص٣٦.
٥  رينيه تاتون: تاريخ العلوم العام، ج١، ص٣٠-٣١.
٦  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٣٠٠.
٧  Howard Eves: An Introduction to the History of Mathematics, New York, 1964, p. 39.
٨  سارتون: تاريخ العلم، ج١، ص٦٢-٦٣.
٩  د. أحمد أبو العباس: تاريخ الرياضيات، القاهرة، ١٩٦٠م، ص٨.
١٠  رينيه تاتون: نفس المرجع، ص٣٢.
١١  د. نبيل راغب: عصر الإسكندرية الذهبي، ص١١٠–١٢٠.
١٢  ر. ج. فوربس وأ. ج. ديكسترهوز: تاريخ العلم والتكنولوجيا، ترجمة د. أسامة أمين الخولي، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب، القاهرة، ١٩٦٧م، ص٢١-٢٢.
١٣  نفس المرجع، ص٢٢.
١٤  د. عبد العظيم أحمد أنيس، د. وليم تاوضروس عبيد: مقدمة في تاريخ الرياضيات، طبعة وزارة التربية والتعليم، القاهرة، ١٩٨٥م، ص٢٩.
١٥  ر. ج. فوربس. وأ. ج. ديكسترهوز: نفس المرجع، ص٢٢.
١٦  انظر مقدمة د. علي مصطفى مشرفة ود. محمد مرسي أحمد لكتاب الجبر والمقابلة لمحمد بن موسى الخوارزمي، القاهرة، ١٩٣٩م، ص٤.
١٧  زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة د. فاروق بيضون و د. كمال دسوقي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ١٩٨٠م، ص٢٩-٣٠.
١٨  لويس كاربنسكي: رياضيات المصريين القدماء وأثرها في تقدم العلم والعمران، ترجمة د. قدري حافظ طوقان، مقال منشور ضمن مجلة المقتطف، عدد شهر ديسمبر، سنة ١٩٣٦م، ص٣٣.
١٩  نفس المرجع، ص٣٤.
٢٠  O. Neugebauer, The Exact Sciences in Antiquity, Harper & Brothers, New York, pp. 30-31.
٢١  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٣٠٣.
٢٢  نفس المرجع، ص٣٠٣-٣٠٤.
٢٣  نفس المرجع، ص٣٠٤.
٢٤  نفس المرجع، ٣٠٥.
٢٥  د. هاشم أحمد ود. يحيى عبد سعيد: موجز تاريخ الرياضيات، منشورات جامعة الموصل، العراق، ١٩٧٧م، ص١٣٧–١٤٠.
٢٦  د. عبد العظيم أنيس ود. وليم تاوضروس عبيد، نفس المرجع، ص١٠٦–١٠٨.
٢٧  تاتون: نفس المرجع، ص١١٠.
٢٨  د. محمد علي الجندي: نظرية العدد في الفكر الإسلامي، بحث منشور ضمن مَجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد الخامس والعشرون – العدد الثاني، أكتوبر – ديسمبر، ١٩٩٦م، ص٢٥٢.
٢٩  تاتون: نفس المرجع، ج١، ص١٨٢–١٨٧.
٣٠  نفس المرجع، ج١، ص١٨٧.
٣١  نفس المرجع، ج١، ص١٦٤-١٦٥. والقيمة الحقيقية تساوي «٣٫١٤١٥٩».
٣٢  نفس المرجع، ج١، ص١٦٥.
٣٣  د. قدري طوقان: تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، دار العلم للملايين، بيروت، ١٩٦٣م، ص٤١.
٣٤  د. أحمد أبو العباس: نفس المرجع، ص٦٦.
٣٥  د. محمد علي محمد الجندي: نفس المرجع، ص٢٥٤-٢٥٥.
٣٦  ابن النديم: الفهرست، ص٢٢٧.
٣٧  د. قدري طوقان: نفس المرجع، ص٤٢-٤٣.
٣٨  نفس المرجع، ص٤٣.
٣٩  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٣٠٦.
٤٠  نفس المرجع، ص٣٠٧.
٤١  Howard Eves: op. cit., pp. 190-191.
٤٢  Ibid., p. 191.
٤٣  جورج سارتون: تاريخ العلم، ج١، ص١١.
٤٤  أفلاطون: محاورة فايدروس، ص١٢٣-١٢٤.
٤٥  جيمس بيرك: عندما تغير العالم، ترجمة ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة، عدد١٨٥، ذو القعدة ١٤١٤ﻫ– مايو ١٩٩٤م، ص١٩-٢٠.
٤٦  سارتون: نفس المرجع، ج١، ص٤١٧.
٤٧  د. نبيل راغب: عصر الإسكندرية الذهبي، ص١٢١.
٤٨  نفس المرجع، ص١٢٢.
٤٩  نفس المرجع، ص١٢٢.
٥٠  نفس المرجع، ص١٢٣.
٥١  كاربنسكي: نفس المرجع، ص٣١-٣٢.
٥٢  جون برنال: العلم في التاريخ، ﺟ١، ص١٩٥.
٥٣  Bell: Men of Mathematics, pelican books, London, 1953, vol. I, pp. 18–20.
٥٤  سارتون: نفس المرجع، ج٤، ص٨٤.
٥٥  سارتون: نفس المرجع، ﺟ٤، ص٨٤-٨٥.
٥٦  نفس المرجع، ﺟ٤، ص٨٦-٨٧.
٥٧  تاتون: تاريخ العلوم العام، ج١، ص٣٢، ٣٥١.
٥٨  د. مصطفى محمود سليمان: نفس المرجع، ص٣٤١–٣٥١.
٥٩  د. فؤاد زكريا: التفكير العلمي، ص١٣٢-١٣٣.
٦٠  Marshall, Clagett : Greek Science in Antiquity, Abelard Schuman, in New York, pp. 53-54.
٦١  W. Kneale: The Development of Logic Clarendon, Oxford, 2nd edit., 1966, p. 378.
٦٢  سارتون: نفس المرجع، ﺟ١، ص٣٦٢.
٦٣  نفس المرجع، ﺟ١، ص٣٦٣.
٦٤  تشارلس سنجر: نفس المرجع، ص١٢٦.
٦٥  تاتون: نفس المرجع، ج١، ص٤٣٠.
٦٦  بنيامين مارتن: العلم الإغريقي، الجزء الأول، ترجمة أحمد شكري سالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٩م، ص٦٥.
٦٧  د. السرياقوسي: المنهج الرياضي بين المنطق والحدس، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٨٢م، ص٤٨.
٦٨  نفس المرجع، ص٤٩.
٦٩  نفس المرجع، ص٥٠.
٧٠  نفس المرجع، ص٥١.
٧١  يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٢م، ص٧١.
٧٢  أفلاطون: الجمهورية، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار الكاتب العربي، القاهرة، ص٢٩٠–٢٩٢.
٧٣  د. أحمد سليم سعيدان: مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام، سلسلة عالم المعرفة، عدد ١٣١، ربيع الأول ١٤٠٩ﻫ– نوفمبر ١٩٨٨م، ص٦٥-٦٦.
٧٤  د. السرياقوسي: نفس المرجع، ص٦٦–٦٨.
٧٥  د. نبيل راغب: نفس المرجع، ص١٢٤-١٢٥.
٧٦  السرياقوسي: نفس المرجع، ص٧٠.
٧٧  السرياقوسي نفس المرجع، ص٧٠.
٧٨  نفس المرجع، ص٧١.
٧٩  نفس المرجع، ص٧١.
٨٠  نفس المرجع، ص٧٢-٧٣.
٨١  نفس المرجع، ص٧٣.
٨٢  نفس المرجع، ص٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤