الفصل التاسع

كيف بدَّدتْ تشيكوني كالكوجرافيكا رأسمالها الائتماني

إنَّ الصراع العالمي على سوق طلبيات طبع النقود التي تتقدَّم بها البنوك المركزية يدور بلا هوادة، لدرجة أنه لا ينسجم دائمًا مع المزاعم النخبوية لهذه الصناعة. فيحلو لممثلي هذه الصناعة التأكيد على المقدار العظيم من الثقة الذي لا بد أن تُولِيَه البنوك المركزية لطبَّاعي نقدها، وضرورة أن تتحقَّق هذه الثقة كل يوم. والحقيقة أن الثقة هي أعظم رأسمال لدى شركات طباعة أوراق النقد، بل هي أعظم حتى في قيمتها من أيِّ مهارة فنية. لا تصبح الورقة المطبوعة نقدًا إلا بعد أن يُضفي تصرُّف إداري بسيط من قِبَل المؤسسة المصْدِرة هالةَ ما يعرف بالعُملة القانونية (التي لها قوة الإبراء القانوني) على ما هو مجرد قطعة من الورق الملوَّن. ولا يستطيع أحد ملاحظة ما إذا كانت الورقة مرَّت بهذا الإجراء كما ينبغي أم لا؛ لأنه لا يستلزم إلا قيدًا واحدًا بسيطًا في جهاز كمبيوتر: تسجيل الفئة لحظة إصدارها. لا شيء مطلقًا يخص مظهر الورقة تغيِّره المؤسسة المصْدِرة بفعلها هذا. وهنا يكمن خطر التلاعب؛ لأنه ليس المجرمون وحدهم هم مَن يُزيِّفون أوراق النقد.

طباعة مُؤَمَّنة بلا أمن

في عامَيْ ١٩٩٩ و٢٠٠٠م، قامت شركة بي تي بورا باروتاما إندونيسيا — شركة طباعة وصناعة ورق من مقاطعة القدس بوسط جاوة — بتسليم عدة ملايين من أوراق الشلن الصومالي للعقيد أحمد، أحد الزعماء المتمرِّدين في الصومال. كانت الأوراق مخصَّصة للتداول في «إقليم بونتلاند المتمتع بالحكم الذاتي» في شمال شرق الصومال. كان مُلَّاك بي تي بورا طموحين ولديهم أصدقاء يتمتعون بالنفوذ؛ إذ كانت عائلة الرئيس الإندونيسي المخلوع سوهارتو تملك حصة في الشركة في وقت ما. بفضل هذه الحماية السياسية، نجحت الشركة في مزاولة الأعمال مع بنك إندونيسيا. كانت بي تي بورا قد أنتجت أوراقًا فئة ١٠٠ روبية إندونيسية بنظام الأوفست البسيط دون تخويل رسمي، بل وتلقَّتْ بعد ذلك طلبًا لتوريد أوراق مُؤَمَّنة لطباعة الروبية الإندونيسية، وقد جرَتْ هذه المعاملات على غير إرادة المسئولين في البنك الوطني. كانت وزارة الخارجية الإندونيسية قد سمعت بأمر العقد الصومالي ونصحت شركة الطباعة بعدم قبوله. ومع ذلك ورَّدت بورا الطلبية إلى زعيم المتمردين الصومالي، وقد سجَّلت صحيفة آيجن وول ستريت جورنال الواقعةَ بتفصيل كبير.1 استشهدت بي تي بورا بحقيقة أنها لم تكن بمفردها في هذه الصفقة. كانت برِتِش أمريكان بنكنوت الكائنة في أوتاوا قد طبعت لأمير الحرب نفسِه قبل ذلك بفترة قصيرة. كانت برِتِش أمريكان بنكنوت، التي تصارع مشكلات عديدة، مملوكة للشركة الإعلامية الكندية كويبيكور، ولم تتوقَّف اتصالات الأعمال بينها وبين أمير الحرب إلا عندما بدأت جيزيكه أوند ديفريَنت في مطلع عام ١٩٩٩م التفاوض من أجل شراء هذه المنشأة الكندية.
لم تكن تلك هي الحالة الأبرز من نوعها، ولا كانت الأولى التي تُثير قضية دولية تتمحور حول وجود إطار قانوني لطبع أوراق النقد. كان الجدل حول توريد أوراق النقد قد أُثير في نهاية عام ١٩٦٦م فأهاج الانفعالات، وعندئذٍ أصبح جزءًا من التاريخ الاعتيادي لهذا المجال. فقبل ذلك بعام، كان إيان دوجلاس سميث قد أعلن من طرف واحد استقلال روديسيا، المستعمَرة البريطانية السابقة المسماة روديسيا الجنوبية، زيمبابوي حاليًّا. لم تكن بريطانيا العظمى قد اعترفت بإعلان استقلال روديسيا الجنوبية الأحادي الجانب. في أبريل من العام التالي، طلب بنك الاحتياطي الروديسي، الذي يتخذ من ساليسبري مقرًّا له، أوراق نقد جديدة من جيزيكه أوند ديفريَنت. كانت شركة طباعة النقد البريطانية برادبِري وِلكِنسون قد ظلَّت تطبع النقد لروديسيا الجنوبية لسنوات، لكن الحكومة العمالية في لندن حظرت على شركة الطباعة هذه تسليم نقدها الروديسي الجديد المطبوع. لم يكن قد فُرض بعدُ حظرٌ تجاري، وعندما فرضت الأمم المتحدة حظرًا في النهاية، لم يَرِد ذكر أوراق النقد صراحةً تحت تدابير المقاطعة. لكن ثار جدال حول ما إذا كان يمكن لشركة طباعةِ نقدٍ أن تعرِّض نفسَها للمساءلة بطباعتها نقدًا لصالح بنك وطني مخوَّل قانونًا من قِبَل حكومته، على الرغم من أن هذه الحكومة لم تكن معترفًا بها من قِبَل أعضاء الأمم المتحدة. طلبت جيزيكه أوند ديفريَنت بحث القضية — استُشهد بألمانيا الشرقية كحالة مماثلة — فلم يجد محاموها مشكلةً في ذلك. أرادت ميونخ أن تبدأ في تسليم أوراق النقد في نهاية عام ١٩٦٦م وبداية عام ١٩٦٧م. ورغبةً من التاج البريطاني في ضرب مثل سياسي، أوعز بمصادرة الشحنة في مطار فرانكفورت، قائلًا إنها «نقود زائفة». تلا ذلك جدال دبلوماسي ساخن، طلبت أثناءه حكومة ألمانيا الغربية من الحكومة الروديسية في ساليسبري التنازل عن الوفاء بالعقد من أجل السلام بين الأمم. أخيرًا سحبت روديسيا العقد ووافقت على إعدام نحو ٣٠ طنًّا متريًّا من أوراق النقد، لكنها رفضت دفع تكلفة الأوراق.2 تناولت الصحف في كل أنحاء العالم هذه الواقعة. ثم رفعت الحكومة البريطانية دعوى قضائية ضد جيزيكه أوند ديفريَنت وضد سيجفريد أوتو شخصيًّا. أُسقطت الدعوى الجنائية وانقضت دعوى مدنية بالتعويض بتسوية بين الطرفين. قبلت الحكومة البريطانية تسوية مقدارها ٣ ملايين مارك كتعويض، لكن المبلغ الجزائي لم تدفعه الحكومة البريطانية، بل دفعه بنك الاحتياطي الروديسي بلندن، الذي لم يكن معروفًا حتى ذلك الحين ولم يكن أيضًا له عنوان. وقد افتُرض أن الحكومة العمالية دفعتْ لنفسِها المال من احتياطيات بنك الاحتياطي الروديسي بساليسبري المحتفَظ بها في لندن.

سُرِّب جزء من القصة إلى الصحافة البريطانية. لكن عندئذٍ اتخذ الأمر منعطفًا لا يعتاده الجمهور كثيرًا. سرعان ما اتخذ بنك الاحتياطي الروديسي بساليسبري الترتيبات اللازمة كي تبني جيزيكه أوند ديفريَنت له مطبعة نقد، وكإجراء احتياطي، استُخدمت شركةٌ جنوب أفريقية لا تشوبها شائبة كوسيط. باع سيجفريد أوتو لهذه الشركة آلتَي إنتاليو ثنائيتَي الألواح للطبع الملوَّن من مطبعته بسعر جيد، وقبل أن تلاحظ الاستخبارات البريطانية، شُحِنت الآلتان إلى جنوب أفريقيا ونقلتا شمالًا من هناك إلى روديسيا المجاورة. في غضون بضعة أشهر كانت حكومة إيان سميث لديها مطبعة نقد خاصة بها اتُّخذت في قبو أحد الأبنية الحكومية، في حين اشترت جيزيكه أوند ديفريَنت محليًّا آلتين أكثر كفاءةً كبديل. ثم ورَّدت شركة ميونخ المواد الاحتياطية اللازمة للإنتاج الروديسي لفترة طويلة، على الرغم من وجود محاولات عبر القنوات الدبلوماسية من قِبَل شركة دي لا رو لتعطيل هذا، ولا سيما بعد تغيُّر النظام الحاكم في روديسيا. واليوم ما زال بنك الاحتياطي الزيمبابويُّ من بين عملاء جيزيكه أوند ديفريَنت.

والآن لنطرح من جديد أسئلة سبق أن طرحناها: مَن يجوز له أن يأمر بطبع أوراق نقد؟ ومَن يجوز له طبعها؟ وتحت أي ظروف؟ ماذا يحدث مثلًا عندما يرى الانفصاليون الشيشانيون استقلالهم عن الإمبراطورية السوفييتية المتفككة قاب قوسين أو أدنى ويُفاتحون شركة لطباعة النقد بشأن طبع عملتهم الخاصة؟ ماذا ينبغي على شركة طباعة النقد فعله عندما يطلب زعيم متمرد — كما حدث في الصومال مع محمد فرح عيديد الذي سبق له أيضًا التعاون مع أسامة بن لادن — طباعة نقد خاص به؟ أو عندما يُريد التحالف الشمالي أو طالبان طباعة نقد لأفغانستان كي يدفعوا أجور جنودهما ويشتريا الأسلحة؟ استباقًا للاستفسار، يوجد في هذه الصناعة التزام طوعي من جانب المورِّدين بعَدَمِ تمرير آلات أو موادَّ أو معرفة بالتقنيات إلى أشخاص غير مصرَّح لهم. على سبيل المثال، لن تورِّد فويت — الشركة الألمانية الكائنة في هايدنهايم والمتخصصة في تصنيع الآلات ذات القوالب الأسطوانية لصنع الورق المُؤَمَّن — منتجاتها إلا بعدَ أنْ تبرز الجهة تصريحًا من بنكها الوطني، وبما أنَّ بي تي بورا لم تقدِّم هذا التصريح، رفض كلاوس تونج، ممثل فويت-هايدنهايم، تقديم أيِّ دعم فني لآلة صناعة الورق ذات القوالب الأسطوانية. لكنْ لا توجد أيُّ لائحة ملزِمة قانونًا يتم فرضُها على المستوى الوطني أو الدولي من خلال مراقبة بنك وطني أو صندوق النقد الدولي فيما يخص صنع ورق إنتاج النقد أو طبع أوراق النقد. بدا في الحقيقة أنَّ صندوق النقد الدولي مُقدَّر له شغل هذا الدور. في ألمانيا، يجب أن تجدِّد جيزيكه أوند ديفريَنت تصريحها الخاص بتصنيع الورق المُؤَمَّن كل سنتين في البنك الاتحادي. هناك بلدان أخرى لا تُراعي حتى مثل هذا المتطلَّب الهيِّن؛ ومِن ثم تستطيع كل شركة صناعة ورق أو شركة طباعة تجارية أن تجرِّب حظَّها كمنتِج أوراق نقد، كما تبيِّن حالة بي تي بورا. وهذا لا يخلو من المخاطر بالنسبة إلى شركة الطباعة. فعندما أرادتْ كرواتيا طباعة أوراق الكونا الجديدة بمعرفة جيزيكه أوند ديفريَنت بعد حصولها على استقلالها بفترة وجيزة، كان التشابُه بين الورقة فئة ١٠ كونات التي رسمها فنان رسوم جرافيكية كرواتي والورقة فئة ١٠ ماركات ألمانية مذهلًا. سُئل البنك الاتحادي عن هذا كإجراء احترازي، لكنه لم يُثِرْ أيَّ اعتراضات. ثم صارت الإثارة أعظم عندما كانت الأوراق فئة ١٠ كونات تُمرَّر احتيالًا في أسواق البقالة الألمانية بدلًا من الأوراق فئة ١٠ ماركات؛ مما استلزم سحب الورقة فئة ١٠ كونات وطبعها من جديد بألوان مختلفة.

ومن ثم تبنَّى صانعو أوراق النقد الجادون قواعد أساسية لأنفسهم. أولًا: لا يجوز إصدار أمر بطبع أوراق النقد من حيث المبدأ إلا بمعرفة المؤسسة المُصْدِرة بموجب القانون، وهي عادة البنك المركزي أو مجلس عُملة. ثانيًا: يجب توريد أوراق النقد إلى هذه المؤسسة المُصدِرة. ثالثًا: لا يجوز أن يأتي ثمن هذا النقد إلا من هذه المؤسسة. هذه الرقابة الذاتية حسنة النية، لكنها لا تحمي من التلاعب عندما تدخل المصالح السياسية على الخط. الطبع لصالح الطوائف المتحارِبة في حرب أهلية مستنكَر في هذه الصناعة؛ حيث خرج الشيشانيون صفر اليدين عندما أرادوا طباعة نقد خاص بهم وعرضوا الأمر على العديد من شركات طباعة النقد الخاصة. يمكن أن يتصور المرء أن رفض طلب ممثليهم المتحمسين لم يكن سهلًا. لكن كان ينسجم مع موقف موسكو السياسي أن شركة طباعتها الحكومية جوزناك كانت تطبع بكثافة للتحالف الشمالي الأفغاني، فيما كانت شركة الطباعة الحكومية في باكستان الصديقة تساعد طالبان. وقد ساهمتْ شركتا الطباعة كلتاهما بسلوكهما هذا في انهيار الاقتصاد الأفغاني بعد نهاية الأعمال العدائية، وربما كان هذا قصدهما. لكن شركات طباعة النقد الخاصة يمكن أيضًا أن تَضِلَّ طريقَها في المواقف التي تغيب عنها القواعد، وتكون النتائج فارقة.

شركة طباعة النقد الوحيدة في نصف الكرة الجنوبي

كان النمو في السوق المتاحة لأوراق النقد قد تحقَّق لسنوات — كما سبق أن ذكرنا — بالدرجة الأولى بفضل بلدان ما يسمى العالم الثالث. لكن طبع نقد هذه البلدان يتم، باستثناءات قليلة، بمعرفة شركات طباعة نقد رفيعة الأمن فيما يسمَّى العالم الأول. وازن الأخَوَان تشيكوني في بوينس آيرس فرصه دخولهما هذه السوق المربحة. كانا يريدان كسر هيمنة شركات طباعة النقد الخاصة بالدول الصناعية بإشارتهما إشارة ثاقبة إلى أنهما يملكان مطبعة النقد الخاصة الوحيدة في نصف الكرة الجنوبي. كانت فكرة مغرية، وحالة تنمُّ عن درجة خطيرة من الثقة الزائدة بالنفس. في النهاية كلَّف هذا كلا الأخوين عملًا أفنيا فيه حياتهما.

كان إكتور هوجو ونيكولاس تاديو تشيكوني ابنَيْ مهاجر من جنوب إيطاليا. كانا شخصين يتمتعان بسمعة لا تشوبها شائبة وسلوك قويم. أنشأ الأخوان شركة طباعة صغيرة في بوينس آيرس بكثير من الاجتهاد والجرأة. تُظهِر صور تعود إلى خمسينيات القرن العشرين الاثنين كشابين كلٌّ منهما يرتدي قميصًا بلا سترة فوقه وهما في مطبعتهما. في نهاية ستينيات القرن العشرين استثمرا أموالًا فتوسَّعا في الطباعة المُؤَمَّنة بإنتاجهما تذاكر اليانصيب ونماذج الشيكات والسندات المالية والطوابع. في أوج نجاحهما كانا يطبعان ما يصل إلى ٣٠٠ مليون نموذج شيك مخصوص، وأحيانًا كان يتم هذا بالطباعة الباهظة التكلفة من لوح فولاذي محفور. كان مجال العمل الجديد ناجحًا وأثار طموحاتهما. كان نيكولاس، الأصغر والأكثر طموحًا بين الشقيقين، هو القوة الدافعة وراء الفكرة.

في نهاية سبعينيات القرن العشرين، اشترى الأخوان قطعة أرض صناعية كبيرة على مشارف بوينس آيرس بجوار طريق بان أمريكانا الرابط بين بِلدان الأمريكتين، وشرعا هناك في بناء مطبعة ذات تدابير أمنية صارمة. كان في قلب هذا المشروع سرداب بمساحة ٦٠٠ متر مربع بجدران من الخرسانة المسلحة بسمك متر، وقد بُني تحت منسوب المياه الجوفية لنهر ريو دي لا بلاتا القريب. حتى ممثلو الإنتربول أبدَوْا إعجابَهم عندما عَايَنوه. سعى جورجو كُوِن، المسئول عن أمريكا اللاتينية لدى شركة دي لا رو، بطيب نفس لتحقيق طموحات الأخوين. كان كُوِن قد سبق له العيش سنوات عديدة في الأرجنتين في خمسينيات القرن العشرين، وتجمعه روابط عائلية ببوينس آيرس. كان الأخوان تشيكوني قد اشتريا منه من قبلُ خطًّا عاديًّا مستعملًا لطبع تذاكر اليانصيب ونماذج الشيكات.3 وباعتبارهما طبَّاعَين رفيعَيِ الأمن للنقد والوثائق الثبوتية، كان الأخوان يُبشِّران بأنْ يُصبحا عميلين أعظم أهميةً للآلات المستعملة، كان هذا بدوره سيسهل توريد آلات جديدة إلى أماكن أخرى. والحقيقة أن الأخوين تشيكوني اشتريا فعلًا الآلات بحرِّية؛ حيث استثمرا نحو ٤٠ مليون فرنك سويسري في خطين كاملين آخرين من آلات الطباعة. كانت هذه الآلات آلات مستعملة خضعت لتجديد شامل بمعرفة شركة أورماج.4 أخيرًا، وفي مطلع تسعينيات القرن العشرين، بلغ بهما الأمر أن اشتريا آلة سوبر أورلوف إنتاليو من المصنع مباشرة. كانت الآلة الجديدة العالية الأداء باهظة التكلفة. ساعد جورجو كُوِن — الذي ربما كانت لديه آنذاك ذكريات حلوة مشوبة بالمرارة للفترة التي قضاها كمالك للشركة العائلية السابقة في ميلان (كالكوجرافيَّا إي كارتيفالوري) — الأخوين الجريئين بكل سرور، فرتَّب شروط دفع ملائمة فيما يخص الآلات، وعرَّفهما على قنوات اتصال دولية، لكنه — كما يقول — لم يملك قط حصة في شركة طباعة النقد الأرجنتينية الخاصة.

كان المشروع الطَّمُوح يقف منذ البداية على أرض غير مستقرة. امتدت فترة البناء عقدًا من الزمن، وكان الوضع في الأرجنتين كارثيًّا. في البداية جاءت حرب فوكلاند مع بريطانيا التي شنَّها المجلس العسكري الحاكم، ثم جاء التضخم المفرط، ليؤدي هذه المرة إلى تخفيضين للعملة في سنتين. شغل روبرتو تي أليمان — ناشر الصحيفة الأسبوعية أرجنتينشه تاجِس تسايتونج في بوينس آيرس — مرتين منصب وزير المالية لفترة وجيزة، ووفق تقديراته خلال مقابلة مع هذه الصحيفة أنَّ بيزو سنة ١٨٩٩م يساوي ١٠ تريليونات من بيزوهات سنة ١٩٦٩م، لكن بيزو سنة ١٩٧٠م يساوي ١٠٠ مليار من بيزوهات سنة ١٩٨٣م. بعد إعادة تقييم أخرى لسعر صرف العملة، انخفضت قيمة «البيزو الأرجنتيني الجديد» في غضون سنتين إلى جزء فقط من ١٠ ملايين جزء من قيمته الأصلية. لزم أن يستعاض عن «الأوسترال»، الذي أُدخل آنذاك، ببيزو جديد آخر عام ١٩٩١م بنسبة ١٠٠٠٠ أوسترال للبيزو الجديد. تلا ذلك ربط سعر صرف العملة بالدولار، الذي كان قد تُخلِّي عنه في تلك الأثناء. ويمكن القول إن التضخم المفرط جزء لا يتجزأ من السياسة الاقتصادية الأرجنتينية، ولا بد أن هذا كان تحديًا هائلًا أمام أي رائد أعمال.

ألحق سوء إدارة الأرجنتين للسياسة النقدية ضررًا بالغًا بالأخوين تشيكوني بوجه خاص؛ حيث ألقت بهما الضائقة الرأسمالية أخيرًا بين أحضان رجل أعمال مشبوه، لكن يتمتع بنفوذ، وكان من أصلٍ لبناني؛ هو ألفريدو يبران.5 كان دون ألفريدو ينتمي إلى ما يُسمَّى المافيا العربية؛ وهي عُصبة تضم أشخاصًا من أصل عربي كانوا أصدقاء لرئيس الحكومة كارلوس شاول منعم. أقام يبران المغمور الفقير، الذي انتحر فيما بعدُ في ظروف غامضة، أكبر شركة في البلاد للنقل المُؤَمَّن بطرقٍ تذكِّر بممارسات الأعمال الأمريكية خلال فترة حظر الكحوليات. يلعب النقل المُؤَمَّن دورًا مهمًّا في الحياة الاقتصادية للأرجنتين؛ لأن المعاملات التجارية يُسدَّد ثمنها نقدًا كلما أمكن، وبمبالغ بالملايين. كان يبران قد ساعد الأخوين على شراء رُخصة ثانية مربحة لتذاكر اليانصيب، وكانت لديه خطط كبرى من أجلهما.6 كان يتصور أنَّ بإمكانه ترسية الطبع المقرَّر في الخطة لجوازات السفر وبطاقات الهوية الأرجنتينية الجديدة على الأخوين تشيكوني بفضل علاقاته الوثيقة بالحكومة، وأن تتولَّى شركة السيارات المصفحة المملوكة له عندئذٍ توزيع هذه الوثائق على نحو حصري. كان ذلك يُبشِّر بأنْ يُصبح مجالَ أعمال قويًّا؛ لأن حيازة إثبات شخصية مخصوص يسمَّى «سِدوﻻ دي إدِنتيداد» شرطٌ لممارسة حق التصويت في الأرجنتين. فكل مواطن يجب أن تكون لديه هذه البطاقة. فتح يبران باب البنوك أمام الأخوين اللذين يفتقران إلى المال.7 قدَّم بنك بانكا سفِتسرا إيتاليانا ضمن آخرين قرضًا بقيمة ٢٥ مليون دولار لأجَل ثلاث سنوات للفراغ من المطبعة، وهو القرض الذي اضطر الأخوان إلى تسليم كل أسهمهما في المطبعة للبنك كضمان له. لكن الأخوين تشيكوني واجها صعوبة في كسب المال لخدمة القرض البنكي. لم تستطع تدفقاتهما النقدية تغطية أقساط الآلات المستعملة حتى. أوقفت جداول السداد، وتأخر سداد اعتماد القبول. طلب المجلس الإشرافي لشركة دي لا رو جوري من جورجو كُوِن تفسيرَ ما حدث، وقد فسَّره. كان واضحًا تمامًا أن الأخوين تشيكوني تحمَّلا ما لا يُطيقان ماليًّا.
لم يُقبَل الأخوان تشيكوني إلا بصعوبة كعضوين كاملَيِ العضوية في الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة. كانا بحاجة إلى أحدٍ يضمنهما، وقد تكرَّمت عليهما شركة لوزان بذلك. منذ ذلك الحين فصاعدًا، شدَّد الأخوان بقوة في أنشطتهما الترويجية على عضويتهما في هذه الهيئة الحصرية باعتبارهما «شركة الطباعة الرفيعة الأمن الوحيدة في نصف الكرة الجنوبي». كذلك غيَّرا أيضًا اسم شركتهما المساهمة العائلية إلى تشيكوني كالكوجرافيكا (تشيكوني لطباعة الإنتاليو) للتأكيد على مجال عملهما الجديد. لكن العمل في مجال أوراق النقد لم ينطلق انطلاقة حقيقية قط، فلم يُسمح لتشيكوني إلا في حالات استثنائية بطبع النقد للأرجنتين، وتحديدًا كلما عجزت المطبعة الحكومية الأرجنتينية الفوضوية كاسا دي مونيدا عن تغطية الحاجة إلى النقود الورقية المتضخمة. من ناحية أخرى، كانت تشيكوني مجهولة تمامًا في الخارج كشركة لطباعة النقد. فقد أُعدت عام ٢٠٠٠م قائمة بالبلدان التي طبعت لها تشيكوني كالكوجرافيكا بالفعل، فلم تذكر سوى سبعة بلدان. بالنسبة إلى أي شركة طباعة نقد، كان ذلك يكفي لئلا تموت، لكنه لا يكفي لكي تحيا.8 كانت شركات طباعة النقد الراسخة في السوق (دي لا رو، أمريكان بنكنوت، جيزيكه أوند ديفريَنت، فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير) تعرف تمام المعرفة كيف تدافع عن سوقها.

أوراق نقد لحكومات اللصوص

لكنَّ الاختراق السوقي الذي كانت تشيكوني تَتُوق إليه بدا في المتناول في منتصف عام ١٩٩٣م؛ إذ تلقَّتْ تشيكوني كالكوجرافيكا استفسارًا بشأن استعدادها لطبع أوراق نقد لزائير، التي كانت سوقًا جذابة باعتبارها ثالث أكبر بلد أفريقي من حيث السكان، الذين يزدادون بسرعة غير عادية.9 علاوة على ذلك، كان البلد يُعاني من تضخم جامح.10 ويحلو لشركات طباعة النقد هذا المزيج؛ لأنه يدل على حاجة متزايدة باستمرار إلى أوراق النقد. ظلت زائير لسنوات عميلًا حصريًّا لجيزيكه أوند ديفريَنت. كان لودفج ديفريَنت المكنَّى «لوتس» قد تلقَّى دعوة من بنك زائير لزيارة البلد عام ١٩٧٠م عندما كان المدير الفني لجيزيكه أوند ديفريَنت، وقد فاز به كعميل؛ إذ كان هناك توتر بشأن الأسعار والجودة بين بنك زائير وشركة دي لا رو، التي ظلت لفترة طويلة تطبع نقد هذا البلد.

خلال التضخم المفرط، كانت زائير تحتاج إلى أكثر من ٨٠٠ مليون ورقة سنويًّا. كان البلد لديه مطبعة نقد تُعرف باسم أوتِل دي مونيه دي زائير، أقامتها جيزيكه أوند ديفريَنت في إطار اتفاقية طويلة الأجل، بل وكان فريق فنيين من ميونخ يتولى الإدارة الفنية، لكن حدث تعثُّر طويل الأمد في عمليتَي التخطيط والإنشاء؛ مما استلزم الاحتفاظ بآلات الطباعة الغالية التكلفة في المخازن لسنوات. عندما افتُتحت المطبعة أخيرًا عام ١٩٨٧م، بعد ثلاثة عشر عامًا من التخطيط والإنشاء، كانت طاقتها الإنتاجية غير كافية بالمرة لتلبية الاحتياج المتصاعد إلى نقود تضخمية. كان خطَّا الآلات العاديَّان معًا مهيأَيْن لإنتاج ٢٥٠ مليون ورقة فقط. بالتأكيد لم تكن ميونخ مسئولة عن سوء الإدارة المستشري في زائير، لكنها لم تكن أيضًا تأسَى كثيرًا على مشكلات مطبعة أوتِل دي مونيه. على هذا النحو ارتفع عدد أوراق النقد الواجب طباعتها في الخارج، وكانت تورِّدها جيزيكه أوند ديفريَنت حصريًّا. كان أحد أهم الأحداث في تاريخ الشركة الحديث ما أسماه بيان جيزيكه أوند ديفريَنت بتواضع «التعاون مع زائير». كان البلد الواقع في وسط أفريقيا في الحقيقة هو الأهم من بين كل عملاء شركة ميونخ في مجال أوراق النقد؛ حيث بلغت المبيعات التراكمية المحقَّقة هناك على مر السنوات ما يعادل ٢٥٠ مليون يورو. كان نشاطًا مربحًا جدًّا، على الرغم من أن المد المتصاعد من الأوراق المطلوب طبعها جعل شركة ميونخ نفسَها في نهاية المطاف تواجه مشكلات في الطاقة الإنتاجية. لهذا السبب أنتجت جيزيكه أوند ديفريَنت جزءًا من الأوراق المخصصة لزائير على طابعات مؤجَّرة لهذا الغرض في بورما. وعندئذٍ أُصدرت هذه الأوراق في زائير كنقدٍ من المطبعة المحلية. في حقيقة الأمر، كان مصدر هذه الأوراق، التي سُعِّرت بأسعار السوق العالمية، هو دولة بورما المتدنِّية الأجور وكان ذلك سرًّا تم التكتُّم عليه بعناية، وحتى في بنك زائير لم يكن أحد يعلم بهذا غير الإدارة العليا.

كان نحو ثلاثة عقود من ديكتاتورية موبوتو قد دمَّر اقتصاد زائير.11 وصف مارك بيت، المحامي السويسري ورئيس الفريق العامل المعني بالمدفوعات غير المشروعة التابع لمنظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، البلد بأنه «عنوان الفساد». كان ديكتاتورها يُصارع سرطان البروستاتا ونجمُهُ آخذًا في الأفول. كانت علامات تفكُّك نظام حكمه بادية للعيان. في الجزء الشرقي من زائير، كان لوران كابيلا وقواته المتمردة يزدادون شعبية باستمرار، وكانوا يهددون بالاستيلاء على مراكز إقليمية مهمة. كان كابيلا مدعومًا من أمريكا، وكان موبوتو محبًّا لفرنسا ومحبوبًا لدى البلجيكيين والفرنسيين؛ القوتين الاستعماريتين السابقتين في المنطقة. كانا يواجهان خطر فقدان قبضتهما على هذا البلد الفقير، الغني غنًى فاحشًا بالمعادن الثمينة والماس. كان يتعيَّن لوقف تقدم كابيلا والحفاظ على النفوذ البلجيكي والفرنسي في زائير، أن تخوض قوات موبوتو قتالًا بمزيد من الهمة. لكن لم يكن هناك مال لدفع أجورهم؛ لذا تضافرت «حكومة اللصوص» — وهو الوصف الذي أطلقه مجلس الأمن الدولي فيما بعد على العصابة المحيطة بموبوتو — لتوجيه ضربة أخيرة. كانوا قد حصلوا على مباركات ضمنية من الدوائر ذات النفوذ في بروكسل وباريس، وكان بنك زائير أداة طيِّعة في أيديهم.

في منتصف عام ١٩٩٣م، فيما كانت اللمسات النهائية تُوضع على خطة لإصلاح العُملة، التمس رئيس الوزراء المؤقت فوستان بيرندوا شركة طباعة نقد جديدة لطبع عُملته المخطَّط طرحها «الزائير الجديد». لم تكن تلك هي المرة الأولى. فقبل ذلك بعام، كانت هارِسون آند صنز البريطانية (جزء من مجموعة لونرو) قد طبعت أوراق نقد جديدة فئة ٥ ملايين زائير، لكن هارِسون لم تُعطَ أجرًا على ذلك. كان هناك آخرون يُحاربون للحصول على مستحقاتهم. كانت زائير مُعسرة رسميًّا. وُصف الاتجاه الجديد نحو التنويع رسميًّا بأنه جاء استجابةً لما حدث من تعثُّر في الطاقة الإنتاجية في أوتل دي مونيه، وكرغبة في تأمين تكاليف طباعة أقل. كانت هناك فعلًا شكاوى من قبل بشأن سعر النقد الذي تفرضه جيزيكه أوند ديفريَنت، وبشأن الواردات المفرطة الغلاء من المواد المسانِدة لطبع النقد في مطبعة زائير الحكومية. بل إنَّ صندوق النقد الدولي اضطر إلى التعامل مع هذه المسألة فيما بعدُ. سرعان ما اتضح أن السعي وراء تكاليف طبع أقل ليس له علاقة بهذه المناورة الأخيرة.

أجرى «المؤتَمَنُون على أسرار رئيس الحكومة» مكالمات مع العديد من طبَّاعي النقد الأوروبيين. قالوا إن لديهم «طلبية طباعة سرية للغاية» يعرضونها؛ سرية لدرجة أنه لا يمكن حتى مناقشتها مع بنك زائير. كل شركات طباعة النقد التي تم الاتصال بها طلبت إعفاءها من هذه المهمة. أخيرًا عُهد بهذه المهمة إلى جوزيفينو هيرناني دي فرايتاس فيجاس، رئيس الغرفة التجارية البرازيلية الزائيرية، ورجل لبناني المولد اسمه نعيم خنافر، صاحب شركة إجيمكس التجارية الكائنة في أنتويرب. كان خنافر قد أقرض رئيس وزراء زائير بضعة ملايين من الدولارات، على افتراض أنها من أجل طبع الأوراق الجديدة. كان الثنائي البرازيلي اللبناني غير معروف في مجال أوراق النقد الدولي. أُعطي فيجاس وخنافر منفردَين صلاحية تنفيذية منحهما إياها محافظان مؤقتان مختلفان لبنك زائير الوطني. كان هناك منطق وراء هذا التشويش. اتصل كلا الرجلين بالمطبعة الحكومية البرازيلية كازا دا مويدا دو برازيل، لكنها رفضت العقد متعلِّلة بأزمات تتعلق بالطاقة الإنتاجية. كان الدافع الحقيقي للرفض — كما قيل لاحقًا في الملف التحقيقي بالإنتربول — هو طلب إجيمكس طبع إصدارات أوراق نقد موازية تحمل أرقامًا مكرَّرة. كان البرازيليون قد فهموا فيما يبدو طبيعة هذه الصفقة المشبوهة. أخيرًا أُرسي هذا العقد على تشيكوني كالكوجرافيكا بعد الوصول إليها من خلال شركة طباعة النقد الحكومية الأرجنتينية، التي فوتحت أيضًا في هذا الشأن.12 كان أرماندو جوستانيان، رئيس كاسا دي مونيدا الأرجنتينية، شخصية أخرى مليئة بالحيوية تنتمي لعصابة منعم، رئيس الدولة. كان جوستانيان قد سبق له العمل عدة مرات مع الأخوين تشيكوني بطرق تخلو من الشفافية.

لم تمضِ هذه الأفعال دون أن تلفت الانتباه. في منتصف عام ١٩٩٣م تلقَّت جيزيكه أوند ديفريَنت استفسارًا من مجموعة الورق الإنجليزية الفرنسية آرجو وِجِنز بخصوص توريد خيوط زائير الأمنية من خلال بابييرفابريك لويزنتال. لم تُفصح آرجو وِجِنز عن عميلها، وهو شيء طبيعي في هذه الصناعة. عندما استفسرت جيزيكه أوند ديفريَنت من بنك زائير عن صحة هذا الطلب كإجراء روتيني، قيل لها إنه لا يوجد مانع من التوريد. كان هناك أيضًا خطاب غير اعتيادي بالمرة من سفارة البرازيل في بروكسل إلى جيزيكه أوند ديفريَنت يطلب من شركة ميونخ الامتثال. بعد ذلك بفترة قصيرة، طلب بنك زائير من أوتِل دي مونيه تسليم المواد المساندة الموجودة في عهدتها؛ لأنه ستكون هناك حاجة إليها في إنتاج الألواح الطباعية. علمت شركة ميونخ بهذا من فريق الفنيين التابع لها في مسرح الأحداث. عندما سألت الشركة من جديد بنك زائير عن هذا، قيل لها إنها ينبغي أن تكفَّ عن مناقشة هذه المسألة وإلا فإنها تخاطر بخسارة كل أعمالها في زائير.

سرعان ما عُرف أن شركة الطباعة هي تشيكوني. كانت تعكف على طبع أوراق الزائير والزائير الجديد بهمة عالية. في البداية، طلبت شركة طباعة النقد الأرجنتينية الخاصة هذه من بنك زائير تأكيد الطلبية. وبعد ذلك كان فيجاس في البداية ومن بعده خنافر هما وحدهما اللذان وافيا شركة الطباعة هذه بوثائق الطبع وتأكيدات الطلبية القاطعة. لم تحصل تشيكوني على تأكيدات مباشرة إضافية من بنك زائير، على الرغم من أنَّ هذا كان هو الإجراء المعتاد. كانت خزانة البنك المركزي خاوية. لكن زعماء عصابة مؤامرة التزييف اكتشفوا طريقة مذهلة لتمويل طبع أوراق النقد، وأعني «حركة أبدية» لصنع النقود. بُودلت أول دفعة سُلِّمت إلى البنك الوطني من أوراق النقد بدولارات، كما اكتشف الإنتربول فيما بعد، ثم استُخدمت هذه الدولارات لطلب المزيد من أوراق النقد من تشيكوني. عندئذٍ طُرحت هذه الأوراق الإضافية مباشرة للتداول دون المرور على بنك زائير. تولَّت شركة نيو آير تشارتر سيرفِس آيرفريت البلجيكية الزائيرية للنقل الجوي عملية النقل حسب رغبةِ مَن أمروا بالطلبيات. لم تحصل تشيكوني قط على تأكيد بأن شحنة أوراق النقد التي أرسلتْها وصلت فعلًا إلى بنك زائير. توجَّهت الجسور الجوية من أوراق النقد بهذه الطريقة إلى مقر سكن موبوتو في أدغال جبادوليت؛ حيث استُخدم المال لدفع أجور حرسه الشخصي، أو حُوِّل المال إلى المناطق التي يسيطر فيها جنرالاته على تعدين الماس والذهب والكولومبايت-تانتالايت (كولتان)، وهو معدن نادر يكثر استخدامه في الأجهزة الإلكترونية الصغيرة. خطأٌ صغير وقع في مطلع سبتمبر من عام ١٩٩٤م؛ إذ وصل ٣٠ طنًّا متريًّا من أوراق النقد إلى مطار كينشاسا، وهي شحنة لم يكن لدى بنك زائير عِلم بها، فصودرت الشحنة، وعندما علم البنك الوطني بوصول شحنة أخرى إلى كينشاسا، حرصت الشرطة العسكرية التي تم تنبيهُها على غلق المطار مؤقتًا وحوَّلت مسار الطائرة إلى المناطق الداخلية حيث لم يَعُدْ بإمكان بنك زائير التدخل. على الرغم من ذلك، وكما روت الصحافة، تسنَّتْ مصادرة شحنة تحتوي على ٥٠ مليون ورقة نقد في مبانداكا. وفي واقعة أخرى، تم اعتراض ٢٠ مليون ورقة.

وعلى الرغم من أن بنك زائير كان مسئولًا عن إنتاج النقد وإصداره، لم تكن لديه أدنى فكرة عن عدد الأوراق التي دخلت البلد. لم يعرف أين ولا متى. وقد جزم بوجود ازدواجية واسعة النطاق في الترقيم. في بعض الأحيان وكما كشفت سجلات الشرطة، كانت الأرقام ذاتها تظهر على ثلاث أوراق نقد، وبالأخص فيما يتعلَّق بالفئات الكبيرة. كانت توليفات الحروف والأرقام — ما يسمَّى بمسلسلات الترقيم — المستخدمة هناك قد سبق لأوتِل دي مونيه استخدامها، لكن دون أن تتأثر مسلسلات ترقيم جيزيكه أوند ديفريَنت التي استمرت أيضًا في الطبع لزائير. ظهرت أوراق نقد من الفئة ذاتها لكن بتباينات طفيفة في طبع الخلفية. كانت الصحف المحلية تعجُّ بتقارير حول وابل أوراق النقد.

عندما حُسِّنت الخصائص الأمنية لأوراق الزائير، سرعان ما ظهرت أوراق زائفة غير قانونية تشتمل على تحسينات مطابقة لهذه الخصائص. لقد صُنعت استنادًا إلى الأصول، وكانت مطابقة للأوراق المعتمدة للتداول. صعَّب هذا تمييزَها حتى على الخبراء. لم يَعُدْ هناك أدنى شك في عدم قانونية هذه العملية. وكان واضحًا أنه حتى القوات المسلحة ضالعة في هذه المسألة، بالإضافة إلى مَن يشغلون المستويات العليا داخل البنك المركزي؛ إذ إن المجهود اللوجستي اللازم لنقل مئات الأطنان من أوراق النقد كبير. في هذه الأثناء، عُيِّن مرة أخرى رئيس جديد للوزراء هو كِنجو وا دوندو ومحافظ جديد لبنك زائير هو باتريس دجامبوليكا لوما أوكيتنجونو، فألغيا فورًا، في أعقاب واقعة مطار كينشاسا، صلاحيتَي التوقيع التنفيذيتين الممنوحتين لفيجاس وخنافر. في الوقت نفسه، حدَّدت القيادة العليا لشرطة زائير، في رسالة تلكس إلى الإنتربول، تشيكوني كالكوجرافيكا باعتبارها شركة طباعة أوراق النقد غير القانونية. لم يكن «اللغز» بذلك القدْر من السرية على أيِّ حال. أُمرت تشيكوني بوقف الطبع فورًا. على الرغم من ذلك، غادرت ٥٠ مليون ورقة أخرى من فئة ٥٠٠ زائير جديد بوينس آيرس قاصدة زائير دون أن يكون هناك أمر طبع من بنك زائير لهذه الشحنة أيضًا. لقد استمر ببساطة سيل أوراق النقد غير القانونية.

بعد طرد موبوتو من الحكم، بدأتْ شركة طباعة النقد الأرجنتينية استعداداتها لطبع دفعة أخرى من أوراق الزائير الزائفة، هذه المرة لرئيس الدولة الجديد لوران كابيلا. عندئذٍ تدخَّل بنك زائير والإنتربول مباشرةً في بوينس آيرس ووجدا ٥٢ مليون ورقة نقد أخرى وأكثر من ٢٤٠ طنًّا متريًّا من الورق تحمل صورة موبوتو كعلامة مائية داخل سرداب تشيكوني. كان هذا الورق سيكفي لطبع ١٨٥ مليون ورقة أخرى. اضطر بنك زائير إلى شراء اﻟ ٥٢ مليون ورقة للحيلولة دون تداولها بشكل غير قانوني في زائير أيضًا. ولم يُعثَر على أثرٍ لنحو ٢٧٠ مليون ورقة نقد هي بقية المخزون المطبوع الذي سُلِّم إلى زائير. اضطرت تشيكوني في النهاية إلى الالتزام رسميًّا بالتوقف عن طبع أي أوراق نقد أخرى غير مصرَّح بها لزائير. فيما بعد كشف تحقيق بمساعدة الإنتربول وسلطات الشرطة الوطنية أن تشيكوني حصلت على نحو ١٢٠٠ طن متري من ورق طباعة النقد بين أكتوبر ونوفمبر من بورتالز، التي كانت لها تشيكوني بمنزلة الوكيل في أمريكا اللاتينية، كما اشتُري أيضًا في الفترة ذاتها أكثر من ١٠٠ طن من أرجو وِجِنز، وأضيفت الخيوط الأمنية إلى هذا الورق في بابييرفابريك لويزنتال. كان التوريد معتمَدًا من بنك زائير. كانت كمية الورق الإجمالية ستكفي لإنتاج ما يزيد عن ٨٠٠ مليون ورقة نقد بكثير. من بين هذه الكمية، سُلِّمت ٣٧٠ مليون ورقة فعلًا إلى بنك زائير، أو ممثِّليه. هذه وحدها كانت مغطاة بأمر الطبع من البنك الوطني، بغضِّ النظر عن النوايا من وراء الأمر بهذه الطلبية.

كانت القيمة الاسمية النظرية لكمية أوراق النقد البالغة نحو ٨٢٠ مليون ورقة هي ١٫٢٥ مليار دولار عند تحويلها بسعر صرف اليوم. كانت المعادن الثمينة والنادرة من ذهب وكولتان وكوبالت ونيوبيوم، وبالأخص الماس، تُشترى بالزائير، وكان كل هذا يُنقل جوًّا خارج البلاد ويُباع بالدولار في العواصم الغربية. كان الماس يذهب إلى أنتويرب، مركز صقل الماس الدولي. لعبت إجيمكس البلجيكية، المتخصصة في تجارة الماس والذهب، دورًا رئيسًا في هذا.13 كل هذا كان يعني خلق كمية هائلة من السيولة ذات عواقب كارثية على الاقتصاد الوطني الزائيري الذي كان متضررًا بشدة. معدل التضخم الذي كان يقترب من ٣٠٠٠ في المائة عام ١٩٩٣م، أصبح أسرع في عام ١٩٩٤م، على الرغم من إصلاح العملة، ليصل إلى ١٠٠٠٠ في المائة. انخفض سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار في الفترة ذاتها من ٣ زائيرات جديدة إلى ٤٤٠٠ زائير جديد. كانت الضربة القاضية لاقتصاد زائير، وكانت بداية النهاية لنظام موبوتو سيسيسيكو المروع؛ حيث أُطيح به من الحكم عام ١٩٩٧م، ولم يَعِشْ طويلًا بعدَها.

كان الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة يراقب بعناية حالة تشيكوني منذ فترة. كان رئيس الاتحاد هو مانفرد بِك، الرجل المسئول عن أوراق النقد والورق المُؤَمَّن في جيزيكه أوند ديفريَنت. كان المحافظ الجديد للبنك الوطني قد أطلعه على النقود المشتبه في زيفها في أغسطس عام ١٩٩٤م. جاءت هذه المعلومات ردًّا على استفسار ميونخ في كينشاسا بشأن طلبية خيوط مُؤَمَّنة جديدة من أرجو وِجنز، وهي الطلبية التي لم تَعُدْ معتمَدة. بعد ذلك بفترة قصيرة، فاتح عملاء شرطة ولاية بافاريا جيزيكه أوند ديفريَنت بطلب من الشرطة الاتحادية والإنتربول. كان لدى بك، باعتباره العضو المسئول بإدارة جيزيكه أوند ديفريَنت، أكثر من سبب ليغضب من تشيكوني، الشركة المنافسة لشركته. لكنه كان يرى، بصفته رئيس الاتحاد، أن تصرُّف تشيكوني كالكوجرافيكا يمكنه تهديد سمعة كل شركات طباعة النقد الخاصة ذات التدابير الأمنية الصارمة. في المنافسة التقليدية بين شركات طباعة النقد الخاصة والحكومية، يوجَّه الاتهام مرارًا وتكرارًا إلى شركات طباعة النقد الخاصة بأنها شركات هدفها الربح قد تضرب عُرض الحائط بأعراف طباعة النقد. وقد خالفت تشيكوني كالكوجرافيكا العديد من الوصايا الاعتيادية لهذه الصناعة في آنٍ واحد.

كان رئيس الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة يرجو التوصل إلى اتفاق سريع بين بنك زائير وتشيكوني بحيث يمكن دفن المسألة دون ضجيج. بطلب من رئيس الاتحاد، عُقد اجتماع في أكتوبر عام ١٩٩٥م في مقر جيزيكه أوند ديفريَنت بين عدد من ممثلي بنك زائير وتشيكوني كالكوجرافيكا، التزمت فيه تشيكوني، في محضر رسمي وقَّعت عليه هي وبنك زائير، بأن تسلِّم خلال أسبوع كلَّ المراسلات المتبادلة بشأن طلبيات الطباعة، وتذاكر الشحن الخاصة بمشتريات الورق، والوثائق الخاصة بطبع أوراق النقد واستهلاك الورق، وتفاصيل الفئات التي طُبعت، وكلَّ مستندات الشحن الخاصة بشحنات أوراق النقد مع إقرار الاستلام، وقيود الدفاتر المحاسبية المتعلقة بالمدفوعات، إلخ. بإيجاز، غطَّى هذا الالتزام كل الأشياء التي ظلت شركة طباعة النقد الأرجنتينية محتفظة بها في انتهاك واضح لممارسات صناعة الطباعة ذات التدابير الأمنية الصارمة. كان يفترض أيضًا أن تُعدِم تشيكوني اﻟ ٢٤٠ طنًّا متريًّا المتبقية من ورق طباعة النقد. لم يكن هذا الورق قد مرَّ عبر الجمارك بعد؛ لأن تشيكوني كانت ترجو إعادة تصديره.

قُدِّر لاجتماع ميونخ أن تكون له تداعيات غير متوقَّعة؛ حيث أكَّد ممثلو تشيكوني فيما بعد أنهم لم يَطَّلِعوا مسبقًا على الغرض من هذا الاجتماع ولا مَن سيحضره. قالوا إن بِك غَلَبَهم على أمرهم مُعزِّزًا بذلك مصالحه التجارية بفضل منصبه في الاتحاد. استغلَّت تشيكوني هذين الادعاءين كمبرِّر لعدم الوفاء بالالتزامات التي وافقت عليها خطيًّا. خلال زيارة رسمية إلى ألمانيا في نوفمبر عام ١٩٩٥م، طلب رئيس الوزراء كِنجو وا دوندو من الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة المساعدةَ خلال اجتماع في بون مع بِك وبحضور ممثلي الحكومة الألمانية والسفير الألماني في زائير. ربما لم يكن هذا الالتماس للمساعدة مقنِعًا بالكلية؛ بما أن أجوبة معظم الأسئلة التي أثارتْها هذه الفضيحة كانت موجودة في كينشاسا. لكنَّ المتآمرين في بنك زائير خَشوا على حياتهم وآثروا الصمت. وقد اتضح أنه لا الحكومة الزائيرية ولا بنكها الوطني وجَّهَا قط اتهامات إلى تشيكوني كالكوجرافيكا.

كان الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة منظمة تفتقر إلى القوة، وكانت لوائحه قد صيغت صياغة ملتبسة ولا تتضمَّن إمكانيات اتخاذ إجراء تأديبي ضد أحد أعضائه. ثار هناك جدل ساخن حول هذا الموضوع في الاجتماع السنوي للاتحاد في أمستردام في خريف عام ١٩٩٦م. لم يشأ بعض الأعضاء استبعاد احتمال أن يكون الأمر برمته في الحقيقة يتعلَّق باستبعاد منافس صعب مما يسمَّى العالم الثالث؛ ومن ثم رفضت تشيكوني بعناد تسليم الوثائق أو إعدام الورق، ونجحت في هذا. وكبديل عن ذلك، طالبت تشيكوني بنك زائير وجيزيكه أوند ديفريَنت بشراء اﻟ ٢٤٠ طنًّا متريًّا من الورق بقيمتها البالغة ٣٫٧ ملايين دولار. لم يكن استبعاد تشيكوني من الاتحاد قد طُرِح بعدُ للمناقشة في هذه المرحلة. في مذكرة طويلة طولًا مملًّا ومنمَّقة بالتفاصيل القانونية، حاول محامٍ ألماني وكَّلتْه تشيكوني أنْ يُبرهن على الممارسات التنافسية غير العادلة من جانب جيزيكه أوند ديفريَنت وإساءة استعمال المنصب من قِبَل رئيس الاتحاد. وقد أحبط هذا مساعيَ الاتحاد للحيلولة دون إذاعة القضية على الملأ. في خضم هذه المواجهة الوشيكة، تفجَّرتْ فضيحة طباعة جديدة كان من شأنها أن تحسم مصير تشيكوني كالكوجرافيكا كشركة لطباعة النقد.

دنانير بحرانية «أصلية زائفة»

في أبريل عام ١٩٩٧م، أُتيحت لتشيكوني كالكوجرافيكا إمكانية طبع نقد لصالح إمارة البحرين الصغيرة جدًّا التي يسكنها ٦٣٠ ألف نسمة. كان طبع ٧ ملايين ورقة فئة ٢٠ دينارًا بسعر ٥٤ دولارًا لكل ١٠٠٠ ورقة سيُدِرُّ ٣٧٥٠٠٠ دولار بالضبط. كانت الطلبية هزيلة نوعًا ما، لكنها كانت تعطي تشيكوني فرصة اقتحام سوق دول الخليج الثرية المُربحة، وهي سوق كانت تهيمن عليها شركة دي لا رو فيما سبق. ومن جديد، جاء استفسار البحرين بوساطة من جوزيفينو فيجاس، الرجل المعروف من قبلُ من واقعة الاحتيال الزائيرية. كان فيجاس قد انتزع طلبيَّة من الشركة الفرنسية فرنسوا شارل أوبرتور فيدوسيير لطبع ١٫٢ مليار ورقة كوانزا معدَّلة لصالح أنجولا، وعُيِّن ممثل تشيكوني كالكوجرافيكا في أفريقيا. جاءت فكرة الضربة البحرانية من (ريتشارد) نوزي موامبا مونانجا، رئيس اتحاد كرة القدم الكنغولي آنذاك، الذي كان، وفقًا لتقارير صحفية، ضالعًا في صفقات ماس حتى إطاحة موبوتو. ربما كانت كلمة «نَهْب» هي الأنسب لتوصيف هذه الحالة. كان اسم موامبا قد برز بالفعل فيما يتصل بفضيحة أوراق النقد في زائير. فعندما صودر اﻟ ٣٠ طنًّا متريًّا من أوراق النقد في مطار كينشاسا، كان موامبا في الموقع منتظرًا الشحنة، فدخل السجن لفترة وجيزة، لكن موبوتو أوعز بإطلاق سراحه.

تلت ذلك عملية احتيالية أُعدَّت بدقة بالغة ما كانت هوليوود لتصل إلى ما هو أفضل منها. وصفت صحيفة لوموند الفرنسية هذه العملية بالتفصيل في مقالات عدة سمحت لها من أجلها الشرطة السويسرية على الأرجح بالاطلاع على ملف التحقيق.14 كان تكشُّف أحداث هذه العملية الاحتيالية يُذكِّر بقوة بفضيحة الاحتيال السالفة الذكر التي وقعت في البرتغال في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وهي الواقعة التي استطبع فيها أرتور فرجيليو ألفيس هيس — وهو برتغالي قدَّم نفسَه على أنه مبعوث خاص لبنك البرتغال — عدة ملايين من أوراق النقد فئة ٥٠٠ إسكودو بواسطة مطبعة ووترلو آند صَنْز البريطانية بتقديم وثائق زائفة. كان يُفترض أن هذه الأوراق مخصَّصة لمستعمرة أنجولا البرتغالية. لم تواجه الأوراق المقلَّدة تقليدًا فائقًا، التي كان يصعب تمييزها عن الأوراق الأصلية الصادرة عن بنك البرتغال، مشكلةً في التداول، وحظيت بتوزيع واسع النطاق. عندما اكتُشفتْ عملية الاحتيال في النهاية بمحض المصادفة — حين اكتَشَفَ صرَّاف ورقة زائفة تحمل ترقيمًا مطابقًا لترقيم ورقة أصلية — اقترب البلد من شفا الإفلاس. وأما مطبعة ووترلو آند صَنْز، وكانت واحدة من كبريات شركات طباعة النقد في العالم آنذاك، فلم تتعافَ قط من فقدانها الموثوقية على هذا النحو، وأخيرًا استولت عليها شركة دي لا رو.15 وربما اقتُبس سيناريو ضربة البحرين من هذه الفضيحة.

كانت البداية بتشكيل وفدَيْن بقيادة موامبا وفيجاس وصلا إلى بوينس آيرس في خريف عام ١٩٩٧م، مقدِّمِين أنفسَهم كمفوضين عن صاحب السمو الملكي فيصل بن مشاري بن عبد العزيز آل سعود، وطالبا بالقيام بجولة في مطبعة النقد نيابةً عن مؤسسة نقد البحرين. أُعجِب الوفد بمستوى الجودة الفنية لتشيكوني كالكوجرافيكا. بعد ذلك بفترة قصيرة، أعلن الأمير عن زيارة شخصية، فحُجز له برسالة فاكس جناحٌ كامل في فندق ألفير بالاس، أرقى فنادق بوينس آيرس؛ لأنه — كما هي العادة بين شيوخ النفط — سيسافر بصحبة حاشية كبيرة من الحراس الشخصيين والسكرتارية الخصوصيين، بالإضافة إلى خادمة لزوجته المرافقة له. لفت الحجز الانتباه؛ لأنه تعرَّض مرتين لتغييرات كبيرة ثم أُلغي بالكلية في النهاية. قدَّم «سكرتيرٌ» للأمير اعتذارًا مهذبًا لإدارة الفندق بالفاكس، قائلًا إنه «ينفِّذ الأوامر» فحسب. المصادفة أن الفاكس لم يُعطِ العنوان كاملًا، وإنما اكتفى بمجرد ذكر صندوق بريد في الرياض. بدلًا من الأمير، وصل توكيلٌ قانونيٌّ محرَّرٌ من مؤسسة نقد البحرين في مطلع ديسمبر يُفترض أنه مَمْهُورٌ بتوقيع رئيس وزراء الإمارة الذي كان أيضًا رئيس مؤسسة نقد البحرين. بموجب هذا التوكيل، تم تفويض شيخ يُدعَى محمد بن سعد العجمي، مدير أمانة المجلس التنفيذي، لإبرام العقد مع تشيكوني لطبع أوراق النقد. جرى توقيع العقد من جانب إكتور تشيكوني والشيخ سعد العجمي حسب رغبة العميل بفندق هيلتون جوهانسبرج في جوهانسبرج في منتصف يناير ١٩٩٨م. وقد علَّل موامبا اختيار هذا المكان لانسجامه تمامًا مع خط رحلة كلا الشريكين. في هذا الاجتماع، أثبت الشيخ هُويته من خلال النسخة «الأصلية» للتوكيل التنفيذي. اضطر إكتور تشيكوني وفرانكو لاجو، مدير الطباعة الذي سافر معه، فيما بعد إلى الاعتراف بأنه لم يلتقِ أحدٌ مِن شركتهم قط مِن قبل بالشخص الذي يُفترض أنه مدير بمؤسسة نقد البحرين. ومع ذلك كان الجميع في تلك اللحظة مبهورين بالشخص الوقور النحيل الذي يرتدي ثوبًا أبيض ولا يُدخِّن ولا يشرب الكحول. بدا من المعاملة الخاصة من جانب طاقم خدمة الفندق أنهم يعرفون الشيخ، وهي ملاحظة طمأنت قلب تشيكوني ولاجو.

شرع الأرجنتينيون في استعداداتهم للطبع. طلبوا نحو ٨ أطنان مترية من الورق المُؤَمَّن بعلامة البحرين المائية من أرجو وِجنز الإنجليزية الفرنسية، والحبر من سيكبا السويسرية. طُلب نظام الترقيم بالأرقام العربية، حسبما حدَّد العميل، من أتلانتيك تسايسر التي كانت آنذاك لا تزال شركة أمريكية. شرع قسم إعداد النُّسخ الأصلية في تشيكوني في صنع الألواح الطباعية. كان النموذج المستخدَم ورقة من فئة ٢٠ دينارًا طُبعت بمعرفة شركة دي لا رو. مثل هذا النوع من القرصنة أو التقليد هو في الحقيقة شيء مستهجن في هذه الصناعة؛ لأنَّ فيه شيئًا من التعدِّي على حقوق الآخرين. لكن الشركة رضخت لرغبة العميل. خلال هذه الفترة كانت كل الاتصالات والتنسيق بين شركة طباعة النقد ومؤسسة نقد البحرين تمرُّ من خلال فيجاس وموامبا. لم يكلِّف أحدٌ في تشيكوني نفسَه عناء طلب تعقيب خطِّي مستقل من المؤسسة، ولا قام أي ممثل عن تشيكوني قط بزيارة إلى المنامة. توجَّه روبرت مولينا، مدير مبيعات تشيكوني، وفيجاس وموامبا فعلًا إلى الإمارة بصحبة الألواح الطباعية في مارس من العام ذاته للحصول على الموافقة على الطبع وتأكيد الطلبية، وأثناء توقُّفهم الإلزامي خلال الرحلة في العاصمة السعودية الرياض، قيل لهم في صالة كبار الزوار إنهم لن يحتاجوا إلى السفر إلى المنامة؛ لأن صاحب السمو الملكي خارج البلاد لأداء فريضة الحج في مكة وسوف يستقبلهما هنا. جرى الاجتماع في القصر الملكي في الرياض، وهناك لم يلتقِ مدير مبيعات تشيكوني إلا الشيخ سعد العجمي، مدير مؤسسة البحرين المفترض. جرى أيضًا اجتماع قصير مع شخص آخر قُدِّم إليهم على أنه الأمير عزيز آل سعود، وهو الأمير نفسُه الذي لم يتمكَّن من المجيء إلى بوينس آيرس. أجرتِ المجموعة معاينة فنية لمسوَّدات أوراق النقد وأخذوها معهم، وفي اليوم التالي أعادها فيجاس وموامبا إلى ممثل تشيكوني ممهورة بختم الموافقة المطلوب.

صار بمقدور تشيكوني عندئذٍ أن تبدأ عملية الإنتاج، لكن على سبيل الأمان، كانت بوينس آيرس ما زالت تريد الحصول على توقيعات الشيخ سعد العجمي وتفويض موثَّق رسميًّا من مؤسسته، بما في ذلك توقيعات مجلسه التنفيذي. لكن السفارة السعودية، التي كانت تمثِّل المصالح البحرانية في بوينس آيرس، لم يكن في حوزتها أيُّ توقيعات رسمية كنماذج. بدلًا من ذلك، وصل خطاب من المؤسسة في مطلع أبريل، ممهور من جديد بتوقيعات المجلس التنفيذي ومزيَّن على الظهر بالعديد من الأختام من السلطات السعودية. كان يفترض أن يؤكِّد هذا الخطاب أصالة توقيعات المجلس التنفيذي للمؤسسة. في هذا الخطاب، قال صاحب السمو إن البحرين لا ترغب في نقل تعليمات من خلال سفارات بلدان أخرى بسبب السرية الشديدة لطلبية طباعة النقد. قال أيضًا إن البلدان الأخرى لم يكن ليُطلب منها توثيق التوقيعات رسميًّا. واختتم الخطاب بعبارة: «كثير من العمل في انتظاركم.» لكن تشيكوني طلبت من وزارة الخارجية الأرجنتينية توثيق الخطاب والتفويض المترجمين. وكانت محاولة عقيمة كما سيتبيَّن فيما بعد.

بعد خمسة أسابيع، كان كل شيء جاهزًا للشحن. أُرسِل نحو ٨ أطنان مترية من أوراق النقد في الطريق إلى المنامة على متن طائرة بوينج ٧٠٧ في ثلاث شحنات بتواريخ ١٨ مايو و٢٥ مايو و٨ يونيو من عام ١٩٩٨م. من جديد، تولى ناقل جوي بلجيكي زائيري مسجَّل في كينشاسا عمليةَ النقل حسب رغبة العميل. كان اسم الناقل هذه المرة سبيس أفييشن سيرفيسِز. كان الفريق المكلَّف بتأمين عملية النقل يتألف بالكلية من أشخاص حُدِّدوا سابقًا بمعرفة البحرين، بأسمائهم وجوازات سفرهم، على افتراض أنهم ممثلون لمؤسستها. دُفع الثمن عاجلًا، وإنْ على أقساط، ونقدًا في جزء منه.

مضت ثلاثة أسابيع بين الشحنتين الأولى والأخيرة، وهو وقت وفير لتقديم استفسار إلى العميل. لكنْ لم يرَ أحد في تشيكوني قط ضرورة الاتصال بالمؤسسة للاطمئنان على تمام نقل الشحنات الثلاث كما ينبغي. علاوة على ذلك، لم تَقُمْ تشيكوني بإعادة أيٍّ من الألواح الطباعية إلى العميل، وهو ما بدَّد فرصة أخرى للرقابة غير المباشرة على الأقل. ادَّعى الأرجنتينيون فيما بعد أنهم لم يكونوا على دراية بأنَّ الشحنات التي أرسلوها لم تصل البتة إلى المنامة، وأنهم لم يعلموا بهذا إلا فيما بعد. في الواقع كان سيسْهل عليهم أن يعرفوا؛ لأن الرجل اللبناني هو الذي صاحَبَ الرحلات الجوية انطلاقًا من بوينس آيرس، وهو ذاته المسيو خنافر الذي سبق أن ساعد على تنفيذ عملية الاحتيال الزائيرية. ذهبت أول شحنة تضم ٤٠ مليون دينار بحراني إلى نيامي عاصمة جمهورية النيجر، وأما الشحنتان الأخريان وقيمتهما ١٠٠ مليون دينار بحراني، فتم تفريغهما في العاصمة التشادية إنجمينا. كانت هذه المطارات كلها تحت سيطرة القوات المسلحة الفرنسية، وفي الحالات الثلاث كان هناك مواطنون فرنسيون ينتظرون الشحنات. كذلك تضمنت إحدى الرحلات أيضًا بين حمولتها طائرة خفيفة، هدية للزعيم المحلي. ثم بدأ الفصل الأخير من هذه الدراما.

الدينار البحراني مربوط بالدولار، وهو قابل للتحويل بحرية. في ذلك الوقت، كان العشرون من دنانير إمارة البحرين تساوي ٥٥٫٢٠ دولارًا. كانت قيمة أوراق الدينار «الأصلية الزائفة» (وهو الاسم الذي سرعان ما أُطلق عليها) نحو ٣٦٧ مليون دولار. سرعان ما وجدتِ الأوراقُ طريقَها إلى أوروبا، ومنها إلى الشرق الأدنى. بل قبل إرسال تشيكوني شحنتها الثالثة، نجح وسيط دون أيِّ مشكلة في تغيير ٧٥ ألفًا من الأوراق في شركة سي بي آر بيليه في باريس. يحتاج هذا المبلغ إلى ثلاث حقائب سفر كبيرة لحمله. كانت قيمة الصرف ٤ ملايين دولار. وتم الصرف، على الرغم من أنَّ الأوراق كانت بكرًا تمامًا ولم تُستعمل بعدُ، وتحمل أرقامًا متتالية. مكتب صرف العملة المتواري عن الأنظار الواقع في مركز تجاري في الشانزليزيه مشهور بتقديم أسعار أفضل من منافسيه عندما يريد العملاء بيع ما لديهم من دولارات. تشهد على هذه السمعة صفوف طويلة من السائحين على الشباك. كان حامل نقدية الأوراق البحرانية مغربيًّا، وقد تَبَاهَى بأنه كان مستشارًا خاصًّا للملك الراحل الحسن الثاني. ولإضفاء نوع من الشرعية على صرف الأوراق، قدَّم خطابَ توصية من مسئول حكومي رفيع في البحرين يُفترض أنه يريد استثمار أموال في فرنسا. بعد ذلك بفترة قصيرة، قام المغربي المثابر بتغيير كمية أخرى نظير ٧ ملايين دولار في لبنان.

في البداية لم يكن طاقم الرحلة المرافق للشحنة يعلم بكُنْه الحمولة، وعندما اكتشفوا ذلك أثناء رحلة غاب عنها خنافر، سارعوا إلى أخذ بعض رزم أوراق النقد البِكر. سرقوا مبلغًا كبيرًا، لكن هذا تحديدًا كان سبب دمارهم؛ فعندما قدَّموا كَوْمتهم من الدنانير البحرانية الحديثة الطباعة التي تحمل أرقامًا متتابعة إلى أحد البنوك الخاصة في جنيف، ثارت شكوك موظَّف البنك، فوعدهم بمباشرة عملية الصرف، لكنه اتصل بالشرطة بدلًا من ذلك. بما أن طاقم الرحلة كان قد غادر سويسرا بالفعل، فقد أُغروا بالعودة إلى البلد بحُجةِ رغبة البنك في مناقشة إمكانيات استثمار متعدِّدة معهم، فقُبض عليهم فورًا لدى عودتهم. كان ذلك حظًّا عاثرًا بالنسبة إلى عملية الاحتيال برُمَّتها؛ لأن محاولة وسطاء آخرين صرف مزيد من المال في باريس عندئذٍ لم تَسِرْ على ما يرام. كان مسئولان رفيعان من تشاد ضالعَيْن في تلك المحاولة حسب تقارير صحفية. نصبت الشرطة فخَّها لمجموعة تريد أخذ «البضاعة» الملاحَقة في المطار في بروكسل تمهيدًا لعملية صرف. في حالتين أخريين، أُلقي القبض في دبي على دبلوماسيَّيْن قد وصلا من تشاد بعد العثور على كميات كبيرة من الأوراق فئة ٢٠ دينارًا «الأصلية الزائفة» البِكر في أمتعتهم. كما أحبطت أيضًا محاولات صرف في سوريا وسنغافورة.

المليون ورقة التي تم استبدالها (صرفها) في باريس من إجمالي أوراق النقد التي كانت تبلغ قيمتها ١٫٥ مليون دينار كانت بمنزلة استهلال لرحلة طويلة عبر مختلف البنوك حتى قدَّمتْها بنوك أجنبية إلى المؤسسة في البحرين لاستبدالها. اشتبهت المؤسسة في كَوْن الأوراق مزيفة، ومع ذلك اشترتْها قبل أن تُغادر آخر شحنة منها بوينس آيرس. ذكرت صحيفة فرنسية فيما بعد أن المؤسسة وافقت على شراء العُملة شريطة مبادلة النقدية في صورة مبالغ صغيرة؛ وذلك تجنُّبًا للإفصاح. ثم مضى نحو أسبوع لم يحدث فيه أيُّ شيء تقريبًا. قيل فيما بعدُ إنَّ هذا الوقت كان ضروريًّا من أجْل تقرير كون هذه الأوراق زائفة بما لا يَدَعُ أيَّ مجال للشك. لم تتصل مؤسسة نقد البحرين بتشيكوني كالكوجرافيكا إلا بعد مرور يومين على مغادرة آخر شحنة أوراق نقد. أكَّدت تشيكوني أن المتصلة موظفة سابقة بشركة دي لا رو التحقت بالعمل في المؤسسة. أبلغت المرأة الأرجنتينيين بالاشتباه في تزييفهم أوراق دينار. كذلك قالت تشيكوني إنه حتى المحامون الذين وكَّلتهم عندئذٍ مؤسسة نقد البحرين كانوا عادةً يعملون لدى شركة طباعة النقد البريطانية.16 كانت اﻟ ٧ ملايين ورقة فئة ٢٠ دينارًا، بقيمتها الاسمية البالغة نحو ١٣٨ مليون دينار، تفوق القيمة الإجمالية للأوراق فئة ٢٠ دينارًا المطروحة رسميًّا للتداول في الإمارة. وبما أن أوراق الدينار «الأصلية الزائفة» يكاد يتعذَّر تمييزها عن الأوراق المُصدَرة بشكل قانوني، فقد سحبت المؤسسة كل أوراق النقد فئة ٢٠ دينارًا وتقدَّمت بطلب لطباعة أوراق نقد جديدة، هذه المرة بمعرفة شركة دي لا رو.
رأت تشيكوني كالكوجرافيكا أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. في بوينس آيرس وُجِّهت اتهامات رسمية ضد الشيخ العجمي وآخرين. كانت تحقيقات الإنتربول وجهاز الاستخبارات السرية الأمريكي وأجهزة الشرطة الوطنية تَجرِي على قَدَمٍ وساقٍ حول العالم. امتدَّ نطاق التكهنات من اعتبارهم عصابة تزييف إجرامية محضة إلى محاولة مدفوعة سياسيًّا لزعزعة استقرار إمارة البحرين. تسكن البحرينَ أغلبيةٌ شيعيةٌ، لكنْ تحكُمُها القبضةُ الحديديةُ لأسرة آل خليفة السُّنِّيةِ. والقلاقل الداخلية ليست بالشيء النادر. والبحرين هي قاعدة الأسطول الخامس الأمريكي. وإيرانُ المجاورة تسكُنُها أغلبيةٌ شيعيةٌ، وقد ثارت شبهات حول رغبة استخباراتها في زعزعة استقرار الإمارة بالتنسيق مع جماعة معارضة في البحرين. مهما كانت دوافع المحرِّضين، فإنهم أخطئُوا في حساب شيء واحد خطير. كانوا يَعلَمون أن البحرين لم تُوقِّع بعدُ على اتفاقية جنيف لسنة ١٩٢٩م لمكافحة التزييف؛ ومن ثم كانوا يَرْجُون ألا ينخرط الإنتربول في القضية، وأنْ ينجوا بفعلَتِهم. كانوا مخطئين. تولَّى قُضاة فرنسيون كل القضايا المتصلة بالدنانير البحرانية «الأصلية الزائفة»، واستُدعِيَ بعض المواطنين الفرنسيين من أفريقيا على وجْه السرعة. لكنَّ القُضاة لم يَصِلوا إلى شيء. وعلى الرغم من القَبْض على موامبا في سويسرا وتسليمه إلى بلجيكا، فإنه تمكَّن من الفرار من الإقامة الجبرية إلى جنوب أفريقيا. كان الوسيط المغربي، وهو هشام منداري، قد عجَّل بالذهاب إلى فلوريدا، ولم يسلَّم إلى فرنسا حتى أوائل عام ٢٠٠٢م.17 كذلك لم تقدِّم الإمارة مساعدة كبيرة في البحث عن زعماء العصابة الذين كانوا وراء هذه العملية التي أثارت الكثير من الاهتمام، وامتنعت عن توجيه اتهامات رسمية لتشيكوني، لكنها طالبت باعتذار وتعويض مقداره ١٠ ملايين دولار. منذ لحظة كشف المؤامرة، عارضت مؤسسة نقد البحرين بعناد السماح للقضية بالخروج إلى العلن. ومع ذلك فلا بد أنه كان لزعماء العصابة معاونون في مؤسسة نقد البحرين لتوريط الجار الكبير وهو المملكة العربية السعودية في المسألة. نَفَتْ سفارة البحرين في باريس، في خطاب إلى صحيفة لوموند نُشرت أجزاء منه، نفيًا قاطعًا أيَّ تورُّط من جانب موظفي الإمارة أو مؤسستها. بالإضافة إلى ذلك، رفض الأمراء العرب المشتبه في تورُّطهم في القضية استجوابهم من قِبَل محقِّقين أجانب رسميين، لكن إنتربول بوينس آيرس أبلغ رئيس الجلسة في التحقيق الأرجنتيني بأن هاتفًا خلويًّا استُخدم مرارًا في قضية التزييف يحمل رقم أحد أفراد الأسرة الحاكمة البحرانية البارزين، واستشهد بتقرير مُطابِق بتاريخ ٧ أبريل من عام ٢٠٠٠م صادر عن الإنتربول البحراني.

في الاتحاد الدولي لشركات طباعة النقد المُؤَمَّنة، الذي كانت قد تولَّتْ أمانته شركة طباعة النقد السويسرية الخاصة أورِل فوسلي، كان للفضيحة الجديدة الضالعة فيها تشيكوني وقع الصاعقة. كان القَلَق من تأذِّي سمعة الصناعة بأكملها واسعًا. دافع ممثلو شركة طباعة النقد الأرجنتينية عن أنفسهم في مواجهة الاتهامات بالتزييف بحجة مبتذلة، هي أنَّ ورقةَ دينارهم تختلف من سبع نواحٍ عن الورقة فئة ٢٠ دينارًا المطبوعة بمعرفة شركة دي لا رو والصادرة قانونًا بمعرفة المؤسسة. العلامة المائية على وجه الخصوص كانت مختلفة. قالوا إن مَن يفعل ذلك لا تكون في نيته التزييف. أوضحوا أنهم لم يتعاملوا مع الطلبية بأي نوع من السرية قط. لقد ذُكِرت مؤسسة نقد البحرين صراحة بصفتها العميل عندما طُلب الورق من أرجو وِجنز. بحث المجلس القانوني للأرجنتينيين عن نقاط الضعف في لوائح الاتحاد، الذي كان مقرُّه في زيورخ ويخضع لقانون الاتحادات السويسري. واكتشف شيئًا. تحوَّلت المناقشة في الاجتماع السنوي للاتحاد في أكتوبر عام ١٩٩٨م إلى مناقشة انفعالية على كلا الجانبين، وإن لم يستطع الأرجنتينيون إقناع الأعضاء. صوَّت كل الأعضاء الحاضرين بالإجماع على طرد تشيكوني كالكوجرافيكا من الاتحاد. على الرغم من ذلك، كان الطرد — أو البديل الذي درسوه وهو التفكيك الطوعي للاتحاد — يهدِّد بأن يتسبَّب في وضع قانوني معقَّد مع الأرجنتينيين لسنوات طويلة؛ ومن ثم تقرَّر اتباع نهج آخر. في اجتماع غير عادي للاتحاد عُقد في لندن في مطلع عام ١٩٩٩م، انسحب معظم الأعضاء من عضوية الاتحاد الذي كان ذات يوم رفيع المقام، دون أن يُحلَّ هذا الاتحاد. كان قرارًا راديكاليًّا. تبقَّى في عضوية الاتحاد، الذي كان مصيره إلى الهوان، تشيكوني كالكوجرافيكا، وكالكوجرافيَّا إي كارتيفالوري الكائنة في ميلانو، وأمريكان بنكنوت. قال مشاركون في الاجتماع الدرامي للاتحاد، ملتفتين إلى تلك الأحداث، إن هذا التصرف قلب الطاولة. كان ذلك مثالًا نموذجيًّا على «طبع النقد لمَن يطلب»، حسبما أكد المطلعون على الصناعة فيما بعد. في مثل هذه الحالة المتفاقمة من إساءة التصرف، كان يمكن أن يتوقَّع المرء أن يتحمَّل المُذنِب العواقب وينسحب طواعية من الاتحاد، لكن تشيكوني لم تفعل هذا. لم يفعل القرار غير الإجماعي الكثير من أجل الأرجنتينيين. وعلى الرغم من المعارضة المريرة، شطب الإنتربول تشيكوني كالكوجرافيكا بعد ذلك بفترة قصيرة من قائمة مدعويه. كما لم تَعُد تشيكوني مُرحَّبًا بها في الملتقيات المهنية لصناعة طباعة النقد الرفيعة الأمن. بل وسرعان ما مُنِعتْ تشيكوني من تقديم عطائها في إطار إرساء عقود لطبع أوراق نقد في أوروجواي، التي تقع على الضفة المقابلة لنهر ريو دي لا بلاتا؛ أي إنها تُطِلُّ على مطبعة تشيكوني كالكوجرافيكا.

في أثناء ذلك اضطرت شركة طباعة النقد الأرجنتينية هذه إلى التماس حماية قضائية من دائنيها. كان قَطْع علاقة البيزو بالدولار قد ركَّع تشيكوني كالكوجرافيكا. على الرغم من كل الأدلة، يَعتبر الأخَوَان تشيكوني أنفسَهما وشركتهما ضحية مؤامرة بتحريض من الشركات الثلاث الكبرى في عالم طباعة النقد، التي لم يكن يَعنِيها إلا الحفاظ على قبضتها الاحتكارية على السوق. ليس حتى كل المراقبين الأرجنتينيين المطَّلعين على هذه الدراما يوافقون على ذلك. هناك مستشار لمنعم شارك كثيرًا في مناقشات رئيس الحكومة السابق مع الأخَوَيْن ينظر إلى الوقائع نظرة نقدية. وقد قال إن الاثنين استسلما لإغراء القوة. وخلص في حديث جرى في بوينس آيرس إلى أنهما بدَّدا أعظم رأس مال لدى الطبَّاع الرفيع الأمن، وهو جدارته بالثقة.

يتواصل التحقيق في فضيحة أوراق النقد البحرانية «الأصلية الزائفة». لن تكتمل على الأرجح صورة ما حدث أبدًا، أو على الأقل لن تُكشف للعلن. ويقال إن المملكة العربية السعودية والبحرين قامَا بتسوية الأمر داخليًّا. في مكان ما في قارة أفريقيا يوجد نحو ٢٥٠ ألفًا من هذه الدنانير البحرانية «الأصلية الزائفة» يتراكم عليها الغبار داخل مرآب. في صيف عام ٢٠٠٥م، عرض وسيط بيع هذه الأوراق البِكر، مقدِّمًا رزمة من أوراق النقد البِكر كإثبات. تحمل الأوراق ترقيمًا متتابعًا، وما زالت مغلَّفة في غلافها الأصلي. كانت ذات يوم سلعة رائجة، وما زالت تحتفظ ببعض بريقها. هذا مجرد شيء لا يُذكَر بالنسبة إلى صناعة الطباعة الرفيعة الأمن؛ فهي لديها هموم أخرى مرتبطة بصفقة القرن، وهي استحداث أوراق اليورو. في غضون عشر سنوات، ربما يتقرَّر أنه لم يهزَّ شيء أساس هذه الصناعة النخبوية بقوة ولم يغيِّرها بشدة كهذه العملة الموحدة. لقد حان الوقت لإلقاء نظرة أدقَّ على العملة الأوروبية الموحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤