تمهيد

لا يمضي يومٌ دون أن تمتد أيدينا إلى هذه القِطَع الورقية الثمينة المسمَّاة أوراق النقد. اختُرعتِ النقود الورقية على أيدي الصينيين! وبعدَها بألفِ عامٍ، كان المستعمِرون الأمريكيون أولَ مَن استخدمها استخدامًا مُمنهجًا في العالَم الغربي، حتى إنهم موَّلوا ثورتَهم بإصدار كميات هائلة من أوراق الدولار. والحقيقة أنه يصعب تصوُّر الحياة الحديثة دون نقود، ومع ذلك يُخفَى عن عامة الجمهور تمامًا كيف تُصنع هذه الأوراق ومَن يصنعها. تُهَيْمن الشركات الأوروبية على سوق طباعة النقد العالمية بما فيها من آلات طباعة خاصة وأحبار مُؤمَّنة، بالإضافة إلى المعدَّات المُؤَتْمَتة التي تُستخدم لفحص أوراق النقد فحصًا دقيقًا، أو الفرَّامات المُؤَمَّنة التي تُستخدم لإعدام الأوراق النقدية المستعملة. وطباعة أوراق النقد الخاصة ذاتها يُسيطر عليها بالكامل عددٌ قليل من الشركات الأوروبية العالية التقنية، وهذا كلُّه يكاد يكون غير معروف للعامة. وتبرَّر هذه السرية دومًا باعتبارها من لوازم الأمن المشدَّد المحيط بإنتاجِ منتَجٍ شديد الخصوصية، وإنْ كانت هذه السرية أيضًا نتاج هيكل السوق — ذلك الهيكل الشديد التسييس — التي تعمل فيها البنوك المركزية ومطابع أوراق النقد الحكومية والخاصة. وهو وضْعٌ لا يَختلف عما هو سائد في صناعة السلاح. لكن هذا الهوس بالسرية غير مناسب في مجتمع مفتوح، بما أن طباعة أوراق النقد تنطوي على استخدام مكثَّف — وتبديد في أغلب الأحيان — لأموال دافعي الضرائب.

انظر مثلًا إلى الدولار الأمريكي المَهِيب الذي يُجسِّد قوة أمريكا الاقتصادية ونفوذها العالمي. تُنتج مطابع مجلس الاحتياطي الفيدرالي اليوم نحو ٩ مليارات ورقة لعملة الدولار سنويًّا، وتُعتبر المطبعتان اللتان يشغِّلهما مكتب سكِّ وطباعة العملة نموذجين للكفاءة، ومع ذلك فإن نجاحهما الذي لا مِراء فيه يستند إلى تكنولوجيا طباعة أوروبية تُحيط بها تدابير أمنية صارمة. بل إن الدولار سيبدو باهتًا دون أحْباره الأوروبية المُؤمَّنة تأمينًا قويًّا. لكنْ في مجال تأمين أوراق النقد والحرب ضد التزييف، تتَّبِع أمريكا سياسةً تختلف اختلافًا واضحًا عن النهْج الأوروبي. كانت التكلفة التي تكبَّدها الدولار فيما يتعلَّق بتزييف الأوراق النقدية كبيرة، على النحو الذي يَدُلُّ عليه ظهور ما يُسمَّى السوبر دولار، وهو ورقة مزيَّفة فئة ١٠٠ دولار ذات جودة عالية يتعذَّر معها على غير المختصين تمييزُها عن ورقة سليمة فئة ١٠٠ دولار. لم يُحَلَّ بعدُ لغزُ مَن يصنع هذه الأوراق النقدية الزائفة التي يَصعُب تمييزُها عن الأوراق النقدية السليمة. تُلقِي الحكومة الأمريكية باللائمة على النظام الشيوعي الرجعي في كوريا الشمالية، وتتَّهمه بأنه مصدر الورقة السوبر، وبأنه يشنُّ حربًا اقتصادية ضد الولايات المتحدة. لكنَّ هذا الكتاب يكشف لأول مرة عن أن هذه الأوراق السوبر من الجائز تمامًا أن تكون قد طُبعتْ في مطبعة شديدة السرية تُديرُها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ولا تَبعُدُ كثيرًا عن العاصمة واشنطن جهة الشمال.

يُسلِّط هذا الكتابُ الضوءَ على صناعة أوراق النقد وطريقة عملها، وهو بذلك يرفع حجاب السرية المفروض على هذه الصناعة. نُشرتِ المحاولة السابقة الوحيدة للكشف عن هذه القصة عام ١٩٨٣م على يَدِ مؤلِّف أمريكي، لكنَّ ممثِّلَيْن بارزَيْن من ممثلي هذه الصناعة قامَا بشراء كل نُسَخ هذا الكتاب من المطابع مباشرةً؛ للحيلولة دون اطِّلاع الجمهور على دواخل هذا المجال، ويستحيل العثور على ذلك الكتاب اليوم. والآن يُرفع الستارُ عن هذه الصناعة التي تَكْتَنِفها السرية.

وكما هو متوقَّع، ساعدتِ الثقافة المؤسسية القائمة على السرية المحيطة بصناعة الطباعة المُؤمَّنة تأمينًا قويًّا على حجْب ممارسات أعمالٍ قلَّما تكون في الصالح العام، ومعايير أخلاقية أحيانًا ما تكون مثار جدل. والحقيقة أن الشركات التي تحتكر المستلزمات يُمكِنها عمليًّا ابتزازُ البنوك المركزية وابتزازُ الجمهور من خلالها. وهنا تكشف الأبحاثُ الجديدة لأول مرة عن قصة جوالتيرو جوري ومنظومته المسمَّاة «منظومة جوري» كاملةً. فقد طوَّر مهندس الميكانيكا هذا، ذو الأصل الإيطالي السويسري، منظومةً تتألَّف من طابعات الطباعة الغائرة المتعددة الألوان تُغذَّى بالصفحة، فأحدثَ ثورةً في عالَم طباعة النقد. وبمساعدة شركة الآلات الألمانية كوينج أوند باور، أقنع جوري البنوك المركزية ببِنَاء مطابع باهظة التكلفة على نحو مُبالَغ فيه. علاوة على ذلك، تُظهِر معلوماتٌ جديدةٌ إضافية كيف تمكَّن جوري ببراعة من إحباط محاولة يابانية لتقليد ماكيناته، محافظًا بنجاحٍ على سيطرته على سوق طابعات النقد العالمية. لا شك أن بعض القائمين على طباعة النقد من القِطاع الخاص جرَّبوا الكثير من الحِيَل القَذِرة لوقْف تقدُّم آلات جوري؛ وذلك خوفًا من خسارة عُمَلاء مُهِمِّين. ويَحكِي هذا الكتابُ حكايةَ طبَّاع بريطاني من القطاع الخاص أقدم — خشيةَ فقدان عميلِهِ المصري — على إبلاغ الاستخبارات المصرية بأن الآلات التي يوشكون على شرائها من جوري «يهودية المنشأ».

لكنْ في العالَم المُحصَّن للطباعة المُؤمَّنة تأمينًا قويًّا، لا تُعتبر «رُخصة طبع النقود»، وما تُدِرُّ مِن أرباح هائلة أحيانًا، ضمانًا مؤكَّدًا للنجاح؛ فهناك مثلًا قصة صانع الأحبار السويسري ألبير عمون، الذي سار على خُطى صديقِه المقرَّب جوري وآلاته الجديدة، فطوَّر صنفًا جديدًا من الأحبار الرفيعة الأمْنِ مَنَحَه في النهاية سيطرةً شبهَ كاملة على هذه السوق الشديدة الخصوصية على نطاق عالمي. من بين أصناف الحبر المؤمَّنة التي يُنتجها عمون حبرٌ متبدِّلُ الألوان يُسمَّى «الحبر المتغير بصريًّا»، يُباع الكيلو منه مقابل ١٩٥٠ دولارًا. وعلى الرغم من هذا السعر الباهظ، فإن ابنَيْ ألبير عمون اللذين آلَتْ إليهما الشركة من أبيهما في تسعينيات القرن العشرين، أوقَعَا شركتهما العائلية في مشكلات اقتصادية خطيرة جدًّا. وهناك الشركة البريطانية الخاصة لطباعة النقد وصناعة الورق التي تَحمِل اسمَ دي لا رو، الذي هيمن لعقود على سوق النقد العالمية، لكن سلسلةً من الأخطاء الإدارية التي ارتكبها الرؤساء التنفيذيون، الذين كان يَتِمُّ تغييرُهم بسرعة، قلَّص مكانةَ هذه الشركة كثيرًا مقارنةً بما كانت عليه فيما مضَى، ولم تتمكَّن حتى الجهود الرامية إلى إبرام صفقات سرية لتحديد الأسعار أو تقسيم السوق من اتِّقاء هذا المصير. وهي نفسُها الشركة البريطانية التي أقنعتْ بولندا، بعدَ سقوط جدار برلين، بإعدام إصدارٍ كاملٍ من أوراق النقد الجديدة التي تَكلَّف طبعُها ٣٥ مليونَ ماركٍ ألماني (٢٠ مليونَ دولارٍ) بزعم أن هذه الأوراق، التي طبعها منافسها الألماني، «ليست صالحة». وعندئذٍ أعادت شركة دي لا رو طَبْع أوراق نَقْد جديدة أخرى لبولندا، لكنها سرعان ما خَسِرَت العَقْدَ بسبب كثرة الأخطاء المطبعية.

هناك أيضًا قصة شركة طباعة النقد الألمانية الخاصة جيزيكه أوند ديفريَنت، التي قُضي عليها قضاءً شبهَ تامٍّ أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم صارت هذه الشركة، بإدارة مالكها الجريء صاحب الشخصية الكاريزمية سيجفريد أوتو، شركةَ الطباعة الوحيدة في العالم المؤمَّنة تأمينًا قويًّا، والمتكاملة تكاملًا رأسيًّا تامًّا، والمشتغِلة بكل شيء بدايةً من الورق إلى الطباعة، ومن أجهزة فحص النقد إلى فرَّامات النقد المستعمل. لكنَّ طَمَعَ أوتو وطَمَعَ ابنَيْه، اللذين حرَمَهما من الميراث بسبب جشعهما، ألقَى بالشركة في أزمة عميقة ما زالت تؤثِّر عليها. علاوة على ذلك، تُحكَى لأول مرة قصة كيف وصلتْ بوندِسدروكراي — مطبعة النقد الاتحادية الألمانية التي تَحظَى باحترام كبير، والتي كانت على الأرجح أحدث مطبعة في العالم آنذاك — إلى شفا الإفلاس خلال خصخصتها بسبب الضجة الفارغة التي أحاطت بها نفسَها وغياب الرؤية والجشع. كما آذن الجشع بنهاية الأخوَيْن تشيكوني ومطبعتهما تشيكوني كالكوجرافيكا في الأرجنتين. كان الأخوان يَحلُمان بأنْ يكوِّنا أول شركة طباعة مؤمَّنة تأمينًا قويًّا في نصف الكرة الجنوبي، وكانا يتطلَّعان إلى الأرباح الوفيرة المستمرة التي سيُدِرُّها طبعُ النقد. غير أن توسُّع الشركة اعتمادًا على القروض في هذا المجال رمَى بها بين أذرع عصابة من المافيا الدولية. وفي عمليتين خِداعِيَّتَيْن تفُوح منهما رائحة الاستخبارات البلجيكية والفرنسية، وربما اقتُبستا مباشرةً من سيناريو أحد أفلام هوليوود، طبع الأخَوَان «أوراقًا نقدية أصلية زائفة» لزائير (الكونغو الديمقراطية) والبحرين، وفي النهاية اضطُرَّتِ الشركة إلى الاحتماء من دائنيها بموجب الفصل الثاني من قانون الإفلاس.

قلنا في البداية إن صناعة الطباعة المؤمَّنة تأمينًا قويًّا هي اليوم صناعة أوروبية، لكن ربما لا تظل هكذا لفترة أطول. قُضي الأمر. والعملة الأوروبية المشتركة هي التي فرضتْ على صناعة الطباعة الخاصة المؤمَّنة تأمينًا قويًّا تغييرًا عميقًا لا تُعلَم عواقبُه.

يَروي هذا الكتابُ لأولِ مرة المسارات المؤلمة، من الناحيتَيْن السياسية والتقنية، نحو عُملة مشتركة بحقٍّ؛ حيث يصف مدى صعوبة عملية صُنعِ القرار في أوروبا حتى عندما يتعلَّق الأمر بمسألة مهمة كالعُملة الأوروبية المشتركة. لقد أخفق المسعى برمَّته؛ لأن الجميع كانوا يريدون تقاسُم مزايا عُملة مشتركة، لكنْ دون التخلِّي عن امتيازاتهم القومية. ويصف هذا الكتاب لأول مرة كيف أدَّتْ مشاركة عدَدٍ أكبر مما ينبغي من مورِّدي الورق والمطابع؛ الحكومي منها والخاص، إلى رفع تكلفة إنتاج أوراق اليورو الجديد وخفْض جودتها في الوقت نفسِه؛ إذْ لم تَكن كل المطابع المشاركة في طبع اليورو مؤهَّلة فنِّيًّا لأداء هذه المهمة. وهذا أهم أسباب الزيادة المطَّردة في أوراق اليورو الزائفة، التي حلَّتِ الآن في أوروبا محلَّ أوراق الدولار الزائفة باعتبارها العُملة الأكثر عرضةً للتزييف. كما يوضِّح الكتاب كيف استغلَّتِ المطابع الحكومية المهيمِنة والمؤمَّنة تأمينًا قويًّا إدخالَ العُملة الجديدة، واتَّخذت منه مبررًا كي تبني قدرات إنتاجية هائلة. لكن هذه القُدرات غير مستغلَّة كما ينبغي الآن، وبدأت المطابع المدعومة ماليًّا بسخاء من جانب الدول البحثَ عن طلبيَّات إضافية في سوق طباعة النقد العالمية كي تشبع قدراتها الإنتاجية. إن المطابع الخاصة المُؤَمَّنة تأمينًا قويًّا تعتمد على هذه السوق العالمية. وكان من المفترض أن يُعزِّز اليورو القدرةَ التنافسية والكفاءة في أوروبا، لا أنْ يَقضِيَ على صناعة النقد. وإذا لم يُفعل شيء في القريب العاجل لِكَبْح جِمَاح المطابع الحكومية بأسعارها الإغراقية، فسيكون مستقبلُ المطابع الخاصة المُؤَمَّنة تأمينًا قويًّا باعتبارها صناعة أوروبية في خطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤