الفصل الرابع

لماذا حقَّق السيد عمون النجاح ذاته بحبر الطباعة؟

لا بد من ذِكْر ألبير عمون ومصنعه لأحبار الطباعة «سيكبا» في هذه المرحلة. يمكن القول بأن عمون كان بمنزلة الأخ التوأم لجوري في مجال الأوراق النقدية المُربح. كان السيد عمون — وهو نموذج للمودَّة والفطنة في صناعة تزدهر على الشائعات القبيحة — دائمًا على استعداد لتقديم مساعدة جليلة للعملاء والأصدقاء؛ مما جعله موضع ثقة خاصة في محيط جوري. كان عمون يتوسَّط عندما تتصاعد التوترات بين شركاء الأعمال، وكان يساعد بالمال عندما يكون هناك شخص في حاجة ماسَّة إليه، وكان يؤدي خدمات ودِّية بلا تردد. لم يكن هذا دائمًا يصبُّ في مصلحته، على نحوِ ما بينت قصة أوتو وشركته التجارية التي يكتنفها الغموض سِكيوريتي برنتِنج إس إيه، كما سنرى لاحقًا. عندما دعا جوري مجموعة منتقاة من مورِّدي صناعة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة إلى لوزان في خريف عام ١٩٥٢م لإرساء قواعد اللعبة وتوزيع الأدوار في طباعة أوراق النقد والسندات المالية، كان عمون واحدًا من الذين وَقَعَ الاختيارُ عليهم. كانت شركة سيجفريد أوتو هي شركة طباعة النقد الوحيدة هناك. قُدِّر لتلك العُصبة السوقية أن تستمر أربعين سنة. في تلك الأيام كانت شركات طباعة السندات المالية تَصنَع أحبارَها بنفسِها. ركَّز جوري على طباعة الإنتاليو. كانت الأحبار الخاصة غالية وتُبشِّر بتجارة هائلة. ما ضايق أوتو أشد الضيق أن جوري خصَّص هذه التجارة لصديقه ألبير، الذي سبق له فعلًا توريد الحبر للطابعة بايلوتو. منذ ذلك الحين فصاعدًا، في أيِّ مكان في العالم كان يبيع فيه السنيور جوري إحدى طابعاته، كان يحرص على أن يُعتَبَر عمون مورِّدَ الأحبار المخصوصة. نشأ وضعٌ شبه احتكاري آخر. في واحدة من مطبوعاته النادرة، عدَّد الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة — الذي عُرِف فيما عدا ذلك بالتكتم الشديد، والذي سنتحدث عنه باستفاضة في الفصول التالية — أصناف الأحبار المتاحة: الحبر الكاشف القابل للذوبان في الماء، الذي يتغيَّر مظهره عند معالجته بالكيماويات، والحبر الضوئي المرئي أو غير المرئي، الذي يتوهَّج في الضوء فوق البنفسجي ويتخذ ألوانًا جديدة في الأشعة تحت الحمراء، وأخيرًا الأحبار المغناطيسية الموصلة للكهرباء. كانت هذه منتجات حصرية لسيكبا. حتى في يومنا هذا، تحمل عبوات الحبر الموضوعة بجوار آلات العرض البياني في مركز كوباو-جوري التكنولوجي في ضاحية «لو مون» مُلصقات مدوَّن عليها الاسم المختصر «سيكبا» بحروف لاتينية كبيرة جدًّا دون أيِّ كتابة أخرى. يصعب أن تُخطِئها العين.

«ستراديفاري» أحبار الطباعة

استهلَّتْ شركة تصنيع وتجارة المنتجات الزراعية (سيكبا)، التي أسَّسها المهاجر اللبناني موريس عمون عام ١٩٢٧م، نشاطها كمنتِج لدُهن اللبن وموادِّ تلوين المنتجات الزراعية. كان الدهن يَحمِي ضروع الأبقار أثناء الحلب، ومواد التلوين تجعل الزبد أكثر اصفرارًا والبازلاء أشد اخضرارًا. بمساعدة جوري، صارت هذه الشركة المورِّد المهيمِن على سوق الأحبار المخصوصة المستخدَمة في طباعة أوراق النقد والسندات المالية. الشركة المساهمة العائلية مسجَّلة اليوم باسم «شركة تصنيع وتجارة منتجات عمون» (سيكبا). لقد تغيَّر غرض الشركة، لكن اسمها المختصر ظل كما هو. حقَّقتِ الشركة العائلية الكتومة — التي نَسبتْ إليها صحيفة نُويِه زورِخر تسايتونج بازدراءٍ غير معهود سياسةَ إفصاح تنتمي إلى العصر الحجري — مبيعات تقارب مليار فرنك سويسري بواسطة ٣٥٠٠ موظف عام ٢٠٠٤م؛ مما جعل الشركة من أكبر صانعي الأحبار في العالم. نحو ٦٥ في المائة من حجم الأعمال كان يأتي من «سيكبا باكيدجينج»، التي تُنتج أحبارًا تجارية لصناعة التغليف، وهي مجال أعمال صعب يُعاني دائمًا ضغط الأسعار ويحقِّق ربحًا هزيلًا بشِقِّ الأنفُسِ، هذا إنْ حقَّق أصلًا. كانت المجموعة السويسرية تَجنِي أرباحها الوفيرة، من أحبار طباعة أوراق النقد المخصوصة، وهي أحبار لا يُتاجَر فيها بحرية. كانت هذه الأحبار تُشكِّل بقية مبيعات المجموعة، وتحديدًا ٣٥٠ مليون فرنك سويسري. كان هناك كثير من التكهن بشأن نشاط سيكبا في الأحبار المُؤَمَّنة؛ لعدم وجود معلومات رسمية حوله. يمكن للمرء أن يُقدِّر حجم الإنتاج تقريبيًّا؛ لأنَّ هناك قاعدةً متعارفًا عليها تَسرِي هنا، وهي أنَّ طبع ١٠٠٠ صفحة من الورق يحتوي كلٌّ منها على ٤٠ ورقة نقد يحتاج إلى ما بين ثلاثة وأربعة كيلوجرامات من الحبر المُؤَمَّن، على حسب مساحة الورقة وتصميمها. بالنسبة إلى ما يُقدَّر ﺑ ٩٠ مليار ورقة نقد تُطبع في العالم سنويًّا، هناك حاجة إلى ٩٠٠٠ طن متري من الحبر المُؤَمَّن على الأقل لطباعة الإنتاليو والخلفية والترقيم إذا اقتصرتِ العملية على الطباعة من سطح غائر على جانب واحد فقط. ونصف اﻟ ٩٠ مليار ورقة نقد تُنتجه قُوَى أوراق النقد العظمى الأربع؛ وهي الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا. يمكن تجاهل هذا الجزء؛ لأن المطابع الحكومية تصنع أحبارها بنفسها؛ ومن ثم تتطلَّب «السوق المتاحة» للأحبار المُؤَمَّنة ٤٥٠٠ طن متري سنويًّا، ويُفترض أن تكون هذه مفتوحة أمام مقدمي العطاءات. من هذه السوق المتاحة، تحصل الشركة السويسرية على نسبة قَدْرُها ٨٥ في المائة. لكن حتى هذا الرقم مضلِّل. فمِن بين العمالقة الأربعة لطباعة أوراق النقد، تُعتبر جوزناك الروسية هي وحدها المستقلَّة نسبيًّا في تصنيعها أحبارَها؛ إذ لا تستورد إلا مادة مثبِّتة، ليس من سيكبا، بل من جايتسمان سِكيوريتي إنكس في برلين. أما الأمريكيون والصينيون والهنود فيُديرون مشروعات مشتركة مع الشركة السويسرية. وغالبًا ما تَحظُر القوانين المحلية استيراد أحبار طباعة أوراق النقد المخصوصة. ومن ثم ما زالت هناك بعض البلدان التي تصنع أحبارها بنفسها؛ منها أستراليا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية. لكن تحتاج هذه البلدان أحجامًا صغيرة نسبيًّا، وهي غالبًا ما تعتمد على سيكبا للحصول على التكنولوجيا اللازمة. اليابان وحدها هي التي تتولَّى الأمرَ برمته بنفسها. والحقيقة أن سيكبا تُسَيطر إلى حدٍّ كبير على سوق الأحبار المُؤَمَّنة العالمية، بغضِّ النظر عن مدى كَوْن هذه السوق «محمية» أو «متاحة» رسميًّا.

الأسعار سِرٌّ يخضع لحماية لا تقل صرامة. يضطر مستهلك حبر طباعة النقد الإنتاليو إلى دفع مبالغ كبيرة لضرورة وضع طبقة كثيفة من هذا الحبر على الورق، وإلا فلن يستطيع المرء أن يُدرِكه باللمس؛ ومن ثم يضيع الأثر الأمني اللمسي المطلوب. ثلث حبر طباعة الإنتاليو يُفقَد نتيجة هذه العملية الطباعية الخاصة. بل كانت نسبة الفاقد ذات يوم أكبر. لهذا السبب فإن الحاجة إلى حبر الإنتاليو تبلغ ستة أمثال الحاجة إلى حبر الخلفية، بافتراض اقتصار طابعة الإنتاليو على جانب واحد فقط. لو كانت الطباعة من سطح غائر ممكنة على كلا الجانبين، فمِن الطبيعي أن تكون التكلفة أكبر، لكن الخلفية تُطبَع بطريقة الأوفست، التي لا تتطلَّب إلا أقل كمية من الحبر، ولا يُفقَد إلا القليل من هذه الكمية في الطباعة. من المدهش أن حبر طباعة الإنتاليو الأكثر تعقيدًا بكثير من الناحية الفنية يتكلَّف مع ذلك أقل كثيرًا من حبر طباعة الخلفية. وهذا مقصود. فإذا كان المرء يَسعَى إلى نشر طباعة الإنتاليو باستهلاكها الشديد للحبر، فعليه ألَّا يُسعِّر الحبر بسِعْرٍ يَصُدُّ عن شرائه؛ لأن آخرين يُمكِنهم توفيرَ حبْر الطباعة من سطح غائر عند الضرورة. كل الأسعار المحدَّدة تخضع لتقلُّبات حادَّة، على حسب حجم الصفقة والعميل. ففي نهاية تسعينيات القرن العشرين، حاسبتْ سيكبا أحد العملاء على أساس ٣٥ فرنكًا سويسريًّا للكيلوجرام من حبر الطباعة من سطح غائر، و٧٥ فرنكًا للكيلوجرام من حبر طباعة الخلفية. وإذا كانت هذه الأحبار مخلوطة بعلامات خاصة، كمركَّبات الفلورين، فقد يرتفع السعر إلى أضعاف ذلك. لكن الجزء العالي التكلفة بحقٍّ يَخُصُّ في المقام الأول منتَج الشركة المميز، وهو «الحبر المتغيِّر بصريًّا»، الذي يعمل من خلال انكسار الضوء. وهو حبر متبدِّل اللون سنتكلَّم عنه باستفاضة. في الأيام الأولى كان سعر الكيلوجرام منه ٢٥٠٠ فرنك سويسري. يمكن أن يتصوَّر المرء أن هذا السعر محسوب بهوامش عالية جدًّا لا تستحق إلا أن توصف بأنها «غير واقعية». شَبَّهت مجلة بيلان (تعني ميزانية عمومية) التجارية الصادرة عن لوزان ذات يومٍ الأحبارَ المُؤَمَّنة التي تُنتِجها سيكبا بالآلات الموسيقية التي كان يصنعها ستراديفاري الإيطالي الذي ينتمي إلى مدينة كريمونا، على الأرجح ليس لمجرد أنها تُكافِئها في الجودة، بل لأنها أيضًا باهظة التكلفة مثلها.

لم يتبلور هذا النجاح السوقي من تلقاء نفسِه تمامًا؛ فحتى رعاية جوري الواضحة ما كان يمكنها أن تفعل ذلك لو لم تكن سيكبا مبدعة على نحوٍ لافت للأنظار في هذا المجال الخاص. ما يميز أحبار سيكبا المُؤَمَّنة هو مادتها المثبِّتة. تركَّزتِ التكنولوجيا على هذه المادة لا على الأصباغ، التي يُمكن في الواقع لأيِّ مورِّد آخر توفيرُها. فالأصالة الكيميائية والثبات الفيزيائي لهذه المادة المثبِّتة يُشكِّلان تحدِّيًا كبيرًا. ولا يجوز أن يَجِفَّ هذا الحبر أبطأ مما ينبغي ولا أسرع مما ينبغي. بالإضافة إلى ذلك، لا يجوز أن يتقشَّر ولا يُكشَط ولا يَتَلاشَى مِن فَوْق الورقة إلا ضمن الحدود المقرَّرة بشكل صارم في اختبار الغسيل بغاسول قلويٍّ ساخن داخل غسالة أو في اختبارات التلويث والثَّنْيِ. العامل المثبِّت عنصرٌ حاسم بالنسبة إلى الجودة في كل هذه الأمور. كما حقَّق اختصاصيُّ الحبر السويسري أيضًا عددًا من الإنجازات الكبيرة في مجال الأحبار المُؤَمَّنة؛ حيث صمَّم — على سبيل المثال — إجراءً لتحديد قيمتها الفيزيائية، ووَضَعَ معاييرَ معترفًا بها عالميًّا لاستخدام هذه الأحبار كالتي كانت موجودة من قَبْلُ فِيمَا يَخُصُّ الأحبار التجارية. لقد وُضعتْ معايير للحبر المُؤَمَّن للمرة الأولى، وصار ممكنًا إعادة إنتاجه بدقة بالغة، وبمساعدة التحليل السبكتروجرافي أمكن اختبار أصالته على هذا النحو. ثم كان هناك أيضًا تطوير أحبار مُؤَمَّنة تُزال بالماء، وهي أحبار يُمكن إزالتُها بغسلها بالماء في أسطوانة مضغوطة، على الرغم من قدرتها على تحمُّل الغاسول القلوي ودرجات حرارة المياه المرتفعة في اختبار الغسيل. بفضل هذا الاختراع، صار بمقدور المرء الاستغناء عن الإيثلين ثلاثي الكلور الخَطِر على الصحة باستخدام نوع خاص من المياه لتنظيف ألواح الطباعة من الحبر المتبقِّي. استحداث الآلة العالية الضغط بما تتسم به من ضغط عالٍ فوق العادة كانت تحدِّيًا إضافيًّا. كان المطلوب للطباعة من سطح غائر حبرًا خاصًّا يجفُّ بسرعة كبيرة تُوضَع منه طبقة كثيفة. من دون هذا ستلتصق صفحات النقد بعضها ببعض. حتى ذلك الحين كانت تُستخدَم صفحة بيضاء كورق نشَّاف توضع بين الصفحتين المطبوعتين. كان ذلك عملًا مرهقًا ومضيعةً للوقت وينطوي على تكاليف كبيرة. وحدهم اليابانيون باستخدامهم الطباعة من سطح غائر بلَوْح فولاذي مسطَّح، والأمريكيون باستخدامهم ورق طباعة الدولار السميك، لم تكن لديهم مشكلة في ذلك. لكن في حالة الأمريكيين، كانت تُطرح أيضًا للتداول أوراق نقد بها بُقع حبر. كان حاييم برِتلر، مدير قسم الأحبار المُؤَمَّنة بسيكبا المخضرم، هو الذي حلَّ هذه المشكلة بمساعدة فريقه البحثي.

لكنَّ «الحبر المتغيِّر بصريًّا» سالف الذكر، الذي استُخدم حصريًّا في طباعة أوراق النقْد، هو الذي جَمَعَ بين التفوق التكنولوجي والنجاح التجاري لسيكبا. استُلهم هذا الحبر من مؤتمر الإنتربول الدولي السادس حول تزييف العملات في مدريد عام ١٩٧٧م؛ حيث أفادتْ هيئة الشرطة الدولية للمرة الأولى عن نَسْخ أوراق النقد بالآلات الناسخة الملوَّنة الجديدة. تأخَّر الصانعون اليابانيون في اتخاذ تدابير دفاعية. كان يُنظر في فرض حظر على استيراد أجهزتهم الناسخة الخطرة. شارك برِتلر في المؤتمر كمراقب، فعرض عفويًّا أن تطوِّر سيكبا خاصية أمنية جديدة تمامًا لجزء مرئي من ورقة النقد؛ خاصية لا يُمكن نسخُها بالآلات الناسخة الملوَّنة. بعد عدة سنوات وجد ضالته في أحد مختبرات كاليفورنيا، وكانت عبارة عن دهان يُستَخدَم على نوافذ المكوك الفضائي وعلى النظارات الشمسية التي يرتديها رُوَّاد الفضاء لحجْب الأشعة الكونية. كانت مختبرات أوبتِكال كوتِنج لابوراتورِز الكائنة في سانتا روزا لديها هذه المادة التي يتغيَّر لونها بتغيُّر زاوية الرؤية. طوَّر برِتلر وفريقه الحبر المتغيِّر بصريًّا، الذي يُتيح بمفرده الحصول على عدد محدود جدًّا من توليفات الألوان الثنائية القابلة للتغير التام.

بسبب الغلاء الفاحش للحبر المتغيِّر بصريًّا، كانت محاولة اجتذاب أول عميل في الأيام الأولى صعبة بالقدْر نفسِه؛ إذ لم يُرِدْ أحد أنْ يكونَ أوَّلَ مَن يستخدم هذه الخاصية الغالية وغير المجرَّبة في آنٍ واحد. لكنْ في المؤتمر الدولي السابع حول تزييف العملات المنعقد عام ١٩٨٧م في مقر الإنتربول في ليون، صار مؤكدًا أن التهديد الآتي من الناسخات الملوَّنة اليابانية اشتد بدرجة كبيرة في السنوات العشر التي مضتْ منذ انعقاد المؤتمر السابق. قدمتِ المصادفةُ يدَ العَوْن لسيكبا. كان بنك تايلاند يخطِّط لإصدار ورقة نقد فئة ٦٠ باتًا احتفالًا بعيد ميلاد الملك بوميبول الستين عام ١٩٨٧م، على أن يُباع هذا الإصدار بأعلى من قيمته الاسمية ويُخصَّص الفرق لأغراض مدنية. ما زال يمكن رؤية الورقة غير العادية مربَّعة الشكل، التي تَقَرَّر ألَّا تُصرَف إلا في غلاف واقٍ، إلى يومنا هذا في المعابد البوذية؛ حيث يحب المؤمنون ربطها بالمذابح كقربان. قدَّمت سيكبا لطبع هذه الورقة التذكارية حبرها الجديد المتبدِّل الألوان بالمجَّان شريطة أن تنشر المطبعة الحكومية التايلاندية تقريرًا بشأن كميات الحبر المطلوبة وخصائصه الطباعية. كان هذا التنبيه في محلِّه. بعد ذلك بسنوات، مرَّ البنك الوطني النمساوي بتجربة مؤلِمة تتعلَّق بمدى دقة وحساسية استخدام هذا الحبر الخاص، عندما تقشَّر الحبر المتبدِّل الألوان الذي طُبعتْ به الأرقام الدالة على الفئة من الورقة فئة ١٠٠٠ شلن؛ فسَخِرَتْ وسائل الإعلام من هذه الورقة وسمَّتْها روبيلوس؛ وهو الاسم الألماني لبطاقة يانصيب يَكشط مشتريها طبقةً من فوق أرقامها المخفية ليرى ما إذا كان هو الفائز أم لا.1 سيرًا على خُطى تايلاند، استخدم النيجيريون الحبر المتبدِّل الألوان، وهي الخطوة التي ارتبطتْ بحقيقة أن شركة طباعة النقد دي لا رو، التي كانت تطبع نقود هذا البلد الأفريقي عادةً، كانت تملك حصةً بمقدار الثلث في فِدِنْك؛ وهي شركة لتجارة الأحبار المُؤَمَّنة تابعة لسيكبا. أتاح عمون هذه الحصة للبريطانيين بَعدَ انضمامهم إلى جوري؛ كي يضمن ألَّا تنصرف أكبر شركة خاصة لطباعة النقد عن شراء أحباره. لم تَعُدْ فِدِنْك موجودة، لكنَّ عقد توريد طويل الأجل بشروط خاصة ما زال يضمن بقاء دي لا رو عميلًا وفيًّا لدى سيكبا. صار البنك الاتحادي عميلًا للحبر المتغيِّر بصريًّا عام ١٩٩٢م بعد طول تردُّد، لكنَّ مسئولِيهِ المقتصدِين بشدة لم يستخدموه إلا في طبع الأوراق فئة ٥٠٠ و١٠٠٠ مارك ضمن آخر إصدار مارك ألماني (بي بي كيه ٣)، واستغنَوْا عن النقوش البارزة الناتجة عن عملية طباعة الإنتاليو.

لكنَّ الاختراق السوقي لم يأتِ إلا بعدَ أن قرَّر الأمريكيون استخدام الحبر المتغير بصريًّا في طبع ورقتهم الجديدة فئة ١٠٠ دولار عام ١٩٩٦م. كان مكتب سكِّ وطباعة العملة يستخدم الأحبار المُؤَمَّنة لطباعة أوراق الدولار منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكانت هذه الأحبار تُورَّد حصريًّا بمعرفة سيكبا سِكيور إنْك، الشركة الأمريكية التابعة للشركة السويسرية. كان قرار اعتماد الحبر المتغيِّر بصريًّا انتصارًا؛ لأنَّ الأمريكيين يبذلون جهدًا فائقًا في طبع أوراق نقدهم لتجنُّب الاعتماد على تكنولوجيا أجنبية، معتبرين هذا جانبًا مهمًّا من جوانب الأمن القومي. وقفت هذه السياسة، ضمن أمور أخرى، في طريق سيجفريد أوتو عندما حاول أول مرة في بداية ثمانينيات القرن العشرين أن يَبِيع المكتب خاصيته المبتكرة «إم» التي يُمكن قراءتها آليًّا، لكن كانت فيما عدا ذلك غير مرئية على أوراق النقد. ختامًا للقصة، ظهرت تقارير إعلامية حول بداية المفاوضات بين المكتب وسيكبا بشأن الحبر المتغيِّر بصريًّا، وتردَّدت أقاويل عن مخالفات تتعلَّق بسيكبا حدثتْ في الدعوة إلى عطاءات لتوريد أحبار مُؤَمَّنة، وكذلك في حساباتها السِّعرية، ودار أيضًا كلام عن ممارسة النفوذ، فاضطر مجلس الشيوخ إلى التدخُّل في هذه المسألة الحساسة. مرةً أخرى أُقيل مدير المكتب من منصبه.

المكتب الذي يَطبَع ما بين ٨ مليارات و٩ مليارات ورقة سنويًّا كان بالفعل أهم عميل منفرد للأحبار المُؤَمَّنة فازتْ به سيكبا في ذلك الوقت. كانت كميات الحبر المتغيِّر بصريًّا التي تحتاجها السوق الأمريكية هائلة، وكانت علاقة المورِّد تَعنِي مزيدًا من الهيبة؛ لذا نَجَحَ الأمريكيون في انتزاع تنازُلات لا مَثِيل لها، فلَمْ يقتَصِر الأمر على تخصيص زوجين من ألوان الحبر المتغيِّر بصريًّا للدولار، بل لزم أيضًا أن يُصنَع هذا الحبر في الولايات المتحدة ويورَّد بثمن أقلَّ كثيرًا من الثمن الذي كانت سيكبا خلاف ذلك ستتقاضاه في السوق العالمية نظير خصائصه الأمنية. اضطر السويسريون إلى قبول الأمر على مَضَض، فأُقيم مشروع مشترك يُسمَّى فلِكس برودكتس، بالاشتراك مع مختبر أوبتِكال كوتِنج لابوراتورِز في كاليفورنيا لتصنيع أصباغ الحبر المتغيِّر بصريًّا لم يُمنح فيه السويسريون إلا حصة أقليَّة بنسبة ٤٠ في المائة. بعدئذٍ كان الحبر المتغيِّر بصريًّا يُخلط في مصنع سيكبا في الولايات المتحدة. وما زال محجوزًا حتى اليوم الثنائي اللوني للحبر المتغيِّر بصريًّا الذي يشمل الأخضر البرونزي والأسود لكل أوراق الدولار من الإصدارات التي أُنتجت منذ عام ١٩٩٦م، باستثناء الأوراق فئة ١ دولار و٥ دولارات. ويَستخدم المكتب هذا الحبر بثخانة ملحوظة.

آذنتْ هذه الضربة الموفَّقة في الولايات المتحدة باختراق السوق العالمية. نحو ثمانين بلدًا، من ضمنها كتلة اليورو، تستخدم الآن الحبر المتغيِّر بصريًّا الذي تُنتِجه سيكبا في طبع نقدها. وباستثناء العميل الأمريكي، تُزوَّد كل هذه البلدان بالحبر المتبدِّل الألوان الرفيع المستوى حصريًّا من مصنع الشركة الرئيسي في شافورناي بسويسرا. ولا تورِّد سيكبا هذا الحبر إلا للعملاء الذين يشترون منها أيضًا الأحبار المُؤَمَّنة الأخرى، ولا يوجد إلا استثناءان لهذه القاعدة: اليابان وروسيا، وهما بلدان ذوا احتياجات كبيرة من الحبر المتغيِّر بصريًّا، وما كانت سيكبا لتستغنِيَ عنهما. هناك عميل آخر غير عادي من عملاء سيكبا ينبغي ذكرُه هنا، وهو كوريا الشمالية. لا تحصل بيونجيانج من سيكبا على أحبارها المُؤَمَّنة فحسب، بل تحصل أيضًا على الحبر المتغيِّر بصريًّا لأعلى فئتَيْ أوراق نقد تطبعهما؛ وهما ٥٠٠ وون و١٠٠٠ وون، على الرغم من أن الكوريين الشماليين يستغنون في الأساس عن الخيوط الأمنية (الرخيصة نسبيًّا). على الرغم من أن هذا الحبر المتبدِّل الألوان المستخدَم في أوراق الوون مزري الجودة، فإنه مخضرٌّ كالحبر المتغيِّر بصريًّا المستخدَم في طبع نقود العَدُوِّ الأكبر، الولايات المتحدة. يُعاني النظام الكوري الشمالي من نقص مُزمن في العُملة الصعبة. ولا بد أن خطر التزييف في هذه الدولة القمعية بمخبريها الأمنيين الموجودين في كل مكان أقل ما يكون. فمجرد إخراج العملة الوطنية من البلد أو جلبها من الخارج فعلٌ يُعاقَب عليه بشدة؛ لذا فإن استخدام الحبر المتغيِّر بصريًّا يظل رفاهية بالنسبة إلى الكوريين الشماليين يصعب استيعابها. سوف نعود إلى هذه المسألة فيما بعد.

المناخ السوقي في تغيُّر

التجارة في أحبار الطباعة المُؤَمَّنة عظيمة الربح؛ ومع ذلك فهي تكاد تخلو من المنافسة. وهذا غريب؛ لأن الحواجز الفنية أمام تطوير المنتَج لا تبدو تعجيزية. وحتى المتطلبات الأمنية الصارمة فيما يخص الإنتاج والتخزين لا ينبغي في الحقيقة أن تكون عقبة. وفيما يخص اليورو، يتولَّى البنك المركزي الأوروبي عملية المراقبة للتأكُّد من مراعاة احتياطات الأمن في مصنع سيكبا في شافورناي على سبيل المثال. والظاهر أنَّ تكتُّم صناعة الأحبار يرتبط بحقيقة أن العقبات التجارية أمام دخول السوق بأحبار مُؤَمَّنة كبيرة للغاية.

يستلزم شراء الحبر المُؤَمَّن في واقع الأمر عَقْدًا عموميًّا يجب طلب عطاءات لترسيته عندما يتصل الأمر بمطبعة حكومية. ربما يُفعَل هذا. لكن ليس هناك ما يضمن قبول العطاء الأرخص مما سواه. تُعتَبَر باكستانُ الكثيفةُ السكان سوقًا محلَّ اهتمام باحتياجها سنويًّا إلى ما يزيد عن ٤٠٠ طن متري من الحبر المُؤَمَّن. منذ أن قامتْ شركة دي لا رو جوري بتوريد أول طابعة تُغذَّى بالصفحة لصالح شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية في كراتشي في ستينيات القَرْن العشرين، وسيكبا تتعامل معها أيضًا كمورِّد أحبار. أما كيف حدث هذا فتُبيِّنه لنا الحالة التالية: في عام ١٩٩٨م دعتْ شركةُ الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية إلى تقديم عطاءات لتوريد ١١٩ طنًّا متريًّا من الحبر المُؤَمَّن، فاستجابتْ كلٌّ مِن أكزو نوبل السويدية وجلايتسمان سِكيوريتي إنكس الألمانية بتقديم عطاءيهما، ففازتْ سيكبا بالعقد، لكنها لم تكن حتى تقدَّمتْ بعطاء. كشف استقصاء أُجرِيَ أنَّ العطاء المقدَّم من أكزو نوبل يقلُّ بنحو الخُمس عن سعر سيكبا، وأنَّ سيكبا كانت قد بدأتْ بالفعل في التوريد عندما كان طلب العطاءات لا يزال جاريًا. لجأ السويديون إلى القضاء الباكستاني وفازوا بالقضية دون أن يفوزوا بالعَقْد.2 ونظرًا لأن السويسريين كانوا قد دخلوا مع شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية في مشروع مشترك منذ عام ١٩٩٥م، كان لدى سيكبا إنكس باكستان الكائنة في كراتشي عقد طويل الأجل وحصري مع المطبعة الحكومية الباكستانية. علاوة على ذلك، فإن شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية كانت قد توقَّفتْ عن تصنيع أحبارها بنفسِها لهذا السبب. أثارت القضية ضجةً. محَّصَ مدقِّق الحسابات الباكستاني العام في مكتب المحاسبة الحكومية في إسلام أباد خلفية المشروع المشترك في تقرير خاص، أوضح أن تاريخ هذا المشروع يعود إلى مشاركة رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك في «ندوة حول الاستثمار المباشر في باكستان» أُقيمتْ في زيورخ3 عام ١٩٩٣م. انتهَى المدقِّق العام إلى وجود تضاربات في المصالح في المنصب العام من جانب موظفي شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية، وذكر التقرير صراحةً توريد الآلات المستعملة بثمن مبالَغ فيه، ووجود زيادات فوق المتوسط في السعر منذ بداية توريد الأحبار بمعرفة سيكبا إنكس باكستان، وارتفاع أسعار التوريد بوجْهٍ عامٍّ من المشروع المشترك مقارنةً بمستوى السوق العالمية. وجد التقرير أيضًا أن سيكبا استغلَّتْ علاقة العمل مع شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية من أجْلِ فتح السوق الباكستانية أمام أحبارها التجارية. انتهى الرأي الحاسم الذي خلص إليه هذا التقرير الخاص بتوصية بإنهاء المشروع المشترك بأسرع ما يمكن. حان أجل تجديد العقد في عام ٢٠٠٠م، لكن تقرير المدقِّق العام لم يكن قد حقَّق أيَّ نتيجة حتى ذلك الحين، فيما عدا نتيجة واحدة، وهي انسحاب أكزو نوبل من السوق الباكستانية. أخفق مقدِّمو العطاءات المتنافسون أيضًا في مصر. فعلى الرغم من أن شركة الطباعة الحكومية التمستْ عطاءاتٍ لتوريد احتياجاتها من الحبر لفئة نقدية واحدة، أُسند العقد بالأمر المباشر إلى سيكبا لتوريد أحبار مُؤَمَّنة لكل الفئات الأخرى.

توجد مبررات ملموسة لهذا القدْر الكبير من ولاء العملاء. فالبنوك المركزية متحفِّظة ويصعب حملُها على تغيير المورِّدين ما دام إنتاجها للنقد بأحبار صانع معين يسير بلا مشكلات. بل من أجل مجرد النظر في تغيير المورِّد، تطلب المؤسسات المُصْدِرة للنقْد ومطابعها الحكومية برهانًا على وجود أوراق نقد طُبعتْ بالفعل وبنجاح بالحبر الجديد. وفي حال ظهور تعقيدات، يمكن أن تكون العواقب خطيرة، تتراوح بين الوقف باهظ التكلفة للإنتاج، وفي الحالات المتطرفة حدوث نقص في النقود الوطنية المتداولة. على سبيل المثال، عندما خلطت شركة فِرت بابيير دروك العامة الكائنة في ليبزيج منتَجًا محليًّا بحبر الإنتاليو الغالي الذي تنتجه سيكبا عند طبع أوراق النقد الألمانية الشرقية فئة ٥٠ ماركًا بلَوْح فولاذي محفور من الجانبين في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، لزم إيقاف الطابعات. ومع ذلك فإن شركات الطباعة الخاصة هي تحديدًا التي تتحاشى اختبار الطباعة الذي تشترطه البنوك المركزية، على الرغم من أنها الجهات المنطقية التي يجب أن تُجرِيَه. المخاطرة التجارية عادةً ما تكون أكبر مما ينبغي بالنسبة إليهم. علاوة على ذلك، فإن المطبعة «أ» لا تُبالِي مطلقًا بالاختبار الطباعي الذي أَتَمَّتْه المطبعة «ب» بنجاح. وفوق هذا كله، يُصِرُّ كثير من البنوك المركزية على إجراء اختبارات طباعية منفصلة بكل حبر على حدة (يمكن أن يكون هناك ١٢ حبرًا في ورقة واحدة)، ولكل فئة أوراق نقد على حدة. يمكن أن يستغرق هذا سنوات. هذه دائرة مفرغة.

تقول الحُجَّة البسيطة التي روَّجها السويسريون إنَّ وضْعَهم شبه الاحتكاري هو أفضل ضمان للأمن في هذا المجال الحسَّاس. ولا شك أن اتساق جودة الحبر والوجود السوقي حول العالم يعطي سيكبا مزايا كبيرة؛ إذ يُمكِّن هذا العملاءَ من الحصول على معلومات بسرعة كلما برزتْ مشكلة في مكان ما. كما أن الاتصالات الشخصية التي تطوَّرت على مرِّ العقود وتُعزِّزها سيكبا بعناية كبيرة مفيدة أيضًا؛ فالشركة تُعزِّز مكانتَها السوقية أمام مَن يتحدَّاها. وإذا حدث وبرز بغتة في مكان ما منتج ما قادرٌ، على الرغم من كل شيء، على الإخلال بترتيبات سيكبا، يُقْدِم السويسريون عندئذٍ على شراء الابتكار أو المبتكِر كلما كان ممكنًا. وعلى هذا النحو حظي أوفارت نِتِثَنتبراباس — وهو كيميائي بالبنك المركزي التايلاندي — بمعاش مرتفع للغاية مدى الحياة؛ إذ كان قد طوَّر باستخدام موادَّ خامٍ محلية حبرًا لطباعة الإنتاليو يَرقَى — كما يُقال في بانكوك — إلى جودة منتَج سيكبا المنافس، وبجزء ضئيل جدًّا من تكلفته. وفقًا للمخترع، الذي توقف عن الابتكار منذئذٍ، كان المنتج سيناسب بوجه خاص طبع الدولارات الأمريكية. ومن الواضح أن هذه لم تكن حالة استثنائية؛ فقد تطرَّق تقرير مكتب المحاسبة الحكومية في إسلام أباد أيضًا إلى أن عمل شركة الطباعة المُؤَمَّنة الباكستانية على تطوير حبر إنتاليو سريع الجفاف (يُسمَّى بي-٥) تراجع بفضل سيكبا وبمساعدة المشروع المحلي المشترك.4 من السهل أن نتصوَّر في مثل هذه البيئة إمكانية إغراء موظف بالرحيل بما لديه من معرفة إلى الجهة المنافسة. وتتخذ سيكبا إجراءات ضد هذه الاحتمالات بكل ما يمكن من سُبل، ووضاعة أيضًا. يشمل هذا النهج الذي يُنَصُّ عليه في عَقْد العمل حظرًا (مشكوكًا في قانونيته) ضد العمل في جهة أخرى في المجال نفسِه لعدة سنوات بعد ترك العمل بالشركة. وهناك كيميائي سابق في سيكبا أبرم صفقة مع صن كيميكال في تسعينيات القرن العشرين، وكان يريد مساعدة الأمريكيين على البدء في إنتاج حبرهم المُؤَمَّن بأنفسهم، انتهى به الحال في السجن. اتُّخذ مثل هذا الإجراء الوحشي ضد الرجل، حتى إن القاضي المسئول في جنيف أشفَقَ عليه.5 كانت هناك أموال كثيرة على المحكِّ، والقوة السوقية التي تتمتع بها سيكبا مخيفة بحق. استفادت المطبعة الاتحادية الألمانية من هذه المحنة بإسنادها التوزيع الحصري لحبرها المُؤَمَّن المتألِّق كهربائيًّا (إليو) إلى الشركة السويسرية. ولم يُسمَع شيء أكثر من ذلك عن هذا الحبر المتبدِّل الألوان الذي طُوِّر بمساعدة الاتحاد الأوروبي.

في غضون ذلك انسحب مورِّدون من أمثال أكزو نوبل وكاست آند إيِنجر التابعتين لشركة باسف الألمانية من مجال الأحبار المُؤَمَّنة الصعب؛ ومع ذلك صارت السوق أكثر تقلُّبًا؛ فمِن ناحية، هناك أمارات على حدوث تحوُّل على امتداد سلسلة القِيمة نحو خصائص أمنية بديلة في إنتاج أوراق النقد؛ حيث بدأت البنوك المركزية في تشجيع خصائص أمنية بديلة كالهولوجرام أو الأشرطة المتغيرة اللون ذات البريق اللؤلئي في إطار سَعْيِها إلى خصائص أمنية يسهل على مواطنيها التعرف عليها والتحقُّق منها. ولدواعي التقشُّف، تحوَّل كثيرون من بينهم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا (أوراق المارك الألماني) إلى طباعة الإنتاليو على جانب واحد، أو تخلَّوْا عن طباعة الإنتاليو بالكلية، كما هي الحال مع فرنسا (أوراق الفرنك). من ناحية أخرى، بدءوا في الإبقاء على أعيُنهم مفتوحةً ترقُّبًا لمورِّدين آخَرين للأحبار المُؤَمَّنة. كان هذا السعي فاتر الهمة نوعًا ما، وبالتبعية فالنتيجة حتى الآن لا تُذكَر. الخط الكامل من الأحبار المُؤَمَّنة تُقدِّمه اليوم شركة أونولت تينتاس إس إيه في مدينة بياسين بإقليم الباسك، وشركة جلايتسمان سِكيوريتي إنكس، وهي وحدة تابعة لشركة ميشائيل هوبر مونشِن الألمانية. لم تنجح أونولت حتى الآن في توريد حبر لطبع اليورو، لكنَّ جلايتسمان أبرمتْ صفقة مع جيزيكه أوند ديفريَنت لطبع أوراق إحلال فئات ١٠ و٢٠ و٥٠ يورو. قبلَ الحرب العالمية الثانية، حينما كانت جلايتسمان ما زالت مورِّد أحبار تجارية في المقام الأول، كانت تورِّد بالفعل لجيزيكه أوند ديفريَنت في ليبزيج الأحبار المخصوصة لطباعة أوراق النقد. ومنذ ذلك الحين ركَّزت جلايتسمان بالكلية على الأحبار المُؤَمَّنة، وهي كما ذكرنا تَمُدُّ جوزناك بما يَلزَمُها من موادَّ مثبِّتة لإنتاج الأحبار المُؤَمَّنة. كما أن الشركة الكائنة في برلين مورِّد الأحبار الحصري للمطبعة الحكومية الفلبينية؛ حيث كان عطاؤها معقولًا جدًّا بالمقارنة بعطاء سيكبا في مناقصة طُرحتْ لتوريد الأحبار. كما تُورِّد جلايتسمان بانتظام لبنجلاديش، وهي من البلدان القليلة التي تَطرَح دائمًا مناقصات عامة لتوريد احتياجاتها. تَعتَبِر هذه الشركةُ اليوم نفسَها ثانيَ أكبر مورِّد في العالم؛ حيث تستحوذ — حسب تقديراتها — على حصة نسبتها ١٢ في المائة من «السوق المتاحة» للأحبار المُؤَمَّنة.

اتسم رد فعل سيكبا بالحذر تجاه هذه التطورات؛ فأُقيمت مثلًا بعض منشآت إنتاج الأحبار المُؤَمَّنة في الخارج كمشروعات مشتركة، أو كمجرد امتيازات يَلزَمها الحصول على منتجاتها الأساسية من سويسرا. كما ضُوعِفَتِ الجهود الرامية إلى ضمان عقود توريد طويلة الأجل؛ لأنها تُغنِي عندئذٍ عن تقديم عطاءات في المناقصات العامة. خُفِّضتِ الأسعار نوعًا ما. وفيما يخص طبع اليورو على وجه الخصوص، اضطرت سيكبا إلى تقديم تنازلات سعرية على نطاق واسع فيما يخص أحبارها المُؤَمَّنة. لكن هذا لا يَعنِي أنَّ الجميع يدفع الآن تلقائيًّا السعر نفسَه. ففي شأن الحبر المتغيِّر بصريًّا وحدَه، تم الاتفاق على سعر توريد موحَّد؛ وهو ١٢٥٠ فرنكًا سويسريًّا لكل البلدان الأعضاء تحت إصرار البنك المركزي الأوروبي. ويظل هذا السعر أعلى كثيرًا من السعر الذي يدفعه مكتب سكِّ وطباعة العملة الأمريكي فيه، لكنه أقل من سعره في السوق العالمية. ويظل الحبر المتبدِّل الألوان بَقَرَةَ سيكبا الحَلُوب السخية.

أزمة عائلية

ومع ذلك، فحتى الإيرادات الاحتكارية ليست ضمانًا ضد تعرُّض الشركات لأزمات. فمثل كثير من الشركات العائلية الأخرى، تعلَّمتْ سيكبا أن الانتقال من جيل إلى الذي يليه يمكن أن يكون مؤلمًا. رحل شارل بوسير — المدير العام المخضرم الذي كان قد لعب دورًا جوهريًّا في نجاح سيكبا في الأحبار المُؤَمَّنة — عن الشركة في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. أهدر ألبير عمون، المسئول التنفيذي الأول الذي كان قد اعتاد النجاح، فرصةَ وضع التوجيه التشغيلي للمجموعة المترامية الأطراف في أيدي مديرين محترفين، وبدلًا من ذلك تولَّى القيادة التشغيلية ابناه موريس وفيليب، اللذان يمثِّلان الجيل الثالث في هذه العائلة رائدة الأعمال. ما حدث آنذاك يذكِّرنا بالدراما التي لعبتْها شركة سِجرام للويسكي المملوكة لعائلة برونفمان الكندية. فباندفاع ورَّط موريس وفيليب سيكبا في برنامج توسُّع مموَّل بقروض بنكية؛ حيث اشتُرِيَتْ شركات حول العالم على عجل بأسعار متضخمة، وكانت هذه الشركات خاسرة، أو لا يتفق نشاطها مع صميم عمل سيكبا. وفوق ذلك جاء الاشتباه في التورُّط في العديد من الفضائح التي وَجَدَتْ وسائلُ الإعلام سعادتَها في الخوض فيها. فجأةً صارت الشركة العائلية الكتومة حديث أعمدة النميمة في الصحافة الصفراء. تورَّطتِ الشركة بعمق في الديون، وازدادتِ الديون البنكية. صار الوضع مزعزعًا بشدة، لدرجة أنه بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين بدا بقاء الشركة معرَّضًا للخطر. اضطر ألبير عمون إلى إيداع أسهمه كضمان لدى طرف ثالث. تداولتْ وسائل الإعلام تقارير تقول إن بنك جولدمان ساكس الاستثماري الأمريكي وُكِّل للبحث عن مشترٍ، وسرعان ما نُفِيَتْ هذه التقارير. لكنَّ البنكَيْنِ الدائنين، سويس بنك كورب — الذي هو اليوم جزء من مجموعة يو بي إس المصرفية — وبنك كانتونال فودواز، أجبرا عائلة عمون على الانسحاب من إدارة الشركة، فاضطر ألبير عمون إلى ترك منصبه كرئيس المجلس الإشرافي، وتولَّى منصب الرئيس الفخري. انتقل الابنان موريس وفيليب من مجلس الإدارة إلى المجلس الإشرافي، الذي ترأَّسَه لأول مرة رئيسٌ ليس من أبناء العائلة. وتحت إصرار البنكين، استُدعِيَ هانز-يورج لولِجَر باعتباره خبيرًا لتحديد موطن الخلل. صار لولِجَر — وهو مدير ذو خبرة مهنية واسعة في الشركات الأمريكية الكبرى — الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس الإدارة في آنٍ واحد.6 بموجب هذه الصلاحيات، تخلَّى عن كل الشراكات التي لم تكن تنتمي إلى صميم عمل الشركة لاستعادة السيولة. إحدى هذه الشراكات كانت الحصة المملوكة في فلِكس برودكتس في الولايات المتحدة، فاستحوذت على هذه الأسهم مختبرات أوبتِكال كوتِنج لابوراتورِز الأمريكية التي كانت تَملِك حصة الأغلبية في ذلك المشروع المشترك. بهذه الطريقة استطاع لولِجَر تخفيض المديونية في فترة وجيزة نسبيًّا؛ مما أعاد صانع الحبر إلى تحقيق الأرباح التشغيلية. وقدَّمت الإيرادات القوية التي كانت الأحبار المُؤَمَّنة لا تزال تُدرُّها المساهمةَ الحاسمة في هذا التحول الناجح.

أذكى هذا النجاح الضغينة داخل العائلة، كما أدَّى تَضارُب مصالح عائلة عمون والبنوك الدائنة مرارًا إلى توترات مع الخبير لولِجَر أيضًا. في نهاية عام ٢٠٠٠م، تمكَّن الابنان على عَجَل من طرد اختصاصيِّ التحول المكروه الذي كان يُفضِّل العمل باستقلالية. كان الأب قد تنازل من قبلُ عن حصته إلى أولاده الثلاثة، فنُصِّب موريس وفيليب كمساهمَيْن بأغلبية نسبية، وأما الابنة مونيك فقد حصلت على حصة أصغر. كان قانون حقوق الملكية السويسري يضمن، في حال الحجز على الأسهم، قدرةَ عائلة عمون، بصفتها مالكًا اسميًّا، على مواصلة ممارسة حقوق التصويت. بعد ذلك بفترة قصيرة، رحل أيضًا عن الشركة مديرها المالي دانيال ماير. اضطلع جولدمان ساكس، متزعِّما اتحادًا يضم اثني عشر بنكًا، بإعادة التمويل ليحلَّ بذلك محلَّ بنكَيِ الشركة الدائنَيْن. لا يزال موريس وفيليب منخرطَيْن تمامًا من جديد في الشركة في يومنا هذا، لكن البنوك فرضت نظامًا صارمًا، وتظل للاتحاد كلمة مهمة. في أواخر صيف ٢٠٠٥م، اضطر الابنان إلى فعل ما نُصِحا به مرارًا ورفضاه بحزم على مرِّ السنين؛ حيث انسحبتْ سيكبا تمامًا من العمل في أحبار التغليف. وبمبيعات مقدارها ٦٠٠ مليون فرنك سويسري وقوة عاملة عالمية عددها ٢٨٠٠ فرد ووَضْعٍ سوقي مترهل، بِيعتْ سيكبا باكيدجينج بثمن غير معلن إلى زيجفِرك جروب إنترناشونال الكائنة في زيجبورج بألمانيا؛ مما مكَّن الشركة الألمانية من تقوية وضْعها كقائد لسوق أحبار التغليف الراقية العالمية. ومن الآن فصاعدًا ستركِّز سيكبا بالكامل على تجارة الأحبار المُؤَمَّنة وأنظمة الأمن لطباعة أوراق النقد، حسبما جاء في بيان صحفي موجز. سيُصنَع الحبر المُؤَمَّن اللازم لإمداد السوق العالمية في المصنع الرئيسي الكائن في شافورناي فقط، وسيُصنَع الحبر المُؤَمَّن اللازم لمكتب سكِّ وطباعة العملة الأمريكي في سبرنجفيلد بولاية فيرجينيا. هذا المنعطف الدرامي الذي شهدتْه الأحداث معقولٌ من منظور الإيرادات. فتجارة الأحبار المُؤَمَّنة تظلُّ مربحة جدًّا، لكن بالنسبة إلى عميد العائلة ألبير عمون، لا بد أن هذا كان دواءً مرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤