الفصل الثامن

ما دفع المطبعة الاتحادية الألمانية إلى شفا الخراب

صار النشاط التجاري في المنتجات ذات التدابير الأمنية الصارمة صعبًا. انخفضتْ قيمة «رخصة طبْع النقود» انخفاضًا حادًّا، ومع ذلك فإن الحالة التي نحن بصدد الحديث عنها تستحق اهتمامًا خاصًّا. لقد خُصخصت مؤسسة حكومية محترمة مسلَّحة باحتياطيات كبيرة من السيولة ومزوَّدة بأحدث وحدة إنتاجية في العالم خلال الفترة المعنية. وفي غضون سنة وُجِّهتْ دفَّتُها إلى شفا الخراب بفعل الضجة الفارغة التي كانت تُثيرها حولَ نفسِها وغياب الرؤية والجشع. وكما خلصت مجلة مانِجَر ماجازين، فإنَّ هذه الحالة فريدة من نوعها في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب.1 لكن ربما يكون أشد ما يَشِين مِن بين الفضائح التي أحاطت بالمطبعة الاتحادية الألمانية الكائنة في برلين (بوندِسدروكراي) هو حالة اللامبالاة فيما يتعلق بهذه الدراما؛ إذ لم يشعر أحد بالذنب عند الالتفات إلى الأحداث التي مَضَتْ، ولم يكشف أحد من عالم الأعمال ولا السياسة حتى عن أقل القليل من التشكيك في الذات، فضلًا عن الشعور بالذنب. فهل المطبعة الاتحادية مرآة للجمهورية الاتحادية؟

على مدى ١٢٥ عامًا، أنتجتْ شركة برلين لطباعة النقد ذات التدابير الأمنية الصارمة أوراقَ النقد الألماني، ولها أن تفخر بهذا الماضي المتألق. كانت الشركة قد خرجت إلى الوجود عام ١٨٧٩م باسم رايخسدروكراي (مطبعة الرايخ) بمبادرة من رئيس هيئة البريد البروسيِّ هاينرِش فون شتيفان. كانت مطبعة الرايخ نتاج اندماج بين جِهايمه أوبرهوفبوخدروكراي فون دِكَر وكونِجلِش-برويسِشِه شتاتسدروكراي في برلين-كرويتزبرج. دُمِّرت معظم مطابعها ومكاتبها في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وبعد انتهاء الحرب، حُوِّلت إلى إدارة مدينة برلين باسم شتاتسدروكراي برلين (مطبعة برلين الحكومية)؛ لأنها للمصادفة كانت في الجزء الغربي من المدينة المقسَّمة. ثم انتقلت إلى حيازة الإدارة الاتحادية الألمانية الغربية عام ١٩٥١م، ومنذ ذلك الحين فصاعدًا عملتْ باسم بوندِسدروكراي (المطبعة الاتحادية)، متخذةً شعار جمهورية ألمانيا الاتحادية الجديدة. بعد ذلك بأربع سنوات، سُمح لها بطبْع أول نقد ألماني اتحادي، وهو الورقة فئة ٥ ماركات التي تَظهَر عليها صورة أوروبا على ظهر الثَّوْر. أتاحتْ شركة دي لا رو البريطانية، التي كانت تطبع هذه الأوراق لصالح بنك الولايات الألمانية، ألواحها الطباعية الأصلية لهذا الغرض. في نهاية ذلك العَقْد من الزمان، عَهِدَ البنك الاتحادي الألماني إلى مؤسسة برلين بطبع نصف أوراق المارك الألماني الجديد. وعندما استَعَرَتِ الحرب الباردة وأُقيم جدار برلين الحصين، تصاعدتِ المخاوف بشأن مستقبل الجزء الحر من المدينة. كان الجدار متاخمًا تمامًا لأرض المطبعة، وقد اعتُبر منيعًا، بل واستُخدم في إطار التأمين المادي للمطبعة من الخارج. اضطرت المطبعة الاتحادية، المطوَّقة تمامًا بأرضٍ شيوعية، إلى بناء قاعدة بديلة في نوي أيزِنبورج القريبة من فرانكفورت لأوراق المارك الألماني التي تطبعها. منذ ذلك الحين فصاعدًا، لم يكن يأتي من برلين إلا الأوراق فئة ١٠ ماركات، وكانت تُنقل من المدينة بالطائرة. بالمصادفة، استطاعت جيزيكه أوند ديفريَنت، الموكَّل إليها طبع النصف الآخر من أوراق المارك الألماني، تفادي رغبة البنك الاتحادي في إنشائها مطبعةً أخرى للمارك كإجراء احتياطي. بعد سقوط جدار برلين عام ١٩٨٩م، ركَّزت المطبعة الاتحادية على مؤسسة برلين في طبع الحصة المخصَّصة لها من أوراق المارك. في الوقت نفسِه، قرَّرت حكومة هلموت كول الائتلافية الليبرالية المحافِظة، المؤلَّفة من الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الحر، وضع ٤٩ في المائة من رأسمال المطبعة الاتحادية في أيدي القطاع الخاص في وقت لم يتمَّ تحديدُه بعدُ. كان تحويل الشركة الحكومية إلى شركة محدودة المسئولية بموجب القانون التجاري «يرسل إشارات تدلُّ على مستقبل في المنافسة الحرة» حسبما أعلن تقرير الأعمال عن السنة المالية المجزوءة ١٩٩٤م. كان يُفترض أن توسَّع منذ ذلك الحين فصاعدًا حدود صلاحيات المطبعة الحكومية في أفعالها، وأن تصبح أكثر استقلالًا في سياستها الاستثمارية. وعلى الرغم من ذلك فإن اللجنة المسئولة عن الموازنة بالبرلمان الألماني (بوندستاج)، انتقدت مرارًا محاولات المطبعة الاتحادية من حين إلى آخر الحصولَ على طلبيات تصدير؛ لأنَّ مطبعة برلين عرضتْ تلبية هذه الطلبيات بالتكاليف الحَدِّية. وما كانت المطبعة لتحصل على أيِّ فرصة بالتكلفة الكاملة. أغضبتْ هذه المحاولات شركة ميونخ الخاصة التي كانت تملك علاقات سياسية جيدة. كانت لجنة الموازنة ذاتها قد حبست عن المطبعة الحكومية المال اللازم لإقامة دائرة بحوث خاصة بها، قائلةً إن البحوث تُجرَى بالفعل في ميونخ، وطُلب من المطبعة الاتحادية وقف أيِّ أنشطة بحثية أخرى. كان يُفترض أيضًا أن تُحرَّر المطبعة من قيود تثبيت العاملين ومتطلبات الأجور التي تتسم بها الخدمة المدنية، وأن تُمنَح مرونةً أكبر في ضبط رواتب الإدارة العليا. وكانت المطبعة في طريقها نحو اقتصاد السوق الحر بحاجة إلى موظفين مؤهَّلين، وكان ذلك يتكلَّف أموالًا. وبما أن تقاعُد رئيس إدارة الأعمال الحالي روديجر بوك كان وشيكًا، عُين إرنست-تيودور مِنكه مديرَ عمليات، ثم بعد ذلك مديرَ أعمال. جاء مِنكِه من القطاع الخاص؛ حيث تولَّى مناصب في شركتي يونيلفر ودورنير.

بدأ «الانطلاق في سوق صعبة» — حسبما وصف تقرير أعمال عام ١٩٩٤م هذه الخطوة وصفًا دقيقًا — بعملية تجديد. على الرغم من أن مطبعة الرايخ كانت ذات يوم بمنزلة مطبعة النقد الحصرية لبنك الرايخ، وأنتجت أيضًا فيما بعدُ طوابع البريد وطوابع التمغة والوثائق الثبوتية للإمبراطورية، فإنها أُخضعت دائمًا لتبعية وزارة البريد، وظل الحال هكذا عندما سُلِّمت المطبعة إلى الحكومة الاتحادية؛ حيث وُضعت المطبعة الاتحادية تحت إشراف وزير البريد والاتصالات. كانت هذه الوزارة مؤسَّسة بيروقراطية صعبة المراس، وقد تشرَّبت منها المطبعة هذه الروح. وبالرغم من أن المطبعة لم تكن تشارك في أعمال البريد، فإنها زادت من أهمية وزارة البريد. وكانت رئاستها منصبًا يرمقه بيروقراطيو الوزارة المخضرمون، وكان الفكر البيروقراطي يضع أجندتها. كانت المطبعة الاتحادية تمثل وضعًا غريبًا، وهذا أقل ما يُقال. كانت القوة العاملة المتضخمة — ٤٤٠٠ فرد عام ١٩٩٠م — تتقاضَى أجورَها بأعلى من السلم النقابي ولا يمكن إقالتُها. كان أحد المسئولين بمجلس المطبعة يقود سيارة بورش، وفي الوقت نفسِه كانت هناك «خلية ثورية» ناشطة في المطبعة. كانت نسبة الأيام الضائعة بسبب الإجازات المرضية في المطبعة تفوق أيَّ منشأة صناعية أخرى في برلين. ولك أن تتخيَّل أن محاولةً لتحسين جودة الإدارة بعقد دورات للارتقاء المهني قادتْ مباشرة إلى أحضان طائفة الساينتولوجي؛ وهي طائفة يحظرها الدستور الألماني!

تمتعت منتجات المطبعة الاتحادية بسُمعة عالمية في الإجادة الفنية، بل وتفوقت شركة برلين على جيزيكه أوند ديفريَنت من بعض النواحي في صنع الألواح الطباعية، لكنها كانت مكلِّفة أكثر مما ينبغي. كان ارتفاع التكاليف في شركة برلين هو السبب وراء استمرار كون إنتاج أوراق المارك الألماني من بين أغلى قطاعات طباعة النقد تكلفةً في العالم. كانت المطبعة الحكومية منافسًا وعميلًا لشركة ميونخ في آنٍ واحد؛ إذ كانت تعتمد مثلًا بالكلية على مصنع لويزنتال وما يفرض من أسعار للحصول على الورق المخصوص لإنتاج المارك، مما تسبَّب في متاعب لمطبعة برلين. كان بإمكان جيزيكه أوند ديفريَنت أن تطبع بتكلفة أرخص، لكنها فضَّلت أن تختبئ وراء تكاليف برلين العالية في فوترة حصتها من طبع المارك، ولم يكن هذا يحتاج حتى إلى الحماقة التي ارتكبها أحد رؤساء المطبعة الاتحادية بتركه ذات مرة وثائقَه الخاصة بحسابات الأسعار فوق الطاولة في نهاية مؤتمر في ميونخ. حتى بعدَ أن استحدث البنك الاتحادي في أوائل ثمانينيات القرن العشرين المراجعات الحكومية لأسعار طبع المارك، ظل هيكل تكلفة مطبعة برلين ميزة لشركة طباعة النقد الخاصة هذه. هناك أحداث كثيرة تقود المرء إلى افتراض وجود «تسريب معلومات» من لجان المراجعة؛ لأن المراجعين كانوا يجتمعون بشكل متزامن في برلين وميونخ. لم يتغير هذا حتى نهاية العقد، عندما بدأ البنك الاتحادي ينظر نظرةً أكثر تمحيصًا ويهتم بالتكاليف. كان البيروقراطيون الضيِّقو الأفق مختلفين تمامَ الاختلاف عن سيجفريد أوتو، رئيس شركة ميونخ الواثق بنفسه. يذكر كلاوس سبرين، الذي رُقِّي من منصب المتحدث باسم وزارة البريد إلى منصب رئيس المطبعة الاتحادية، زيارةً قام بها إلى أوتو في جزيرة إبيزا الإسبانية؛ حيث كان يملك أوتو هناك مسكنًا ريفيًّا يُطِلُّ على خليج خاص. اعترف سبرين بأنه أحس بالرهبة نوعًا ما بسبب الترف الشديد البادي للعيان في ذلك المكان. ذكر سبرين أثناء حديث مع أوتو أن طموحه باعتباره رئيسَ المطبعة الاتحادية هو استعادة طبع النقد الألماني كله إلى برلين، مثلما كان متبعًا أيام بنك الرايخ، فانزعج أوتو بشدة وهدَّد بقطع الحديث فورًا. لم يُثَر هذا الموضوع بعدها قط.

أحلام عالمية …

كانت فرقة بيروقراطيِّي البريد بالمطبعة الاتحادية ترى أن أقصر طريق إلى المنافسة هو ببساطة التسلُّح بوسائل الإنتاج، مقرونًا بإجراء تعديلات حَذِرة على القوة العاملة إذا لزم الأمر. تم التحديث والتوسع بسخاء، بل ووصل الأمر عند الضرورة إلى تضليل لجنة الموازنة بالبرلمان بأرقام مختلَقة. اكتمل بناء مطبعة نقد جديدة في المرحلة الأولى في نهاية عام ١٩٩٦م. أرست المطبعة الجديدة معايير جديدة في طبع النقد فيما يتعلَّق بعملية الإنتاج والاحتياطات الأمنية واستهلاك الطاقة وحماية البيئة.2 أثار التصميم المميز للمكان المخصَّص للإنتاج بها حَسَدَ المنافسين. كان قبوُه العملاقُ ذو التدابير الأمنية الصارمة، الذي خرج عن المألوف ببنائه على مستوى الأرض بسبب ارتفاع سطح الماء الجوفي في برلين، أكبر قبو صناعي في أوروبا وأحدثه، متضمِّنًا حيِّز تخزين برفوف عالية يُتحكم فيه بالكمبيوتر، ويستوعب خمسًا وستين عربة قطار. بالتوازي مع مشروع هذا المبنى، نُقل إنتاج بطاقات الهُوية إلى مبنًى منفصلٍ مُؤَمَّنٍ للغاية. لم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ تُغادِر طلبات التقديم والبطاقات البيضاء هذا القسم من المبنى إلا بعد إنتاج الوثائق الثبوتية. بالإضافة إلى ذلك، أُقيم مبنًى إداريٌّ جديد بمساحة مسطحة تبلغ ١٥ ألف متر مربع. بحساب إجمالي تكلفة كل هذه التدابير، من مركز النقود الجديد إلى مصدر إمداد الطاقة الجديد، استُثمر ١٣٥ مليون يورو على الأقل في هذه المطبعة الاتحادية المحدَّثة والموسَّعة والمجمَّلة. لم تكن هناك على الأرجح مطبعة ذات تدابير أمنية صارمة في العالم كله أكمل تجهيزًا فنيًّا منها، وكل شيء دُفع ثمنه من أموال دافعي الضرائب. الآن تستطيع مطبعة برلين، حسب عدد المناوبات، إنتاج ١٫٨ مليار وحدة نقد سنويًّا، و٧ مليارات طابع، و٧ ملايين جواز سفر وبطاقة هُوية.

عندما وصل مِنكِه إلى المطبعة الاتحادية، كانت كل الطوابع وجوازات السفر وإثباتات الهُوية ورُخص القيادة واستمارات التقديم وملصقات ضريبة الإنتاج وبيانات براءات الاختراع والمطبوعات البرلمانية تُنتَج في ألمانيا، بالإضافة إلى نصف أوراق المارك الألماني. كانت تلك الطلبيات كلها طلبيات حكومية، ولا شك أنها كانت مُجزِية، لكنها كانت تأتي من «مجال محميٍّ». تصوَّر منكه إنشاء شركة ذات محفظة شديدة التنوع، محليًّا وفي الخارج، يكون بمقدورها أن تقدِّم للسوق العالمية منتجات وأنظمة متنوعة تتسم بدرجة عالية من الأمن وبمصداقيتها النابعة من قُربها من الحكومة الألمانية. بهذه الطريقة فقط يمكن تخفيض التكلفة ورفع هامش الربح. كان ذلك طلبًا صعبًا بالنظر إلى نقاط الضعف الهيكلية في المطبعة الاتحادية. فلم يكن لديها إلا خط منتجات ضيق وسلسلة قيمة قصيرة. كانت تعتمد في كل شيء على مورِّدين، وكانت قوتها العاملة أكبر مما ينبغي.

سرعان ما نجح مِنكِه في الاستحواذ على حصة مسيطرة في ماورر إلكترونِكس، وهي شركة بميونخ متخصصة في معالجة الصور وإنتاجها وتطوير تكنولوجيا تأمين أنظمة إثبات الهوية. كذلك حصل على حصة أغلبية في شركة إتش إس إم هولوجرافِك سِستمز، وهي شركة بميونخ متخصصة في الهولوجرام والإلكترونيات البصرية. تلا ذلك تأسيس دي-ترسْت في برلين كمركز ثقةٍ للتوقيع الرقمي، وكان ذلك في البداية بالاشتراك مع شركة تابعة لدويتشه تليكوم. وأخيرًا تمكَّن مِنكه من الحصول على أغلبية رأس المال في أورجا كارتِنسِستِمِه في بادربورن، التي كان يملك حق الشفعة في شرائها. كانت شركة فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير الفرنسية قد سَعَتْ إلى شراء أورجا كارتِنسِستِمِه دون جدوى. فاستحوذ مِنكه على ٧٥ في المائة من الأسهم مقابل ٧٠ مليون مارك ألماني (٣٦ مليون يورو). لكن هذه الاستراتيجية فقدت زخمها بعدئذٍ. طَرَقَ منكه وآرنِم شفِدلر، الذي كان مسئولًا عن العلاقات الدولية بالمطبعة الاتحادية، أبوابًا كثيرة، فعُقد اجتماع مع شركة صناعة الورق وطباعة النقد الحكومي الإسباني فابريكا ناثيونال دي مونيدا إي تيمبري، وجُس نبض شركة طباعة النقد الهولندية الخاصة إنسخيده، وأُجريتْ محادثات مع بنك فرنسا بشأن تعاون أوثق، وجرى تقييمٌ لاحتمال شراء بابييرفابريك سيل في لاندكارت بسويسرا. كما دُرس أيضًا الاستحواذ على سي إس آي، مورِّد أنظمة فحص أوراق النقد الكائن في تكساس (وجود قاعدة أمريكية شيء طيب دائمًا)، أو المشاركة في إيه بي إن هولوجرافِكس، الشركة التابعة لأمريكان بنكنوت في مجال إنتاج الهولوجرام والكاينجرام (خاصية تجعل الصورة تتغيَّر بتغيُّر زاوية الرؤية). من المصادفة أن المسعى الثاني أخفق بسبب اعتراض من كرين آند كومباني، التي كانت تملك حصة في إيه بي إن هولوجرافِكس. بل فكَّرت المطبعة الاتحادية، لفترة ما، في الدخول في بناء مصنع ورق والمشاركة في طبع أوراق النقد مع بيروم بيروري الإندونيسية المملوكة للدولة. إندونيسيا بلد يتسم بالأجور المنخفضة والاحتياج الكبير إلى أوراق النقد، لكنه يتسم أيضًا — لسوء الحظ — بوضع سياسي محلِّي مزعزع بشدة. على نحو ما، نُظر إلى هذا كله وكأن مِنكِه يسير متجولًا بعربة تسوُّق عبر متجر هذا القطاع ذي التدابير الأمنية الصارمة. في النهاية، لم تُجْدِ كل هذه المحادثات ومحاولات جس النبض نفعًا، وحتى سِتِك أُوي، تلك الشركة الفنلندية الممتازة على صغرها والمتخصصة في طباعة النقد وصناعة البطاقات ذات الشريحة، رفضت رفضًا مهذَّبًا بعد إبدائها اهتمامًا في البداية.

لم يكن زمن الاندماجات العابرة للحدود في هذا المجال الشديد الحساسية بإنتاجه الرفيع الأمن قد حان بعدُ، حسبما خلص فيما بعدُ شفِدلر، الذي يُدير اليوم فيدوسيير مونديال المحدودة، وهي شركة تجارية في المجال رفيع الأمن لها مكاتب في برلين ولندن. لم تُحقِّق أيضًا محاولات المطبعة الاتحادية لفتَ الانتباه إليها كمورِّد عالمي لأوراق النقد والوثائق الثبوتية نجاحًا كبيرًا. كانت هناك علاقات قوية تقليدية تربطها بفنزويلا. وعندما طلب البنك المركزي الفنزويلي ٢٠٠ مليون ورقة بوليفار في أوائل تسعينيات القرن العشرين، حُوِّلت الطلبية في سرية تامة إلى شركة طباعة السندات المالية في ليبزيج، التي لم تكن قد خُصخصت بعدُ. كانت تلك أول طلبية لطبع النقد تتلقَّاها شركة الطباعة الاتحادية هذه منذ سنوات كثيرة، وبُرِّر هذا التحول بانشغال برلين بالتحضيرات للإصدار المرتقب لورقة اﻟ ٢٠٠ مارك، وللمصادفة لم تَحظَ هذه الفئة بشعبية كبيرة، وأُصدرتْ بكمية محدودة. بالنسبة إلى ليبزيج، التي كانت قد فَقَدَتْ كلَّ عملائها في الدول الاشتراكية الشقيقة في ضربة واحدة، كانت هذه طلبية مرغوبة بشدة في أزمنة عسيرة. ولا بد أنَّ برلين أيضًا كانت مسرورة بذلك؛ لأنها خفَّضت سعر ليبزيج وحقَّقت مكسبًا جيدًا من وراء الصفقة. لم يكن هناك استنكار إلا في كاراكاس بسبب وجود مشكلات فنية في الطباعة. بعد ذلك بفترة قصيرة، تلقَّتْ برلين طلبيَّة من فنزويلا لتوريد نظام وطني جديد للوثائق الثبوتية، وما كان يُفترض أنْ يكون انتصارًا انتهى كفضيحة؛ إذ طالبتِ المطبعة الاتحادية — حسب تقارير صحفية — ﺑ ٤٨٠ مليون دولار ثمنًا لنظام كان المنافس البريطاني مستعدًّا لتوريده مقابل ١١٧ مليون دولار. تحدَّثتْ وسائل الإعلام الإخبارية في كاراكاس عن فساد هائل. حسب هذه التقارير، كان يفترض دفع ١٥٠ مليون دولار للساسة على هيئة رِشًا. عقد البرلمان جلسة استماع صاخبة. أعربتِ الحكومة في كاراكاس عن ارتياعها من سلوك الشركة الألمانية المملوكة للدولة، وسحبت العقد الذي كان جاهزًا للتوقيع.3

تلا ذلك ما هو أسوأ؛ ففي مطلع عام ١٩٩٧م، استدرج بنك الاحتياطي الهندي عروضًا لطبع «الفائض» الذي سبق أن تحدثنا عنه والبالغ مليارَيْ وحدة فئة ١٠٠ روبية و١٫٦ مليار وحدة فئة ٥٠٠ روبية. شاركت المطبعة الاتحادية في المناقصة الدولية، وقدَّمتْ أفضل عرض. لكنْ لم يكن السعر المُذْهل الذي فازت بموجبه المطبعة بهذه الصفقة نتيجة نجاحات في الترشيد في برلين، بل بالأحرى كانت المطبعة الاتحادية تُريد طبع ٧٠٠ مليون وحدة فقط بنفسِها — هذا ما خُطِّط له على الأقل — وتمرير البقية إلى المطبعتين الحكوميتين في أوكرانيا وجنوب أفريقيا. انطلقت أجراس الخطر في كلٍّ من جيزيكه أوند ديفريَنت ودي لا رو، فلم يكن عرض برلين أرخص بمقدار الربع فحسب، بل اقترحتِ المطبعة أيضًا تصورًا أمنيًّا كان من الممكن أن تطبِّقه مصانع ورق أخرى غير بورتالز ولويزنتال. نتج عن ذلك سِجَالٌ حقيقي لتشويه السمعة، فأطلقت جيزيكه أوند ديفريَنت العنان لممثل المجلس الإشرافي الذي ينوب عن كبار موظفيها، وكان مهنيًّا خبيرًا، فشكا للحكومة الاتحادية من أن شركة الطباعة المملوكة للدولة تتسبب في فقدان وظائف ألمانية. أسالَتْ هذه الضربة دمًا. ثم ذكَّرتْ دي لا رو وجيزيكه أوند ديفريَنت الهنود بمعاناة الأقلية الهندية في ظل نظام التفرقة العنصرية البائد في جنوب أفريقيا، وأعربتا عن شكوكهما في موثوقية شركة الطباعة الحكومية الأوكرانية مستخدمتَيْن شعار «شركة طباعة المافيا». وأفلح هذا أيضًا.

بدأ القلق يُساوِر المطبعة الاتحادية بشأن مدى ولاء محاميها في مسرح الأحداث. في هذا الجو المتأجِّج، سُرِّبت تفاصيل استدراج العروض وأسعار العطاءات المنفردة المقدَّمة من شركات طباعة النقد إلى الصحافة. تحدَّثت الصحف في شبه القارة عن فساد وتخريب صناعي. اضطر البرلمان الهندي إلى مناقشة مسألة لجوء الهند إلى طلب طَبْع نقْدها في الخارج رغم ما لديها من مطابع نقد. بطبيعة الحال كانت الإجابة أن تحديث المطابع لم يكتمل. أخيرًا فازت دي لا رو وجيزيكه أوند ديفريَنت بالمناقصة، لكنهما اضطرتا إلى التوريد بسعر أقلَّ من سعر المطبعة الاتحادية. فازت جيزيكه أوند ديفريَنت بعطاءٍ لطبع ١٫٦ مليار وحدة فئة ٥٠٠ روبية، طُبعتْ في البداية في ليبزيج ثم في ميونخ. لم يشأ بنك الاحتياطي الهندي أن ترجع المطبعة الاتحادية صفر اليدين، فعرض عليها حصةً من عملية طبع أوراق النقد، لكنْ فجأةً جاء ردُّ برلين يقول إنها لا تستطيع طبع أكثر من ١٠٠ مليون وحدة بسبب حدود الطاقة الإنتاجية، حتى على الرغم من أن منشأة الطباعة الفائقة الجديدة كانت تعمل آنذاك بكامل إمكانياتها. كان رفضًا مدفوعًا بالسياسة، واعتقد الهنود محقِّين أنهم يتعرَّضون للخداع، فتراجعوا عن الأمر بالكلية. في غضون ذلك، كان مِنكه قد تورَّط في جدل هائل مع هانز كابِش، مدير قسم طباعة النقد لديه. لقد فشلت أولى محاولات المطبعة الاتحادية خلال عشرين سنة لتقديم نفسِها إلى سوق التصدير كمورِّد ممتاز، بحسب ما جاء في تقرير داخلي في برلين، وقد أضاف التقرير أن سُمعة المطبعة الاتحادية في المنطقة تأذَّت بشدة بسبب الإخفاق في الهند.

تبيَّن أن ذلك لم يكن استثناء؛ فبعد ذلك بسنة، وكما سبق أن ذكرنا، كان البنك المركزي النيجيري يبحث في الخارج عن شركة طباعة نقد لطبع ٤ مليارات ورقة نايرا جديدة. كان أكبر بلد أفريقي من حيث عدد السكان لديه بالفعل مطبعة نقد حكومية منذ عقود تضم ثماني طابعات من كوباو-جوري، وكان ينبغي أن يسمح هذا للنيجيريين بتغطية احتياجهم السنوي البالغ ١٫٦ مليار وحدة في ذلك الزمان. لكن ما يُفترض أنه افتقار إلى العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد قِطَع الغيار والمواد اللازمة لطبع النقد، بالإضافة إلى سوء إدارة المطبعة، إنْ لم يكن تدميرها، جعل نيجيريا تعتمد على واردات نقد إضافية منذ عام ١٩٩٠م. فجأةً صار البلد لديه المال اللازم للاستيراد. منذ عام ١٩٩٤م لم تَعُدْ نيجيريا تطبع أيَّ نقد لنفسها. كان من المسلَّمات أن تُنتج دي لا رو هذه الأوراق، لكنَّ المطبعة الاتحادية أيضًا أبدتْ آنذاك اهتمامًا بالطلبية المعلَّقة، وهي أكبر طلبية تصدير نقد في التاريخ. كان يمثِّل المطبعة مهندس الورق فالتر بول، الذي سبق له العمل لدى جيزيكه أوند ديفريَنت ثم لدى سيكبا. كانت لديه خبرة طويلة على الأرض في نيجيريا. كانت هناك حاجة مُلِحَّة إلى هذه المعرفة بالممارسات المحلية؛ لأن النيجيريين كانت لديهم رغبات خاصة جدًّا فيما يخص التكلفة. من واقع تقارير المحكمة التي أوردتْها صحيفة محلية مستندة إلى ما قُدِّم من أدلة، عُلم فيما بعد أن البنك المركزي طلب أن تكون التكلفة ٤٧ دولارًا لكل ١٠٠٠ ورقة نايرا، لكنه لم يكن ليدفع إلا ٢٤ دولارًا،4 وكان يُفترض أن تذهب أغلبية هذا الفرق إلى جيوب عشيرة أباتشا ووسطاء بول النيجيريين الذين سيرتبون الطلبية. من جديد شكَّلت المطبعة الاتحادية اتحادًا دوليًّا من شركات طباعة النقد. في نوفمبر عام ١٩٩٨م، وتماشيًا مع رغبات النيجيريين، قدَّمتْ عرضًا مهيكلًا متضمنًا تاريخ انتهاء صلاحية. أضاع المنافسون الوقت بعطاءات مماثلة اشتملت حتى تكاليف النقل في «السعر الصافي». وكما أكَّد بول، فإن المطبعة الاتحادية كانت لا تزال صاحبة أفضل فرصة للفوز بالمناقصة. لكن قبيل انتهاء الموعد النهائي، تلقَّى بول اتصالات من هارَلد فِندل، مدير الأعمال الثاني للجانب الفني بالمطبعة الاتحادية، يُخبره بعدم إمكانية تحمُّل «السعر الصافي»، وضرورة رفع العطاء إلى قرب مستوى «السعر الإجمالي». بهذا المطلب تكون المطبعة الاتحادية تعمَّدتْ إخراجَ نفسِها من السباق. في منتصف يناير عام ١٩٩٩م، تلقَّتْ جيزيكه أوند ديفريَنت الطلبية من البنك المركزي النيجيري لطبع ٤ مليارات ورقة نايرا. مُرِّر من تلك الكمية، كما سبق أن ذكرنا، أكثر من النصف بقليل إلى دي لا رو كمقاول من الباطن، وسيقت محدوديات الطاقة الإنتاجية في مطبعة جيزيكه أوند ديفريَنت كمبرِّر رسمي لهذا.

بالنسبة إلى بول، الذي حارب حتى النهاية من أجل هذه الطلبية في لاجوس، صارت المسألة على بُعْدِ شعرة من انتهائها نهاية غير سعيدة؛ حيث أوعز شريك أعماله النيجيري الغاضب باعتقاله على خلفية تهمة ملفَّقة، فاضطر الدبلوماسيون الألمان إلى إخراجه من السجن ومرافقته حتى سُلَّم الطائرة التي أعادتْه بسرعة إلى ألمانيا. حذَّر السفير الألماني في نيجيريا وزارة الخارجية في برقيةٍ مِن تعرُّض حياة رجل الأعمال للخطر في نيجيريا. لم يسمع بول، الذي اضطر حتى إلى ترك متعلقاته المنزلية وراءه في لاجوس، أيَّ شي آخر قط من برلين. كان انسحاب المطبعة الاتحادية المفاجئ قد سبقه اجتماع في مطار فرانكفورت بين فِندل وبرفقته مدير القسم كابِش، ومانفرِد بِك، الذي كان مسئولًا عن الورق وطبع النقد في جيزيكه أوند ديفريَنت. قال فِندل فيما بعدُ إنه كانت هناك أشياء لا يمكن للمطبعة الاتحادية فعلُها. لم يَبْدُ ذلك مقنعًا بالكلية عندما يتذكَّر المرء حالة فنزويلا. كان الشركاء في اتحاد شركات المطبعة الاتحادية فيما يخص الطلبية النيجيرية يعتقدون أنهم خُدعوا. بعد هذه الواقعة بزمن ليس بطويل، وخلال الخصخصة الفوضوية للمطبعة الاتحادية، تقاعد فِندل مبكرًا، وأما كابِش، الذي أمضى معظم حياته المهنية في المطبعة الاتحادية القانعة بحالها، فقد انضم بشكل مفاجئ إلى شركة طباعة النقد الخاصة جيزيكه أوند ديفريَنت في ميونخ.

شكا مِنكه مرارًا من الولع ﺑ «الخمود»، وأيضًا من «أشخاص عنيدين» في مؤسسته. كان عدم التوافق بينه وبين فندل من العوامل المساهمة يقينًا. لكن وجود دستتين من الموظفين المكتبيين يمكن أن يكون عبئًا في مؤسسة حكومية صارت فجأة تُدار بمبادئ السوق ويُفترض أن تعمل بتوجُّه سوقي، بل والمفزع بتوجُّه ربحي. لم يقتصر المعوِّقون على الموظفين المكتبيين؛ إذ كانت في المؤسسة جماعة مؤثرة كان واضحًا أنها لا تتعاطف كثيرًا مع السعي الجادِّ للحصول على طلبيات تصدير. أما ما إذا كان هذا محض قناعة بالحال أم تحفظات بشأن تنافسية المطبعة الاتحادية المحدودة، فلا بد أن يظل سؤالًا مفتوحًا. في مسألة القناعة بالحال، كانت طلبيات الطبع من البنك الاتحادي تهبط على المطبعة تلقائيًّا ككل شيء آخر. ولم يكن يُفترض أن تقدِّم المطبعة، عند المنافسة في الخارج، عروضًا بالتكلفة الحَدِّية. لكنها لم تكن لترجو الفوز لو فَوْتَرت كل التكاليف. حتى بعد التحديث الباهظ التكلفة، ظل المرء يسمع من رئيس قسم طبع النقد الحجة المألوفة بأنه لا توجد طاقة إنتاجية متاحة للطبع لأغراض التصدير. خَيَّمتْ محاولة إعادة التنظيم داخليًّا بظلالها على الحالة المزاجية في المؤسسة. رحل الفنيون الذين استغرق تدريبهم سنوات عن المطبعة الاتحادية واحدًا تلو الآخر. قلما كان يمكن استعاضة ما لديهم من المعرفة المتخصِّصة. في دائرة إنتاج الأصول وإنتاج قوالب الطباعة، تقاعد المدير هاينتس كومر ونائب المدير بِرتل بودُل مبكرًا. تلعب هذه الدائرة دورًا محوريًّا في صنع أوراق النقد، وكان كومر وبودل يعتبران خبيرين كبيرين في تخصُّصهما؛ حيث طوَّرا للمطبعة الاتحادية تقنيات مهمة من ضمنها تقنية حفر بالحامض عظيمة القيمة للطباعة المجهرية متغيرة العمق، وكان بودل مسئولًا على المستوى الفني، من وضْع المسوَّدات حتى تجارب الطباعة، فيما يخص الإصدار الأخير من المارك الألماني. وأخيرًا أدار فنان الرسوم الجرافيكية الشهير دوليًّا راينهولد جرِشتيتر ظهره للمطبعة الاتحادية. كان جرِشتيتر قد صمَّم آخِرَ إصدار مارك ألماني، وأيضًا آخِرَ إصدار بيزيتا إسبانية. ما زاد الطين بلة أن الكراهية الشخصية تسبَّبت أيضًا في توترات بين منكه والأملين العظيمين في التكنولوجيا المتقدمة: ماورر إلكترونِكس وهولوجرافِك سِستمز مونشِن. في حالة ماورر إلكترونكس، وصلت المسألة إلى القضاء، وانتهتْ بشراء الأسهم المتبقية لدى مهندس التطوير ومؤسس الشركة توماس ماورر، عندئذٍ أصبحت السيادة للمطبعة الاتحادية، لكن ماورر إلكترونكس كانت دون العقل المخطِّط لها بلا قيمة. وأما في حالة هولوجرافِك سِستمز، فقد أعاد الشريك صاحب الأقلية شراء الأسهم من المطبعة الاتحادية، التي كانت قد بدأت بالفعل تستخدم تقنية الهولوجرام. على الرغم من أن طلبيَّتين — واحدة من البرتغال والأخرى من ولاية جوجارات الهندية — لتوريد رُخص قيادة على بطاقات، رفعتا الروح المعنوية لفريق المطبعة الاتحادية، كان أثرهما على الأعمال متواضعًا. فالتحول إلى الخصخصة لم يُفِدِ المطبعة الاتحادية بشيء.

شهدت المطبعة الاتحادية، كمورِّد، وقتًا عصيبًا في السوق الدولية لطباعة النقد بعد واقعتَيِ الهند ونيجيريا، والطلبية الخارجية الوحيدة التي تمكَّنت أخيرًا من الحصول عليها لم تكن تُذكر، وتضمَّنت طبع ٣٠ مليون ورقة فئة ١٠٠ كرون إستوني. هذه هي أيضًا ورقة النقد الوحيدة التي تشتمل على خاصية الحبر المُؤَمَّن المتألِّق كهربائيًّا، التي طوَّرتْها المطبعة الاتحادية، وهذ الورقة عينها هي التي كانت سببًا في اضطراب آخَرَ في المطبعة. فمع بروز نكبة الخصخصة الوشيكة لأسهم دويتشه تليكوم، كان مَعين الفنيين في مجال طباعة النقد والسندات المالية يُهدِّد بالنضوب في مطبعة برلين. كان هناك اضطرار إلى وقف طبع شهادة أسهم تليكوم عام ١٩٩٦م على نحو مخزٍ بسبب مشكلات فنية. وأخيرًا اضطرت المطبعة الاتحادية بعد رحيل فنيين مهمين في مجال أوراق النقد عنها إلى تدريب شركة خدمات صغيرة في شمال ألمانيا على تصنيع شيء بالغ السرية، هو قوالب طباعة الإنتاليو لأوراق النقد والطوابع والسندات المالية. في نهاية تعاون دام شهورًا نُقلت أثناءه تكنولوجيا حساسة من المطبعة الاتحادية، صنعت هذه الشركة لوحًا طباعيًّا كاملًا للورقة فئة ١٠٠ كرون إستوني السالفة الذكر «لأغراض التجربة» كما قيل. نظريًّا، كان بمقدور هذه الشركة الصغيرة، التي كانت لديها شركة تابعة في بولندا، أنْ تَستَنسِخ آنذاك كلَّ ورقة نقد في العالم. عُرفت مصادفةً هذه الواقعة غير العادية، التي لم تُنبَّأ بها فيما يبدو إدارة الأعمال بالشركة، وإنْ تورَّط فيها موظفون على أعلى مستوًى من التصاريح الأمنية في المطبعة الاتحادية. اعتُبر هذا انتهاكًا خطيرًا للَوائح السندات المالية الألمانية، وهي القواعد التي تُناظِر تلك المعمول بها في طباعة أوراق النقد، ووُصف بأنه إخلال بميثاق الشرف، الذي يقتضي عدم السماح بخروج المعلومات الفنية الحساسة أبدًا. تسبَّبت المسألة في نزاع كبير داخليًّا، لكنها ظلت دون عواقب قانونية.

… وواقع صعب على المستوى المحلي

كانت التحضيرات للخصخصة تَجرِي على التوازي مع هذه الأحداث الدرامية. في هذه الأثناء، كانت المطبعة الاتحادية قد وُضعتْ تحت سيطرة وزير المالية، الذي قرَّر آنذاك ضرورة خصخصتها بنسبة ١٠٠ في المائة بدلًا من الاكتفاء باﻟ ٤٩ في المائة التي أُعلن عنها أصلًا. كانت الخصخصة هي الاتجاه السائد آنذاك. علاوة على ذلك، كانت الحكومة الجديدة — ائتلاف من الديمقراطيين الاجتماعيين والخُضْر — في حاجة ماسة إلى أموال. على الرغم من احتجاج القوة العاملة بالمطبعة الاتحادية على «البيع» بمظاهرات ووقفات صامتة، كانت فرق من جيزيكه أوند ديفريَنت والمطبعة الاتحادية مشغولة في تمحيص كل تفصيلة من تفاصيل اندماج محتمل. كانت شركة ميونخ مهتمة بتوسيع أعمالها من خلال تصنيع البطاقات في أورجا كارتِنسِستِمِه وأعمال الوثائق الثبوتية أكثر منها بطبع أوراق النقد التي كانت الطاقة الإنتاجية الزائدة غير المستغَلة بدأت تطل برأسها فيها. كان الاستحواذ يمثل مشكلةً. كانت ثقافتان مهنيتان مختلفتان تمام الاختلاف قد شكَّلتا المطبعة الاتحادية وجيزيكه أوند ديفريَنت. زِدْ على ذلك أن جيزيكه أوند ديفريَنت كانت تتمتع بمركز قوي في السوق. كان الإغلاق الحتمي للوحدات ذات النشاط المتداخل، سواء في برلين أم ميونخ، سيواجِه صعوبة سياسية في تنفيذه. وعلاوة على ذلك، سيتشكل انطباع في الخارج مفاده أن الألمان خطَّطوا لخصخصة هذه الشركة المُغرية فيما بينهم مرة أخرى. قيل إنه ينبغي فتح المطبعة الاتحادية أمام العالم. نُبِذ «الحل الألماني».

يجدر بالذكر أيضًا الإشارة إلى درجة تأييد منكه شخصيًّا لعملية الاستحواذ التي سعتْ إليها جيزيكه أوند ديفريَنت. ولا ننسَ أن هذا كان سيهدِّد استقلاليته، بل وربما وظيفته. دفع منكه في اتجاه استحواذ كبار المديرين على الشركة بمساندة من مستثمرين ماليين بهدف طرح أسهم الشركة في البورصة في غضون خمس إلى سبع سنوات. في ٤ أبريل عام ٢٠٠٠م، بذل منكه محاولة أخيرة بزيارة شخصية لإقناع مانفرد أوفرهاوس، مساعد وكيل وزارة المالية المسئول عن المطبعة الاتحادية، لكنْ كما ذكرتْ إحدى الصحف، قوبل طلبه بالرفض من قِبَل صديقه أوفرهاوس ذي النفوذ. ما كان يسعى إليه منكه كان يتطلَّب كثيرًا جدًّا من العمل والوقت. قيل له إن إدراجات الشركات الحكومية المخصخصة في البورصة قلَّما نجحت. سيتعين الاحتفاظ بالمطبعة الاتحادية كوحدة واحدة، وبهذا تصبح «دولية». لم يكن هناك اعتراض جوهري على ذلك. كان ذلك أيضًا رأيَ وموقفَ رئيس المجلس الإشرافي للمطبعة الاتحادية مانفرد لانشتاين. كان أوفرهاوس، الذي لم يكن عضوًا في حزب، قد عمل مساعدًا شخصيًّا للانشتاين في أيامهما الخوالي في بون عندما كان لانشتاين يشغل منصبًا وزاريًّا. حصل بنكهاوس بيه سيل زون آند كومباني — وهو بنك خاص في فراكفورت — على التفويض المرموق للبحث عن مُشترٍ. سرعان ما هُيئت العروس لهذه المناسبة، فتم التأكيد على أن تكون المطبعة الاتحادية بموجب عقد مدته خمس سنوات أخرى مع وزارة الداخلية الاتحادية مورِّدًا حصريًّا لكل الوثائق الثبوتية الألمانية، مع خيار تجديد لثلاث سنوات إضافية. كان الوقت ينفد. ولأسباب تتعلَّق بالموازنة، كان يلزم إبرام البيع خلال عام ٢٠٠٠م.

قدَّر المطَّلعون على القطاع ثمن البيع بمبلغ يتراوح بين ٣٥٠ و٤٠٠ مليون يورو. بدا هذا مناسبًا لمبيعات المجموعة البالغة ٤٤٠ مليون يورو في السنة المالية السابقة (منها ٤٥ في المائة من أورجا كارتِنسِستِمِه)، وصافي أرباح يبلغ ١٧ مليون يورو (منها ٧٥ في المائة من أورجا). أجاب الدعوة اثنا عشر مقدِّمَ عطاءٍ، وصل ثلاثة منهم إلى الجولة النهائية. خرجتْ أفاتو، الشركة القابضة الصناعية لمجموعة بِرْتِلزمان، من المزايدة مبكرًا، ومثلها فعلت دي لا رو البريطانية. كانت أفاتو، التي كانت جيزيكه أوند ديفريَنت تفضِّلها بقوة، مهتمة ببنك البيانات الشخصية بالمطبعة الاتحادية. قدَّم طبَّاع ميونخ عطاءه بمبلغ ٦٠٠ مليون يورو. مضى فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير إلى حد ٧٥٠ مليون يورو. كما تضمَّنت الجولة الأخيرة أيضًا اتحاد شركات شلومبرجر وتريتون فَنْد. عرض الاتحاد أعلى سعر اسمي، لكن لم يكن مهتمًّا إلا بأورجا؛ حيث قال إنه سيبيع بقية المجموعة. رفض البائع ذلك العرض. وعلى هذا النحو، فازت شركة أباكس بارتنرز برايفِت إكويتي الكائنة في لندن بالمزاد في نوفمبر عام ٢٠٠٠م. كانت الحكومة سبق لها العمل مع صندوق الأسهم الخاصة هذا — الذي تصادف أنه كان يتخذ مقرَّه في بناية إدارية في ميونخ مملوكة ليورك أوتو — في خصخصة سلسلة محطات وقود واستراحات الطرق السريعة تانك آند راست. عرضت أباكس مليار يورو إضافة إلى تعهُّد مدين، فإذا زادت عوائد طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام في البورصة فيما بعد عن «قيمة سمعة الشركة البالغة ١٫٢٥ مليار يورو»، يستحق البائع حصة نسبتها ٢٥ في المائة من الفرق. كان سيُسمح للمطبعة الاتحادية، في شكلها الجديد باعتبارها شركة خاصة، بالاحتفاظ بشعارها المرموق الذي يُشير إلى ارتباطها بالحكومة. هذا الشعار هو نصف الصقر الألماني الاتحادي مرسومًا بشكل معين بالألوان الوطنية.

استغرب اللاعبون الدوليون في مجال الطباعة الرفيعة الأمنِ الأمرَ بشدة. صحيح أن المطبعة الاتحادية كانت تقدِّم عملًا ﺑ «الجودة الألمانية»، كما كانت تشدد دائمًا برلين، لكنها كانت تحقق ٩٥ في المائة من مبيعاتها في قطاع الأعمال «الآمن» مع الحكومة. لم يكن هناك توزيع خارجي ملحوظ. لم تكن المطبعة الاتحادية قد تجاوزت بعدُ مرحلة البدء في بناء دائرتها الخاصة بالبحث والتطوير، وكانت لا تزال تدين ﺑ ١٢٥ مليونًا لصندوقها التقاعدي. بدا سعر الشراء عاليًا. لم يَخلُ الأمر من تحذيرات قَبلَ أنْ يُحسم البيع. ذهب البنك الاتحادي إلى برلين للتنبيه إلى الحرص على جودة المشتري. حتى وزارة الداخلية أعربتْ عن قلق بالغ بشأن أمن وثائقها الثبوتية. كل الاعتراضات نُبذت بتعليقات حول مشكلات الموازنة التي تواجه الحكومة الاتحادية وعوائد المبيعات التي ستتجاوز أشد الآمال جموحًا. كان مساعد وزير المالية أوفرهاوس معروفًا بموقفه القوي أمام لجنة الموازنة، لكن لم تكن هناك أيُّ اعتراضات على درجة عالية من الجدية. كانت رئاسة هذه اللجنة ذات النفوذ مَنصبًا يشغله عادةً الحزب المعارض، ولم يكن هناك ما يُجبرها على ترسية البيع على مقدِّمِ أعلى عطاء. وجد رئيس اللجنة ديترِش أوسترمان، التابع لاتحاد الديمقراطيين المسيحيين المحافظ، البيع غير ملائم للغرض منه؛ لأن «دُررًا في مجال التكنولوجيا الأمنية» ستضيع على الحكومة الاتحادية.5 لكن تقرير موقف اللجنة، الذي حُسِم البيع بناءً عليه، أثنى على الخصخصة «التي تُحفظ الشركة من خلالها ويُضمن عن طريقها توسيع نشاط الشركة عالميًّا، وتُقدَّم على أثرها للقوة العاملة خطة للمشاركة في الشركة.»6 تقول مَحاضر اللجنة إن المفهوم المؤسساتي المقدَّم أظهر «نموًّا سليمًا وإمكانيات تطوير لكل الأقسام المهمة بالشركة.» أصيب الجميع بالذهول من المال الهابط من السماء. كانوا ينظرون إلى سراب.

منقذون أم لصوص؟

تُحاول شركات الأسهم الخاصة أن تحدَّ من تعرضها للمخاطر، فتجتذب مموِّلين مدفوعين بأمل تحقيق عوائد عالية. كانت شركة أباكس يروقها أن تُعلِن أنها مكَّنتْ مستثمريها من تحقيق نمو سنوي نسبته ٤٠ في المائة في السنوات الأخيرة، وبذلك أثارتْ شهية البنوك للعوائد القوية. كانت هذه البنوك أيضًا تريد أن يكون لها حصتها في العوائد الهائلة التي تثير اهتمامهم. مُوِّل الاستحواذ على المطبعة الاتحادية على هذا النحو. جاء نحو ٢٢٥ مليون يورو من قرض لأجَلِ عشر سنوات من البائع بفائدة ٦٫٥ في المائة. ونحو ٥٠٠ مليون يورو أخرى وفَّرها بنك لاندِسبنك هسِّن-تورنجِن جيروتسِنتراله (هيلابا) كقرض بسعر فائدة مختلط يبلغ في المتوسط ٨٫٥ في المائة، وهو تركيز ملحوظ للمخاطر حتى بالنسبة إلى هذا البنك القوي، بنك المقاصة والبيع بالجملة لبنوك شباركاسِّن الادخارية الإقليمية. لم تُقدِّم أباكس وشركاؤها إلا المبلغ المتبقِّي، ومعظمه جاء من صندوق جُمعتْ أمواله دوليًّا هو أباكس يورو ٤. كان تشيز كابيتال وصندوق تقاعد معلمي نيويورك بين المستثمرين المشتركين في هذا الصندوق. انخرط أيضًا بعض المستثمرين الدوليين المتحالفين انخراطًا مباشرًا؛ ومن بينهم ألايانز كابيتال بارتنر وجيه بي مورجان.

كان نموذج التمويل يشتمل على منحنٍ. سُجلت كل الديون في الدفاتر كالتزامات على المطبعة الاتحادية، التي لا بد أنها موَّلت عملية شرائها من قِبل شركة أباكس. كان هذا يعني تحديدًا أن شركة برلين يُفترض أن تقدم ١٠٦ ملايين يورو سنويًّا كفوائد ومدفوعات سداد دَيْن مُجَدْوَلة حُدِّدت ﺑ ١٢٫٥ مليون يورو في كل ربع سنة ميلادية، بالإضافة إلى ١٥ مليون يورو لتغذية صندوقها التقاعدي. لكن كان يفترض أيضًا أن تموِّل المطبعة الاتحادية عمليتَيْ إعادة هيكلتها وتوسُّعها من مواردها الخاصة. وفقًا لخطة الأعمال، كانت هناك حاجة إلى ما بين ٥٠ و٧٥ مليون يورو سنويًّا للاستثمار والاستحواذ على شركات على مدى فترة خمس سنوات. لم يكن ممكنًا أن تتحقق أهداف النمو الطموحة إلا بهذه الطريقة. لكن المطبعة الاتحادية لم تكن قد استعادت ربحيَّتَها إلا توًّا وبشِقِّ الأنفُسِ. ظلت الكيفية التي ستتمكن بها هذه الشركة الضعيفة الأرباح من أن تكسب هذه الأموال الضخمة لغزًا محيرًا. كانت جابرييله — اسم الشركة القابضة التي وضعت شركة أباكس فيها المطبعة الجديدة الغالية التي استحوذتْ عليها — قادرة بالكاد على البقاء.

على الرغم من ذلك، رسمت رِناته كرومر، مديرة مشروعات أباكس ومهندسة نموذج الاستحواذ، صورة مشرقة لمستقبل الشركة القابضة أوثِنتوس، وهو الاسم الذي سُجِّلت به آنذاك المطبعة الاتحادية الرصينة. قالت استرضاءً لمجلس العاملين في برلين إن المطبعة ستتحوَّل بوتيرة سريعة إلى واحدة من شركات الوثائق الثبوتية الرائدة في العالم، وإن طباعة أوراق النقد لن تلعب إلا دورًا ثانويًّا؛ فالمستقبل يكمن في أنظمة الهُوية العالية التقنية، الممولة بالأرباح الناتجة عن نشاط البطاقات. خلصت دراسة داخلية أجرتْها شركة أباكس إلى أن مبيعات أوثِنتوس بحلول نهاية عام ٢٠٠٥م ستتضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف — مقارنةً بنتيجة عام ١٩٩٩م الفعلية التي حقَّقتها المطبعة الاتحادية القديمة — لتصل إلى ١٫٤ مليار يورو للمجموعة. بل كان يُفترض أن تتضاعف الأرباح قبل احتساب الفائدة والضرائب ٥ مرات إلى ٢٠٠ مليون يورو. كان يفترض تشغيل أكثر من ٥٠٠٠ عامل. كما تنبَّأت كرومر بإدراج الشركة في البورصة، في غضون نحو ثلاث سنوات، إدراجًا مزدوجًا على الأرجح في فرانكفورت ولندن.7 بعد الاستحواذ على المطبعة الاتحادية بثلاثة أشهر، أعلنت شركة أباكس بنبرة انتصار عن شراء سِكيوريتي برنتِنج آند سِستمز البريطانية الكائنة في تشادرتون، كما أعلنت في نشوة النصر أنها ستكون هناك عملية استحواذ أخرى في المستقبل القريب.

لم يتفاوض غير شركة أباكس على شراء هذا المنتِج لجوازات السفر الأكبر على الإطلاق في الجزر البريطانية — بل إنه يحتكر حتى جوازات السفر البريطانية — الذي كانت دي لا رو أيضًا راغبةً في شرائه. ما لم يُكشف عنه هو سعر الشراء الذي مُوِّل بقرض آخر من هيلابا. افترض منكه أن السعر يعادل ٦١ مليون يورو، وهو سعر غالٍ بالفعل، لكن شركة أباكس حمَّلت المطبعة الاتحادية ما يساوي ٨٧ مليون يورو، ولم يفسَّر هذا الفارق قط. كما حُمِّلت شركة برلين أيضًا نحو ٨ ملايين يورو نظير رسوم لعملية الشراء هذه وحدها. اتخذ تدفُّق رأس المال إلى الخارج من برلين أبعادًا مُقلِقة. كانت شركة برلين ملزَمة من قبلُ بدفْع ٢٥ مليون يورو كرسوم لمدققي حسابات أباكس ومحاميها نظير شرائها هي ذاتها. مزيد من الملايين حلَّ موعد سداده لهيلابا كأقساط غير عادية، نظير شروط فائدة أكثر تيسيرًا كما قيل. فوق ذلك كله حَلَّ قسط السداد والفائدة المُجَدْوَلان في السنة الأولى، وأخيرًا القرض الكبير لأورجا الواعدة. كما أنفقت أباكس أيضًا أموالًا بغزارة. كانت شركة برلين تتحمَّل تكلفة جميع الإجراءات التي تُتخذ وجميع الدراسات التي تُجرَى. وبما أنه من الطبيعي أنَّ ذلك كان يتم على أيدي مهنيين ذوي مؤهلات رفيعة، فمِن الطبيعي أيضًا أن الرسوم والعمولات المدفوعة إلى أباكس كانت ملائمة. وبجمع هذا كله، وصل إجمالي المبالغ إلى رقم بمئات الملايين. لم تتسرَّب كلمة إلى الخارج بشأن هذه «المعاملات الغامضة» كما وصفتْها مجلة مانِجَر ماجازين. لم تكن تلك نهاية إراقة الدماء. كان استشاريو الشركات آنذاك يتناوبون الهرولة جيئةً وذهابًا إلى شركة برلين، وكلهم تَدفَع أجورَهم المطبعة الاتحادية. هذا النوع من الاستشارات يُمكنه تقديمُ العَوْن، كما يمكنه أيضًا الإسهام في التستُّر على عجز المرء، وربما تجنُّب المسئولية. في شركة برلين، كان هناك قَدْر كبير جدًّا من التدقيق والمداولات والتوصيات، لدرجة أنها صارت مثارَ تندُّر. كانت المطبعة الاتحادية تُساق إلى الموت، حسبما قالت شخصية بارزة في هذه الصناعة. وكانت تُعتَصر ماليًّا إلى حدِّ الجفاف. منذ ذلك الحين ظل العليمون ببواطن الأمور يتساءلون مَن يُعيد الحياة إلى مَن؟

كان الانهيار المبرمج قد بدأ. أولًا: انهار نشاط أورجا في مجال البطاقات، وهي التي كان يُفترض أن تكون قاطرة التوسع. كانت أورجا تعتمد اعتمادًا كبيرًا جدًّا على توريدات بطاقات هواتف جي إس إم. مع تسارع هبوط أسعار الأسهم في بورصة نيو ماركت للشركات المغامرة في مايو عام ٢٠٠١م، وتراكُم الأجهزة غير المباعة بالملايين في مستودعات مصنِّعي الهواتف الخلوية، كان منكه وفندل، أعلى مديرين من حيث المنصب في شركة برلين، ما زالا يفترضان أن تحقِّق أورجا «متوسط نمو في المبيعات نسبته ٣٥ في المائة في السنوات المقبلة.» وقد زعما أن الانخفاض في المبيعات مجرد «كبوة بسيطة في السوق» في خضم أزمة التوريد الحالية. بل كان هناك مصنع جديد فُرِغ من إنشائه في أغسطس في فلِنتبِك في شمال ألمانيا بتكلفة نحو ٥٠ مليون يورو؛ مما زاد الطاقة الإنتاجية بأكثر من الضعفين إلى ٢٢٠ مليون بطاقة ذكية مزودة بشريحة سنويًّا. ثانيًا: انتهت طباعة الدفعة الأولى من أوراق اليورو حسب الجدول الزمني، دون الحصول على طلبيات لتحلَّ محلَّها. تبيَّنت خطورة الموقف في سبتمبر ٢٠٠١م، عندما حاول هيلابا بلا جدوى تمرير جزء من الدَّيْن العملاق إلى بنوك أخرى. سافر نحو سبعين ممثلًا بنكيًّا من الخارج ومن ألمانيا إلى برلين. اعتذروا بلطف عن عدم القبول بعد أن اطَّلعوا على أرقام الشركة عن قُرب.

بدأتْ آنذاك عمليةُ تطهير الإدارة الكبرى. كان هذا بطبيعة الحال مصحوبًا برواتب مغرية للعقول الجديدة المستقطَبة على قمة المطبعة الاتحادية، التي كانت آنذاك تُحارب من أجْل بقائها. كما كان أيضًا مصحوبًا بتعويضات إنهاء خدمة بالتراضي — كان يُطلق عليها داخليًّا «مكافأة تقاعد مقطوعة» — لمَن اضطروا إلى التقاعد مبكرًا. كانت رِناته كرومر أول مَن رحل عن شركة أباكس، بعد أنْ منعتْها سيمنس (البائع) في اللحظة الأخيرة من تنفيذ استحواذها المقترح على إم بي إم-مانيسمان بلاستِكس ماشينري. وكما قال مطَّلِعون من إم بي إم، فإن الدراما التي كانت تدور حول المطبعة الاتحادية لعبت دورًا مهمًّا في هذا الأمر. ثم استُبدل فريق القيادة كاملًا في أورجا. وأخيرًا أقيل منكه وفندل.

في حالة منكه، الذي كان أيضًا مدير العلاقات العمالية، لم ينجح هذا الحل إلا في المحاولة الثانية. فبموجب النظام السائد المتمثل في المشاركة في تقرير شئون العمل، كان نصف أعضاء المجلس الإشرافي من ممثلي العمال، وقد رفض هذا المجلس في البداية إقالته. في أول الأمر اضطُر منكه وفندل إلى الانسحاب من إدارة أعمال الشركة القابضة أوثِنتوس، ثم جاء الرحيل عن الإدارة التشغيلية للمطبعة الاتحادية بعد ذلك ببضعة أشهر.

أوفدت أباكس ميشائيل بافلوفسكي ولاندو تسابي ليكونا الثنائي الجديد الذي يقود أوثِنتوس والمطبعة الاتحادية. كان بافلوفسكي قد شغل من قبلُ منصب المدير المالي لسلسلة دُور العرض السينمائي المثيرة للجدل سينيماكس التي تصدَّرت عناوين الأخبار بتوسعها المبالَغ فيه وانهيار سعر سهمها في نيو ماركت. أما تسابي فقد جاء من أباكس مباشرةً، وكان قد عمل قبل ذلك لدى بوسطن كونسلتِنج. أعلن مديرا الأعمال الجديدان كلاهما «تدابير كاسحة» لإعادة المجموعة إلى مسارها. كان أولَ تصرُّف رسمي لهما تشكيلُ مجموعتَي عمل، فكُلِّفت فرقة العمل الأولى بتمحيص إمكانية تقليل رفع التقارير من جانب الشركات التابعة للمجموعة، على مراحل، بغرض إلغاء الإفصاح عن بيانات الشركة بعد فترة لا تزيد عن ثلاث سنوات. كان يُفترض أن يتم هذا دون الإضرار بسمعة المجموعة الدولية، على نحو ما ذُكر في بيان رسالتها. ومحَّصت فرقة العمل الثانية إمكانيات إعادة هيكلة المجلسين الإشرافيين لكلٍّ من أوثِنتوس والمطبعة الاتحادية، بغرض الالتفاف على قانون المساواة في تقرير شئون العمل الذي سُنَّ عام ١٩٦٧م؛ وذلك بإعادة هيكلة مقصودة للشركات التابعة أو للقوة العاملة لاستبعاد ممثلي العمال من كل القرارات المهمة في المستقبل.8 والمصادفة أنه بينما كانت فرقتا العمل في اجتماع، كانت هناك محادثات تُجرَى مع كلاوس-ديتر لانجِن بشأن دخوله إدارة الأعمال بصفته مدير العلاقات العمالية. كان لانجِن يشغل منذ سنوات رئيس اللجنة العمالية للمطبعة الاتحادية، فقَبِلَ.
لجأ أصحاب النفوذ في برلين وميونخ أكثر وأكثر إلى سياسة إعلامية تُخفي جانبًا كبيرًا من الحقيقة. في فبراير عام ٢٠٠٢م، كان تسابي لا يزال يُنكر وجود أيِّ صعوبات في المدفوعات مستشهدًا بالأسهم، التي كان المفترض أن سعرها عالٍ. ووصف قيمة أورجا بأنها «لا تنخفض انخفاضًا دائمًا».9 في هذه المرحلة، لم يَعُدْ ممكنًا السكوت على حالة أورجا الكارثية، مهما حاول المرء جاهدًا. كان صانع البطاقات مسئولًا بشكل كبير عن حقيقة إقفال أوثِنتوس حساباتها بخسارة نحو نصف مليار يورو في سنتها المالية الأولى، بحسب صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج. وصل مدير عام المطبعة اليابانية الحكومية شيزوهارو كوبونو إلى برلين في نهاية مايو عام ٢٠٠٢م لدراسة تجربة ألمانيا في خصخصة مطبعتها الحكومية؛ إذ كان اليابانيون يخطِّطون للخطوة ذاتها، فأعرب بأسلوب مهذَّب عن دهشته للكيفية التي ستتمكَّن بها مجموعة المطبعة الاتحادية من تحمُّل عبء التمويل. كانت الاحتياطيات البالغة ١١٠ ملايين يورو — التي أتتْ بها المطبعة الاتحادية معها في تعاقدها مع شركة أباكس، والتي كانت مفاجأةً سارَّة للأخيرة — قد أُنفقت منذ زمن طويل، بالإضافة إلى إنفاق نصف رأس المال السهمي البالغ ٢٥ مليون يورو. لم يكن المورِّدون يتلقَّوْن مستحقاتهم إلا بعد تأخير، وهو ما أثَّر سلبًا على التصنيف الائتماني للمجموعة. كان استهداف آخِرِ ما تبقَّى لدى شركة برلين من احتياطيات قد بدأ، وهو ما لاحظه في حينه بنك تجاري بافاريٌّ واحد على الأقل، فألغى حدَّ الشركة الائتماني. كانت هناك رغبة في الاستفادة من موارد الشركة التابعة البريطانية سِكيوريتي برنتِنج آند سِستمز، وماورر إلكترونِكس في ميونخ. خاض البريطانيون معركةً وفازوا. كان احتياطي التقاعد الخاص بالمطبعة الاتحادية أقل نجاحًا؛ لأنه كان يتعين أن يتم من خلاله مَنح قروض كبيرة بفائدة تفضيلية. بعد ذلك بفترة قصيرة، أنهتْ شركة التأمين جِرلِنج كونتسِرن الحماية المهنية الخاصة التي توفرها لمديري أوثِنتوس؛ وأعني تحديدًا «تأمين المدير والمسئولين من المساءلة». كانت هذه خطوة غريبة وإشارة تحذيرية قوية من قِبَل شركة التأمين، وإنْ كانت إشارة لم يكن أحد يرغب في الالتفات إليها. تساءلت صحيفة فاينانشال تايمز دويتشلاند فيما بعد متأملةً تلك الأحداث عمَّا لو كان مَن يعملون هناك «منقذين أو لصوصًا».10
يمكن رواية بقية المأساة بسرعة. في بداية أغسطس عام ٢٠٠٢م، بعد عملية الاستحواذ بثمانية عشر شهرًا فقط، تخلَّتْ شركة أباكس عن مجموعة المطبعة الاتحادية بثمن رمزي هو يورو واحد. لزم شطب الحصة الاستثمارية المملوكة لشركاء أباكس، التي كان يفترض أنها ربع مليار يورو، كخسارة كاملة. تقدَّمت يوت إف فاو فاو جيه نوين أوند درايسِجستِه فِرموجِنزفِرفالتونج، الكائنة في برلين، ودينوس فِرموجِنزفِرفالتونج الكائنة في هايدلبرج كمشترين، وحصلت يوت إف فاو فاو جيه على ٩٤ في المائة من رأس المال. الاسمان الغامضان هما واجهة لمحامي فرانكفورت بشركة المحاماة كليفورد تشانس، التي أعدتْ أصلًا عقود شراء أباكس للمطبعة الاتحادية. كان هؤلاء المحامون آنذاك يَلعَبون دَوْر الأمناء لصالح بنك هيلابا، الذي كلَّفهم بالبحث عن مشترٍ «حقيقي».11 رحل بافلوفسكي وتسابي عن منصبيهما بعد أقل من سنة من الإدارة المتذبذبة للأزمة. أما لانشتاين، رئيس المجلس الإشرافي، فتخلَّى عن منصبه بعد استشعاره الإنهاك فيه. فمِن دون حماية الغطاء التأميني الذي توفِّره جرلنج كان سيصبح مسئولًا بأملاكه الشخصية في حالة إثبات وقوع الإدارة في أخطاء. علِق الديمقراطي الاجتماعي في ذاكرة أعضاء المجلس الإشرافي الآخرين بسبب قلقه الدائم بشأن ضرورة تفادي صراع مفتوح مع النقابات العمالية دون شروط خوفًا من التقارير الصحفية السلبية.

لم يعترف بنك هيلابا بضرورة إجراء تخفيضات للأصول بمقدار غير محدد إلا بعد أن اختتمت أوثِنتوس سنتها المالية الثانية بخسارة قياسية جديدة وانخفاض المبيعات إلى ٢١٢ مليون يورو. نبذت متحدثة رسمية هذا الاعتراف المتأخر بقولها إن «رجل الأعمال الحصيف» من واجبه القيام بهذا. هذا التعليق بشأن رجال الأعمال الحصفاء لا بد أنه أراح مديرين كثيرين في بنك هِسِّن وتورنجِن الادخاري. فبنوكهم هي التي سيتعيَّن عليها أن تدفع ماليًّا في النهاية ثمن كارثة القرض الهائل الذي منحه بنكها المركزي. ما كان يمكن تفادي انهيار مجموعة المطبعة الاتحادية إلا بتنازل بنك هيلابا عن بعض مستحقاته. بعد ذلك بفترة قصيرة، تخلَّص المُلَّاك الجُدد على عجل من أورجا كارتِنسِستِمِه؛ حيث مُنحَت، مقابل يورو واحد، لجي دبليو كارد هولدنج الكائنة في بامبرج، وهي شركة يملكها صاحب يانصيب في جنوب ألمانيا. رُوِّج لهذا البيع بطبيعة الحال كخطوة مهمة على الطريق إلى تمكين أوثِنتوس من النهوض من جديد، حتى على الرغم من أن أورجا سِستِمهاوس خُسرت من جديد في هذا التحرك. كانت أعمالها في مجال أنظمة الوثائق الثبوتية قد بُنيتْ بمجهود عظيم أُنفق على قدرتها التطويرية. بالنسبة إلى أوثِنتوس، كان هذا يعني أيضًا ضرورة شطب شهرة شركة أورجا وكل الائتمان الممنوح لها من الدفاتر باعتبارهما خسارة كاملة. كان مجموع ذلك الائتمان بمئات الملايين من اليوروهات. لكن كشرط لهذا البيع، اضطر بنك هيلابا من جديد إلى تسليف أورجا مبلغًا آخر بعشرات الملايين من اليوروهات.

بموجب عقد مدته سنتان، تولَّى أورليش فار عندئذٍ منصب رئيس إدارة أعمال ما تبقَّى من المطبعة الاتحادية المحترمة. كان بنك هيلابا قد استقطب هذا العضو السابق بمجلس إدارة ميتالجيزلشافت الكائنة في فرانكفورت بعد تقاعده. كان يفترض أن يُعيد فار هيكلة المطبعة الاتحادية ويَعُدَّها لبيع جديد؛ لاعتقاد شركة استشارات الأعمال رولاند برجر إمكانية إعادة المجموعة إلى الربحية في سنتين. لكن بأيِّ منتجات وبأيِّ ثمن؟ كانت المطبعة الاتحادية قد أُضعفت بشكل دائم في طبع النقد. فلم يكد يصل بافلوفسكي وتسابي — المديران اللذان أوفدهما أباكس — إلى برلين حتى مارسا خيار بيع لإعادة بيع آلة سوبر-إنتاليو وآلة سوبر-سيمولتان إلى مُصنِّعهما كوباو-جوري، وقد فعلا هذا في آخر لحظة ممكنة بموجب العقد، وتحمَّلا خسائر كبيرة أيضًا. حرم هذا الإجراء المطبعة الاتحادية من المرونة التي تحتاج إليها في الإنتاج، وأخرجها نهائيًّا من المنافسة الدولية في طبع أوراق النقد. كان رحيل كابِش المفاجئ أمارة إضافية على أن برلين هي الخاسر في السباق على طبع أوراق النقد. الطلب على طبع أوراق إحلال اليورو محدود، وكانت الحصة المخصصة من هذا للمطبعة الاتحادية فئتين فقط بإجمالي ١٠٠ مليون ورقة في عام ٢٠٠٤م. هذه الكمية تكفي لئلا تموت، لكنها لا تكفي لكي تحيا. ويسعنا الحديث بشكل عابر عن صعوبة تحقيق كفاءة في تكاليف الطبع بمثل هذه الطلبيات الصغيرة. كانت برلين منذ زمن طويل قد صارت تعتمد على المساعدة الضمنية من جيزيكه أوند ديفريَنت، التي كانت تمرِّر إليها من حين إلى آخر طلبية طبع، كبضعة ملايين من الوحدات لليمن أو تنزانيا أو إستونيا. كانت أعمال الطوابع هي أيضًا في انحدار؛ لأن دويتشِه بوست (البريد الألماني) كان قد اتجه إلى شركات طباعة من الخارج رغبةً في تقليص التكاليف. هناك طاقة إنتاجية كبيرة تقبع أيضًا خاملةً فيما يخص طبع جوازات السفر وطبع رخص القيادة على هيئة بطاقات؛ نظرًا لقياس حركة السوق على نحو خاطئ. عُقدت آمال كبيرة على بطاقات الهوية، لكن ما يلزم من أموال لإجراء البحوث الملائمة غير موجود. أضعف بيع أورجا مركز المطبعة الاتحادية في سوق بطاقات الهوية بكل أنواعها، وهي سوق تشهد منافسة حامية. تعتمد برلين اليوم بالكلية على مورِّدين للحصول على البرمجيات والأجهزة، سواء فيما يخص المقاييس الحيوية أو تطوير نظام مراقبة للمعابر الحدودية وبرامج رئيسية لإدارة الرقابة على الحدود. الطلبية الكبرى لتوريد بطاقات ذكية مزوَّدة بشريحة لسائقي الشاحنات، التي يفترض استخدامها في مخطِّطات السرعة الرقمية داخل الاتحاد الأوروبي، خُسرت لصالح اتحاد شركات أجنبي. ونظام الحفظ الإلكتروني للإقرارات الضريبية وطلبات التقديم الموجود في المخزون لديها ولدى مورِّدين آخرين يطرح بعض التساؤلات الجادة: إلى أيِّ مدًى سيستخدمه المواطنون؟ وما الذي سيجلبه للمطبعة الاتحادية من حيث المبيعات والأرباح؟

منذ أن حُوِّلت المطبعة الاتحادية إلى شركة محدودة استعدادًا لخصخصتها، استُغني عن ثلثي القوة العاملة، بإجمالي يزيد عن ٢٠٠٠ رجل وامرأة، فضلًا عن فُرَص التلمذة الصناعية الضائعة. فلا ننسى أن المطبعة الاتحادية كانت من أكبر مدرِّبي التلامذة الصناعيين في مجال الطباعة في برلين. لا شك أن تخفيض العمالة كان ضروريًّا، لكن العجلة التي تمَّ بها هذا لم تكن نتيجة ترشيد مدروس، بل نتيجة تخطيط أعمال على أيدي هواة. ولم يتوقَّف هذا التوجُّه إلى الآن. أُنشئتْ مؤسسة للتوظيف والتأهيل (بيه كو جيه) لتولي مسئولية مئات العاملين بالمطبعة الاتحادية لإعادة تدريبهم أثناء فترة انتقالية. كان يُفترض أن تُخفَّض القوة العاملة بأكملها إلى ما دون ١٠٠٠ عامل بكثير بنهاية عام ٢٠٠٥م،12 لكن تبيَّن أن بيه كو جيه أداة سياسة توظيف عقيمةٌ نوعًا ما، وأداةٌ أعلى تكلفةً بالنسبة إلى دافعي الضرائب، كما هو متوقع. في نهاية عام ٢٠٠٥م، كانت المطبعة الاتحادية لا تزال لديها ١٢٠٠ عامل، وهو عدد يعتبر كبيرًا في هذه الصناعة.

بدا نهج إعادة التأهيل الذي اتخذه فُور منطقيًّا، حتى على الرغم من أن التوقعات التي أعرب عنها لوسائل الإعلام بدتْ لكثير من المراقبين مبالِغة في التفاؤل نوعًا ما. لكن أزمة أوثِنتوس المالية غير المحلولة كانت تغلي ببطء تحت السطح. رحل فُور فجأةً في فبراير عام ٢٠٠٤م تاركًا شركة برلين بعد إشعار مسبق لا يزيد عن بضعة أيام. لم يكن قد شعر بالارتياح قط هناك. كان مديره المالي قد رحل قبله. والمصادفة أن هذا المنصب ظل شاغرًا لمدة ١٠ أشهر بعد ذلك. لم يكن أحد يُريد تلك الوظيفة الصعبة التي لا يَحظَى مَن يشغلها بالتقدير الواجب. علاقة فور بمحامي الأعمال هاينتس-جونتر جوندِرت، المدافع القوي عن بنك هيلابا في أوثِنتوس، لم تكن تخلو من توترات. كان جوندرت، بصفته رئيس المجلس الإشرافي، يحاول ممارسة نفوذ أكثر مما ينبغي على العمليات اليومية، وكثيرًا ما كان فُور يشكو من ذلك.

الاحتفال البسيط بالذكرى الخامسة والعشرين بعد المائة لميلاد المطبعة الاتحادية رتَّبه خليفة فُور، أورليش هامان، في أواخر صيف عام ٢٠٠٤م. قُبيل ذلك، كان هامان، الأصغر سنًّا بكثير، قد ترك شركة صناعة الشرائح إنفنيون، ولم يكن ذلك بمحض إرادته بالكلية. تولَّى مهمة تكاد تكون ميئوسًا منها كمدير أعمال لكلٍّ من الشركة القابضة أوثِنتوس والشركة التشغيلية بوندسدروكراي. لكن وزير المالية كان قد وافق على تأجيلٍ مدتُهُ عشر سنوات لمدفوعات الدَّيْن الأصلي والفائدة على قرض البائع كاملًا والبالغ نحو ٣٠٠ مليون يورو. وكان بنك هيلابا قد قَبِل تأجيل دفع الفوائد بالإضافة إلى تخفيض مَرْتبة ثلث قرضه الرئيسي البالغ ٤٥٥ مليون يورو. بالنسبة إلى الجزء المتبقي من القرض — ما زال يبلغ نحو ٣٣٠ مليون يورو — لم يتم التنازل إلا عن أقساط السداد المجدولة. لكن أوثِنتوس لم تكن قادرة حتى على جمع عبء الفائدة المخفض على هذا الدَّيْن. سلَّطَتِ القائمة المالية للمجموعة لسنة ٢٠٠٤م — وهي الأولى التي قدَّمها هامان — الضوء على هذا الجانب. كانت المبيعات قد تقلَّصت إلى ١٨١ مليون يورو، لم يساهم فيها طبع النقد إلا ﺑ ٢٤ مليون يورو. وجَّه منتِج جوازات السفر البريطاني المربح سِكيوريتي برنتِنج آند سِستمز، الذي يَتْبع الشركة القابضة تبعيةً مباشرة، مبيعاته البالغة ٧٠ مليون يورو إلى أرقام المجموعة. لكن ذلك لم يُحدِث ذرَّة فرق بالنسبة إلى بؤس أوثِنتوس. فقد أفلستِ الشركة وعليها دَيْن تراكُمي يبلغ نحو ١٫٢ مليار يورو، وهو ما لم يُغطَّ بحقوق مِلكية لفترة من الزمن. إنَّ صبْرَ الدائنين، الذين ليس أمامهم أي خيار، هو وحده الذي يُحافِظ على بقاء شركة برلين، مؤقتًا على أيِّ حال.

إذن فعلى المدى القصير، تعتمد المطبعة الاتحادية من جديد، بالطريقة المجرَّبة والموثوقة، على السوق المحلية التي تَحمِيها الحكومة. بدايةً، يفترض هامان حدوث ارتفاع بمعدل سريع في طبع أوراق إحلال اليورو بداية من عام ٢٠٠٦م. ستظل هذه العقود تُخصَّص لشركات طباعة النقد بمعرفة البنك المركزي المعني، وستطبع شركة برلين كمية لا بأس بها تبلغ ٧٠٠ مليون ورقة، ومعروف أن طبع أوراق اليورو يُدِرُّ عائدًا سخيًّا. كذلك هناك جواز السفر الإلكتروني الألماني الجديد. سيحتاج الألمان إلى ما بين ٢٫٥ و٣ ملايين جواز كهذا سنويًّا حسبما يتوقَّع هامان، وسيكون بمقدور المطبعة الاتحادية أن تتولَّاها جميعًا بفضل العقد الحصري الموقَّع مع وزارة الداخلية. فبسعر محدَّد ﺑ ٥٩ يورو نتيجة لهذا الاحتكار التوريدي المُجاز من السلطة السياسية، لا شك أن جواز السفر الإلكتروني الألماني يُبشِّر بأنْ يكون واحدًا من أغلى الجوازات المزوَّدة بخاصية المقاييس الحيوية في أوروبا. لم يُسأل دافع الضرائب، على سبيل الاحتياط، عن رأيه في هذه الإعانات المالية الإضافية — والمخفية الآن — التي تُدفع لأوثِنتوس.

لكن على هامان أن يحسِّن أوضاع المجموعة تمهيدًا لبيعها بحلول عام ٢٠٠٧م. ولا ننسَ أن هيلابا ووزير المالية يودَّان رؤية أموالهم من جديد. استعدادًا لهذا الموعد النهائي، يريد هامان تحويل المطبعة الحكومية التي جفَّ ضَرْعها إلى مجموعة ناشطة دوليًّا للمنتجات والخدمات الرفيعة الأمن، تحت شعار «وثائق ثبوتية مُؤَمَّنة»؛ مما يعني أنظمة إثبات هُوية وجوازات سفر إلكترونية ومراقبة حدودية واتصالات حكومية وصولًا إلى مستوى البلديات. المصادفة أن هذا الهدف أُعلن مرارًا وتكرارًا منذ الخصخصة المشئومة، وباء بالفشل مرة بعد أخرى. والآن وفي ظل قلة الأموال المخصصة للبحوث والتطوير، سيكون تحقيقه أصعب. زاد بيع أورجا من ضَعف المطبعة الاتحادية، في حين ما زالت مسألة بناء قدرة تسويقية خارجية فعالة عالقةً. ويبدو أن هامان، في محاولته جعل الشركة ناشطةً عالميًّا في مجال الوثائق الثبوتية المُؤَمَّنة، جاهز للتخلص من معظم أنشطة أعمال المطبعة الاتحادية التقليدية. أُسند الطبع الإلكتروني لوثائق براءات الاختراع بالفعل إلى بولندا، كما أن نشاطَيْ طبع الطوابع المتداعي وطبع ملصقات ضرائب الإنتاج التي توضع على البضائع مطروحان للبيع. كما يرغب هامان في بيع سِكيوريتي برنتِنج آند سِستمز، التي تصنع جواز السفر البريطاني وستُنتِج على الأرجح بطاقة الهوية البريطانية المخطَّط إصدارها. في نهاية عام ٢٠٠٥م، ذكرت صحيفة بريطانية أن سِكيوريتي برنتِنج آند سِستمز معروضة للبيع نظير ١٥٠ مليون جنيه استرليني (٢٢٢ مليون يورو)؛ أي حوالي ثلاثة أضعاف السعر الذي دفعتْه أباكس ثمنًا لها.13 ويبدو أن هامان لا يرى إلا مستقبلًا محدودًا للمطبعة الاتحادية على المدى الطويل، حتى في مجال طبع أوراق النقد، ما إنْ يتم تحرير سوق طبع أوراق اليورو عمليًّا (في عام ٢٠١٢م). إذن فكل هذه التصفية للاستثمارات ستترك أوثِنتوس أضعف حتى مِن ذي قبل. لكن هذا البؤس ليس خطأ هامان، فما هو إلا وارث له. لم يحدث كثيرًا أنْ تمَّ التعامُل مع خصخصة مؤسسة بقلَّة تبصُّر ولا مبالاة كهذه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤