الفصل السادس

كيف تُناضِل جيزيكه أوند ديفريَنت في سبيل القيادة التكنولوجية

بكثير من الحماس، اجتمعتْ مجموعةٌ تحت خيمة الاحتفالات المنصوبة في فناء كايزرهوف بقصر ريزدنتس في ميونخ في إحدى الأمسيات المطيرة من شهر يونيو ٢٠٠٢م. كانت حكومة ولاية بافاريا قد أصدرتْ تصريحًا خاصًّا للسماح لهذه المجموعة بالالتقاء لحضور حفل عشاء في هذا المكان المحميِّ باعتباره أثرًا تاريخيًّا. تجمَّع هناك الألف والسبعمائة ضيفٍ الذين يُمثِّلون حكوماتٍ وبنوكًا مركزية وبنوكًا تجارية وقطاع الطباعة المُؤَمَّنة ومنظمات دولية واتحادات أعمال؛ احتفالًا بالذكرى المائة والخمسين لتأسيس جيزيكه أوند ديفريَنت. إذا شئنا الدقة، فإن الجزء المتعلِّق بمرور «١٥٠ سنة على وجود الشركة» لم يكن دقيقًا تمامًا؛ فعلى الرغم من أن الشركة نَجَتْ من الحرب العالمية الثانية بعدَ تضرُّرها من القصف بالقنابل بنسبة ٨٠ في المائة، فقد استولَى عليها آنذاك الشيوعيون ثم أُمِّمت فيما بعدُ. لقد اختفتْ جيزيكه أوند ديفريَنت من الوجود، ويعود الفضل إلى جرأة وإصرار سيجفريد أوتو وحده في إحياء الاسم التقليدي. كان قد تزوَّج أثناء الحرب من الشابة يوتا ديفريَنت على غير رغبة عائلتها. بعد وفاة رئيس الشركة وحَمِيه لودفِج ديفريَنت في جوِّ الحرمان داخل مستعمرة عقابية سوفييتية، نَقَلَ أوتو مقرَّ الشركة من ليبزيج إلى ميونخ بعد فترة وجيزة من إطلاق سراحه من الأَسْر السوفييتي. كان ذلك عام ١٩٤٨م، وكانت ميونخ تَقَع في المنطقة الثنائية (الاسم الذي كان يُطلَق آنذاك على منطقة الاحتلال الخاضعة للإدارة الأمريكية والبريطانية المشتركة) الليبرالية اقتصاديًّا.

الحقيقة أنَّ هذا كان تأسيسًا جديدًا، وبدايةً جديدة في ظل أصعب الظروف، من دون رأس مال، ومن دون عمال مَهَرَة، ومن دون آلات طباعة، ومن دون عُمَلاء. كان المخضرم فرانتس هِلمبِرجر، المدير الفنِّي للمطبعة الكائنة في ليبزيج، قد حذَّر أوتو بقوة من البدء من جديد. لقد كان قد أبلغ «الشاب» بأن جيزيكه أوند ديفريَنت «انتهت نهاية شريفة في ليبزيج»، وأن كل ما أنشئ في ميونخ «مصيره الفشل». تجاهل أوتو هذه النصيحة. باشر العمل بآلة كاتبة مستعارة في شقَّةٍ تحت رفرف السطح. أثبت نجاحَه آنذاك أنه على صواب. جيزيكه أوند ديفريَنت اليوم قائدة العالم في الطباعة المُؤَمَّنة. حققتِ المجموعة عام ٢٠٠٤م مبيعات قُدِّرت ﺑ ١٫١٦ مليار يورو، ويعمل بها ٧٣٠٠ موظف، وكانت باعتبارها شركة قابضة تُسَيْطر على ٣٨ شركة تابعة في ٢٧ بلدًا. لكن لم يُذكر اسم سيجفريد أوتو، الذي كان قد مات قبل ذلك بخمس سنوات، إلا بشكل عابر في الاحتفالات المقامة تحت شعار «القيمة في أزمنة متغيرة». قيل الكثير عن الشركة المبتكِرة الرفيعة التقنية والتحديات المستقبلية، لكن لم يُذكر سوى القليل عن الرجل الذي أعاد تأسيسها بفضل عظمته كرائد أعمال. في حولية الشركة الفخمة المصوَّرة التي نُشرتْ خِصِّيصَى بهذه المناسبة، لم تكن هناك صورة لسيجفريد أوتو.

الفضيلة في العمل: أخلاقيات العمل البيوريتانية

تأسَّست شركة بوخ كوبفر أوند شتاين دروكراي جيزيكه أوند ديفريَنت عام ١٨٥٢م في مدينة ليبزيج المعروفة بطباعة الكتب على يد هِرمان جيزيكه وألفونسِه ديفريَنت. تخصَّصت الشركة في كتب الفنون والخرائط. لكنْ بعد تأسيسها بأربع سنوات فقط، تلقَّتْ طلبيَّتَها الأولى لطبع أوراق النقد، وكانت هذه الطلبية تتعلَّق بطبع أوراق فئة ١٠ طالرات لصالح حكومة ألتِنبورج الدوقية، سرعان ما تَلاها طبْع أذون خزانة مملكة ساكسونيا. كان امتياز إصدار أوراق النقد آنذاك يخص البنوك. جاءت الطلبية التالية من بايرشه هِبوتيكِن أوند فِكسِل بنك لطبع أوراق فئة ١٠ جلدرات. طُبعتْ هذه الأوراق على كِلَا الجانبَيْن لزيادة الحماية من التزييف. لكن بعد ذلك بفترة وجيزة، طلب العميل البافاري بعصبية استردادَ ألواحه الطباعية والموادِّ ذات الصلة من ليبزيج. كان ملك بافاريا يريد خوض الحرب ضد بروسيا إلى جانب النمسا، وخشي البنك الكائن في ميونخ أن تُحتل ليبزيج الساكسونية، وأن يستغلَّ العدوُّ البروسي طبْع عملتها الجلدر لتخريب الاقتصاد. إنها حكايات «أوروبا العجوز».

حصلت أوفيسين فور جلد أوند فِرتبابيير — كما كانت الشركة الكائنة في ليبزيج تُسمِّي نفسَها آنذاك — على طلبيَّتها الطباعية الأولى للتصدير في سبعينيات القرن التاسع عشر من بعض الكانتونات السويسرية. جاءت أول طلبية أجنبية من خارج أوروبا من بيرو. أما على المستوى المحلي، فلم يُسمح لشركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة بطباعة النقد للإمبراطورية الألمانية وبنكها الإمبراطوري إلا في حالات استثنائية؛ منها مثلًا أوراق النقد لبعض المستعمرات، بالإضافة إلى ما يُسمَّى «الرِّنتِنمارك» أثناء التضخم المفرط بعد الحرب العالمية الأولى. جاءت لحظة حاسمة الأهمية بوجه خاص عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وذلك عندما قرَّر نظام هتلر الشروع في تخريب اقتصادي ضد بريطانيا بطبع أوراق جنيه زائفة. أوفد مجلس إدارة جيزيكه أوند ديفريَنت المدير الفني هِلمبِرجر خِصِّيصَى إلى برلين، فلم يستطع إلا بصعوبة رفض مخطط توريط شركة طباعة النقد والسندات المالية التي تَحظَى باحترام دولي. وعندئذٍ طُبعتْ أوراق الجنيه البريطاني الزائفة في إطار «العملية بِرنهارد» — أكبر عملية تزييف في التاريخ تقوم بها دولة لزعزعة اقتصاد خصم لها — على أيدي نزلاء معسكر اعتقال ساخسِنهاوزن تحت إشراف فريق خاص من «الوحدة الوقائية».1
كان سيجفريد أوتو، الذي تولَّى زمام القيادة من جديد في ميونخ، شخصًا علَّم نفسَه بنفسِه في أمور الطباعة المُؤَمَّنة، وكان مستبدًّا في إدارة الشركة. كان قد خدم قرب نهاية الحرب العالمية الثانية كضابط في إحدى وحدات المدرعات، ورأى العمليات على الجبهة الشرقية.2 كان استشرافه العالم محافظًا إلى حدٍّ لافت للنظر. لم يكن الضابط السابق بجيش الرايخ عضوًا في الحزب النازي، ولا سبق له الانتماء إلى «الوحدة الوقائية»، على الرغم من التأكيدات بعكس ذلك.3 لم يكن أوتو يتسم فحسب بالشجاعة والدينامية والإصرار — وهي الصفات التي ربما تكون متوقَّعة من شخص بخبرته — بل كان يتمتع أيضًا بموهبة فطرية قوية كرائد أعمال، بل إن معاصريه الذين لم يكونوا مفتونين بشخصيته وصفوه بأنه «رائد أعمال مفعم بالنشاط» على غرار شومبيتر.4 الطريقة التي كان يتعامل بها مع موظفيه لم تَدَعْ مجالًا للشك في أنه كان ضابطًا عسكريًّا سابقًا. لم يكن أوتو يحب أن يُعارِضه أحد، ولم يكن ذا صبر على الحديث الطويل الذي لا يتطرَّق إلى الهدف مباشرة، لكنه كان يعرف كيف يُحفِّز الآخَرين. ونظرًا لندرة الأفراد المدرَّبين، لعب تدريب الأفراد المستجدين دورًا محوريًّا في جيزيكه أوند ديفريَنت. حتى في يومنا هذا، كثيرون ممَّن بدءوا كرسَّامين أو متخصصين في النقش على العملة أو طبَّاعين صغار في ميونخ، ما زالوا يتحدثون عن حضور أوتو الشخصي القوي وحماسه الشديد الذي كان يبُثُّه فيهم لأداء أنشطتهم التي لم تكن بالهيِّنة. خلاصة القول، مزاولة الأعمال تعني إخراج المنافس من السوق لو أمكن وتعظيم الأرباح. كان أوتو، باعتباره رئيسًا للشركة وفي حياته الخاصة أيضًا، يسعى إلى تحقيق هذين الهدفين كليهما بقوة ملحوظة. ويروق للمشتغلين بهذه الصناعة القول بأن التعامل اليومي مع النقود يُكسِب المرء مناعةً ضدَّ إغرائها. كان يستحيل اكتشاف أثر لهذه المناعة في سيجفريد أوتو. بالنسبة إلى البعض، جعله هذا يبدو كداهية، كشخص خطَّط لكل حركة حتى التضحية ببيدق من أجل حصر الشاة إذا لزم الأمر. ولا يزال آخرون يتذكَّرون قرارات أوتو الكثيرة التي اتخذها بناءً على حسه الفطري. والحقيقة أنه اتخذ عددًا من القرارات التي ما كان ينبغي اتخاذها في الواقع، وعندما نلتفت إليها الآن يصعب سبر أغوارها؛ لأنها أضرَّتْ بأوتو نفسِه.

كان شِعار المؤسِّسَيْن المفضَّل هو «الفضيلة في العمل»، وهو شعار يمثل أخلاقيات العمل البيوريتانية. سرعان ما اتخذ أوتو هذا الشعار عقيدةً له. كانت مقولة «إذا أردتَ إنجاز شيء، فافعَلْه بنفسِك» هي الطريقة التي ينظر بها إلى الأمور. بحساسيته تجاه توليفات الألوان والتصميم التخطيطي، عُنِي هو شخصيًّا بكل التفاصيل التي تخص ورقة نقد من المقرَّر طباعتها، أو أي ورق آخر مطبوع ذي قيمة. لم تكن هناك مسوَّدة تمُرُّ دون تمحيص فوق مكتبه الضخم قبل اعتمادها في نهاية الأمر. كان زائرًا منتظمًا وناقدًا خبيرًا لقسم النُّسخ الأصلية وغُرف الطباعة، وكان يُكثر الزيارة ولو ليلًا، ولم يستثنِ من ذلك مصنع الورق. لم يمضِ وقت طويل حتى لفتت أوراق النقد والسندات المالية التي تطبعها جيزيكه أوند ديفريَنت — التي ظلت لعقود يضع تصميماتها الإسباني خوسيه لوبيث — الانتباه بفضل التخطيطيات المتقنة وجودة الطباعة الممتازة. كان الخبراء عادة يُميِّزون من النظرة الأولى أي منتج مطبوع من منتجات جيزيكه أوند ديفريَنت.

كان توقيت إعادة التأسيس مباركًا. انهالت طلبيات الطباعة على الشركة بفضل إصلاح العُملة الألمانية وما تلا ذلك من تعديلٍ لقانون السندات المالية الألماني وإلغاءٍ لهيمنة الاتحادات الاحتكارية على الاقتصاد — بدايةً من قطاع الفحم والفولاذ ومرورًا بآي جيه فاربِن للكيماويات وانتهاء بالبنوك الكبيرة — وما أسفرت عنه اتفاقية لندن لتنظيم دَيْن ألمانيا الخارجي. لزم طبع الأسهم والسندات وسندات الرهن المغطاة وغيرها من أوراق الدَّيْن من جديد مسعَّرة بالمارك الألماني، وكذلك الحال مع كل السندات الخارجية التابعة لدولة الرايخ الألماني البائدة. وفوق ذلك كله جاء الطلب على الشيكات البنكية والشيكات السياحية؛ لأن شهية الألمان للسفر والترحال كانت قد أُوقِظتْ من جديد. من أجل مواكبة طوفان العمل، اضطرت جيزيكه أوند ديفريَنت — التي كانت قد وجدت مقرًّا مؤقتًا في مطار ريم في ميونخ — إلى التعجيل بأول زيادة لرأسمالها. بما أن المساهمين في الشركة العائلية لم يكن لديهم أموال، حصل دويتشه بنك وبايرشه هِبوتيكِن أوند فِكسِل بنك — وكلاهما عميلان قديمان لشركة طباعة السندات المالية هذه — في البداية على جزء كبير من الأسهم الجديدة لحسابهما.5 استغلَّ أوتو الفرصة بدهاء ليُؤَمِّن لنفسِه الأغلبية المطلقة في شركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة التي يُديرها. كان الانسحاب البطيء للعائلات المؤسِّسة قد بدأ. اضطر أوتو إلى اقتراض المال من أجْل هذا. وسرعان ما ظهرتْ على مكتبه صورة لهِرمان يوزف آبس، الذي صار فيما بعدُ رئيس مجلس إدارة دويتشه بنك. كان هذا البنك، بحصصه الهائلة في أسهم الشركات الألمانية وهيمنته على مجال تجارة السندات المالية الألمانية، هو الشريك المثالي لأوتو؛ لذا ظل البنك لعقود هو المنوط بتعيين رئيس المجلس الإشرافي لجيزيكه أوند ديفريَنت منذ إعادة تأسيسها وحتى انفصالهما المفاجئ عام ١٩٩٧م.
في وقت مبكر، وتحديدًا في عام ١٩٥٥م، ذكرت صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج أن جيزيكه أوند ديفريَنت في ميونخ «ضارعت من جديد الطاقة الإنتاجية للمنشأة الفنية السابقة في ليبزيج.»6 كانت شركة طباعة النقد هذه في ذلك الوقت قد فازت لتوِّها بأول طلبيَّة فيما بعدَ الحرب لطبع أوراق النقد، وكانت من جديد طلبيَّةً من بيرو. كان يُفترض أن تُثبِت تلك الأوراق التي طُبعت بنظام طباعة الإنتاليو المتطورة والمتعددة الألوان أن جيزيكه أوند ديفريَنت قادرة تمامًا من الناحية الفنية على طبع أوراق النقد الألماني، إذا أُريد طباعة هذا النقد في ألمانيا من جديد. كان أوتو قد اقترح هذا تحديدًا من قبلُ على بنك الولايات الألمانية في المذكرة السالفة الذكر.

لكن طبع أوراق النقد ظل هدفًا بعيدًا فيما كان طبع السندات المالية واقعًا. كان مزوِّدو خدمات كثيرون يتنافسون على الطلبيات في هذا المجال. كرَّس أوتو ما أوتي من عزيمة لهذه المشكلة. اعتُمدت الصياغة الجديدة ﻟ «توجيهات إدراج السندات المالية في البورصة» في ألمانيا بمبادرة منه. كان لجيزيكه أوند ديفريَنت دورٌ محوريٌّ في صياغة النسخة الأصلية لهذه اللائحة في عشرينيات القرن الماضي. حدَّدت اللائحة التصميم التخطيطي للسندات المالية وخصائصها المطبوعة كشرط لقبولها للتداول. فرضتِ التطورات الفنية التي حدثت في مجال التزييف هذا التعديل؛ فقد روَّج أوتو لتعديل التوجيهات على أمل التوصل إلى لغة فنية موحدة مشتركة في طبع السندات المالية لأوروبا بأسرها. أراد إشراك شركات طباعة السندات المالية الأجنبية في هذا من خلال اتفاقيات تعاون، مزاولًا النشاط التجاري كمُصدِر تراخيص ومورِّد مواد. كان يأمل أن يتغلَّب بهذه الطريقة بذكاء على حواجز الاستيراد القائمة.

كانت خطوته التالية تأسيس سِكيوريتي برنتِنج عام ١٩٥٨م، وهي شركة قابضة مقرها في جلاروس بسويسرا، بمشاركة شركة محلية لطباعة السندات المالية. تلت ذلك الشركة المشغِّلة سِكيوريتي برنتِنج أكتِنجيزِلشافت في زيورخ بعدها بثلاث سنوات. كان الغرض من هذه الشركة هو تطوير منظومات طباعية جديدة للطباعة المُؤَمَّنة، وشراء الرخص وحصص الأسهم. كانت التوجيهات السائدة لطبع السندات المالية تحظر استخدام طابعات الأوفست؛ نظرًا لما تنطوي عليه من تهديد أكبر فيما يخص التزييف. كانت الطابعات التي تُغذَّى بالصفحة المستخدَمة في الطباعة المتزامنة للخلفية التي تنتجها كوباو-جوري أغلى من أن تُستخدم في طباعة السندات المالية. خطر ببال أوتو تطوير طابعة اقتصادية تُغذَّى بالصفحة خِصِّيصَى للسندات المالية، فطوَّر مُصنِّع الآلات رولاند (يُعرف حاليًّا باسم مان رولاند) بأمر منه «الطابعة المُؤَمَّنة رولاند تسفايفاربِن» للطباعة النافرة الثنائية الألوان غير المباشرة. كان يُفترض أن تتولَّى شركة سِكيوريتي برنتِنج الكائنة في زيورخ توزيع هذه الآلات. احتفظت جيزيكه أوند ديفريَنت بنسبة ٤٩ في المائة من الأسهم المسجلة للشركة القابضة الكائنة في جلاروس، وقد بِيعتْ هذه الحصة عام ١٩٧٦م. وأما مالك أغلبية الأسهم فلم يُعلَن عنه قط. كان هناك مَن يظن أنه ربما يكون ألبير عمون وشركته سيكبا، لكن كل الطرق كانت تؤدِّي إلى أوتو.

في تحرُّك ثالث، أسَّس أوتو جيزيكه إي ديفريَنت دي مكسيكو (جايدمِكس)، فكانت قاعدة شركة ميونخ الطباعية الخارجية الأولى والوحيدة لسنوات طويلة. كانت جايدمِكس تطبع السندات المالية لكنها لم تكن تطبع أوراق النقد. لم يكن تأسيس هذه الشركة حدثًا بارزًا بفضل أهميتها الاستراتيجية — على الرغم من أنه كان من المفترض أن تغطي السوق الأمريكية الجنوبية الصاعدة — بقدْرِ ما كان بارزًا لاعتباراتها الخاصة. لم يستبعد سيجفريد أوتو — الذي كان قد تأثر تأثيرًا عميقًا بالسنوات التي قضاها في الأَسْر لدى السوفييت — إمكانية وصول الشيوعيين إلى الحكم يومًا ما في أوروبا الغربية. كان برأيه أن الشركة التابعة المكسيكية ستحميه من خسارة كل شيء مرة أخرى.

لم تكن خطط أوتو المتعلقة بالسندات المالية موفَّقة تمامًا. لم يتحقَّق الانتشار لتوجيهات السندات المالية الألمانية في أوروبا على الرغم من المساعدة الفنية المكثفة من ميونخ، ولم تجد طابعات رولاند في الحقيقة موطئ قدم في السوق. راق هذا لجوالتيرو جوري الذي كان يتابع أنشطة أوتو في هلع. مطبعة السندات المالية في المكسيك هي وحدها التي حقَّقت نجاحًا غير متوقع، وسرعان ما أجبرت دي لا رو الراسخة على الخروج من السوق؛ مما دفع البريطانيين إلى إغلاق شركتهم التابعة المحلية. لكن أمل أوتو في مزاولة العمل مع المكسيكيين كطبَّاع نقدٍ لهم لم يتحقَّق؛ فقد أثار قرار البنك المركزي المكسيكي إقامة مطبعة خاصة به واستعانته لهذا الغرض بلودفِج سلهوبر، مدير جايدمِكس الاستياء الشديد لدى شركة طباعة النقد التقليدية أمريكان بنكنوت. سارع أوتو إلى حظر دخوله مقر ميونخ بسبب «خيانته». كانت أوراق البيزو التي أُنتجت تحت إدارة سِلهوبر الفنية ذات جودة طباعية عالية، حتى إن المرء ليستطيع تمييز الوقت الذي يُشير إليه برج ساعة مطبوع على ظهر الورقة فئة ١٠٠٠ بيزو. استُلهمت تلك الفكرة من الورقة فئة ١٠٠ دولار أمريكي ببرج الجرس المطبوع عليها. اختار المكسيكيون لأنفسهم الساعة ٢:١٠ ظهرًا بدلًا من الساعة ٢:٢٠ التي تَظهَر على ورقة الدولار. سيكون لهذا دلالته بالنسبة إلى الأمريكيين. فقد خسرت أمريكان بنكنوت، التي كانت قوية ذات يوم في أمريكا الوسطى والجنوبية، آخر عميل أجنبي كبير لديها في مجال طباعة النقد، ولم تتعافَ قط من هذه الصدمة، وظلَّت على سُباتها عند ظهور طباعة الإنتاليو المتعددة الألوان. سقطتْ شركة طباعة النقد والسندات المالية هذه، التي كانت شهيرة ذات يوم، بعد عذاب طويل في دوامة تقاضٍ على خلفية احتيال وحسابات مفتعلة. ولم تُعاود أمريكان بنكنوت الظهور إلا مؤخرًا كشركة طباعة مُؤَمَّنة للشيكات وجوازات السفر. سمح الفصل ١١ للشركة بالتخلص من كل الديون المتراكمة عليها، والتي تزيد عن ١٠٠ مليون دولار.

نعود إلى ميونخ. فقد أعرب البنك الاتحادي الألماني الجديد عن رغبته في أن تشارك جيزيكه أوند ديفريَنت في طباعة المارك الألماني. كان المطلوب طبعه في البداية مبلغًا لا يزيد عن ٢٩٠ مليون ورقة مارك كإصدار أول. احتُفظ بالنصف الآخر للمطبعة الاتحادية الحكومية. لكن البنك الاتحادي وضع شروطًا؛ حيث أصرَّ على حجز خط من آلات الطباعة في صالة طباعة منفصلة تُستخدم حصريًّا لطبع المارك الألماني، على الرغم من أن أوتو كانت لديه بالفعل هذه المنشأة، وكان مقرها آنذاك داخل حدود مدينة ميونخ. سرعان ما بدأ أوتو في التوسع، حتى على الرغم من أنه لم يكن حصل بعدُ على عقد من البنك الاتحادي.7 والمصادفة أنه فيما يتعلَّق بمقر المطبعة في حي شتاينهاوزن في ميونخ، يفرض سجل العقارات البلديُّ «حظرًا على العمليات الشبيهة بالدعارة والقمار والمراهنة والطوائف الدينية» كقيود على الاستخدام. كان ذلك حس دعابة الجنديِّ الذي بداخل أوتو. علاوة على ذلك، اشترط البنك الاتحادي على جيزيكه أوند ديفريَنت أن تعود إلى شكلها القانوني السابق كشركة ذات مسئولية محدودة بدلًا من شكلها الذي اتخذتْه منذ نحو ثلاثين سنة كشركة مساهمة. فُسِّر هذا رسميًّا بمشكلات تتعلَّق بالقوائم المالية؛ بمعنى أن نسبة رأس المال المملوك إلى المقترض بالشركة لم تكن تنمُّ عن العافية. أزعج البنك الاتحادي أن تَطبع نقده شركةٌ خاضعة لمتطلب إفصاح معين، على الرغم من أنها لم تكن مدرجة في البورصة. لكن البنك المركزي وافق على الاحتفاظ بالمجلس الإشرافي كهيئة رقابة إضافية. وسوف يساعد هذا البنك الاتحادي اليقظ على إبقاء عينه مفتوحة على التطورات في ميونخ.

بتأمُّل الماضي الآن، نجد أن الشرطين اللذين فرضهما البنك الاتحادي ثبت أنهما ضَرْبتا حظ موفقتان. تضمَّن تقسيم طلبية طباعة المارك الألماني بين برلين وميونخ التدقيق الحكومي للأسعار الذي كانت طباعة المارك الألماني خاضعة له. كان هذا يعني من الناحية العملية أن جيزيكه أوند ديفريَنت — التي بمقدورها أن تطبع بمستوًى اقتصادي أعلى — يمكنها أن تختبئ لعقود من الزمن وراء المطالب السعرية للمطبعة الاتحادية، التي كانت أعلى تكلفةً، على الرغم من أن المطبعة الاتحادية كانت، من الناحية الفنية، تطبع بأعلى درجة من الدقة. وقد أدَّى الشكل القانوني لهذه الشركة باعتبارها شركة عائلية إلى اختصار عمليات اتخاذ القرار، وتسهيل التخطيط طويل الأمد، بل وسمح — عند الضرورة — بتمويل المشروعات «المحفوفة بالمخاطر». صار آنذاك ممكنًا تمويل مثل هذه المشروعات — سواء أكانت مشروعات تتعلق بزيادة الطاقة الإنتاجية أو بنشاط بحثي — دون تعريض رئيس الشركة فورًا لأسئلة نقدية من المساهمين.

الفوز للجريء

كان أوتو يعرف كيف يستفيد كرائد أعمال من مساحة الحرية التي يملكها بصفته المساهم الرئيسي في جيزيكه أوند ديفريَنت. في ذلك الوقت لم يكن هناك مُصنِّع ورق ألماني قادر على صنع ورق إنتاج النقد، وكان يلزم استيراد ورق المارك الألماني من الخارج، من أرجوماري الفرنسي لجيزيكه أوند ديفريَنت، ومن بورتالز البريطاني للمطبعة الاتحادية. في عام ١٩٦٤م، بادر أوتو، حتى دون إبرام عَقْد توريد مع البنك الاتحادي، إلى شراء مصنع ورق مُهمَل في جموند على بحيرة تيجرنسي، وأعاد بناءه لإنتاج الورق المُؤَمَّن. كان من غير المعتاد بالكلية في ذلك القطاع أن تُورِّد شركة طباعة نقد الورق لنفسها. كانت شركة طباعة النقد ذات التدابير الأمنية الصارمة، بمصنعها المُسمَّى بابييرفابريك لويزنتال، قد بدأت تخطو نحو المجهول فيما يتعلَّق بالجانب الفني. قُدِّر لمحاولة مماثِلة من المطبعة الاتحادية أن تُخفِق؛ مما تركها مربوطة بلويزنتال كمورد حصري. وبما أن كبار صانعي الورق الأجانب حرموا أوتو من الحصول على ما لديهم من تكنولوجيا — كما ذكرنا — فقد اضطر مصنع لويزنتال إلى تطوير هذه التكنولوجيا بنفسِه بجهد جهيد. قدَّم المساعدة فنيٌّ أُخذ من تومبا بروك السويدي. لم يكن جموند حتى قد أتقن تقنية العلامة المائية، واعتمد في هذا الشأن على مساعدة من خبراء كارتييره مِلياني دي فابريانو الإيطالي. لم يكن الأسوأ قد جاء بعدُ. أول ورق لإنتاج النقد، الذي خصِّص للورقة فئة ٥ ماركات ألمانية، ثبت أنه ليس متينًا بما يكفي. كذلك فإن طاقة تشغيل لويزنتال المبدئية البالغة ١٨٠٠ طنٍّ متري سنويًّا كانت دون مستوى الإنتاج المربح، لكنها مع ذلك كانت أعلى بكثير جدًّا عن حاجة ألمانيا. كانت المطبعة الاتحادية وجيزيكه أوند ديفريَنت معًا لا تحتاجان حتى إلى نصف هذه الكمية لطبع المارك الألماني. لهذا السبب، تكبَّد مصنع الورق لسنوات خسائر كبيرة تجاوزت الاستثمار نفسَه. بدت الشركة الأم، التي كانت لا تزال غير آمنة ماليًّا، مهددة في بعض الأحيان بالخطر. في هذا الموقف الصعب، سلَّم أوتو إدارة مصنع الورق إلى مانفرِد بِك، الشاب الذي كان قد عاد من مصر في تلك الأثناء، فنجح في تحسين معدل تشغيل لويزنتال بطلبيات التصدير. جاءت أولى طلبيات الورق من إندونيسيا، وسرعان ما تَلَتْها تايلاند وفيتنام وأمريكا الجنوبية، وهذه الدول الأربع عملاء تقليديون لبورتالز. بل إن الورق المورَّد إلى فيتنام الجنوبية سُلِّم إلى دي لا رو؛ لأنها هي التي كانت تطبع أوراق النقد الفيتنامية الجنوبية. ليس من الصعب أنْ نتصوَّر المشاعر المختلطة التي تابع بها البريطانيون، الذين كانوا حتى ذلك الوقت يسيطرون على السوق، مبادرات هذا الوافد الجديد. فهذا الدخول إلى السوق من جانب لويزنتال لم يكن بالعمل الهيِّن، ليس فقط بسبب المنافسة المستحكمة، بل أيضًا بسبب ضغوط التكاليف الناشئة عن المارك الألماني المتزايد القيمة باستمرار. وضعت مؤسسة التوزيع التي أقامَها بِك لورق إنتاج النقد الأسسَ اللازمة للتوسع اللاحق لشركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة في مجال الأعمال الخارجية، لكنَّ طبع النقد للتصدير لم يكن يلعب إلا دورًا هامشيًّا في نشاطها في ذلك الوقت.

كان مفهوم الشيك الأوروبي الموحَّد هو الذي حوَّل لويزنتال في النهاية من الخسارة إلى الربح.8 ثارت اختلافات في الرأي هنا مع شركات طباعة النقد البريطانية الخاصة حول الجوانب الفنية للشيكات. أراد البريطانيون الطباعة من سطح غائر. اعتبر أوتو هذه الطريقة باهظة التكلفة بالنسبة إلى ورقة لن تُستَخدَم إلا مرة واحدة، واقترح كخاصية أمنية بديلة علامة مائية محدَّدة الموضع. كان يريد شيكات متينة وذات تأمين صارم؛ لأنه كان يفكر في الطاقة الشاغرة في مصنع ورقه. وكان له ما أراد. تطوَّر الشيك الأوروبي، الذي يُستخدَم مقترنًا ببطاقة شيك خاصة كضمان، ليُصبح واحدًا من أكثر أنظمة الشيكات شعبيةً في العالم؛ حيث كان يُقبَل في معظم أرجاء أوروبا. كانت حصة أوتو في هذه التجارة مضمونة، حتى إذا جاء يوم وانخفض الطلب على أوراق النقد. وقد راقت هذه الفكرة للبنوك؛ لأن الشيكات كانت تُجبِر عُمَلاءها على الاحتفاظ برصيد جارٍ عالٍ نسبيًّا لتخفيض مصاريف الفائدة على حسابات الشيكات الخاصة بهم، إذا أرادوا أن تكون شيكاتهم الأوروبية مغطاة بمبلغ مضمون. كان هذا المبلغ في البداية ٣٠٠ مارك ألماني زِيدَ فيما بعدُ إلى ٤٠٠ مارك. في أوج ازدهار مفهوم الشيك الأوروبي، كان مصنع لويزنتال يُنتج ورقًا مُؤَمَّنًا غاليًا لما يصل إلى نصف مليار شيك فارغ سنويًّا. أتاحت هذه الكمية البالغة ٥٠٠ طن متري استخدامًا إضافيًّا منشودًا لطاقة آلات صنع الورق، لكنَّ مشروع استحداث شيك سياحي أوروبي موحَّد، الذي سعى وراءه أوتو بقوة، أخفق. كان للنزاع على النواحي الفنية للشيك الأوروبي تأثير جانبي آخر. فبمبادرة من أوتو، تأسَّس الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة. كانت الفكرة الأصلية أن يكون منتدًى حصريًّا لشركات الطباعة الخاصة الأوروبية، وشركات الطباعة الأجنبية في وقت لاحق؛ حيث تتم مناقشة الأمور المتعلِّقة بهم في سرِّية. كان العنوان البريدي لهذا الاتحاد، وهو مقر سِكيوريتي برنتِنج في زيورخ، يسلط الضوء على قُرب الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة من جيزيكه أوند ديفريَنت.
منذ أن تضاءلت أهمية مشروع آلات الطباعة، صارت شركة سِكيوريتي برنتِنج قلب التجارة الدولية في مجال ورق النقد والورق المُؤَمَّن اللذين يُنتِجهما مصنع بابييرفابريك لويزنتال. بل إنها كانت توزِّع ورق كارتييه مِلياني، وكان ذلك بمنزلة لفتة شكر على المساعدة التي قدَّمها. تبيَّن أنَّ إجبار مصنع لويزنتال على الاعتماد على نفسِه في التكنولوجيا كان له عكس النتائج التي كان يأملها المنافسون. بمرور السنين، لفتَ مصنع الورق الأنظار بفضل عدد من الابتكارات في تكنولوجيا القوالب الأسطوانية لصناعة الورق المُؤَمَّن. رُفعتْ سرعة الماكينات أضعافًا مضاعفة وزِيد عرض السير المتحرِّك للورق. كما غُيرت آلة صنع الورق لزيادة الطاقة الإنتاجية؛ حيث صارت تعمل أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، سبعة أيام في الأسبوع. صار مصنع لويزنتال نفسه مورِّدًا لمصانع الورق المُؤَمَّن بنظام تسليم المفتاح. لعب دورًا كبيرًا في هذا النجاح المبكر المدير الفني لمصنع الورق بول كلِنج والكيميائي كلاوس يونج، الذي يمارس نشاطه الآن حول العالم باعتباره خبيرًا مستقلًّا في إقامة مصانع الورق المُؤَمَّن. على الرغم من أنَّ أعمال هندسة المصانع تُزاوَل بوتيرة منخفضة مراعاةً لصادرات الشركة ذاتها من الورق، ومراعاة للمنافسين الموتورين، جرى تحديثُ أو بناءُ اثنَيْ عشرَ مصنَعَ ورق على الأقل في الخارج. لم تتمكَّن جيزيكه أوند ديفريَنت من تحقيق ذلك إلا في أحوال استثنائية مع مطابع أوراق النقد.9 ما ينطبق على مطبعةِ نقدٍ حديثةٍ ينطبق بدرجة أكبر على الكثير من مصانع الورق الغالية هذه، وهو أن الطاقة الإنتاجية لآلاتها العالية الأداء تفوق الاحتياجات الوطنية كثيرًا. وبمنظور التحليل المالي، فإنها أيضًا تُعَدُّ مشروعات وجاهة تنفَّذ على حساب دافعي الضرائب.

تبيَّن أن مزاولة سِكيوريتي برنتِنج — مثلها مثل أورجَنَيزيشَن جوري — نشاطها انطلاقًا من بلد محايد وكتوم ميزة حقيقية. كان هذا مفيدًا في التفاوض مع العملاء الحساسين سياسيًّا في أوروبا الشرقية، حتى على الرغم من أن جوزناك السوفييتية لم تسجِّل قط اعتراضات على التعامل مع المورِّد الألماني. صار إنشاء مصنع للورق في بولندا — الذي انهال عليه المنافسون بالحجج السياسية — أمرًا ممكنًا على هذا النحو بعد مرور عقد ونصف العقد من المحادثات الصعبة. ظلَّت هذه الصفقات المتصلة بهندسة المصانع والمطابع تُبرَم لفترة طويلة من خلال الشركة التجارية الصغيرة جدًّا الكائنة في زيورخ، في حين أن الاستشارات التجارية والفنية بشأن كل هذه الأنشطة كان يتولَّاها خبراء من ميونخ. أخيرًا، كانت سِكيوريتي برنتِنج لا تزال تعمل كوكيل للآلات الخاصة لإنتاج النقد. حتى المطبعة الاتحادية، التي تعمل بأوامر مباشِرة من البنك الاتحادي، اضطُرَّتْ إلى أن تسلك هذا الطريق الرافع للتكلفة المارَّ عبْرَ زيورخ. أتاح هذا الاتفاق لسِكيوريتي برنتِنج ظروفًا مثالية لإرسال أرباحها إلى الخارج. في سويسرا ذات المزايا النسبية، كانت جلاروس تُتِيح معدلات ضريبية أفضل. ونظرًا لوجود اتفاقية تسليم أرباح بين جلارنر هولدنج والشركة التجارية في زيورخ، أتاح ذلك ميزةً إضافيَّةً. سرعان ما صار اسم سِكيوريتي برنتِنج المختصر إس بي يرمز لسيجفريد بروفيزيون؛ وهي عبارة ألمانية تعني «عمولة سيجفريد». إلى أيِّ مدًى كانت أنشطة سِكيوريتي برنتِنج مُربحة هو ما كُشف عنه فيما بعد بزمن طويل عندما سمح سيجفريد أوتو لمضارِب عقاري كان متزوجًا من ابنة زوجته الثانية بأن يقنعه بإعطائه ٢٢٠ مليون مارك ألماني. كان ذلك المال الكثير قد تراكم كربح من مصادر متعدِّدة في حساب الشركة التجارية السويسرية.

لم يكن مصنع بابييرفابريك لويزنتال قد وقف بعدُ على أرضية صلبة عندما شرع أوتو في مشروعه التالي. التقى بهِلموت جروتروب، وهو عالِمٌ كان ضمن الطاقم السابق للباحث في مجال الصواريخ فِرنر فون براون في بينِموندِه، فاستحوذ على مكتبه الهندسي المعسر بالإضافة إلى الفنيين العاملين به، وأسَّس شركة جيزِلشافت فور أوتومَتسيون أوند أورجَنَيزَتسيون. أصبحت هذه الشركة التابعة المملوكة بنسبة ١٠٠ في المائة لجيزيكه أوند ديفريَنت مركز البحوث والتطوير المختص بحركة المدفوعات التي تتم بلا نقد.

استُحدث التحويل غير النقدي للأجور والرواتب في ألمانيا في منتصف ستينيات القرن العشرين. تباطأ نمو الأوراق النقدية المتداوَلة باطراد، وكَثُر الحديث عن «مجتمع غير نقدي» آتٍ. لكن دراسة سوقية أجراها البنك الاتحادي أظهرتْ أنَّ العدد المطلَق للأوراق المتداولة سيواصل ازدياده مع النمو الاقتصادي القوي. في تلك الأيام، كان يجب فحص كل أوراق النقد باليد ورقةً ورقةً للتأكد من أصالتها وحالتها المادية. عُهد إلى نحو خمسة آلاف شخص في البنك الاتحادي وفروعه بهذه المهمة الشاقة التي لا تنتهي. كان متوقَّعًا أن معالجة الكم المتزايد من النقود الورقية ستخلق حتمًا مشكلات متزايدة فيما يخص الجودة وتكاليف الأجور ومساحة التخزين الآمن. على سبيل الحل، فكَّر أوتو في تصميم أوراق النقد بحيث تكون ملائمة للفحص المُؤَتْمَت، على أن يحدث هذا دون تغيير مظهر الورقة، وأن يتم الفحص بموثوقية تامة بواسطة آلة قراءة خاصة للبَتِّ في أصالة الورقة وحالتها في عملية واحدة؛ ومن ثم تقرير ما إذا كانت تُعاد إلى التداول أم لا. يُعتقد أن شركة الإلكترونيات اليابانية توشيبا هي التي أثارت الفكرة. كان قد مضى عليها سنوات وهي تعمل على تطوير جهاز لقراءة أوراق النقد. نجح أوتو في إقناع البنك الاتحادي، وفي استقطاب ممولين للمشروع.

تبيَّن أن فحص الأصالة أوتوماتيكيًّا يمثِّل عقبة فنية. حلَّ باحثو جيزِلشافت فور أوتومَتسيون أوند أورجَنَيزَتسيون تلك المشكلة باللانثينيدات، وهي مركَّبات تنتمي إلى عائلة الفلزات الأرضية النادرة ونظائرها، أبان اسمها اليوناني — ومعناه «المخبوءة» — عن خصوصيتها. تتميَّز اللانثينيدات كمواد غير عضوية بعدم الاستقرار الشديد والتفاعلات الكيميائية السريعة للغاية، وذلك على النقيض من نظائرها المشعَّة العضوية. وعند تعريضها إلى وميض من مصدر ضوء قوي، تبث حزمة ضوء في جزء من الثانية. يختفي هذا الضوء بسرعة مماثلة. بهذه الحزمة الضوئية المتكرِّرة، التي هي سمة لازمة، يمكن بواسطة جهاز قراءة التعرُّف على ما إذا كانت ورقةُ النقد أصليةً أو زائفة بما لا يَدَعُ أي مجال للشك. وإذا غُطِّي أحد مركبات اللانثينيدات عندئذٍ بنظير آخر، كبلور فلزي، من أجل الحماية، عندئذٍ يصبح حلُّ الشفرة شبه مستحيل بالنسبة إلى الأشخاص غير المعتمَدين. فإذا حاول مزيِّف لدَيْه مختبر بالغ الحداثة التعرُّف على المادة، فربما ينجح، لكنه لن يجد المادة التي هي وحدها تسمح بالتأكد من الأصالة، وسيتم تضليله قصدًا. هذا الأكسيد العضوي المعروف باسم الخاصية «إم» (يرمز حرف إم M إلى عبارة machine readable الإنجليزية وتعني «مقروء آليًّا») عديم اللون، ويمكن دمجه في الورق أو في الحبر المُؤَمَّن، أو في الخيط الأمني دون إحداث أي تغيير في مظهر ورقة النقد. وكلما كانت الكمية أكبر كان ذلك أفضل.10 بالمقارنة بالخصائص الأمنية الأخرى، كانت هذه المادة إنجازًا تكنولوجيًّا وتجاريًّا لجيزيكه أوند ديفريَنت.11 لم يكن كافيًا أن توضع الخاصية إم في أيِّ موضع في ورقة النقد؛ إذ كانت البنوك المركزية بحاجة أيضًا إلى مستشعرات خاصة للتعرُّف على هذه الخاصية، وهذه المستشعرات أيضًا توفرها جيزيكه أوند ديفريَنت حصريًّا. تجني شركة ميونخ مكاسب هائلة من وراء هذا المسحوق الغالي.
استطاع أوتو تقديم أوراق نقده القابلة للفحص أوتوماتيكيًّا إلى البنك الاتحادي عام ١٩٧٥م، وبعد ذلك بعامين عرض أيضًا نظام معالجة أوراق النقد الذي يُستخدم معها في نسخته نصف الأوتوماتيكية آي إس إس ٣٠٠.12 بدأ البنك الاتحادي يوظِّف المادة الجديدة في أوراق نقده التي لم تتغيَّر ظاهريًّا، وذلك باستخدام الخيط الأمني كحامل لهذه المادة. واليوم تُرَش الخاصية إم على سير الورق الذي يكون رطبًا حينها، وبشكلٍ يتم تغييره حسب فئة الورقة. كما يتم خلطها بحبر الطباعة.

كان رد الفعل في السوق فاترًا نوعًا ما، ولا سيما في الدائرة الأنجلو أمريكية. فعلى الرغم من أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي طلب آلات لمعالجة أوراق النقد، فإنه رَفَض الجهاز نصف المُؤَتْمَت الذي تنتجه جيزيكه أوند ديفريَنت؛ لعدم رضائه عن الأداء. واجه البنك الاتحادي، الذي كان قد طلب أول الأجهزة نصف المُؤَتْمَتة في نهاية العقد ذاته، أيضًا صعوبات في البداية، لكن من نوع آخر. عارضت النقابات العمالية التكنولوجيا الجديدة خشيةَ فقدان الوظائف؛ ومن ثم انسحب البنك الاتحادي من تطوير النظام لاحقًا إلى الأَتْمَتة الكاملة، التي كان أوتو يسعى إليها بشدة. كانت نفقات البحوث والتطوير الكبيرة في جيزِلشافت فور أوتومَتسيون أوند أورجَنَيزَتسيون دائمًا مثار نزاع في جيزيكه أوند ديفريَنت. بعد الانتكاسة التي حدثت في الولايات المتحدة، تعالَى مزيد من الأصوات الداعية إلى وقف أعمال تطوير نظام فحص أوراق النقد الأوتوماتيكي بالكامل. كانت الغلبة لأوتو بقوله — كما ذكر شهود عيان — إنه ينفق من أمواله الخاصة.

أثبتت التطورات أنه على صواب من جديد؛ ففي السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من القرن الماضي، ازداد عدد الأوراق المتداوَلة بمتوسط ٤٫٦ في المائة سنويًّا في ألمانيا، و٦ في المائة في الولايات المتحدة. كانت معالجة أوراق النقد قد بدأت تمثِّل مشكلة بحق. عندما بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي فيما بعدُ يبحث من جديد عن آلة لمعالجة أوراق النقد، ظهرت جيزيكه أوند ديفريَنت ومعها الجهاز آي إس إس ٣٠٠٠، وهو نظام رفيع الأداء كانت قد طوَّرتْه في تلك الأثناء. كان هذه الجهاز المُؤَتْمَت بالكامل يتعرَّف على مختلف أوراق النقد ويفرزها حسب العملة والفئة في عملية واحدة. كان يفحص في آنٍ واحد ما يصل إلى ٤٠ ورقة نقد (حديثة الطبع) للتأكد من أصالتها وحالتها. تضاهي سرعة المعالجة هذه الرقم القياسي الأوليمبي في سباق اﻟ ١٠٠ متر. كان يمكن، أثناء هذه العملية، إعدام الأوراق التي لم تَعُدْ صالحة للتداول، دون تدخُّل بشري قد يدعو إلى التلاعب. في أمريكا فازت شركة ميونخ في المنافسة، لكنها خسرت العطاء. كان الملوم هو «قانون اشترِ الأمريكي». لكن أوتو لم يكن ليرتدع بسهولة؛ فقد طلب تركيب نماذجه الأولية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي في بالتيمور، وبدأ يبحث عن إمكانيات التصنيع محليًّا. عرضت أمريكان بنكنوت المساعدة، لكن كان واضحًا أنها مهتمة بالتكنولوجيا أكثر من اهتمامها بتوزيع آلات معالجة أوراق النقد الجديدة. وسرعان ما فُسخ عقد التعاون من جديد.

ثم ابتسم الحظ. كانت شركة رِكوجنِشَن إكوِبمِنت الأمريكية قد أُرسي عليها العقد ابتداءً، لكنها اضطرت إلى إعادته إلى مجلس الاحتياطي الفيدرالي بسبب مشكلات فنية تتعلَّق بالطاقة الإنتاجية. أُجريت المناقصة مرة ثانية وحصلت شركة ميونخ على عقد ضخم لتوريد ١٠٢ من أنظمتها الأوتوماتيكية بالكامل لمعالجة أوراق النقد في بداية تسعينيات القرن العشرين. ثم رُفعت الطلبية إلى ١٣٣ وحدةً بما في ذلك قطع الغيار وعقد صيانة طويل الأجل. بلغتْ قيمة العقد الإجمالية أكثر من ٢٥٠ مليون يورو؛ مما جعله أكبر عَقْد يُرسيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي على الإطلاق. كان يضاهي تقريبًا حجم أعمال جيزيكه أوند ديفريَنت السنوية بأكملها في ذلك الوقت. كانت شروط الدفع التي وضعها مجلس الاحتياطي الفيدرالي ممتازةً؛ ففي مرحلة ارتفاع أسعار الفائدة في ذلك الزمان، كان يمكن للمرء أن يُحقِّق ربحًا عن استثمار الدفعات المدفوعة مقدَّمًا. ومع ذلك رفض الأمريكيون الخاصية إم، وأصروا أيضًا على التصنيع محليًّا؛ لذا استحوذتْ جيزيكه أوند ديفريَنت على إي سي إيه إلكتروكوم أوتوميشن، وهي شركة أمريكية تابعة لشركة إيه إي جي، التي كانت تُصنِّع الآلات في ألمانيا لجيزيكه أوند ديفريَنت. كانت عناصر التحكُّم في النظام والمستشعرات هي وحدها التي تأتي مباشرة من جيزِلشافت فور أوتومَتسيون أوند أورجَنَيزَتسيون. آذن عَقد مجلس الاحتياطي الفيدرالي بآخِر اختراق للسوق العالمية، وضَمِن لشركة ميونخ مكانةً كشركة نشطة دوليًّا ذات تدابير أمنية صارمة. يوجد الآن نحو ٣٣٠٠ نظام معالجة ورق نقد من جيزيكه أوند ديفريَنت مركَّب في نحو ١٠٠ بلد، ويشمل هذا الرقم نحو ٢٤٠ وحدةً عالية الأداء من طراز بي بي إس ٢٠٠٠ / ٣٠٠٠ المصنوعة خِصِّيصَى من أجل البنوك المركزية، وبصورة معدَّلة من أجل مطابع أوراق النقد. على الرغم من الشكوك الأولية، شاع استخدام الخاصية إم أيضًا، وهي اليوم مدمجة في أوراق نقد ٤٠ بلدًا. قال هانز فولفجانج كونتس، الذي كان مسئولًا عن هذا القسم لسنوات، إنه لم تبْلغه حالةُ تزييف واحدة لم يكتشفها هذا النظام.

تُوِّجتْ مرحلة التوسع التكوينية التي مرَّت بها جيزيكه أوند ديفريَنت بدخولها مجال البطاقات. كانت جيزِلشافت فور أوتومَتسيون أوند أورجَنَيزَتسيون منخرطةً في التصميم الفني لأول بطاقة شيك من أجل الشيك الأوروبي. كان مشروع أوتو المفضَّل، الذي كان يُفترض أن يستخدم فيه الشيك الأوروبي لصرف النقد بواسطة آلات صرف النقد، قد أخفق، على الرغم من التجارب الميدانية المكلِّفة؛ ومن ثم جُهِّزت بطاقة ضمان الشيك في نهاية سبعينيات القرن العشرين بشفرة «إم إم» تُتيح حمايةً من التزوير مماثلة للخاصية إم، وكان يمكن ضبطها بواسطة تقنية ليزر جديدة. لقد صارت وسيطًا للمدفوعات. فبمجرد إدخال هذه البطاقة، صار بإمكان المرء آنذاك سحب النقد من آلات الصرف التابعة لأي بنك، ويتم الخصم من حساب الشخص فورًا. كانت هذه بداية الاستعمال واسع النطاق للبطاقة الجديدة. احتفظ أوتو دائمًا — وهو طبَّاع نقد جسدًا وروحًا — بمسافة معينة بينه وبين مجال البطاقات. عُهد بهذا النشاط في البداية إلى لوتس ديفريَنت، آخر مَن تحدَّروا مباشرةً من نسل العائلة المؤسِّسة، وطُوِّر فيما بعدُ على يد يورجِن نيلز، الذي قام بالمهمة بمفرده تقريبًا.

الأزمة

كان سيجفريد أوتو في ذروة نجاحه في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. ففي ظل قيادته، نَمَتْ جيزيكه أوند ديفريَنت لتُصبح الشركة الرفيعة الأمن المتكاملة رأسيًّا الوحيدة في العالم؛ إذ كانت — باستثناء حبر الطباعة — تُنتِج كل شيء تقريبًا بنفسِها، من ورق إنتاج النقد إلى فرَّامات أوراق النقد المحميَّة من التلاعب. صار ابن الشرطي البروسيِّ واحدًا من أثرى أثرياء ألمانيا. كانت الدعوات التي يرسلها لحضور بطولات الجولف تُلبَّى بسرور حتى من جانب رئيس ألمانيا الاتحادية رومان هِرتسوج، فضلًا عن محبِّي الجولف من منتسبي البنك الاتحادي. قدَّرت مجلة فوربس المختصة بالأعمال ثروة أوتو بما بين مليارين و٤ مليارات مارك ألماني عام ١٩٩٠م. بل وكانت هناك تقديرات أخرى أعلى من هذه. لكنَّ الأب المؤسِّس فوَّتَ الوقت المناسب لرحيله عن إدارة الشركة؛ إذ أدَّى الصراع على المال والسلطة، الذي دارتْ رُحاه بمرارة داخل العائلة، إلى أن يواجه أوتو وشركته أزمة شديدة. ازداد النزاع مرارةً؛ ورافقتْه فيما بعدُ حملةُ تلطيخ سمعة في وسائل الإعلام الألمانية.

بدأت الدراما بعيدًا عن الأنظار، لكن بما أن أوتو كان المساهم الرئيسي في الشركة، فإن ما حدث جرَّ جيزيكه أوند ديفريَنت أيضًا إلى دوامة الأحداث. كانت زيجته الثانية من امرأة أصغر منه سنًّا بكثير — وهي أورسولا بوردا، المكنَّاة «بامبي» — قد تسبَّبت في الانفجار العلني للتوتر الكامن بين الأب وأولاده الأربعة، الذين كانوا يخافون على نصيبهم من التركة. بلغتِ الأزمة العائلية — التي تُشبه ميلودراما المسلسلين التليفزيونيين الأمريكيين دِنفر ودالاس — أوجها بالكشف عن مخالفات هائلة في تسوية الصفقات التي تولَّاها الابنان. وكما قالت مصادر ذات صلة بالمجلس الإشرافي فيما بعد، فإن هذا اشتمل على طلبيَّة أنظمة معالجة أوراق نقد لصالح نيجيريا، كان تِلمان مسئولًا عنها، وطلبية آلات لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، تولَّاها يورك. كان يورك أصغر الابنين، لكن أكثرهما نشاطًا، وكان في واقع الأمر المفضَّل لخلافة أبيه. لكنَّ النزاع انتهى برحيل الابنين القسري عن الشركة بعد أن دُفع لهما بسخاء كي يرحلا. سعى ميشائيل إندرِس، عضو مجلس إدارة دويتشه بنك، الذي كان قد تولى على الفور رئاسة المجلس الإشرافي لجيزيكه أوند ديفريَنت، إلى فصل الإدارة عن رأس المال، مقنِعًا أوتو في النهاية بالانسحاب من الإدارة، فانضم أوتو إلى المجلس الإشرافي. أتى إندرِس بالخبير الضريبي توماس رادِماخر إلى الشركة، فأخذ الرئيس التنفيذي الجديد تكليف إندرِس إياه بإنهاء عهد أوتو بمعناه الحرفي، فمضى ليعمل بقليل من الدبلوماسية بين المسئولين التنفيذيين، وكانت أفعاله تنمُّ عن شيء من قلة الاحترام للأب المؤسِّس الطاعن في السن. فأقدَمَ أوتو — الذي كان آنذاك مريضًا في حالة خطيرة — على إقالته في ممارسة أخيرة لإرادته، وأخيرًا قطع أيضًا علاقاته بزوجته الثانية.

في نفس وقت إقالة رادِماخر، بدأتِ الشائعات تتناثر في الشركة عن ضلوع جيزيكه أوند ديفريَنت في صادرات أسلحة غير قانونية. زِدْ على ذلك وفاة موظف بقسم الأمن الداخلي المهم في ظروف بَدَتْ في البداية غامضة. سرعان ما رُبط هذا بصادرات الأسلحة المزعومة. كان بِك موضع ثقة الأب المؤسس، وحَرَصَ على استعراض كافة الشبهات بعناية شديدة بمعرفة مكتب النائب العام في ميونخ. ثَبَتَ أنها كلَّها «بلا أساس» و«نتاج افتعالات وخوف من فقدان المكانة المهنية» كما جاء في واحد من الحُكمين اللذين أسقطا التحقيق.

أثارت التقارير التي تتحدَّث عن «صادرات أسلحة» و«قَتْل مأجور» وإقالة رادِماخر زوابع في العلن بالقدر نفسِه. في هذا الجو المشحون، خرجتْ نشرة معلومات الأعمال الفرانكفورتية تشِرفِنسكي إنتيرن فجأةً بتفاصيل مثيرة عن فضيحة الضرائب التي لم يكن قد كُشف عنها علانيةً في سِكيوريتي برنتِنج. ولم يُحدَّد قط مصدر — أو مصادر — هذه المعلومات المؤذية، لكن لا بد أن المصدر كان يملك إمكانية اطِّلاع على ملفات الإدارة في ميونخ. وسرعان ما تردَّد صدى سلسلة التقارير الموجَّهة التي نشرتْها هذه الخدمة الإعلامية حول الموضوع في وسائل الإعلام في عموم البلد. أثار النقد الإعلامي أزمةَ دعاية متكاملة الأركان في هذه الشركة الواثقة بنفسها للغاية في غير هذه الظروف. اتخذت استجابتها نبرة اتهامية. قالت الشركة العائلية إن التطورات وضعت اسمَها للمرة الأولى في تاريخها في عناوين الأخبار، ولا سيما في الصحافة الصفراء. فضَّلت الشركة أن تُنحِي باللائمة في الأخطاء على ناشر الأخبار السيئة.13
وكما لو أن ذلك لم يكن كافيًا، برز موظف سابق في جيزيكه أوند ديفريَنت آنذاك متهِمًا ربَّ عمله السابق بالاحتيال على البنك الاتحادي. كانت علاقات العمل مع البنك الاتحادي دائمًا مجال سيجفريد أوتو الحصري، وكان هذا الأمر قد مضى عليه بالفعل عَقْد من الزمن، وكان يتعلَّق بوضع علامة على الخيط الأمني في أوراق المارك الألماني، وهو مسألة حُلَّت عام ١٩٨٨م. لم تكن المُدَّخَرات الناتجة عن الترشيد في هذه النقطة قد مُرِّرت إلى العميل، وهو البنك الاتحادي، على الرغم من أن جيزيكه أوند ديفريَنت كانت ملزمة بذلك تعاقديًّا. عوضًا عن ذلك، تم إقحام خطوة إنتاجية صورية بمساعدة سيكبا في سويسرا، وأُضيفت تكلفتها إلى فاتورة العميل.14 كانت قصة ملتبسة لم يَزِدها استساغةً التعليقُ الذي قال إن البنك الاتحادي كان له ممثلون — وهو أمرٌ غير شائع — في المراجعة المحاسبية للأسعار، وأنهم التزموا الصمت. البنك الاتحادي نفسُه، الذي كان قد أسهم على مرِّ العقود في إعادة بناء شركة طباعة النقد والسندات المالية هذه وحاباها، «حُمِّل تكاليف لا صلة لها بأيِّ خدمة ملائمة»، حسب الصياغة الدقيقة في ميونخ. تسبَّب هذا في انزعاج كبير في فرانكفورت. اضطرت جيزيكه أوند ديفريَنت إلى ردِّ نحو ٤٠ مليون مارك. وبما أن البنك الاتحادي الغاضب لم يكن مرتبطًا بعقد طويل الأجل مع ميونخ، فإنه درس إمكانية تغيير مورِّد الورق وشركة طباعة النقد. تبيَّن أنَّ هذا صعب فيما يخص الورق؛ نظرًا لمواصفات البنك المصمَّمة خِصِّيصَى. كان مصنع لويزنتال لديه احتكار فني بحكم الواقع، وكان التحول إلى مورِّد آخر سيستغرق على الأقل ثمانية عشر شهرًا. والحقيقة أن الطاقة الإنتاجية الطباعية الضيقة في برلين وقفتْ في طريق تغيير شركة طباعة النقد، وهو الأمر الذي كانت ترجوه المطبعة الاتحادية في الواقع منذ سنين. كان لا بد أن يُقرَّ البنك الاتحادي أيضًا بأن برنامجًا هائلًا لتخفيض التكلفة استُحدث في ميونخ في إطار إعادة تنظيم بِك لقسمَيِ الورق وطباعة النقد. بموجب هذا البرنامج، كانت أوراق المارك المطبوعة في ميونخ تتكلَّف في نهاية تسعينيات القرن العشرين أقل مما كانت تتكلَّفه في بداية العقد، على الرغم من الارتفاع في تكاليف الأجور والتضخم في تلك الأثناء. كان البنك الاتحادي قد تهيَّأ أخيرًا لإصدار بيان عام أكَّد فيه رغبته في الحفاظ على روابط العمل التي تربطه بجيزيكه أوند ديفريَنت.15 ساعد هذا التصريح بدرجةٍ كبيرة في استقرار الأمور محليًّا وفي الخارج، ووَأَدَ تطوُّرًا، كان يمكن أن يكون خطيرًا، في مهْدِه. كان خطر فقدان نشاط أعمال المارك الألماني قد استُبعد. لكن تحت ضغط من البنك الاتحادي، اضطر أوتو إلى تسليم حصته بأكملها في جيزيكه أوند ديفريَنت إلى أحد الأوصياء، وإلى الانسحاب من العمليات بالكلية. اكتمل الانفصال بين الإدارة ورأس المال في الجيل السابع من العائلة المؤسسة، وإنْ كان ذلك بثمن كبير. مات سيجفريد أوتو بعد ذلك بفترة قصيرة، ووَرِثت الشركة العائلية بالتساوي ابنتاه، فيرينا فون مِتشِكِه-كولاندِه وشقيقتها كلوديا مِلر، اللتان كانتا تعيشان في نيويورك. في السنة نفسِها أَخلَى إندرِس منصب رئاسة المجلس الإشرافي. كان زمن دويتشه بنك قد انتهى.
في التعامل مع الأزمة التي تخص سِكيوريتي برنتِنج، وبالتزامن مع التغيُّر الدراماتيكي في السلطة داخل جيزيكه أوند ديفريَنت، أُنحِي باللائمة على أطراف خارجية. يبدو أنه كان يفترض أن يحوِّل هذا الانتباه عن السبب الفعلي للهزيمة، وأنْ يَحمِيَ اسمَ العائلة. طبيعي بالنسبة إلى شركة صناعية أن تتعامل من خلال منشأة تجارية، هذا إذا تجاهل المرء قضية الضرائب تحديدًا في هذه الحالة. كانت أزمة سِكيوريتي برنتِنج في الواقع تتعلَّق بحقيقة أنَّ المالك الرئيسي للشركة العائلية، سيجفريد أوتو، كان قد تعمَّد لسنوات إيراد تفاصيل منقوصة في إقراره الضريبي عن دخله الشخصي، بل وأكَّد هذه التزويرات خطيًّا.16 جاء في مذكرة للشركة أن أوتو أقرَّ بأن اللائمة تقع عليه أمام السلطة المالية في يونيو من عام ١٩٩٣م من أجْل تسوية التزاماته الضريبية الشخصية تجنُّبًا لتوريط الشركة في هذا الأمر. رَوَتْ مجلة دير شبيجل البقية: لم يُقرَّ أوتو طواعيةً بأنه الملوم، متجنِّبًا بالتالي العقاب، حتى هددتْ زوجته الأولى وبعض أولاده بالعمل على توجيه اتهام رسمي إليه في النزاع العائلي السالف الذكر. كان هذا الاتهام سيتعرَّض إلى مسألة مِلكيته لشركة سِكيوريتي برنتِنج.17 كانت سِكيوريتي برنتِنج «مملوكة بالكامل له منذ سنوات» كما أشارت التقارير.18 وأشارت تقديرات غير علنية إلى أن أوتو اضطر إلى دفع ١٣٥ مليون مارك كمتأخرات ضريبية متراكمة. نظر إندرِس، رئيس المجلس الإشرافي آنذاك، فيما إذا كان يتعيَّن بيع بابييرفابريك لويزنتال أم لا، ثم جُمِع المال بدلًا من ذلك من الشركة وشركاتها التابعة من خلال توزيعات أرباح استثنائية، ودخلتْ سِكيوريتي برنتِنج مرحلة التصفية.
برز هذا الموضوع برمته — وكان قد نُسي منذ زمن طويل — إلى السطح من جديد عشيَّة احتفال الشركة عام ٢٠٠٢م، عندما طلب الابنان فجأةً وعلانيةً من الشقيقتين زيادةً ضخمة في تسويتهما، بزعم أن الشركة قُيِّمتْ تقييمًا خاطئًا.19 كان هناك اتهامٌ بأن مصلحة الضرائب أخلت سبيل أوتو بسهولة كبيرة جدًّا. كان هذا الاتهام مخفيًّا بين السطور في تقريرين صحفيين سريين، لكنه كان واضحًا وجليًّا بالنسبة إلى المطلعين على الموضوع. كان هناك أيضًا إيعاز بأن البنك الاتحادي ربما ما زالت لديه مطالبات غير محسومة لاستردادها من جيزيكه أوند ديفريَنت بمئات الملايين نظير تضخيم الفواتير. المسائل الضريبية المرتبطة بسِكيوريتي برنتِنج — كما أوضحنا — كانت قد لعبت دورًا محوريًّا في قطع الأب علاقته بابنَيْه. كان هانز-كرِستوف فون مِتشِكِه-كولاندِه، زوج فيرينا، التي كانت عضوًا في مجلس جيزيكه أوند ديفريَنت قبل وقوع هذه الأحداث، قد قال إن القضية الضريبية لم تُسوَّ بعدُ. وبحسب قوله، فإن الشركة واصلت دفع جزاءات فيما يتصل بقضية الاحتيال الضريبي لسِكيوريتي برنتِنج. إذا كان هذا صحيحًا، فلماذا إذن كانت العائلة ترتعد من جديد؟ على أيِّ حال، لم تُبالِ السلطة المالية في بافاريا والبنك الاتحادي بالمسألة. وبفضل النهج الدعائي البارع الذي تتبعه الشركة، سرعان ما فقدتْ وسائل الإعلام اهتمامها بتجدُّد النزاع العائلي. لكنَّ الموضوع لم يُدفَن. وللأسف فإن يورك هو مَن يواصل التذكرة به، بإصرار وعناد ملحوظَيْن. يمكن أن يفترض المرء أنه يسعى إلى تحقيق هدف أكثر طموحًا بكثير من مجرد زيادة قيمة تسويته.

السعي إلى القيادة التكنولوجية

كانت شركات أخرى كثيرة ستتضرَّر من هذه الأعباء المالية والنفسية. ومما يخبرنا بشيء عن دينامية جيزيكه أوند ديفريَنت وموظفيها أن الشركة شهدت طفرة ملحوظة في هذه السنوات المضطربة ذاتها. كان أوتو قد اتَّبع الشدة في إدارة هذه الشركة الموسعة كما لو أنها ما زالت ورشة صناعية كبيرة. إن إعادة تنظيم الشركة على هيئة أقسام أعمال أعطاها أخيرًا هيكلًا داخليًّا ملائمًا، وعلى الرغم من تزامن هذا مع ذروة أزمة الشركة، فإنه أرخى العنان لمحفِّزات النمو، التي وُجهت عن قصد إلى الأعمال الأجنبية. استطاعت جيزيكه أوند ديفريَنت، بالدرجة الأولى من خلال النمو العضوي (ذلك النمو الذي يتحقَّق عن طريق نمو قاعدة عملاء الشركة وإنتاجيتها ومبيعاتها مقارنةً بالنوع الآخر من النمو الذي يتم عن طريق الاستحواذ)، مضاعفة مبيعاتها إلى أكثر من مليار يورو بين عامَيْ ١٩٩٤ و٢٠٠٢م. كان جزء من ذلك فقط يُعزَى إلى انتعاش اليورو. في تسعينيات القرن العشرين مثلًا، كانت شركة ميونخ تُحصِي بالكاد اثني عشر بلدًا كعملاء لها في مجال طباعة النقد للتصدير، أما في تلك الأثناء، فكانت الشركة تطبع نقدًا لأكثر من ٨٠ بلدًا، وكان مصنع لويزنتال يورِّد ورق إنتاج نقد لنحو ١٠٠ بلد. وبطاقة إنتاج ورق مقدارها ١٦٥٠٠ طن متري سنويًّا، وطاقة إنتاجية طباعية تبلغ نحو ٤ مليارات ورقة نقد، كانت الشركة تَلِي دي لا رو مباشرةً، ولا يحتلُّ البريطانيون صدارة واضحة في المبيعات إلا في نشاطهم في مجال أنظمة الدفع.

لكن التغلُّب على معوِّقات الإنتاج في نشاط الطباعة كان شرطًا مسبقًا لأي توسع في الخارج. كبداية، رُكِّزت عملية طباعة أوراق النقد في ميونخ في إطار بناء مقر جديد للشركة في بداية تسعينيات القرن العشرين. تجاوز هذا المشروع الباهظ التكلفة بلا داعٍ، الذي كان لا يزال تحت إشراف الابن يورك، كل توقعات التكاليف؛ إذ ابتلع المبنى الجديد الكائن في منطقة حضرية باهظة التكلفة عدة مئات من ملايين الماركات؛ مما جعل منه عبءَ تكلفة دائمًا على الشركة. كان تركيز نشاط الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة كله في موقع مصنع الورق التابع للشركة المطل على تيجرنسي سيكون منطقيًّا بدرجة أكبر، من حيث التكاليف، ومن حيث الاعتبارات الأمنية المادية على السواء. لكن المطبعة الجديدة في وسط ميونخ زادت الطاقة الإنتاجية الطباعية بدرجة كبيرة. ثم اشتُريت بابييرفابريك كونِجشتاين في ساكسونيا، تَلَتْها فِرتبابييردروك في ليبزيج، التي حُصل عليها من صندوق إعادة الإعمار الاتحادي. توصَّل فِستفال، مدير جيزيكه أوند ديفريَنت الفني السابق الذي عاين هذه المطبعة الشرقية، إلى نتيجة إيجابية في تقريره، الذي أورد فيه أن شركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة هذه يوجد لديها حتى خط آلات طباعة من كوباو-جوري، بالإضافة إلى بعض أجهزة كمبيوتر آي بي إم، اشتُريت بالالتفاف على قائمة حظر لجنة كوكوم (لجنة التنسيق لمراقبة التصدير الاستراتيجي المتعددة الأطراف). لكن أوتو شرع في الاستحواذ من جديد على المقر التاريخي لجيزيكه أوند ديفريَنت دون إبداء أي مشاعر. لم تستحقَّ العملية إلا زيارة واحدة منه، وقال شاكيًا إنه يُنتظر منه أن يشتري شيئًا طالما كان ملكًا له. لكن إقناع بِك أوتو بشراء مصنع الورق القديم كان أصعب. كان يُفترض في المقام الأول أن تُحبِط هذه الصفقة عملية استحواذ من جانب دي لا رو-بورتالز أو في إتش بي الهولندية، وكلتاهما كانتا قد أبدتا اهتمامًا بالمطبعة ومصنع الورق. كانت كلتا الشركتين الشرقيتين مسعرتين تسعيرًا معقولًا، وكانت القوة العاملة الألمانية الشرقية تجمع بين المهارة والحماس للعمل. كانت كلتا الشركتين قد أظهرتا قدرتهما لمواطني ألمانيا الشرقية المنهارة فيما يتعلَّق بالدعم المالي الذي قدَّمته الحكومة الاتحادية بمناسبة توحيد ألمانيا. كان هذا النقد يوزَّع على هيئة أوراق فئة ٥ ماركات، وكان الطلب منخفضًا عليها في ألمانيا الغربية ومن ثم كان المطبوع منها قليل، فطلب البنك الاتحادي من شركة طباعة السندات المالية الكائنة في ليبزيج طباعة ٥٠ مليون ورقة من هذه الفئة. كانت كلتا الشركتين بالطبع تحتاجان إلى تحديث بتكلفة معتبرة، وكان يلزم إجراء تنظيف بيئي في مصنع الورق، الذي لم يُسعَ فيه إلى تحقيق زيادة إضافية في طاقة الإنتاج فحسب، بل إلى مزيد من المرونة في الإنتاج أيضًا. لكن في النهاية صارت كلتاهما مثالين نادرين على عملية شراء شركات في الولايات الشرقية الجديدة تتمخَّض عن خلق فرص عمل مستقرة. المدهش أنه حتى التعاون مع إرمجارد أورليش، مديرة مطبعة ليبزيج، تطوَّر على نحو مؤاتٍ، بعد أن كانت المديرة، التي تدرَّجت في السُّلم المهني، موضع شك كبير في ميونخ في البداية.

تحقَّقت خطوة إضافية على الطريق إلى توسيع الطاقة الإنتاجية في ١٩٩٩م بالاستيلاء على برِتِش أمريكان بنكنوت المنكوبة الكائنة في أوتاوا الكندية، فكانت أول قاعدة خارجية لطبع النقد تملكها شركة ميونخ على الإطلاق. تطبع برِتِش أمريكان بنكنوت — التي حُدِّثت الآن — نصف نقد كندا، وتنتج بطاقات للبنوك الكندية، وتوفِّر مقر طباعة أقل عرضة لتقلبات الصرف الأجنبي داخل النافتا (اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية). كان هذا للمصادفة آخِرَ مشروع يتولَّاه بِك؛ حيث تقاعد في نهاية عام ١٩٩٩م، بعد نحو ٥٠ سنة قضاها في الشركة، تاركًا إدارة جيزيكه أوند ديفريَنت وبابييرفابريك لويزنتال. كان قد ترك بصمةً لا تُمحَى على الشركة المتوسِّعة في أزمنة الرخاء والشدة، وقد حيَّاه بيان رسمي على «إنجازاته العظيمة للشركة». لكن توسيع الطاقة الإنتاجية تَوَاصَل بعد رحيله ببناء مصنع للأشرطة الرقيقة في مقر بابييرفابريك لويزنتال وإنشاء مطبعة نقد في كوالالمبور، وهو مشروع كانت قد حاولت دي لا رو منعه بكل السبل على مرِّ سنوات طوال. بدأ تشغيل المصنع في نهاية عام ٢٠٠٣م كمشروع مشترك بين جيزيكه أوند ديفريَنت وفيما كوربوريشن بيرهاد كوالالمبور، أكبر شركة طباعة ماليزية مُؤَمَّنة. تملك جيزيكه أوند ديفريَنت حصةَ أغلبية في رأس المال بنسبة ٧٠ في المائة، وهي مسئولة عن الإدارة الفنية. غير أن البنك المركزي الماليزي لم يقدِّم ضمانًا للشراء من هذه الشركة. وفيما يمدِّد تصنيع الأشرطة الرقيقة الذي سبق أن ذكرناه سلسلةَ القيمة المضافة في إنتاج أوراق النقد ويزيد الاستقلال فيه، فإن مشروع الطباعة في ماليزيا يُتيح ميزة الأجور التي تقلُّ كثيرًا عن مستويات الأجور في ألمانيا.

بآلات مستعمَلة ومجدَّدة من كوينج أوند باور، نجح انخراط جيزيكه أوند ديفريَنت في ماليزيا إلى حدٍّ فاق التوقعات حتى الآن، على الرغم من أنه ما زال يفتقر إلى عقد حصري مع بنك نيجارا ماليزيا، ويطبع حاليًّا أقل من نصف ما تحتاجه ماليزيا سنويًّا من أوراق النقد، الذي يقدَّر بمليار ورقة نقد. في صيف عام ٢٠٠٥م، أعلنت مطبعة النقد أنها تعمل بكامل طاقتها الطباعية بفضل قوة الطلب على الصادرات، وأضاف بيان الشركة أنه من المخطَّط له مضاعفة الطاقة الإنتاجية إلى مليارَيْ ورقة نقد سنويًّا على المدى المتوسط. من الواضح أن هذا الإعلان كان تلميحًا ذكيًّا إلى البنك المركزي الماليزي بأن الطاقة الإنتاجية التي تُغطِّي متطلباته من أوراق النقد ستكون دائمًا محجوزة له على الرغم من الإنتاج المتزايد لأغراض التصدير، المرتبط على الأرجح بنقل عقود طباعة النقد من قواعد ذات هياكل تكلفة أقل ملاءمة. لكن شركات طباعة النقد الأخرى مهتمة أيضًا بماليزيا. فماليزيا ليست فقط صاحبة المركز الثاني عشر على قائمة صندوق النقد الدولي للبلدان الأشد تنافسيةً، بل يُتيح هذا البلد الجنوب شرق أسيوي الشديد القومية بسكانه البالغ عددهم ٢٣ مليون نسمة سوقًا محلية جذَّابة بفضل سياسته الاقتصادية المؤاتية. ويريد اتحاد شركات هولندي ماليزي تقدِّم له المشورة سكيورا موند إنترناشونال البريطانية بناءَ مطبعة ثانية ذات تدابير أمنية صارمة في ماليزيا، تتولى فيها شركة إنسخيده الاستشارات الفنية. سيأخذ الهولنديون في البداية نسبة ٥ في المائة، وقد تزيد حصتهم إلى ١٥ في المائة فيما بعد، وتسيطر على بقية رأس المال مجموعة فوكَسْ إكويتي الماليزية. يُفترض أن تجهَّز مطبعة النقد هذه بآلات حديثة من كيه بي إيه. الطاقة الإنتاجية المستهدَفة هي ١٫٨ مليار ورقة نقد سنويًّا، وسيبلغ إجمالي التكلفة نحو ١٠٠ مليون جنيه بريطاني. من المقرَّر أن تبدأ المطبعة عملها في يناير عام ٢٠٠٧م. وينوي المستثمرون ألا يكتفوا بإنتاج كل أوراق النقد لصالح بنك نيجارا، ولكنهم ينوون أيضًا خدمة أسواق التصدير، ولا سيما في البلدان المُسْلِمة. ومن الواضح أن اتحاد الشركات يعتمد على نفوذ الساسة المحليين لجعل البنك المركزي يُصدر التصريح المطلوب. وقد وُقِّعت مذكرة تفاهم بين الشركاء في حفل حضره رئيس وزراء ماليزيا. لكن على النقيض من البيان ذي الصلة الصادر عن مجموعة فوكس، لا توجد طلبيَّة آلات أُبرمت بعدُ مع كيه بي إيه لصالح ماليزيا أو من ماليزيا. كما دخلت شركة فورتسبورج لسنوات طويلة في محادثات مع الماليزيين بشأن المشروع، لكن دون نجاح حتى الآن. سيكون في الحقيقة تطورًا مذهلًا في هذا العالم المنيع لطباعة النقد ذي التدابير الأمنية الصارمة إذا اعتمد بنك مركزي مجموعة مجهولة الهوية من المستثمرين لشراء آلات الطباعة هذه الخاضعة لرقابة صارمة.

هناك مزيد من المتاعب في الطريق إلى جيزيكه أوند ديفريَنت؛ إذ تتردد أيضًا أقاويل في كوالالمبور عن اتحاد شركات ماليزي آخر يخطِّط لبناء مصنع للورق المُؤَمَّن. ويبدو أن المشروع يشتمل على بناء مصنع ورقٍ بطاقة إنتاجية نهائية مقدارها ٦٠٠٠ طن متري من ورق إنتاج النقد سنويًّا. ستبتلع الآلات والأعمال الفنية وحدهما ١٠٠ مليون يورو فوق تكاليف الأبنية والأرض. وبما أن هذه الطاقة الإنتاجية الهائلة تتجاوز متطلبات ماليزيا بكثير، يأمل اتحاد الشركات بيع جزء من ورقه في السوق العالمية. سيكون بنك الاحتياطي الهندي عميلًا محتمَلًا؛ إذ تُغطِّي الهند إلى الآن احتياجاتها الهائلة من الواردات بتوريدات من لويزنتال وبورتالز في الأغلب. وفيما يبدو أن الحصول على الموافقة المطلوبة من وزارة المالية والبنك المركزي الماليزيين لا يمثل مشكلة.

كلا المصنعين، إذا أقيما، لن يضعا جيزيكه أوند ديفريَنت بين شقَّيْ رحًى فحسب، بل سيؤديان إلى تفاقم الطاقة الزائدة على نحوٍ مزمن في السوق العالمية للورق المُؤَمَّن وطباعة النقد. ومن خلال مزايا التكاليف التي يُتيحها هذان المشروعان، ربما يُؤذنان ببداية النهاية لطباعة النقد الخاصة في أوروبا.

نعود مجددًا إلى فترة تسعينيات القرن العشرين المضطربة. في أوج الأزمة، أُتي بهِلمر دوخ، رئيس مجلس إدارة هايدلبرجر دروكماشينِن السابق، لتولِّي منصب جديد مؤقت هو رئيس إدارة الأعمال. صاحبت هذا اللقب سُلطة هائلة ومهمةٌ صعبة تتمثَّل في تهدئة القوة العاملة الغاضبة. نجح دوخ، الذي اتسم بشخصية الأب الحنون، في هذه المهمة خلال السنوات الثلاث التي قضاها في هذا المنصب، وإنْ وَاجَهَ صعوبات في ذلك. لم تكن مهمته استعراض الاتجاه الاستراتيجي للمطبعة ذات التدابير الأمنية الصارمة بعد رحيل أوتو سيجفريد، بل كانت هذه مهمة فِلي بِرختولد، الذي حلَّ محل دوخ في نهاية عام ١٩٩٨م رئيسًا لإدارة الأعمال في جيزيكه أوند ديفريَنت. لكن بِرختولد لم يكن المرشح المفضل؛ إذ كان هناك شخص آخر مؤهل سيحظى بتفضيل المالكتين، لكنه في واقع الأمر طلب مبلغًا كبيرًا لتولي هذه المهمة الصعبة من الوريثتين. كانت آخر وظيفة شغلها بِرختولد هي مدير أعمال آي بي إم دويتشلاند إنفورميشن سِستمز، ومدير عام خدماتها في البلدان الناطقة بالألمانية وفي روسيا وفي جميع أنحاء أوروبا الوسطى والشرقية. كانت قد شكَّلتْه حياته المهنية الطويلة في الشركة الأمريكية المتعددة الجنسيات، وكان يدرك أن مجيئه إلى ميونخ أمارةُ تَغيُّر ثقافي بالنسبة إلى الشركة؛ إذ كان المفترض أن الأداء، لا التراث، هو ما يهم مُذ ذاك فصاعدًا. جمع بِرختولد الأقسام المستقلة نسبيًّا في «منظومتين» تحت قيادة شديدة المركزية من جديد. بالإضافة إلى الورق والخصائص الأمنية والطباعة، اشتملت «منظومة أوراق النقد» أيضًا على معالجة أوراق النقد وإعدامها. وفي «منظومة البطاقات»، تم التركيز على كل أنشطة قسم البطاقات بما في ذلك أجهزة القراءة والضبط الشخصي الخاصة بها. شرع بِرختولد في تعزيز البحوث والتطوير بزيادة النفقات المخصصة لهما، إلى نحو ٨ في المائة من مبيعات المجموعة في بعض الأحيان. وفي ميونخ بَنَى مركزًا جديدًا للتكنولوجيا يعمل به الآن أكثر من ٤٥٠ فنيًّا. تحقِّق المنظومتان (أوراق النقد والبطاقات) حاليًّا حجم الأعمال ذاته تقريبًا، وتتلقَّى كلٌّ منهما نصف الأموال المخصَّصة للبحوث والتطوير. كان هدف بِرختولد المعلَن أن يجعل جيزيكه أوند ديفريَنت القائد التكنولوجي للمنتجات المُؤَمَّنة تأمينًا صارمًا، وأن يُعيد بناء الشركة، التي كانت دائمًا معنيَّة بالمنتجات، كمورِّد أنظمة كاملة لأوراق النقد والبطاقات، وكمورِّد للمعلومات والخبرة اللازمتين لتشغيلها. كان يفترض أن تصبح جيزيكه أوند ديفريَنت مزوِّد خدمة، وهو شيء كان مألوفًا منذ زمن طويل في قطاع تكنولوجيا المعلومات.

على النقيض من أيام المارك الألماني، لم تَعُدْ جيزيكه أوند ديفريَنت بحاجة إلى طباعة اليورو التي يسندها إليها البنك الاتحادي لكي تستغل الجزء الشاغر من طاقتها الإنتاجية الطباعية؛ إذ تحوَّل الاهتمام الآن إلى المتطلبات المتزايدة للأمن الطباعي والمادي فيما يتصل باستشراف إمكانية أن يُصبح اليورو قائدًا عالميًّا بين أوراق النقد فيما يتعلَّق بالنواحي الأمنية. في قسم أوراق النقد، انصبَّ التركيز في مجال البحوث على تحسين مستوى الحماية ضد التزييف، ويُسعَى إلى ذلك بخصائص أمنية جديدة ثلاثية الأبعاد أو متغيرة بصريًّا، وكذلك بتطوير أنواع ورق ذات عُمر استخدامٍ أطول. كما يُحال دون إحلال محتمَل للبلاستيك محل ورق إنتاج النقد التقليدي المصنوع من القطن؛ حيث طوَّر مصنع لويزنتال بدلًا من ذلك نوعَيْن من الورق يُقاومان الاتساخ والرطوبة بفضل طبقة سطحية خاصة؛ إذ إن الاتساخ والتلف المادي هما السببان الرئيسيان للاضطرار إلى سحب أوراق النقد من التداول قبل الأوان وإعدامها. بالإضافة إلى ذلك، يُطمَر شريط شفاف من البوليستر في كلتا الحافتين الطويلتين من ورقة النقد ليحميها من التمزق. هذه الطبقة السطحية التي توضع على ورقة النقد ليست جديدة، لكن استخدامها يواجه صعوبات متكرِّرة؛ حيث كانت السبب في مشكلة بنك إنجلترا فيما يتعلَّق بزوال الحبر من فوق ورقته فئة ٥ جنيهات استرلينية. في الصراع ضد المزيفين، تريد جيزيكه أوند ديفريَنت استحداث خاصية أمنية جديدة لأوراق النقد في كل اجتماع من الاجتماعات السنوية القادمة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذا هدف طموح بالنسبة إلى باحثي الشركة؛ لأن المنافسين ليسوا نائمين، ويمكن بسهولة أن يدفع هذا الناس إلى تطوير تقنيات جديدة من تقنيات قديمة.

أجبر التشبُّع السوقي في قطاع أعمال أنظمة معالَجة النقد لصالح البنوك المركزية جيزيكه أوند ديفريَنت على إعادة التفكير في استراتيجيتها في هذا المضمار أيضًا. فلتكملة أعمال البنوك المركزية، تُقدِّم الشركة على نحو متزايد أنظمة المعالجة التي تنتجها لصالح البنوك التجارية وكازينوهات القمار والمتاجر المتعددة الأقسام وسلاسل أسواق الأغذية وشركات نقل الأموال؛ حيث تم تمديد خط الأنظمة ليتوافق مع متطلبات هذه الجهات. في غضون ذلك، طُرح في السوق أول جهاز معالجة نقد كامل الوظائف مصمَّم ليوضع على سطح المكتب. يرى رجال ميونخ أنفسَهم في صدارة إعادة التدوير المباشِرة للنقد بفضل ما تراكم لديهم من معرفة بالعمليات على مدى عقود، كما يريدون دمج عمل «مكتب الدعم الإداري» في عمليات معالجة النقد المُؤَتْمَتة التي يوفِّرونها. اختُبر النظام في تجربة ميدانية في متجر ألماني كبير متعدد الأقسام؛ حيث وضع أمناء الصناديق متحصلات يومهم في الجهاز، الذي قام بِعَدِّ النقدية وفحصها وفرزها وترزيمها في عُلبة مُؤَمَّنة، ونظرًا لاتصاله بدورة إمساك الدفاتر بالمتجر، فإنه يسجِّل أيضًا حتى الرصيد الموجود في الحساب ويرسل رسالة إلى خدمة السيارات المصفَّحة عندما تكون العُلبة الممتلئة جاهزة للنقل، وبهذا يُنقل المال على فترات غير منتظمة؛ مما يمثل حماية فعالة من السرقة والسطو المسلح. وعلى الرغم من كِبَر سوق هذا النوع من الأعمال، فإنه لا يزال في طور المهد. تولَّت جيزيكه أوند ديفريَنت عملية معالجة النقد بأكملها لمكاتب فروع بنك هيبوفِراينزبنك في ميونخ، بما في ذلك آلات الصرَّاف الآلي المائتان التابعة له في المدينة. على الرغم من تطور نشاط معالجة النقد بحذر شديد محليًّا، نجحت جيزيكه أوند ديفريَنت في ترسيخ أقدامها في هذه الخدمات الجديدة في دبي والمغرب وجنوب أفريقيا. وسيكون على مزوِّدي الخدمة الجديدة، لتحقيق اختراق حقيقي، أنْ يُبَرهِنوا على أنها تعمل بالقدْر نفسِه من الموثوقية الذي يريده عملاؤهم، وليس هذا فحسب، بل لا بد للنظام أيضًا أن يكون أرخص كثيرًا؛ مما قد يجبر جيزيكه أوند ديفريَنت على التخلي عن هوامش الربح العالية التي كانت ذات يوم هي القاعدة في أعمال أنظمة معالجة أوراق النقد. وسيكون عليها أن تبيع عددًا كبيرًا من أجهزة المعالجة الصغيرة لكي تضاهي إيرادات نظام واحد عالي الأداء؛ حيث يتكلَّف أصغر جهاز معالجة ١٢ ألف يورو، فيما تدرُّ النسخة الأكثر تطورًا من نظام المعالجة ٢٠٠٠ / ٣٠٠٠، والمصممة للمطابع والبنوك المركزية، ٤ ملايين يورو.

حاليًّا يمثِّل نشاط الأعمال المستقر والمربح في طبع النقود وورق إنتاجها، العمودَ الفقري لجيزيكه أوند ديفريَنت. فمِن هنا تأتي إيرادات الشركة. كان هناك تعيينان يُفترض أنْ يساعدا شركة ميونخ الخاصة لطباعة النقد على لعب دور قيادي في هذه الأعمال فيما بعدُ؛ إذ استُقطب فِم دويزِنبِرج، رئيس البنك المركزي الأوروبي سابقًا — الذي تُوفِّي مؤخرًا — لشغل عضوية المجلس الاستشاري للشئون الاستراتيجية بالشركة، كما عُيِّن بيتر فولتر، الذي سبق له تولي إدارة الخزانة المركزية للبنك الاتحادي الألماني وشارك في تخطيط الإصدار التالي من اليورو حتى بعد تقاعده، ليكون ضمن هذه الهيئة. لكن بِرختولد كان منهمكًا في ركيزته الثانية — «منظومة البطاقات» — وبطاقة الذاكرة والنسخة المتقدمة من البطاقة ذات المعالج. تُعَدُّ البطاقة ذات المعالج، بقدرتها الحاسوبية المتضمَّنة في وحدة معالجة مركزية، والمعروفة أيضًا بالبطاقة الذكية، من بين المنتجات القليلة التي ما زالت أوروبا سابقةً تكنولوجيًّا فيها بشكل واضح على الولايات المتحدة. رأى فيها بِرختولد تحديًا حقيقيًّا وأنها تمثِّل مستقبلَ الشركة ذات التدابير الأمنية الصارمة التي يقودها. اتضح هذا المسعى تحديدًا من خلال الزيادة التي شهدها الإنفاق البحثي ذو الصلة من مجرد ٢ في المائة من نفقات الشركة المخصَّصة لقطاع البطاقات أثناء فترة بِرختولد إلى أكثر من ٥٠ في المائة. كانت الجهود المالية ملحوظة، والخبرة الفنية عالية. لكن وضع أعمال البطاقات يختلف اختلافًا جذريًّا عن أعمال أوراق النقد، التي استطاعت جيزيكه أوند ديفريَنت أن تخلق لنفسها فيها مكانةً فريدة في السوق العالمية كمزوِّد أنظمة لكل شيء؛ من الورق وطبع النقد إلى أنظمة المعالجة وحتى فرَّامات الورق، وصار لها القول الفصل في الأسعار السوقية. أما إذا ما كان يمكنها تحقيق المكانة ذاتها في مجال البطاقات، فأقل ما يُقال إن هذا محل شك.

وفقًا لتقديرات قطاع النقد، أُنتج ٢٫٢٦٤ مليار بطاقة ذكية مزوَّدة بشريحة حول العالم بقيمة نحو ٣ مليارات يورو في عام ٢٠٠٤م. تضمَّن ذلك الحجم ١٫٤١ مليار بطاقة بمعالج دقيق. ويقود الفرنسيون السوق العالمية في هذا المضمار؛ حيث تسيطر الشركتان الفرنسيتان جيمبلوس — التي تصدَّرت عناوين الأخبار بفضل محاولة استحواذ أمريكية — وأكسالتو (شلومبِرجر سابقًا) على حصتين سوقيتين تتراوحان بين ٢٥ في المائة و٣٠ في المائة لكلٍّ منهما. جاءت بعدهما جيزيكه أوند ديفريَنت بنحو ١٧ في المائة من السوق. وحلَّت الشركة الفرنسية أوبرتور كارد سِستمز في المركز الرابع.20 إن حصة سوقية بنسبة ٢٠ في المائة تُعتَبَر الكتلة الحرجة في هذا القطاع. ويميل المنافسون الفرنسيون أكثر إلى أعمال الحجم، فيما تركِّز جيزيكه أوند ديفريَنت على الشريحة الأكثر تحديًا من هذا القطاع والمتمثلة في بطاقات المعالجة بقدرتها الحاسوبية الذاتية. وينقسم هذا النشاط إلى الشرائح التالية: حركة المدفوعات، والشريحة التجارية والحكومية بما فيها تقديم الرعاية الصحية، والاتصالات.

إنها سوق تشهد منافسةً حامية. وتتضح صعوبة النشاط الذي تمارسه شركة ميونخ بقوة في أنظمة إثبات الهوية، كبطاقات الهوية وبطاقات الدخول؛ إذ تحتاج الشركة إلى مشروعات تستعرض من خلالها قدراتها، ولا يوجد بلد يريد أن يستخدم في بناء نظام هُويات وطني بعضَ المعايير التي قد يتبيَّن فيما بعد أنها غير متوافقة مع المعايير الدولية. وتشمل هذه المعايير إجراءات التشفير والخوارزميات والمقاييس الحيوية. وفي غياب معايير دولية لهذه التكنولوجيا، يتأخر التطور بفعل اختلافات الرأي الفنية والقانونية في مسألة خصائص التعرف على الهوية عن طريق المقاييس الحيوية، وتحديدًا بصمات الأصابع أو شكل الوجه أو القزحية. كما أنه يتأخر بفعل الاختلافات حول تأمين الرسائل الإلكترونية ونماذج الطلب بواسطة التوقيع الرقمي. يسير الأمريكيون في اتجاههم الخاص، مواجهين العالم بأعمال منجزة في أمور من قبيل اختيار بيانات المقاييس الحيوية في جواز سفر جديد مقترح. وما زال يصعب التكهن بما إذا كانت الصين ستوافق أم لا على التعاون الدولي في هذه التكنولوجيات الجوهرية، وإنْ فعلت فكم سيكون حجم هذا التعاون.

أول طلبية أجنبية تتلقاها جيزيكه أوند ديفريَنت في مجال بطاقات الهوية، وأعني «مشروع دلتا»، كانت مخيبة لآمال جميع المعنيين؛ حيث دعا استدراج العروض إلى بناء نظام لا مركزي لبنوك البيانات فيما يخص ٤٢ مليون مصري، وإصدار بطاقات ذكية مزودة بشريحة. فازت الشركة بالمناقصة في الجولة الثانية خلال منتصف تسعينيات القرن العشرين، لكن شركة ميونخ لم تكن مهيأة بشكل كافٍ بتكنولوجيتها. أضاف إلى الأعباء غياب البنية التحتية، بما في ذلك قنوات البيانات وبرمجيات بنوك البيانات، والإدارة العامة المثقلة بالضرائب في مصر، والصعوبات التي واجهت الأجهزة الأمنية المصرية في التعامل مع التكنولوجيا الجديدة. لم يتم الوفاء بالمواعيد الزمنية، وحصل انفجار في التكاليف. كان مشروع دلتا مشروعًا خاسرًا. اضطرت الشركة فيما بعد إلى سحب جهاز الليزر «لوكس»، المستخدم في المشروع للضبط الشخصي للبطاقات، من الإنتاج؛ نظرًا لارتفاع تكلفة التصنيع وصغر الحصة السوقية بشدة.

فيما يخص البطاقات المستخدمة في المدفوعات والاتصالات، يوجد لدى جيزيكه أوند ديفريَنت عملاء جذابون تربطها بهم عقود، من ضمنهم اتحاد بنوك الادخار الألماني ومركز تتبع العملاء التابع لدويتشه تليكوم لعموم أوروبا، الذي تديره الآن شركة ميونخ. لكن «جِلد كارته» — وهي بطاقة ذات قيمة مخزَّنة طوَّرتها شركة ميونخ كمحفظة نقود إلكترونية — لم تحقِّق رواجًا في السوق إلى الآن. وهناك مشروع آخر، وهو تطوير محطة طرفية للمدفوعات الإلكترونية، «زد ﭬﻲ تي ٩٠٠»، اضطرت الشركة إلى إيقافه بعد استثمار كبير فيه. ويعد توافر أجهزة الوصول بأعداد كافية من العوامل الحاسمة في نشر أنظمة الدفع باستخدام البطاقات. لكنْ مقارنةً بالمنافسين الإيطاليين والفرنسيين، كانت جيزيكه أوند ديفريَنت متأخرة أكثر مما ينبغي، وغالية أكثر مما ينبغي.

الحجم وحده ليس كافيًا في مجال أعمال أنظمة تحديد الهوية، وهو ما أثبتته فعليًّا حالة شركة تصنيع البطاقات الفنلندية سِتِك أُوي. كانت سِتِك، المملوكة الآن لشركة جيمبلوس، أول شركة تقدِّم لأوروبا نظام إثبات هوية بخصائص المقاييس الحيوية. لأسباب سياسية في المقام الأول، تعذَّر مثل هذا النجاح على شركة ميونخ. بل إن جيزيكه أوند ديفريَنت ليس لها نصيب في نشاط الأعمال المربح في جوازات السفر ذات خاصية المقاييس الحيوية والوثائق الثبوتية في ألمانيا، وهذا الإنتاج محجوز حصريًّا لشركة برلين بموجب عقد طويل الأجل بين وزارة الداخلية الاتحادية والمطبعة الاتحادية. لكن شركة ميونخ تمكَّنت من الحصول على عقود لتنفيذ العديد من المشروعات الأخرى في الخارج. حصل نصف مليون مواطن من مكاو الصينية على بطاقة شخصية بخصائص المقاييس الحيوية، من ضمنها صورة وبصمات لأصابع اليد العشر. كذلك فإن أربعة وعشرين مليون تايواني مجهزين ببطاقات تأمين صحي متعددة الوظائف، وهي أيضًا تشتمل على خصائص مقاييس حيوية. الثمانية ملايين بطاقة تأمين صحي النمساوية تأتي أيضًا من جيزيكه أوند ديفريَنت. وأخيرًا اتُّفق مع ليتوانيا على بناء مركز للضبط الشخصي لجوازات السفر وإثباتات الهوية. باستثناء تايوان والنمسا، كل هذه المشروعات متواضعة الحجم، لكن يمكنها على الأقل أن تكون بمنزلة أمثلة عملية مهمة لاستدراج العروض فيما بعد. تتجه أنظار شركة ميونخ الآن إلى تطبيق معايير النظام العالمي لاتصالات الهاتف المحمول في عموم أوروبا. غير أنه ما زال غير واضح هنا إلى أي مدًى سيولِّد هذا طلبًا إضافيًّا على بطاقات تعريف المشترِك. الآمال المعقودة على بطاقة التأمين الصحي الألمانية المخطَّط تطبيقها تُعتبر ملموسة بدرجة أكبر، ويمكن لجيزيكه أوند ديفريَنت أن تستفيد هنا من أزمة أورجا كارتِنسِستِمِه، الشركة التابعة للمطبعة الاتحادية سابقًا؛ إذ بيعت هذه الشركة الآن لشركة ساجِم، وهي شركة قابضة فرنسية تعمل في مجالَي الإلكترونيات والأسلحة.

هناك اتجاه آخر بدأ يتضح أيضًا في شركة ميونخ؛ إذ بدأت جيزيكه أوند ديفريَنت تدخل على نحو متزايد مجال أعمال البطاقات كمزوِّد أنظمة؛ حيث تشتري مكوناتها وتتسلَّم المسئولية من العميل عن أداء الأنظمة وظائفَها على النحو الملائم؛ مما يُتيح هوامش ربح أكبر. لكن جيزيكه أوند ديفريَنت ستظل على الأرجح معتمِدة على مصادر خارجية للحصول على تكنولوجيات جوهرية معينة، وهو ما ينطبق على بنوك البيانات وأنظمة الحوسبة، كما ينطبق أيضًا على المقاييس الحيوية، التي لا تملك لها شركة ميونخ أيَّ تكنولوجيا طوَّرتْها بنفسها ولا بد أن تشتريها من الغير. القيادة هنا تحتلها الشركة الفرنسية ساجِم، واليابانية إن إي سي، وسيمنس-إنفنيون، وكلها شركات ذات قوة سوقية معتبرة، ولا تستطيع جيزيكه أوند ديفريَنت أن تتفوَّق عليها في أيِّ مواجهة.

ربما ينطوي مجال أعمال البطاقات على إمكانية تحقيق نجاح كبير مستقبلًا، لكنه في الوقت الحالي يتطلَّب مجهودًا ماليًّا كبيرًا، وبالأخص لأن هذا قد يحتم استحواذات على شركات لتقوية الأساس التكنولوجي لشركة جيزيكه أوند ديفريَنت. من المرجح تمامًا أن يحدث مزيد من التركُّز بين اللاعبين الأوروبيين، وسيكون للاندماج المخطَّط بين جيمبلوس وأكسالتو لتكوين جيمالتو، الذي أعلن عنه في نهاية عام ٢٠٠٥م، أثر عميق على سوق البطاقات العالمية؛ إذ سيكون لدى جيمالتو حجم أعمال مقداره ١٫٨ مليار يورو، وحصة سوقية قدرها ٥٠ في المائة في المجال العالمي لأعمال البطاقات ذات الشريحة، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم نشاط جيزيكه أوند ديفريَنت في مجال أعمال البطاقات. لكن شركة ميونخ تعتقد أنها مسلَّحة لهذا التحدي، فالشركة فعليًّا خالية من الديون ولديها احتياطيات مالية لا بأس بها. أما كون هذه الاحتياطيات كافية على المدى الطويل للاضطلاع بمشروعات كبيرة في أنظمة إثبات الهوية ودفع الضمانات المالية المطلوبة أم لا، فغير معروف بعدُ. اتجهت أوبرتور كارد سِستمز وأكسالتو إلى البورصة للحصول على رأس مال. وقد نُصَّ في شركة ميونخ على الشروط القانونية لطرح أعمال البطاقات للاكتتاب العام في نهاية المطاف، وذلك بتكوين سِكارتِس إيه جي كشركة تابعة مملوكة بنسبة ١٠٠ في المائة. لكن سكارتس بيعت عندئذٍ لشركة سِكيونِت إيه جي في إيسن، وحصلت جيزيكه أوند ديفريَنت في المقابل على حصة بنسبة ٤٧ في المائة في هذه الشركة المدرجة في البورصة المتخصصة في برمجيات تكنولوجيا المعلومات. فهل ستتمكَّن جيزيكه أوند ديفريَنت من البقاء قائمة بذاتها أم أنها ستضطر في يوم من الأيام إلى الالتجاء إلى مموِّل دولي قوي؟

أعرب البنك الاتحادي فيما مضى مرارًا عن أمله في أن تطرح جيزيكه أوند ديفريَنت جزءًا من رأسمالها في البورصة، لكن فيرينا فون مِتشِكِه-كولاندِه تشعر بواجب تجاه إرث عائلتها؛ ومن ثم من المتوقع أن تظل شركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة تحت السيطرة الحصرية للعائلة، وقالت إن الإدراج في البورصة ليس ضروريًّا؛ لأن سوق رأسمال الائتمان مفتوحة الآن أمام الشركة. فيرينا هي الوحيدة بين الوريثتين التي تشغل مكانًا في المجلس الإشرافي، وتمثِّل كلتا المالكتين بمقعد وصوت في المجلس الاستشاري لاستراتيجية الشركة. ويزداد استمتاع الوريثة — وهي أم لعدة أبناء — بدورها بوصفها رائدة أعمال. تضاربات المصالح أو الاستراتيجيات، التي برزت في ظل ظروف مماثِلة في بِرتِلزمان إيه جي وشبرِنجر إيه جي، لا يمكن استبعادها هناك؛ ففي خريف عام ٢٠٠٤م، رحل بِرختولد عن جيزيكه أوند ديفريَنت بعد سنة واحدة من تجديد عقده لمدة أربع سنوات في مفاوضات صعبة. جاء رحيله المفاجئ هذا بعد تزايد حدة الاحتكاك بينه وبين فيرينا فون مِتشِكِه-كولاندِه؛ حيث أُشيع أن رئيسها التنفيذي بدأ يحصل على استقلالية أكثر مما ينبغي. ذكَّر هذا الرحيل المراقبين بحالة رادِماخر. ولا بد أن هذا الأمر كلَّف الشركة مبلغًا آخر ضخمًا؛ لأن بِرختولد تقاضى راتبه عن مدة عقده كاملة، فضلًا عن مستحقات تقاعده.

خَلَفَ كارستِن أوتِنبِرج بِرختولد بعد بقاء منصبه شاغرًا لفترة طويلة. جاء الفيزيائي الشاب من فيليبس إلكترونِكس. في هولندا، كان في البداية مسئولًا عن المبيعات في مجال أشباه الموصلات، ثم فيما بعد في قطاع المنتجات الاستهلاكية. واضح أن الرئيس التنفيذي الجديد سيعتني عناية خاصة بأعمال البطاقات في جيزيكه أوند ديفريَنت؛ فهذا القطاع يظل واعدًا ويتمتع بالأولوية، حتى وإن ظلَّت مساهمته في الإيرادات غير مُرضِية إلى حدٍّ بعيد حتى الآن. لقد حسَّنتِ الشركة قدرتها على تحقيق الإيرادات في مجالات الورق وطباعة النقد من خلال زيادات الإنتاجية وتغيير مقار الطباعة، لكن قطاع أعمال البطاقات يعاني من استمرار تموضعه في القاعدة الألمانية الكثيفة التكلفة في خضم ضغط سِعري متصاعد في الوقت نفسه. أثار ما أُعلن من استقالة فرانتس إم هانيل، الذي كان مسئولًا عن قطاع أعمال البطاقات، بالإضافة إلى رحيل رئيس إنتاج البطاقات التابع له، شائعات جديدة حول توترات شخصية واستراتيجيات متضاربة في شركة ميونخ. كان هانيل قد عمل لسنوات عديدة لدى مجموعة جيمبلوس الفرنسية للبطاقات واعتُبر مرشحًا لشغل الوظيفة العليا في جيزيكه أوند ديفريَنت.

جيزيكه أوند ديفريَنت شركة عالمية الآن، لكنها ما زالت تضيف ٧٠ في المائة من قيمتها في ألمانيا على الرغم من أن مبيعاتها المحلية لا تمثل إلا ١٥ في المائة من مبيعاتها الكلية. بسبب النقابات العمالية الشرسة تحديدًا، ستتطلَّب إدارة شركة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة هذه من أوتنبرج كثيرًا من الشجاعة والرؤية كرائد أعمال، كما ستتطلَّب درجة عالية من الدبلوماسية، ولا سيما في العلاقات الداخلية. إن شركة دي لا رو باعتبارها إحدى شركات طباعة النقد ذات التدابير الأمنية الصارمة والمدرَجة في البورصة ربما تكون واجهت مشكلات معينة بسبب شكلها القانوني، لكن المشكلات التي تواجهها شركة ميونخ العائلية لا تقل عنها، غير أنها مشكلات من نوع آخر. أما كون هذه المشكلات تمثِّل تحديًا أقل صعوبة أمام تطور جيزيكه أوند ديفريَنت على المدى الطويل، فهو ما ستكشف عنه الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤