الفصل الثالث

اكتشاف حفريات أشباه البشر وسياقها

كما شرحنا في الفصل الأول، فإن اسم أشباه البشر هو لقب نعطيه لما يُعرف باسم الإنسان الحديث من الناحية التشريحية وكل الأنواع المنقرضة الموجودة على فرع الإنسان الحديث في شجرة الحياة أو المرتبطة به. وفي هذا الفصل أناقش العناصر التي يتكوَّن منها السجل الحفري لأشباه البشر، وكيف عُثر عليه وأسلوب دراسته وسياقه.

(١) السجل الحفري لأشباه البشر

الحفرية هي أثر أو بقايا كائنٍ حيٍّ سابق. ينجو جزء صغير فقط من الكائنات الحية ويُحفَظ في صورة حفريات، وقبل انتهاج البشر طريقة الدفن المتعمد كان هذا الأمر ينطبق على أشباه البشر أيضًا؛ فنحن شبه متأكدين من أن الحفريات التي نجت هي عينة جزئية من التعداد الأصلي للسكان، وسأشرح تبعات هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل في الفصل التالي. تكون الحفريات عادةً، ولكن ليس دومًا، محفوظة في الصخور. وقد حدَّد العلماء فئتين رئيسيتين من الحفريات: تضم الفئة الصغرى — الحفريات البسيطة — آثارَ الأقدام، مثل آثار الأقدام التي يبلغ عمرها ٣٫٦ ملايين سنة، وعُثر عليها في منطقة لايتولي في تنزانيا، التي أتحدث عنها في الفصل السادس، والفضلات المتحجرة، أما الفئة الكبرى — الحفريات الحقيقية — فتتكوَّن من بقايا فِعْليةٍ لحيواناتٍ أو نباتات. في حالة السجل الحفري لأشباه البشر فإن عدد الحفريات يفوق كثيرًا فئة الحفريات البسيطة، حتى إننا عندما نذكر كلمة حفرية فإننا نقصد بديهيًّا الحفريات الحقيقية. تتكوَّن حفريات الحيوانات عادةً من الأنسجة الصلبة مثل العظام والأسنان. ويرجع هذا إلى أن الأنسجة الصلبة تكون مقاومتها أكبر للتحلل من الأنسجة الرخوة مثل الجلد أو العضلات أو الأمعاء. ولم تُحفظ الأنسجة الرخوة في السجل الحفري لأشباه البشر إلا في مراحل متأخرة؛ على سبيل المثال جثث المستنقعات التي عُثر عليها في الدنمارك وأماكن أخرى في أوروبا.

(٢) عملية التحجُّر

إن فُرَص حفظ هيكلٍ عظميٍّ لأشباه البشر الأوائل في السجل الحفري ضئيلة للغاية؛ فالاحتمال الأكبر أن آكلات اللحم، مثل أسلاف الأسود والنمور والفهود الحديثة، كانت أوَّل من يلتهم أجزاء جثث أشباه البشر النافقين، وتأتي بعدها الحيوانات الأرضية التي تقتات على الفضلات، بقيادة الضباع والكلاب البرية والسنوريات الأصغر حجمًا، ثم الطيور الجارحة، ثم الحشرات، وأخيرًا البكتيريا؛ ففي خلال سنتين أو ثلاث، وهي فترة قصيرة على نحوٍ مذهل، تستطيع هذه الكائنات إزالة أي آثارٍ لأي حيوانٍ ثدييٍّ ضخم.

حتى تُحفَظ الأنسجة الصُّلبة في صورة حفريات، لا بد لعظامِ وأسنانِ أشباه البشر النافقين أن تُغطَّى سريعًا بطميِ أحدِ الجداول المائية، أو برمال أحدِ الشواطئ، أو بتربةٍ جُرفت إلى داخل أحد الكهوف. تحمي هذه الأشياءُ الحفريةَ المتوقَّع تكوُّنها من التعرُّض لمزيدٍ من التحلل، وتسمح بحدوث عملية التحجر. تبدأ عملية تحجر العظام عندما تحلُّ المواد الكيميائية من الرواسب المحيطة محل المواد العضوية الموجودة داخل الأنسجة الصُّلبة، وفيما بعدُ تبدأ المواد الكيميائية تحل محلَّ المواد غير العضوية الموجودة في العظام والأسنان. تستمر عمليات الإحلال هذه للعديد من السنوات، وبهذه الطريقة تتحوَّل العظام إلى حفرية. تكون الحفريات في الأساس صخورًا متكونة على عظامٍ أو أسنان. وفي الوقت نفسه تتحوَّل الرواسب نفسها المحيطة بالحفرية إلى صخور. تتميَّز الأسنان بصلابتها وتبقى على حالها لوقتٍ طويل، لكن الإحلال الكيميائي يحدث فيها أيضًا.

التحوُّر هو الكلمة التي يستخدمها العلماء في وصف جميع التغيرات التي تحدث للعظام والأسنان خلال عملية التحجُّر. تظهر على الحفريات المستخرَجة من مواقع مختلفة، وحتى من أجزاءٍ مختلفةٍ من الموقع نفسه، درجاتٌ متفاوتة من التحجُّر بسبب الفروق الطفيفة في بيئتها الكيميائية. عندما تُحفَظ الحفريات في الصخور الصُّلبة، وعندما تُكتشف حديثًا، فإنها تظل باقيةً لمدةٍ طويلةٍ للغاية. لكن إذا تعرضت للتآكل بفعل الرياح والأمطار لأي مدةٍ من الوقت، فإن العظام المتحجِّرة قد تصبح هشة تمامًا مثل منديلٍ ورقيٍّ مبلل. في هذه الحالات يجب على الباحثين حقن العظام الهشة بالبلاستيك السائل، أو ما يشبهه، من أجل منع الحفرية من التفتُّت. من الواضح أن الدفن المتعمَّد يزيد من فرصة حفظ الهياكل العظمية في حالةٍ جيدة، وهذا أحد الأسباب الرئيسية في تحسُّن السجل الحفري البشري كثيرًا منذ نحو ٦٠ إلى ٧٠ ألف سنةٍ مضت.

تُكتشف معظم حفريات أشباه البشر في صخورٍ تكوَّنت من الرواسب التي خلَّفتها الأنهار، أو على شواطئ البحيرات، أو في قاع الكهوف. بوجهٍ عام، تقع الصخور الأقدم (وبالتبعية الحفريات التي تحتوي عليها) في الطبقات السفلى، وتكون الصخور الأحدث أكثر قربًا من السطح؛ ويُسمَّى هذا المبدأ بقانون التراكب. ومع ذلك، فإن الحركة النسبية للصخور الناتجة عن الشد والضغط — مثل التمزُّق الذي يحدث على طول الصدوع في القشرة الأرضية — بإمكانها دحض هذا المبدأ العام. هذا وتكون الصخور الرسوبية التي تتكوَّن داخل الكهوف أيضًا عرضةً للاختلاط على نحوٍ أكثر تعقيدًا؛ فبإمكان الماء الذي يتسرب من سطح الكهف تليينُ الرواسب القديمة ثم إذابتها. وينتج عن هذا تجاويف تشبه الموجودةَ في الجبن السويسري، تمتلئ فيما بعدُ برواسبَ أحدث؛ لذلك قد تكون الرواسب الحديثة داخل الكهوف موجودةً تحت تلك الأقدم عمرًا.

يستخدم المتخصصون في عِلم الأرض شكل الصخور وملمسها وتركيبها الكيميائي المميز في وصفها وتصنيفها؛ على سبيل المثال، قد يشيرون إلى إحدى الطبقات باسم «الصخر البركاني الزهري»، أو يُطلِقون على طبقةٍ أخرى اسم «الرمل الطيني». وكما تُوجد قواعد لتسمية أنواع الكائنات الجديدة، تُوجد قواعد وأعراف لتسمية الطبقات في التكوينات الرسوبية المكتشَفة حديثًا، فيوجد تصنيف للصخور مكافئ لتصنيف لينيه.

يُشار إلى الطبقة الصخرية التي تكون الحفرية مدفونة فيها باسم «الأفق الرئيسي». هذا وتُعتبر حفريات أشباه البشر التي يُعثر عليها داخل طبقةٍ صخريةٍ معينةٍ من نفس عمر هذه الطبقة، هذا إن لم توجد أدلة واضحة على أنها دُفنت فيها عن قصد. كما تُوصَف الحفرية التي يُعثر عليها مدفونة داخل إحدى الصخور بأنها قد اكتُشفت في «موضعها الطبيعي». ومع هذا، فإن معظم حفريات أشباه البشر قد نُقلت من مكانها بفعل تآكل أفقها الرئيسي، ويُطلق على هذه الحفريات «اكتشافات السطح». وحتى نربط بثقةٍ بين أحد اكتشافات السطح وأفقه الأصلي، يكون من المفيد إذا ما زالت بعض أجزاء الصخر الرئيسي، أو القالب، ملتصقةً بالحفرية، أو لا تزال مطمورةً بداخلها؛ ولهذا لا يفصل أبدًا العلماء الحذرون الحفريةَ عن القالب الصخري بالكامل.

(٣) العثور على حفريات أشباه البشر

أين بحث علماء الحفريات البشرية عن حفرياتٍ لأشباه البشر الأوائل؟ أشار تشارلز داروين في القرن التاسع عشر إلى أنه نظرًا لأن أقرب الكائنات صلةً بالإنسان الحديث التي تعيش حاليًّا — الشمبانزي والغوريلا — يقتصر وجودها على أفريقيا، إذن من المحتمل أن يكون السلف المشترك للإنسان الحديث قد عاش أيضًا في أفريقيا؛ لذلك طوال ٧٥ سنةً مضت، ولا سيما السنوات الخمسين الأخيرة، كانت أفريقيا مركز اهتمامِ مجال البحث عن أصول الإنسان. إلا أن الباحثين لا يستطيعون البحث في جميع أنحاء أفريقيا؛ فهل توجد أماكن معينة يُرجَّح العثور فيها على حفريات أشباه البشر؟

يبحث علماء الحفريات البشرية في المناطق التي تظهر بها صخور ذات عمرٍ مناسب (١٠ ملايين سنةٍ مثلًا) بفعل التعرية الطبيعية. تحدث التعرية في مناطق تتعرض فيها القشرة الأرضية إلى التحدُّب والتشقُّق عند اصطدام كتلٍ ضخمةٍ من اليابسة، تُسمَّى الألواح التكتونية، بعضها ببعض. تُدفَع المنطقة الواقعة بين الشقوق الضخمة، أو الصدوع، إلى الأسفل، وترتفع القشرة الأرضية الموجودة على جانبَي الصدوع الضخمة إلى الأعلى؛ وهكذا يتكون قاع وجدران أودية الصدوع. وأحيانًا تكون الصدوع الموجودة على جانبَي أودية الصدوع عميقةً للغاية بحيث تخرج المادة المنصهرة في باطن الأرض عبرها. عندما يتعرَّض باطن الأرض المنصهر إلى ضغطٍ عالٍ للغاية يخرج كما يحدث في الانفجار البركاني، أو «يتسرَّب» في صورة تدفُّقٍ من الحمم البركانية المنصهرة. تشتمل الانفجارات البركانية عادةً على رماد (يُسمَّى التفرا) يكون غنيًّا بمواد البوتاسيوم والأرجون الكيميائية، وتُسمَّى الصخور التي تتكوَّن من طبقات الرماد هذا بالصخور البركانية. تمدنا الصخور البركانية بالمواد الخام لتأريخ كثيرٍ من مواقع حفريات أشباه البشر في شرق أفريقيا. تتسم هذه الصخور البركانية أيضًا بطابعها الكيميائي المميز، أو «بصمتها»، ويسمح هذا لعلماء الجيولوجيا بتتبُّع إحدى الصخور البركانية ليس فقط داخل موقعٍ كبيرٍ للحفريات، وإنما عبر مئات الكيلومترات من موقعٍ لآخر.

أحيانًا يسقط الرماد البركاني الساخن على الماء وليس على الأرض؛ فالسبب في تكوُّن الثقوب الموجودة في كُتَل حجر الخفاف البركاني الذي يشتريه الناس ليستخدموه في حماماتهم؛ فقاعاتُ الهواء التي تتكوَّن عند سقوط الرماد الساخن على سطح الماء.

تظهر الحفريات على جوانب الوديان المتكوِّنة وقاعها عندما تنحتُ جداولُ المياه والأنهار طريقَها عبر كتل الرواسب التي قُذفت على سطح الصدوع. يُطلق على مثل هذه المواقع «مواقع التعريض»، ويُطلق على الأماكن التي عُثر فيها على حفرياتٍ في هذه المواقع اسم المواضع. في شرق أفريقيا يبحث العلماء عن حفرياتٍ لأشباه البشر في صخورٍ ذات عمرٍ مناسبٍ ظهرتْ نتيجةً لكلٍّ من النشاط البركاني، الذي يُسمى الحركة التكتونية، والتآكل الذي يحدث داخل وادي الصدع وحوله. وربما تكون منطقة أولدوفاي جورج في تنزانيا أشهر مثالٍ على موقعٍ لوادي صدع كُشفت فيه الصخور ذات العمر المناسب بفعل كلٍّ من الحركة التكتونية والتآكل.

عُثر على أولى حفريات أشباه البشر في سياقٍ جيولوجيٍّ مختلفٍ تمامًا في جنوب أفريقيا؛ إذ عُثر عليها في الكهوف التي تتكوَّن عند جريان مياه الأمطار عبر الشقوق الموجودة في الحجر الجيري. تتمدَّد الشقوق الصغيرة لتصبح شقوقًا كبيرة الحجم، وتتحول هذه الشقوق إلى تجويفات، وتنتدمج هذه التجويفات لتصبح كهوفًا تكون في هذا الوقت مليئة بتربةٍ جُرفت إلى داخلها من السطح. تستخدم النمورُ الأشجار التي تنمو في مدخل هذه الكهوف كمكانٍ لإخفاء الجثث، وتستخدم الضباع هذه المداخل كأوكار. ويعتقد العلماء أن معظم حفريات أشباه البشر التي عُثر عليها في كهوف جنوب أفريقيا قد أخذتها إلى هناك النمور أو الضباع، أو الحيوانات الجامعة للعظام مثل النيص.

رغم أن أفريقيا أصبحت حاليًّا مركزًا رئيسيًّا للعمل الميداني، فإنها لم تكن كذلك حتى وقتٍ متأخرٍ من القرن العشرين؛ فقبل هذا الوقت كان البحث عن الحفريات البشرية يُجرى في أوروبا وآسيا. كانت أوروبا المكانَ الذي عاش فيه علماء عصور ما قبل التاريخ الأوائل ومارسوا عملهم؛ لذا كان من المتوقَّع أن يستفيدوا من أي فرصةٍ تُتاح أمامهم في منطقتهم قبل البحث عن البقايا الحفرية لأسلافنا في أماكنَ أكثرَ غرابة. فكما توقَّع تشارلز داروين في عام ١٨٧١ أن أفريقيا هي مهد البشرية، اقترح إرنست هيكل، وهو عالم ألماني بارز في التاريخ الطبيعي، في عام ١٨٧٤ أن وجود الأورانجوتان، وهو النوع الوحيد غير الأفريقي من القردة العليا، في المنطقة التي كان يُطلق عليها اسم الهند الشرقية الهولندية (حاليًّا بورنيو وسومطرة في إندونيسيا)؛ جعل هذه المنطقة مهدًا محتملًا للبشرية. وقبل عامين من نشر كتاب هيكل المؤثر، أدرج عالم التاريخ الطبيعي ألفريد راسل والاس (١٨٧٢) معلوماتٍ تفصيليةً عن تكوين الأورانجوتان وعاداته في كتابه عن التاريخ الطبيعي لأرخبيل الملايو.

fig3
شكل ٣-١: تشارلز كيمبرلين برين يستعرض التصوير الطِّباقي في سوارتكرانس، أحد مواقع الكهوف الأفريقية الجنوبية حيث عُثر على بقايا لأشباه البشر الأوائل.

يبدو أن منطق هيكل ووصف والاس الحيوي للأورانجوتان أثارا اهتمام جرَّاحٍ متدربٍ شاب، هو يوجين دوبوا، حتى إنه في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر قَبِل بوظيفةٍ في المنطقة حتى يتمكَّن من البحث عن أسلاف البشر. وقد عثر على أشهر اكتشافاته، الجزء العلوي من جمجمة كائنٍ كانت منطقةُ الجبهة فيها ناتئة عند الحاجبين؛ وهو ما لم يكن يُشبه أي جزءٍ مماثلٍ عُثر عليه للإنسان الحديث، في عام ١٨٩١ على ضفة نهر ترينيل في جزيرة جاوة. لم تقتصر حفريات أسلاف البشر المكتشَفة في آسيا على الرواسب التي تزيلها الأنهار؛ فقد استُخرجت حفريات إنسان بكين الشهيرة من كهفٍ في موقعٍ يُطلَق عليه حاليًّا زوكوديان بالقرب من بكين في الصين.

(٤) العمل الجماعي

يجب أن تضم الفرق التي تبحث حاليًّا عن حفريات أشباه البشر في تشاد أو إثيوبيا أو إريتريا عددًا كبيرًا من الخبراء؛ فبالإضافة إلى علماء الحفريات البشرية وعلماء الجيولوجيا وخبراء التأريخ وعلماء الحفريات الذين يستطيعون التعرُّف على البقايا المتحجرة للحيوانات والنباتات التي يُعثر عليها مع أشباه البشر وتفسيرها؛ يجب أن يضم الفريقُ المتعددُ التخصصات خبراءَ في العوامل التي تؤثر في السجل الحفري، وقد يضم أيضًا متخصصين في علم الأرض بإمكانهم تفسير التركيب الكيميائي للتربات من أجل إعادة إنشاء البيئات القديمة. يجب على أعضاء الفريق السفر إلى أماكنَ بعيدةٍ وأحيانًا خطرةٍ يحتاجون فيها — هم والعمال المحليون المستأجَرون الذين يساعدون في البحث عن الحفريات واستخراجها — إلى إمداداتٍ من الماء والغذاء والوقود، ويجب أن يتمتع قادة الحملات الاستكشافية بمهاراتٍ تنظيميةٍ جيدةٍ بالإضافة إلى مؤهلاتهم العلمية. يكون السفر في الحملات الاستكشافية الضخمة إلى مواقع الحفريات التي يصعب الوصول إليها في وسط وشرق آسيا عاليَ التكلفة؛ إذ تصل الميزانيات السنوية للحملات الكبرى إلى عشرات الآلاف من الدولارات. أما مواقع الكهوف الموجودة في جنوب أفريقيا فيكون الوصول إليها أسهل في معظم الأحيان؛ إذ يقع معظمها في منطقةٍ يستغرق الذهاب إليها رحلةً مدتها ساعة واحدة بالسيارة من جوهانسبرج أو من بريتوريا. يمكِّن هذا العلماءَ من الإشراف على البحث في أثناء عملهم في الجامعات والمتاحف في المدن القريبة.

(٥) الحفريات المُعاد اكتشافها

يحدث بعضٌ من الاكتشافات المثيرة لحفريات أشباه البشر في المتاحف؛ فمن المفيد دومًا البحث في مجموعات الحفريات «غير البشرية» المستخرَجة من مواقع حفريات أشباه البشر؛ إذ قد يغفل حتى أفضلُ علماء الحفريات بعضَ الأشياء في أثناء فرزهم لمئات الأجزاء العظمية. في الماضي عندما كانت تحدث اكتشافات مهمة لحفريات أشباه البشر كانت أحيانًا تُرسل إلى خبراء من أجل الحصول على تقييمهم، وإذا لم يُتخذ الحرص الشديد يمكن لهذه العيِّنات أن تختلط أو تُصنَّف على نحوٍ خاطئ. على سبيل المثال، تُظهر السجلات أنه عند استخراج هيكلٍ عظميٍّ مكتملٍ على نحوٍ مذهلٍ لطفل نياندرتال من موقع لوموستييه، أُرسل إلى عالم الحفريات مارسيلن بولي من أجل تحديد عمره. ومع هذا، بدا أن كل أثرٍ لهذا الهيكل العظمي قد فُقد حتى عثر أحد الباحثين على عظام طفلٍ وليدٍ بين أدواتٍ حجريةٍ من موقع ليزيزي! لحسن الحظ، كانت بعض العظام ما تزال في قالبها الأصلي الذي تطابق مع الصخور الموجودة في نهر فيزير، الذي يمرُّ عبر موقع لوموستييه.

(٦) تأريخ حفريات أشباه البشر

يستطيع الجيولوجيون عادةً معرفةَ التسلسل الزمني للحفريات الموجودة داخل موقعٍ صغيرٍ للحفريات. لكن كيف نقارن أعمار الحفريات التي يُعثر عليها في مواقعَ يبعد بعضها عن بعضٍ مئات الكيلومترات؟ وكيف نقارن أعمار حفرياتٍ مُستخرَجةٍ من مواقعَ تُوجد في قاراتٍ مختلفة؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة نحن بحاجةٍ إلى طرقٍ للتأريخ. وينقسم التأريخ إلى قسمين: مطلق ونسبي.

تُطبَّق طرق التأريخ المطلق في الأغلب على الصخور التي تُكتشَف فيها حفريات أشباه البشر، أو على الحفريات غير البشرية المُستخرَجة من الأفق نفسه، ويجب على الباحثين توخِّي الحذر الشديد من أجل الحفاظ على الأدلة التي تربط حفريةً ما بطبقةٍ صخريةٍ معينة. تعتمد طريقة التأريخ المطلق على معرفة الوقت الذي تستغرقه العمليات الطبيعية؛ مثل التحلل الذري، حتى تستكمل دورتها، أو تربط أفق الحفرية بأحداثٍ عالميةٍ محددةٍ بدقة؛ مثل انقلاب اتجاه المجال المغناطيسي للأرض. ولهذا السبب يمكن تحديد التواريخ المطلقة بدِقَّة في سنواتٍ معينة. تتناسب أشهر طرق التأريخ المطلق هذه، وهي التأريخ بالكربون المُشِع، فقط مع المراحل المتأخرة من تطوُّر الإنسان؛ فبعد ٥٧٣٠ سنة (٤٠ سنة أزيد أو أقل) يتحوَّل نصف مقدار الكربون ١٤ الذي كان موجودًا عند وفاة الكائن إلى نيتروجين ١٤ (ولهذا يُطلق على هذه الفترة اسم «نصف حياة» الحفرية). استُخدم التأريخ بالكربون المشع بنجاحٍ في تأريخ حفريات الإنسان العاقل المُستخرَجة من أستراليا وأوروبا، لكن تواريخ الكربون المشع الأقدم من ٤٠ ألف سنة لا يمكن الوثوق بها؛ نظرًا لأن كمية الكربون المشع المتبقية ضئيلة للغاية بحيث يتعذَّر قياسها بدقة.

تنتمي معظم حفريات أشباه البشر المُستخرَجة من مواقعَ في شرق أفريقيا، مثل أولدوفاي جورج في تنزانيا، وكوبي فورا في كينيا، وهدار في إثيوبيا، إلى أفقٍ يقع بين طبقاتٍ من الرماد البركاني — أو التفرا — الغني بنظائر البوتاسيوم والأرجون. ونظرًا لأن البوتاسيوم والأرجون المشعَّين يتحوَّلان (أو يتحللان) إلى منتجاتهما الوليدة ببطءٍ أكثر من الكربون ١٤، فقد تُستخدم طرق تأريخ بوتاسيوم/أرجون وأرجون/أرجون في الصخور التي تحتوي على حفرياتٍ وأدواتٍ حجريةٍ تنتمي إلى الجزء الأقدم من السجل الحفري لأشباه البشر (أقدم من ١٠٠ ألف سنة).

يَستخدمُ التأريخ بالمغناطيسية القديمة للأرض السجلَّ المعقدَ للانقلابات التي حدثت في اتجاه المجال المغناطيسي للأرض. لفتراتٍ طويلةٍ من تاريخ الأرض، كان اتجاه المجال المغناطيسي في عكس اتجاهه الحالي تمامًا. يُسمَّى الاتجاه الحالي «الطبيعي» والعكسي «المقلوب»، وتتسبَّب التيارات الموجودة في اللب السائل للأرض في هذه التغيُّرات في اتجاه المجال المغناطيسي؛ فعندما تستقر الجُسيمات المعلَّقة قبل تشكيل صخرةٍ رسوبيةٍ صُلبة، يعني وجود كمياتٍ صغيرةٍ من معدنٍ مغناطيسيٍّ داخل هذه الجسيمات أن يتصرَّف كلٌّ منها مثل المغناطيس. وعندما تستقر هذه الجسيمات تصطفُّ مع اتجاه المجال المغناطيسي للأرض في هذا الوقت، وتعطي الصخرة ككلٍّ اتجاهًا مغناطيسيًّا يمكن رصده، أو ما يُسمى القطبية. يقارن الباحثون تسلسل التغيرات في الاتجاه المغناطيسي المحفوظة داخل الرواسب التي تحتوي على حفرية أشباه البشر، بالسجل المغناطيسي المحفوظ في العيِّنة الجوفية المأخوذة من قاعِ أكثر المحيطات عمقًا (تُسمى أعمدةَ المغناطيسية القديمة) ويحاولون العثور على أفضل تطابُق. تُرى بعض التسلسلات أكثر من مرةٍ في العمود المرجعي؛ لذلك من المفيد، إن أمكن، استخدام طريقة تأريخٍ مطلقٍ أخرى ليعرف الباحثون أيُّ جزء من سجل المغناطيسية القديمة يجدر بهم التركيز عليه. يُطلَق على فترةٍ طويلةٍ من الاستقرار في المغناطيسية القديمة «الكرون»، ويُطلَق على التغيُّر القصير الأجل نسبيًّا في اتجاه المجال المغناطيسي داخل الكرون «تحت الكرون». وكانت منطقة أولدوفاي جورج أوَّلَ موقعٍ لأشباه البشر الأوائل يؤرَّخ باستخدام طريقة دراسة الطبقات المغناطيسية، وعندما كانت تُطلَق أسماءٌ على فترات تحت الكرون ولم تكن تُرقَّم كما هي حالها الآن، أُطلق على أحدها «حدث أولدوفاي».

fig4
شكل ٣-٢: بعض الطرق المُستخدَمة في تأريخ حفريات أشباه البشر والفترات الزمنية التي تغطيها.

تَستخدم مجموعةٌ أخرى من طرق التأريخ المطلق، يُطلق عليها اسم تأريخ مراسمة الحمض الأميني، التفاعلاتٍ الكيميائيةَ الحيويةَ لتعمل عمل الساعة. على سبيل المثال، تحتوي قشرة البيض على حمضٍ أمينيٍّ يُسمَّى ليوسين. عند تكوُّن القشرة يكون كل الليوسين الموجود في البداية في الصورة (ل). مع ذلك، بمرور الوقت تتحوَّل هذه الصورة (ل) من الليوسين — أو تتغيَّر إلى خليطٍ راسيمي — بمعدلٍ ثابتٍ إلى حدٍّ ما لتظهر نسخة بديلة تُسمَّى الصورة (د)؛ ومن ثَمَّ، فإن النسبة بين الصورتين، بالإضافة إلى معدل التحوُّل، يمدانا بتاريخٍ يحدد وقت تكوُّن القشرة. يحتوي كثير من مواقع حفريات أشباه البشر الأفريقية التي ظهرت في وقتٍ متأخرٍ على أجزاءٍ من قشر بيض النعام، وإذا وضعنا الافتراض المنطقي أن قشر البيض الموجود في أفقٍ ما يكون له العمرُ الجيولوجي نفسه لأي أشباه بشرٍ موجودين فيه، فإن تأريخ قشر بيض النعام يمكنه أن يمدَّنا بطريقةٍ مفيدةٍ محتمَلة. إن التأريخ باستخدام بيض النعام هو واحدة من عدة طرق (الطرق الأخرى هي رنين العزم المغزلي للإلكترون، وتحليل سرعة الترسيب في الدم، والتأريخ بسلاسل اليورانيوم) يستخدمها العلماء في تأريخ مواقع حفريات أشباه البشر التي تقع بين نطاقات التأريخ بالكربون المشع والتأريخ بالبوتاسيوم والأرجون. تكون هذه الطرق مفيدةً على وجه الخصوص في تأريخ المواقع التي يتراوح عمرها بين ٣٠٠ ألف سنة و٤٠ ألف سنة.

تعتمد طرق التأريخ النسبي في الأغلب على مضاهاة الحفريات غير البشرية التي يُعثر عليها في أحد المواقع مع أدلةٍ مشابهةٍ من موقعٍ آخر تَمَّ تأريخه بالفعل على نحوٍ موثوقٍ باستخدام أساليب التأريخ المطلق. فإذا كانت الحفريات الحيوانية التي عُثر عليها في الموقع (أ) تُشبه تلك التي عُثر عليها في الموقع (ب)، فمن الممكن افتراض أن الموقع (أ) تقريبًا في نفس عمر الموقع (ب). ومقارنةً بطرق التأريخ المطلق، تُقدِّم طرق التأريخ النسبي فقط أعمارًا تقريبية للحفريات. وقد كان استخدامُ بقايا الحيوانات في التأريخ، الذي يُطلق عليه اسم «علم التأريخ الحيوي»، مُهمًّا على وجه الخصوص في تأريخ حفريات أشباه البشر الأولى التي استُخرجت من مواقع الكهوف في جنوب أفريقيا. فتحتوي كل هذه المواقع تقريبًا على حفرياتٍ لظباء وسعادين، ونظرًا لأن هذه الحيوانات نفسها قد تحدَّدت العصور التي تنتمي إليها بطريقة التأريخ المطلق في مواقعَ رئيسيةٍ في شرق أفريقيا، يستطيع الباحثون تطبيق هذه التواريخ على الطبقات التي تحتوي على حفرياتٍ مماثلةٍ في كهوف جنوب أفريقيا. استُخدم علم التأريخ الحيوي أيضًا في تأريخ مواقع حفرياتِ أشباه البشر الموجودة في تشاد وفي موقع دمانيسي في جورجيا.

جرى استخدام التأريخ الشجري — وهو استخدام حلقات الأشجار من أجل التأريخ النسبي — من أجل تحسين دِقَّة التأريخ بالكربون. إن حساب الحلقات السنوية للأشجار أسلوب موثوق به للغاية؛ لذا استُخدم في تصحيح تواريخ التأريخ بالكربون التي تأثَّرت بالتغييرات التي سبَّبها الإنسان مؤخرًا — أو التغييرات البشرية — في مستويات نظائر الكربون في الغلاف الجوي.

(٧) إعادة إنشاء البيئات القديمة

مثلما تختلف معالم سطح الأرض الآن عمَّا كانت عليه منذ عدة ملايين من السنوات، فإن البيئات القديمة في إحدى المناطق ليست بالضرورة هي نفسها التي نراها في عصرنا الحالي. يُعيد الباحثون إنشاءَ البيئات القديمة باستخدام الأدلة الجيولوجية والحفرية، ويُستخدم التحليل الكيميائي لمعرفة ما إذا كانت التربة في صورةٍ رطبةٍ أم جافة. يستطيع علماء الحفريات معرفة الكثير عن البيئات المنقرضة من أنواع الحفريات الحيوانية التي يُعثر عليها مع الحفريات البشرية؛ فهم يستخدمون كلًّا من الثدييات الضخمة والثدييات المتناهية الصغر (مثل الفئران واليرابيع) في إعادةِ بناءِ البيئات القديمة. تكون الثدييات الصغيرة المتناهية الصغر مفيدةً كثيرًا؛ لأن نطاق وجودها الجغرافي محدود أكثر من الثدييات الضخمة؛ لذا من المحتمل أن تكون إعادة بناء البيئة بالاعتماد عليها أكثر دقة. تُعتبر حفريات بقايا الحيوانات التي تتقيؤها البومة مصدرًا جيدًا للمعلومات عن الثدييات المجهرية؛ لأن البوم يصطاد الثدييات الصغيرة الموجودة داخل نطاقٍ صغيرٍ نسبيًّا. ويجب على الباحثين الذين يستخدمون الثدييات الأكبر حجمًا مثل الرئيسيات في إعادة بناء البيئات القديمة توخِّي الحذر من افتراض أن التفضيلات البيئية للأجداد كانت تُشبه تفضيلات أحفادهم في العصر الحالي؛ فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن سعادين كولبس الحالية في الأساس من آكلات أوراق الأشجار وتعيش في الغابات الكثيفة، فقد عاشت أسلافها في بيئاتٍ مفتوحةٍ أكثر؛ لذا فإن وجود سعادين كولبس في موقعٍ يبلغ عمره ٥ ملايين سنة لا يحمل نفس دلالة العثور على سعادين كولبس المعاصرة.

(٨) تغيُّر المناخ العالمي

حدث تطوُّر البشر في وقت وقوع تغيراتٍ كبرى في المناخ العالمي. يدرس الباحثون تغيُّر المناخ عن طريق دراسة العيِّنات الجوفية المأخوذة من أعماق البحار. توجد كائنات مجهرية تُسمَّى المنخربات عالقة في مياه محيطات العالم، وهذه المنخربات تمتصُّ شكلين من نظائر الأكسجين؛ أحدهما أكسجين ١٦ وهو الأخف وزنًا، والآخر أكسجين ١٨ وهو الأثقل وزنًا. عندما تكون درجات الحرارة العالمية أعلى يتبخر المزيد من الأكسجين الأخف وزنًا؛ لذا تقلُّ نسبة نظير الأكسجين الأخف إلى النظير الأثقل؛ والعكس يحدث عندما تنخفض درجات الحرارة العالمية. يستخدم الباحثون هذين النوعين من نظائر الأكسجين في تتبُّع درجة حرارة المحيطات، ويستخدمون درجة حرارة مياه المحيط كممثِّلٍ للمناخ العالمي. إلا أن المناخ في منطقةٍ ما يكون نتيجةَ تفاعلاتٍ معقدةٍ بين المناخ العالمي والتأثيرات المحلية؛ مثل دائرة العرض والارتفاع ووجود سلاسل من الجبال.

شهدت الأرض في الفترة بين ٥ و٨ ملايين سنة مضت بدايةَ اتجاهٍ طويل الأمد نحو الجفاف وانخفاض درجة الحرارة. حدث التطور المبكر لأشباه البشر في أفريقيا في وقتِ هذه التغيرات المناخية، وسنبحث بمزيدٍ من التعمُّق الآثارَ المحتمَلة لهذا التغير المناخي على أصل سلالة أشباه البشر في الفصل الخامس.

fig5
شكل ٣-٣: مخططٌ للتذبذبات في مستويات نظائر الأكسجين خلال الستة ملايين سنة الماضية، يظهر أنه منذ ٣ ملايين سنة مضت ظهر في المناخ العالمي اتجاهٌ عامٌّ نحو انخفاض درجة الحرارة.

في وقتٍ لاحقٍ مِن تطوُّر البشر طغت التغيرات الدورية في المناخ العالمي، التي تُقاس باستخدام عيناتٍ جوفيةٍ من قاع البحار، على هذا الاتجاه الطويل الأمد نحو انخفاض درجات الحرارة؛ فقبل ٣ ملايين سنة كان المناخ العالمي عرضة لدوراتٍ حارة/جافة وباردة/رطبة مدتها ٢٣ ألف سنة، ومنذ نحو ٣ ملايين سنة تغيَّر تواتر هذه الدورات إلى ٤١ ألف سنة، ومنذ مليون سنةٍ تغيَّر التواتر مرةً أخرى؛ فأصبحت هذه التغيرات تحدث كلَّ ١٠٠ ألف سنة. وهذه الدورات التي تصل مدتها إلى ١٠٠ ألف سنة هي المسئولة عن فترات البرد الشديد التي سُجِّلت في نصف الكرة الشمالي خلال المليون سنة الماضية. ولهذه الدورات الطويلة تأثيرٌ آخر على تطوُّر الإنسان؛ لأنه عندما تُحتجز كميات كبيرة من الجليد في الغطاء الجليدي الموجود في القطبين الشمالي والجنوبي، لا بد لمستوى البحر أن ينخفض، وسيؤدي هذا إلى ظهور جزءٍ كبيرٍ مما نُطلق عليه اسم الرصيف القاري. وسمحت الانخفاضات في مستوى سطح البحر بهذا القدر لأسلاف الإنسان الحديث بالهجرة من العالم القديم إلى كلٍّ من أسترالاسيا والعالم الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤