حَدَثَ مِنْ وَرَاءِ الْوَعْي

القلم بين أصابعي، والصَّفحة تحت يدي بيضاء، يتحرَّكُ القلم دون أن يكتب شيئًا، ترمقني الصَّفحة البيضاء بسخرية، كأنَّما لم أكتب في حياتي سطرًا. تبدو اللغة غريبة، كلماتها مبنيَّة للمجهول، حروفها مقدسة، تخاطب المرأة بصيغة المذكر، كل شيء مُذكَّر في اللغة، حتَّى الإله والشَّيْطان والموت. الصَّفحة الخالية من الكتابة لونها أبيض بلون الموت، الكفن أبيض، وسرير المستشفى أبيض، معاطف الأطباء والطبيبات، ومرايل الممرضات والممرضين. عيناي مفتوحتان لا أعرف إن كنتُ الطَّبيبة أو المريضة، الكاتبة أو الصَّفحة البيضاء غير المكتوبة، المساحات الخالية بين السُّطور، السَّاقطة من حياتي والسِّنين، تسرُّب الروح من الجسد وغياب العقل.

هل عجزت عن الكتابة أم أشرفت على الموت؟ كانت هناك علاقة دائمة بين الموت وعدم الكتابة، فوق فمي كِمَامة، رائحة الأثير تملأ الجو، ربما هو المخدر، يلجئون دائمًا إلى المخدر في مواجهة الوعي، جسدي مصلوب فوق منضدة الجراحة في غرفة العمليات، أو ربما هي منضدة المشرحة في كلية الطِّب، مربوطة الذِّراعين والسَّاقين بخراطيم من المطاط. أسمعهم يتكلمون عنِّي بضمير الغائب، كلمة الضَّمير في اللغة مُذكَّرة مثل كلمة إنسان، لا يوجد في اللُّغة مؤنث كلمة ضمير. أصواتهم مُتشابهة، ملابسهم بيضاء، رائحتهم واحدة، مزيج من الأثير وصبغة اليود ودخَان سجائر. صوت ينادي اسمي واسم أبي، لم يكن لي أب واحد، هناك دائمًا أكثر من أب، اسم الأب الواحد أسطورة، في التَّاريخ يحجب الأصل تحت صورة أبٍ رمزي، لغة تجعلها كائنات مذكَّرة أو لا نكون، صورة مُقدَّسة تعيش على كبت الحقيقة، تحت تأثير المخدر تطل الحقيقة المكبوتة من تحت الماء مثل رأس جبل من الثلج.

– وأين هي أمي؟

أتلفَّت حولي أَبحثُ عن وجه أمي بين الوجوه، أصابع حديدية تثبِّت رأسي في المنضدة، تزحف الأصابع إلى عنقي تضغط عليه، أيحاولون خنقي لأني أسأل عن أمي؟ أين اختفت أمي؟ قتلوها؟ دفنوها في مقبرة ومعها اسمها؟ شطبوا على اسم أمِّي، مسحوه بالأستيكة، قالوا: ربما بعد الموت تحملين اسم أمك؛ لأنَّ الحقيقة بعد الموت تظهر، ويختفي اسم الأب المزيَّف.

الصَّوت يُنادي اسمي مرة أخرى، يرِنُّ الاسم في أذني مألوفًا، سمعته مرارًا في مراحل حياتي السَّابقة، رأيته فوق أغلفة كتبي ورواياتي، الصَّوت يُناديني بلهجة خشنة ذكورية، صوت رجل ملامحه غريبة، هذا الرَّجل لا أعرفه، مع ذلك يمسك يدي المثبتة فوق المنضدة، يقول للأطباء والطبيبات إنَّه زوجي.

– متى تزوجت هذا الرجل؟!

أرفع يدي لأمسك رأسي، يدي لا تتحرك، الصُّداع يقسم رأسي قسمين، ذاكرتي لا تسعفني، لحظات في حياتي سقطت في العدم، أحاول استعادتها دون جدوى، هذا الأثير يُخدرني، يستخدمون المخدر لقتل الذاكرة، أقاوم، أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج.

•••

مربوطة الذراعين والسَّاقين، فوق فمها كِمامة، تفتح فمَها نصف فتحة وتقول لهم: لا أريد مُخدرًا! لا أريد أن أفقد الوعي! أنا طبيبة ولست مريضة واسمي نوال وأمي اسمها زينب، أمَّا جدي السعداوي فأنا لا أعرفه، مات قبل أن أولد.

•••

الصَّوت يُناديها باسمها وهي لا ترد، زوجها يقول لهم: إنَّها ليست نائمة، وليست غائبة عن الوعي، إنَّها فقط تكتب، وهي حين تكتب تصبح غائبة عن هذا العالم، لا تسمع أحدًا، ولا تردُّ على أحد.

قالت لزوجها بعد ليلة الزفاف المؤلمة: سأكتب ما لا يُكتب. كلَّ يوم تجلس إلى مكتبها من أوَّل النَّهار حتى آخرِ الليل، القلم بين أصابعها، والصَّفحة تحت يدها بيضاء، تمزِّق الورقة وراء الورقة، تُمزِّق شعرها، تفتح فمها عن آخره تطلب الهواء، تختنق، تشد الكِمَامة فوق فمها، تعَضُّ بأسنانها الأصابعَ الملفوفة حولَ عنقها.

جسمها فوق المقعد أصبح جزءًا من المقعد، مربوطة إلى المقعد بالحبال، نصفها الأسفل مربوط لا يتحرك، النِّصف الأعلى لا نرى منه إلا الرَّأس المطوَّق فوق المكتب، القلم بين أصابعها الطَّويلة السَّمراء يرسم على الورقة حروفًا سوداء مبتورة، يحتكُّ سِنُّ القلم بالصَّفحة البيضاء، يصنع صَرِيرًا خافتًا، أذناها تلتقطان الصوت داخلَ الصمت، ينتصب رأسها وعيناها نصف مغمضتين.

كأنَّما لم أكتب في حياتي، لم تُمسك أصابعي القلم، لا أعرف اللُّغة، واللُّغة لا تعرفني، هذه الحروف ليست حروفي، لم أتعلمها من أمي، يقولون عنها: لغة الأم، وهي لغة رجل غريب مات قبل أن أولد. أحاول النهوض من مقعدي وراء المكتب، قدماي وساقاي مربوطة بالحبال، أسير نحو السَّرير بجسدي المربوط، أستغيث في النَّوم بلا صوت، شريف نائم إلى جواري مستغرق في النَّوم.

أرمقه بشيء من الحسد، منذ تزوجنا عام ١٩٦٤ وهو ينام بسهولة، يضع رأسه فوق الوسادة وينام في نصف ثانية، ضوء خافت يسقط فوق الجدار من خلال شقوق النافذة، نسمة خفيفة تحرك النتيجة المعلقة، التَّاريخ يشير إلى العام الجديد ٢٠٠٠، يبدو الرقم غريبًا، يفتح شريف عينيه، يرمق الرقم بدهشة، يا خبر بقينا في سنة ٢٠٠٠ كده بسرعة؟! أطفو فوق السَّرير كأنما أعوم فوق الزمان والمكان.

•••

الزمن يمضي وأنا مُتجمِّدةٌ تحت الغطاء، أحاول النَّوم دون جدوى، كأنَّما نسيت كيف أنام، أحاول الكتابة دون جدوى، كأنَّما نسيت اللغة. شريف نائم إلى جواري، ترك سريره في غرفته وجاء إلى غرفتي، تحدثنا قليلًا قبل النَّوم، يكتب رواية جديدة وأنا عاجزة عن الكتابة، كأنَّما لم أكتب أبدًا، عيناي مفتوحتان كأنَّما لم أَنَمْ أبدًا، يفتح شريف جفونه، يراني مُحَمْلِقة في السَّقف.

– ما لك يا نوال؟

– مش عارفة أكتب يا شريف، لا يُمكن حاكتب أبدًا أبدًا، كل مرَّة تقولي كده يا نوال وتكتبين، المرة دي هي الأخيرة يا شريف، كل مرة تقولين هي دي الأخيرة، لأ خلاص هي دي الأخيرة، ولا يمكن حاكتب، خلاص فقدت القدرة على الكتابة، حاولي تنامي يا نوال، مش عارفة أنام، خلاص فقدت القدرة على النوم.

•••

أنهض من السَّرير وأمشي في الظلمة، على أطراف أصابعي أمشي حتَّى لا يشعر بي شريف، أسير إلى الشُّرفة، نحن في الدور السَّادس والعشرين، في القرن الواحد والعشرين، أمدُّ قدمي إلى السور وأقفز في الهواء.

ثم أفتح عيني، أرى جسمي ممدودًا فوق السَّرير، إلى جواري القلم والصفحة البيضاء، تعلوها خطوط مُتعرِّجة بلا كلمات، بلا عبارة واحدة ذات معنًى.

يفتح شريف عينيه، يراني صاحية شاخصة إلى السَّقف. يرَبِّت على كتفي: نامي يا نوال. أهمس بصوت خائر: تفتكر يا شريف إن فيه تناقض بين الزَّواج والإبداع؟ يضحك شريف، جايز يا نوال … لكن خلاص نعمل إيه بعد خمس وثلاثين سنة؟!

•••

الكتابة في حياتي كانت تأخذني إلى بئر عميقة في بطن الأرض، إلى مكان يخلو من البشر، إلى مساحة لا يشاركني فيها أحد، لا أسمع صوتًا، لا شيء يتحرك، صمتٌ مطبق كالموت. كنت أحمل قلمي وأوراقي وأغادر البيت، أمشي وأمشي دون توقف، أتلفَّت حولي كأنَّما أبحث، أتطلَّع إلى الأرض والسَّماء والبيوت والشوارع والعمارات والأزِقَّة، أبحث عن شقٍّ أهرب فيه، أختفي داخلَه وأُغلق ورائي سبعة أبواب، لا يكفي بابٌ واحد لطرد الأصوات، أبحث عن الصَّمت داخل الصَّمت. أتلفت حَوَالَيَّ لا أعرف إلى أين أذهب، أسير بحذاء نهر النيل، أتوقَّف لحظة أُحَمْلق في المياه، أمدُّ قدمي فوق السُّور وأقفز.

أصحو من النَّوم مبللة بالعرق، الأوراق مُبعثرة فوق السَّرير، والقلم في يدي، إلى جواري رجل نائم.

النتيجة فوق الجدار مكتوب عليها التَّاريخ، اليوم والشهر والسنة، أحملق في الرقم ١٩٥٦، هل عادت عقارب السَّاعة إلى الوراء أربعة وأربعين عامًا وأنا غارقة في النَّوم؟ الرَّجل النَّائم يفتح عينيه، الظُّلمة شديدة لا أرى من ملامحه إلا العينين، من خلال الضَّباب الأسود يبرز الأنف، عظمة كبيرة تتوسط الوجه مقوسة قليلًا، تحت الأنف شارب أسود كبير.

لا شيء ينفِّرني في الرجال مثل الشَّعر فوق وجوههم، يُذكرني بالفصائل السَّابقة لنشوء الإنسان.

كان نائمًا على جنبه الأيسر، ظهره ناحية الحائط، وجهه ناحيتي، التَّاريخ فوق الحائط يُشير إلى عام ١٩٥٦، قُشعريرة باردة تزحف إلى جسدي، ذاكرتي تعود إلى السَّطح بالتَّدريج، أخرج من بطن الأرض جزءًا جزءًا، أصحو فوق شيء يهتز، جفوني ثقيلة أفتحها بصعوبة، التَّاريخ فوق الحائط ثابت عند عام ١٩٥٦، النَّافذة مفتوحة بدون زُجاجٍ ولا شيش، الهواء البارد ينفذ إلى جسدي، وأنا راقدة فوق ظهري، أسناني تصْطَكُّ، أرتجف بالحمَّى، في حَلْقي غُصَّة وفي أنفي رائحة دمٍ، عيناي تدوران فوق الجدران، المكان غريب لم أَرَهُ من قبل، الحائط بلا طلاء لونه أسود تعلوه بقع أكثر سوادًا، الشُّقوق في الجدران تُشبه الشُّقوق في الأرض، يتدلى من السَّقف سلك كهربي مات فوقه ذباب أسود. عيناه مغمضتان والزَّمن لا يتحرك، التَّاريخ ثابت عند عام ١٩٥٦، بالضَّبط يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٦، أشدُّ جفوني لأصحو، عيناي مفتوحتان من قبل، لم أغمضهما لحظة واحدة طول الليل، كنت أُفكِّرُ في الهروب، كيف أهرب وإلى أين؟

الليل كان طويلًا بلا نهاية، مسمار في الحائط يتدَّلى منه معطف أبيض تعلوه بقعة دم، حقيبة صغيرة من الجلد الأسود، ملقاة في وسط الغرفة، من حولها تبعثرت أدوات طبيَّة، سماعة لها خرطوم أسود طويل، حقنة لها إبرة طويلة، أربطة شاش وقطن، وصورتي فوق بطاقتي ممزَّقة ومعها اسمي.

لا يزال نائمًا على جانبه الأيسر، وجهه ناحيتي، ذراعه اليُمنى ممدودة فوق السَّرير. كنت أترك مساحة كبيرة بيننا، مسافة طويلة أطول من ذراعه الممدودة، يده ضخمة كبيرة، أصابعه غليظة، لم أرَ في حياتي أصابع غليظة بهذا الشكل. أتلفَّت حولي أبحث عن مكان الباب، الظُّلمة شديدة لا أرى الباب، كأنَّما الغرفة بدون باب، أربعة جُدران عالية سوداء، ولا منفذ للهروب.

هذه الليلة صيف عام ١٩٥٦ تعود إلى ذاكرتي، ومعها ليلة أخرى في صيف عام ١٩٤١، بالضَّبط ٣٠ أغسطس ١٩٤١، أردت الهرب من بيت أبي وأنا في العاشرة من العمر، لم تكن الليلة مُفزعة مثل تلك الليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٦. اللحظات المنسية في حياتي تطفو فوق سطح الذاكرة، عيون سوداء صغيرة تلمع وسط خِضَمٍّ من السَّواد، نجوم تظهر في الليل من وراء سحابة كثيفة سوداء. الهروب من بيت الأب أقل إفزاعًا من الهروب من بيت الزَّوجيَّة. كلمة «زواج» تعني باللغة العاميَّة «الجواز»، كانت جدتي تقول: «ربنا كتب علينا الجواز يا بنت ابني، مصيرك الجواز زي كل البنات، القدَر والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، جوازتي كانت جنازتي يا بنت ابني، نحمدك يا رب على كل المصايب ولا يُحمد على مكروه سواك.»

منذ السَّادسة من عمري، وأنا أحفظ هذه الكلمات الثَّلاث عن ظهر قلب، أنطقها في نفَس واحد: «ربنا، المصائب، الجواز.»

•••

كلمة الحب لم تكن هي الجواز، كنت أغنِّي مع الرَّاديو للحبِّ، لم نكُفَّ نحن البنات عن الغناء للحب، لم أسمع في حياتي أغنية واحدة عن الزَّواج.

الحب مصيدة الفئران تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل القطط المغمضة، يفتحن عيونهن مفزوعات، تحول الحبُّ إلى أربعة جدران سوداء في بناء آيل للسُّقوط هو بيت الزَّوجيَّة.

في العاشرة من عمري خفق قلبي بالحب الأول، لم أكن أرى من الرَّجل إلا عينيه، كان يمكن أن أموت من أجله، اختفى الرَّجل لحسن حظِّي قبل أن أهرب من بيت أبي، سافر ولم يترك إلا صورة ضوئية اختفت هي الأخرى، وسقطت في العدم. التقيت به صدفة بعد ثلاثين عامًا، رأيت وجهًا غريبًا له أنف طويل مُدبب وشفتان رفيعتان إلى حد التَّلاشي، أيمكن أن يقبِّل بهما امرأة؟! عيناه صغيرتان غائرتان بلا بريق ولا ضوء، كيف كانت عيناه تغرقني كالشَّمس، لم أستطع الحملقة فيهما، كنت أسقط في ما يُشبه الإغماءة إنْ رنَّت حروف اسمه في الجو.

في العشرين من عمري خفق قلبي بالحب الثَّاني، عيناه كالحب الأوَّل كانتا هما الشَّمس، هربْتُ من بيت أمي وأبي، تركت كتبي وأوراقي وأقلامي وملابسي وصور طفولتي، سرت في الطَّريق إليه لا ألتفت ورائي، تحوَّل الحبُّ لسوء الحظِّ إلى زواج، فتحت عيني على الجدران الأربعة السَّوداء، داخل مطبخ في بيت قديم آيل للسُّقوط في حيٍّ بمدينة القاهرة اسمه المنيل.

•••

بالأمس رأيت فيلمًا مُفزعًا مخرجه «ستانلي كوبريك»، مأساة الجنود الأميركيين في حرب فيتنام، مكنة الحلاقة ذات الموسَى الحادَّة تدور على رءوس الشَّباب في ربيع عمرهم، تجتزُّ شعورهم عن فروة الرَّأس، الخراف يسلخون جلودها في المذبح. يتحول الشاب الفنان الرقيق إلى قاتل سفاح، يدرَّب على القتل دون أن يَطْرِفَ له جَفْن، يقول له المدرب العسكري: سلاحك في يدك مثل سلاحك بين فخذيك منبع القوة والرجولة.

تدور الكاميرا على أجسام الشَّباب في معسكر التدريب، يُمْسِكون باليد اليمنى البندقية، وباليد اليسرى يُمْسِكون العضو الذكري أسفل البطن، يسيرون في صف طويل يشبه القطار الطويل يسير فوق القضبان، كل منهم يمسك قضيبه.

كنت جالسة فوق الكنبة الزرقاء العريضة في الصالة، إلى جواري شريف يتابع الفيلم، دخل المدرب العسكري غاضبًا إلى أحد الشَّباب يأمره أن يسلِّم سلاحه، نهض الشاب واقفًا يرمقه بعينين يختفي سوادهما تحت الجفن، تحولت العينان إلى مساحة من البياض بلون الثلج، المدرب العسكري يقترب منه، يأمره أن ينزع سلاحه، الشاب واقف في مكانه ثابت، البياض في العينين ثابت، النني الأسود الصغير اختفى تمامًا تحت الجفن، اللون الأبيض في العينين كالثلج، تحرك إصبع واحد على الزناد، انطلقت الرصاصة في صدر المدرب العسكري، سقط إلى الأرض غارقًا في دمه، توقَّف الشَّاب يلهث، جلس فوق الْمِرْحاض، وضع فوهة البندقية في حَلْقِه، ضغط بإصبع واحد، تفجر الدَّم من حوله، فوق الجدار الأبيض اللامع من السِّيراميك، فوق السَّقف الأبيض، وبلاط الأرضيَّة الأبيض، غرق البياض في دم أحمر.

منذ طفولتي يُفزعني الدَّم الأحمر فوق الْمُلاءة البيضاء، دم العذرية والحيض والختان، قطعة دم متجلطة تنزلق من جسدي وأنا أمشي في الشَّارع، نقطة دم تتركها الإبرة فوق ذراعي بعد أن ينزعها الطَّبيب، وجه الطَّبيب يُشبه وجه المدرِّب العسكري في الفيلم، وجه ممسوح الملامح رمادي اللون كالجرانيت، والعينان ممسوحتان إلا من البياض الأبيض بلون الثَّلج، يقف أمامي شاهرًا الإبرة في وجهي مثل البندقية.

انتهى الفيلم بعد منتصف الليل، أطفأ شريف جهاز الفيديو، ذهبنا معًا إلى النَّوم، أصبح لكلٍّ منَّا غرفة نوم مستقلة، داخل كل غرفة مكتب صغير ومكتبة لها رفوف تحمل الكتب والأوراق والصُّور وخطابات الحب السِّريَّة، تعودت الكتابة والنَّوم داخل غرفة خاصَّة، لها باب لا يفتحه أحد، الكتابة مثل النَّوم تحتاج إلى الصَّمت المطبق، الصَّمت داخل الصَّمت.

منذ الطفولة تفزعني الأفلام كأنَّما هي الحقيقة، يفزعني الظَّلام في الليل، أتسلَّل من سريري لأنام بجوار أمي أو أختي، تجاوزت السِّتين عامًا والطِّفلة في أعماقي هي الطِّفلة، أخاف الظَّلام حين أمشي وحدي في الليل، منظر الدَّم في الأفلام يرتعد له جسدي، يسألني شريف كيف اشتغلتِ طبيبة وجرَّاحة في مستشفى الصَّدر بالجيزة؟ وكيف أمسكتِ المشرط في يدك وفتحت الصَّدر والبطن دون أن يَطْرِفَ لكِ جَفْن؟

وأقول لشريف: إنَّها امرأة أخرى تلك التي اشتغلت بالطِّب والجراحة، أو ربما يختلف الدَّم المراق تحت أيدي الأطباء والطَّبيبات عن الدَّم المراق تحت أيدي العساكر والأزواج.

•••

صور من الماضي ماتت وراحت في العدم، أحاول استعادتها دون جدوى، اللون الأحمر القاني يلطخ السَّطح الأبيض، مشهد أراه في النَّوم حين يغيب الوعي، حين يتسرَّب اللاوعي إلى الوعي، منذ الطفولة يرتعد جسدي لمنظر الدَّم.

قطرة حمراء فوق مُلاءة السَّرير البيضاء، من أين يأتي الدَّم في الطُّفولة؟ ولماذا يتكرَّر دون انقطاع؟ منذ التَّاسعة من عمري رأيت الدَّم في الفراش، تعودت رؤيته الشَّهر وراء الشَّهر، السَّنة وراء السَّنة حتَّى أدبرت طفولتي.

لم تعد البقعة الحمراء فوق الملاءة تُفزعني، أصبح غيابها هو المفزع، أفتح عيني كلَّ صباح وأبحث عن البقعة الحمراء فوق الملاءة، في ملابسي، في ثنايا النَّسيج الأبيض أبحث عن قطرة واحدة حمراء.

تمُطُّ سامية شفتيها الرَّفيعتين وتقول: هذه أشياء غير مُهمَّة يا نوال، المهم قضية تحرير العمال والفلاحين من الرَّأسماليَّة والإمبرياليَّة. ويضحك شريف حين يسمعها تنطق هذه العبارة في نفَس واحد، يعرف أنَّها صديقتي منذ المدرسة الثَّانوية في حلوان الدَّاخلية، وقد أصبحت زميلة له في حزب اليسار منذ أكثر من نصف قرن.

رغم الاختلاف تستمر صداقتي بها، الصَّداقة القديمة منذ الطُّفولة تصبح مثل علاقات الدَّم، حين كتبت عام ١٩٦٥ عن الختان ومشاكل المرأة الجنسيَّة قالت: إنَّنِي أخون القضيَّة الوطنيَّة. وفي عام ١٩٧٢ حين كتبتُ عن النِّظام الطَّبقي الأبوي، قالت: لا يوجد إلا النَّظام الطَّبقي فقط أو المشكلة الاقتصادية. وفي عام ١٩٨٢ حين بدأنا نُشكِّل تنظيمًا للنِّساء اعترضتْ، وقالت: لا تمثل النِّساء طبقة ولا يحق لهن تكوين تنظيم مُستقل. ثم نطقت كلمة «فيمنيست» وهي تمطُّ شفتيها الرَّفيعتين بامتعاض.

لكن سامية تغيرت مع مرور الأعوام، وفي عام ١٩٩٥ حضرت مؤتمرًا للمرأة في نيويورك، ثم عادت تتحدث عن النِّظام الطَّبقي الأبوي. وفي عام ١٩٩٧ أصبحت ترأس تنظيمًا نسائيًّا مُستقلًّا، ومجلة للمرأة من النَّوع الفيمنيست. وفي عام ١٩٩٨ بعد أن أصدر وزير الصِّحَّة قرارًا بمنع ختان البنت فتح شريف الجريدة ذات صباح، رأى صورة سامية تتلقى الجائزة أو الوسام باعتبارها الرائدة في مجال النِّضال ضد الختان.

•••

في المدرسة الثَّانوية كانت البنات يبحثن في ثنايا ملابسهن الدَّاخلية عن القطرة الحمراء، كان اختفاء الدَّم في حياة البنت يعني كارثة، تخشى البنات الحمل السِّفَاح.

لا يغسل العار إلا الدَّم، الرِّجَال يقومون بالغسيل، والنِّساء يفقدن الدَّم، يتحول القاتل إلى بطل يحمي الشَّرف، تُدفن البنت في الخفاء، ويُدفن معها اسمُها واسمُ أمها، يتألق اسم الأب بعد مقتل البنت.

منذ قصَّة العذراء الطَّاهرة في التَّاريخ تخشى البنات الحمل السِّفاح، يدور السُّؤال في رءوسهن وهن نائمات: أيمكن أن تتكرر القصَّة في التَّاريخ؟ هناك قِصص تكررت وجاء ذكرها في كتب الله، كم مرة تكرر عصيان بني إسرائيل لأوامر الله؟ كم مرة تكرر غفران الله لبني إسرائيل؟ كم مرة أرسل الله إلى البشر رسولًا يحثُّهم على الإيمان به؟ كم كان عدد الأنبياء والمرسلين؟! كم مرة تكرر نزول الأنبياء إلى النَّاس؟ كم مرة أرسل الله مندوبه إلى سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد؟! لماذا إذن لا يتكرر نزول مندوب الله إلى إحدى البنات لتحمل كما حملت ستنا مريم العذراء؟!

في المدرسة الابتدائية ورد السُّؤال إلى ذهني وأنا نائمة، كالحُلم الآثم كتمتُه في أعماقي، ثم اكتشفتُ أن جميع البنات أحلامهن آثمة. وفي المدرسة الثَّانويَّة أيضًا همستْ لي الزَّميلات بما يدور في عقولهن أثناء النَّوم، قالت صفية: إنَّها منذ قرأت قصَّة العذراء مريم وهي تحلم بمندوب الله يهبط إليها في اللَّيل. وقالت سامية: إنَّها لا تُؤمن بالله مع ذلك يأتيها المندوب في الحُلم. وفي كلية الطِّبِّ قالت صديقتي بطة: أما أنا يا نوال فقد جاءني المندوب في الواقع والحقيقة وليس في الحُلم. ثم كركرت بالضَّحك، بالشَّهقات المتقطعة كهواء محبوس يخرج من عنق زجاجة ضَيِّق.

•••

كنتُ غارقة في النَّوم حين التفَّت الأصابع الغليظة حول عنقي، كما يحدث في الأحلام حاولت أن أفتح فمي لأصرخ، صوتي لا يخرج، الأصابع الغليظة قويَّة، أقوى من أصابعي، أفتح فمي طلبًا للهواء، أشهق بصوت مكتوم، كان يمكن أن أستغيث وأوقظ الجيران، لكني رأيت أنَّ الموت أهون من الفضيحة.

كلمة «الفضيحة» كانت تخرق أذني منذ ولدت، ولادة الأنثى كانت في حد ذاتها فضيحة تتكتم الأسرةُ الخبر، تتخفى الأم الوالدة عن عيون النَّاس، يغرق بيت المولودة الأنثى في الصَّمت.

كلمة «أنثى» في حد ذاتها فضيحة، إن قال لي أحدٌ أنتِ أنثى أصفعه على وجهه. كلمة «جنس» ترنُّ في أذني نابية. لا أستطيع أن أنطق كلمة «جوزي» بالعامية، أنطقها باللغة الفصحى المحترمة وأقول زوجي. كنت قد تزوَّجت للمرة الأولى تحت اسم الحب الكبير، قصة طويلة بدأتْ وأنا في العشرين من العمر فتاة عذراء، وانتهت وأنا في السَّادسة والعشرين زوجة عذراء، تحولت إلى أم عذراء، ثم تحررت بالطَّلاق.

لماذا لم أفقد عذريَّتي حتى اليوم، بعد أن تجاوزت السِّتين عامًا؟ لكن العذريَّة مثل القضاء والقدر، مكتوبة على جبين النِّساء، ليس في مقدور البشر أن يَهْتِكوا عِرْض المرأة الصَّالحة التي تعرف الله، وتعرف أنَّه اصطفى العذراء مريم من نساء العالمين، هي الوحيدة ذكر اسمها في كتابه الكريم، ولها سورة كاملة في القرآن باسمها «مريم»، تتطلع النِّساء إلى هذا النَّموذج الأمثل للطُّهر والنَّقاء؟!

منذ الطفولة أرى السَّيِّدة مريم العذراء النَّموذج الأعلى، أُم المسيح، الوحيدة دون النِّساء أجمعين تمَّ تعريفها بالاسم في القرآن، جميع النِّساء الأخرَيَات مجهولات الاسم، حواء زوجة سيدنا آدم، وزوجات سيدنا محمد عليه السلام لم يُذكر اسم واحدة منهن في القرآن، حتى السَّيِّدة خديجة لم يُذكر اسمها.

كان طبيعيًّا أن يتجه طموح الفتاة المسلمة المثالية إلى مريم العذراء وليس أي امرأة أخرى، منذ أدركني البلوغ في سن التَّاسعة من العمر أقسمتُ بيني وبين الله، أنَّنِي سوف أكون مثل ستنا مريم، وسوف أحمل وألد دون أن أمارس الجنس وأصبحت أنتظر كلَّ ليلة مندوبَ الله.

وطال الانتظار العام وراء العام، ثم جاءني رجل يتخفى في الظَّلام، وهمس في أذني أنَّه مندوب الله. كنت فتاة مثالية يرتعد جسدي حين أسمع كلمة «الله»، أُغمض عيني وأهمس: يا رب أرجو أن تذكر اسمي في كتابك الكريم كما ذكرت اسم ستنا مريم، ولماذا تصطفيها هي وحدَها، ألا يمكن يا رب أن تصطفيَ امرأتين وقد اصطفيْتَ أكثرَ من عشرين رجلًا من الأنبياء الصالحين؟!

كان ذلك في الطُّفولة السَّاذجة والمراهقة الأولى، ثم دخلت كلية الطب، أصبحت أفصل بين الحُلم والواقع، بين الوهم والحقيقة. وقعت في حب حقيقي وتزوجت زواجًا حقيقيًّا على سنة الله والرسول، وحملت وولدت وأصبحت أمًّا حقيقية غير عذراء وغير طاهرة. كان هناك شيء غير طاهر يحدث لي في الليل، شيء لا يبعث على اللَّذة بل الألم والإثم، كان زوجي الأوَّل رجلًا مكتمل الرُّجولة، كان فدائيًّا شجاعًا يُضحِّي بحياته من أجل الوطن، عاد من جبهة القتال كافرًا بالوطن.

– الخيانة يا نوال!

– خيانة الحكومة يا أحمد.

– الحكومة هي الوطن يا نوال.

– الحكومة شيء والوطن شيء آخر.

– هذا وهْمٌ يا نوال.

– هذه حقيقة يا أحمد.

– لأ، وهْم، كل شيء وهْم يا نوال، خلاص أنا اكتشفت الحقيقة، كنت مخدوعًا.

جسدي يرتعد حين سمع صوته في الليل يردد: «وهْم يا نوال»، كان يصحو طول الليل، يحقن نفسه بجرعة مضاعفة من الماكسيتون فورت، يجلس وراء المكتب ويمسك القلم بين أصابعه، يكتب كلمتين اثنتين لا غير: «الثلاثة وهم» ثم يشطبهما ويبدأ من جديد «الثلاثة وهم» يشطبهما بالقلم ثم يكتبهما أول السطر.

كان يكتب بقلم رصاص، ويشطب بالقلم ذاته، حين ينقصف القلم يضعه في البرَّاية، يحركه المرَّة وراء المرَّة حتى يصبحَ له سِنٌّ طويل رفيع مدَبَّب. يكوِّر الورقة القديمة ويرميها في الصفيحة تحت المكتب، تمتلئ بالورق المكوَّر، يُفرغها في صفيحة الْقُمامة في المطبخ، ويعود يجلس إلى المكتب.

يُفرغ البرَّايةَ من النُّشارة بعد أن يبري القلم وراءَ القلم، لا يترك القلم إلا بعد أن يصبح أقصرَ من عُقلة الإصبع. لم يكن يخرج من البيت إلا ليشتريَ أقلام الرصاص، رُزَم الورق الأبيض، وعُلبة الماكسيتون فورت من الصيدلية في شارع المنيل.

كنت قد تخرجتُ واشتغلت طبيبة في مستشفى قصر العيني الجديد أو مستشفى المنيل الجامعي، يبعد عن بيتنا مسافة نصف ساعة على القدمين، أخرج في الثَّامنة صباحًا وأعود في الثَّالثة بعد الظهر، أراه جالسًا وراء المكتب في غرفة النَّوم، كانت الشَّقة صغيرة، بها غرفة واحدة، وصالة صغيرة للطَّعام، ومطبخ صغير، وشرفة صغيرة تطلُّ على فرع النِّيل الصَّغير، يتكوَّن البيت من أربعة أدوار، في كل دور شقتان متقابلتان، ونحن في الدور الثَّالث.

كان راتبي الشَّهري عشرة جنيهات ونصفًا، أشتري بها الطَّعام ومصاريف البيت، كانت أمه تعطيه تسعة جنيهات كلَّ شهر، نصيبه من ميراث أبيه، ينفق الجنيهات التسعة على شراء الأقلام الرَّصاص والورق وعُلب الماكسيتون فورت. قبل الطَّلاق بفترة قصيرة لم تَعُدِ الجنيهاتُ التسعة تكفي، كان يَحْقِن نفسه بجرعة تتزايد يومًا وراءَ يوم، وهذا أمر معروف في الطِّب، إن الجسد قادر على التَّغلب على أي سموم تمشي في الدم، مخدرات أو منبهات، يدخل الماكسيتون فورت تحت المواد المنبهة، يحتاج المدمن إلى زيادة الجرعة حتى يتغلب على مقاومة الجسم للمادة الكيميائية.

كان يفتح حقيبتي ويأخذ منها ليشتري الماكسيتون فورت، أصبحت أخبئ الحقيبة في مكان لا يعرفه، بدأ يبيع أثاث البيت، لم يكن عندنا إلا أشياء قليلة، لم يبقَ إلا السَّرير الصَّاج الأسود العريض، والمكتب الخشبي والمقعد الواحد الذي يجلس فوقَه طول الليل يكتب عبارة واحدة من كلمتين:

«الثَّلاثة وهم»، ثم يكوِّر الورقة ويلقيها في الصَّفيحة.

قبل الطَّلاق بثلاثة أيام خلع الشِّيش والزُّجاج من النَّافذة، وعاد يحمل عُلبة الماكسيتون فورت، نمت طول الليل أرتجف بالبرد، كان السَّرير تحت النَّافذة، لم يكن عندنا إلا بطانية واحدة، فتحت عيني قرب الفجر، رأيته جالسًا يكتب ويشطب ويرمي الورق في الصَّفيحة.

حين رآني أفتح عيني رمقني بنظرة غريبة، رأيته رجلًا غريبًا، صوته أصبح غريبًا.

– صحيتي يا دكتورة؟

– أيوه.

– قوليلي: الثَّلاثة دول وهم ولا لأ؟

– الثلاثة مين؟

– الأب، الوطن، الحب.

– حقيقة وهم … لا يهم، المهم هو أنَّك تبطل هذا السُّم الَّذي تحقن به نفسك!

– لا يعالج السم إلا السم … وداوِني بالَّتي كانتْ هِيَ الداء.

– لا يمكن حياتنا تستمر بهذا الشَّكل.

– طبعًا خلاص الحب راح يا دكتورة!

– مش عارفة.

– أنا عارف، الحب وهم كبير.

– لأ.

– يعني مؤمنة بالحب؟

– أيوه.

– مين هو الرَّجل السَّعيد يا دكتورة؟ لا يُمكن أكون أنا؛ لأنِّي أنا خلاص انتهيت!

– كل شيء يتوقف على إرادتك أنت.

– انتهت الإرادة وكل شيء، لم يبقَ إلا الموت، وكما كنا نقول أيام الحب: نعيش سَوا ونموت سَوا، إيه رأيك نموت سَوا؟

•••

ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٦ قبل أن يطلع الفجر.

العالم يحتفل بعيد الثَّورة الرَّابع وأنا أختنق، أصابع غليظة تلتفُّ حول عنقي في اللَّيل، أحاول أن أصرخ، صوتي لا يطلع كما يحدث في الحُلم، أفتح فمي طلبًا للهواء، أشهق بصوتٍ مكتوم، كنت أُفضِّل الموت على أن يسمع صوتي أحد.

في حياة النِّساء كان الموت أفضل من الاستغاثة، المرأة في الشَّقة المجاورة كانت تستغيث، أسمع صوتها في الليل وأنا نائمة، يفتح الجيران نوافذهم يسمعون صوتها. امرأة أخرى تستغيث في العمارة المجاورة، في الصَّباح أسمع النَّاس يتهامسون.

أبٌ يضرب ابنته؛ لأنَّها تأخرت في اللَّيل، رجل يضرب زوجته؛ لأنَّه وجد حصوة في صحن الأرز، زوج يقتل زوجته؛ لأنَّه يشكُّ في سلوكها، يتهامس النَّاس: وما له؟ الشَّرف فوق كل حاجة، كل رجل حر في بيته، الرِّجَال قوَّامون، ربنا قال: «واضربوهن»، بنات حواء، ربنا قال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.

يغلق الجيران نوافذهم وينامون، تصحو المرأة على الفضيحة، سيرتها على كل لسان، تكف بعد ذلك عن الاستغاثة. لم أصرخ تلك الليلة، منذ الطفولة لم ألجأ إلى الصُّراخ حين يقترب الموت، كنت أُفكِّر في طرق المقاومة أو الهرب.

•••

منذ صيف عام ١٩٥٦ حتى صيف عام ١٩٦٠ فقدت جزءًا من ذاكرتي، أربعة أعوام كاملة نسيت ملمس الأصابع الغليظة حول عنقي، سقطت في العدم كأن لم تكن، لم يبقَ منها إلا ظلال سوداء فوق جدار أسود، ثم اختفت هذه الظِّلال أيضًا وراحت في العدم.

في النَّوم وأنا غائبة عن الوعي، تبدأ الظِّلال في الظُّهور من بطن الخضم الأسود مثل قمة جبل الثلج تحت الماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤