المشرط والقانون

أحملق في المرآة وأنا واقفة في غرفتي، ذراعي ملفوفة بالجبس، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند العام ١٩٦٠، صورة الأشعة على المكتب والتقرير، كسر في عظمة الريدياس اليمنى. منذ خمسة أعوام كدت أفقد يدي اليمنى بسبب الغضب، عادت يدي كما كانت إلا من جرح عميق فوق المعصم غائر حتى العظم.

غضبت من أبي وضربت الباب الزُّجاجي. اليوم أنا غاضبة من نفسي، من هذه المرأة داخل المرآة، تزوجت بلا حب وحملت بلا حب ثم قفزت من الشرفة لقتل الجنين، لكن الجنين لم يحدث له شيء، فقط انكسرت ذراعي اليمنى.

رفعت اليد الملفوفة بالجبس وضربت الوجه داخل المرآة، انكسرت، وانقسم وجه المرأة قسمين، أصبح لها وجهان، في كل وجه عين واحدة.

استدرت لأرى المرأة العجوز ورائي، رأسها ملفوف بالطرحة السوداء، ترمق ذراعي داخل الجبس بنظرة الحدأة المستكشفة، «حصل إيه كفى الله الشَّر يا دكتورة نوال؟»، «أبدًا ما فيش حاجة يا طنط، رميت نفسي من البلكونة»، ثم ضحكت، ضحكتْ هي الأخرى غير مصدقة ما أقول، أدركتُ أنَّ الحقيقة حين أقولها لا يُصدِّقها النَّاس. وكان ابنها حين يسألني «أتحبينني يا نوال؟» أرد بسرعة: لأ. يضحك غير مصدق ما أقول. وقالت أمه في اليوم التالي: خدي إجازة من المستشفى يا دكتورة عشان صحتك وصحة العيِّل اللي جوه بطنك. ترمق بطني بنظرة حانية كأنمَّا ترى حفيدها، ابن ابنها الغالي، تضمه داخل جفونها، تصعد نظرتها إلى صدري ثم وجهي، تلتقي عيناها بعيني، ترمقني بنظرة الحدأة.

لا شيء يربطني بهذه المرأة أو ابنها إلا الجنين في أحشائي، قطعة من هذين الغريبين داخل جسدي. فكرت في التَّخلُّص من جسدي، راودتني فكرة الانتحار، نظرت إلى الأوراق المتراكمة فوق مكتبي، الرِّوَاية! تشدني إليها لأكملها قبل أن أموت، قررت تأجيل موتي إلى بعد الانتهاء من الرِّوَاية.

•••

لم أعد قادرة على الكتابة، أُمسك القلم بيدي اليسرى، أصابع اليد اليُمنى لا تزال ضعيفة بعد إزالة الجبس، لا أستطيع أن أُمسك القلم بين أصابعي، ينزلق من بينها كأنَّما هي فاقدة الحياة، أعيدها إلى الحياة يومًا بعد يوم بالتَّدريب، تمرينات لعضلات الأصابع والمفاصل، تحريك المعصم، تحريك الذِّراع، تكرار التَّمرينات عشر دقائق كل ساعة، أهبط إلى الحديقة الصَّغيرة خلف البيت أمسك فأسًا صغيرة، أشتغل بها كل يوم نصف ساعة، ثم أجلس تحت شجرة الكافور، ترمقني عصفورة صغيرة واقفة فوق الفرع بعيون حزينة.

إنَّه عام ١٩٦٠، عام الهزيمة الصُّغرى، هزيمتي الخاصَّة وانسحابي من الحياة، حنيني إلى الموت، أيام الحزن العميق والأحداث المؤلمة السَّاقطة من الذَّاكرة، لولا النسيان ربما مات الإنسان، داخل خلايا المخ مِصْفاة تنقِّي العمر من لحظات الضَّعف والهزيمة، تلقي بها في قاع التَّاريخ، تظل كامنة في البئر، داخل قوقعة سميكة، جرح مفتوح غائر في اللَّحم، نظن أنَّه الْتَأَمَ، فإذا ما حلَّت بنا هزيمة أخرى أدركنا أنَّه لم يلتئم، يطل من تحت الجلد مثل رأس الدُّمَّل، إن هي إلا هزة واحدة حتى تسقط القشرة وينزف الجرح.

ثلاثة شهور من الحزن، كنت في التاسعة والعشرين من عمري أرى نفسي عجوزًا في نهاية حياتي، أنشد الموت وأنا راقدة إلى جواره في السَّرير العريض، أحمل في أحشائي جزءًا منه لا أعرف كيف أتخلص منه، أبحث في أركان البيت عن سم أبتلعه، أفتح العلبة السَّوداء في الصَّيدلية الصَّغيرة البيضاء فوق الحوض، أبتلع الحبوب السَّامة حبة وراء حبة ثم أتوقف فجأة، يلوح لي وجه ابنتي الطِّفلة تبكي على موت أمها، عيون أخواتي الأربع القاصرات بلا أم ولا أب، ليس لهن في الحياة إلَّاي، تنهمر دموعي … أبكي عليهن قبل أن أبكي على موتي.

فوق المائدة في الصَّالة تتراكم الصُّحف، تأتيني كل صباح من تحت عقب الباب، أركلها بقدمي. صورة الدُّكتور حمدي زوج صديقتي بطَّة تظهر في الصُّحف، يُدلي بتصريحات عن الدِّيموقراطيَّة، يُردِّد ما يُقال عن أعداء الثورة، يدعو الله أن ينزل عليهم الطير الأبابيل، تجعلهم في بئر سِجِّيل. كل من يعارض جمال عبد النَّاصر يصبح من أعداء الثَّورة، كل من يرى أنَّ الوحدة الاندماجية لن تنجح بين مصر والعراق. فشلت الوحدة بين مصر وسوريا، أصبح رجاء الشاعر من أعداء الثورة، طارده البوليس حتى هرب إلى باريس، أسعد شقيق صفية دخل المعتقل ومعه رفاعة زوج سامية. تمط شفتيها وتقول: شوية عساكر يا نوال مسكوا الحكم وعاملين إرهاب في البلد!

•••

مسرح الأحداث في حياتنا الخاصة هو السَّرير، ربما أيضًا مائدة الطَّعام، يدور كل شيء داخل الأربعة جدران، قد يتسرب شيء خارج الأبواب المغلقة إلى آذان الجيران، ارتطام أجسام بالحوائط والجدران، تكسير الصحون وتطاير الشظايا في الجو، زعيق متدرج الصوت يعلو وينخفض، ثم يدب الصَّمت. في الصَّباح ينخرط الزَّوج في عمله، تنخرط الزَّوجة في عملها، يعود الاثنان في نهاية اليوم إلى مكانهما بين الجدران الأربعة، حيث تتكرر المأساة.

كانت تحلم كلَّ ليلة بالفرار دون جدوى، لماذا كانت تعجِز؟ الخوف من الفشل للمرة الثَّانية في الزَّواج؟ الخوف من ألسنة النَّاس؟ الخوف من الوحدة؟! رغم أن الوحدة كانت تبدو لها مثل النجمة بعيدة المنال! اهو التناقض التَّاريخي في عتمة هذه العلاقة التي يسمونها الزَّواج؟

كنت أتفادى الخروج معه إلى حيث يرانا النَّاس، قامتي أطول من قامته، يدي سمراء محروقة بالشمس، أصابعي طويلة رفيعة، أصابعه قصيرة ممتلئة بالراحة وعدم العمل، قدمه صغيرة بيضاء شاحبة لم تلمسها الشَّمس، خطوتي فوق الأرض واسعة قوية، خطوته ضيقة مترددة مهتزَّة، لم يكن لي أن أراه يمشي حتى يعتريني المرض، لا أعرف هل أستسلم للقلق أم أسرح في الأحلام، يمشي بجواري في المدينة المكتظة يهز ذراعيه، كأنما له ذراع أقصر من ذراع، جسمه يهتز بحركة تؤلم العين، عضلاته مرتخية من طول الجلوس في المكتب والبيت، يركب السَّيَّارَة من البيت إلى المكتب، لا يمشي، لا يمارس الرياضة، ذراعه إن تعرَّت تبدو بيضاء تكشف من تحتها عروقًا طويلة متعرجة تمشي فيها دماء زرقاء، أرمقها بدهشة مع أنَّها عروق طبيعيَّة؛ فالدم الأحمر يبدو تحت الجلد بلون أزرق. كنت أنسى الطب والمنطق، يصيبني القلق كلما تعرت ذراعه، كأنما كشف عن عاهة مستديمة، يتباهى بها أمام الرِّجَال، ينافسهم فيما يسمونه الذكورة، أنكمش داخل نفسي خزيًا، أبقى في مكاني مسمَّرة مذهولة لا أعرف إن كنت في حالة من اليقظة أو أغطُّ في النَّوم.

ذات يوم جاءتني صديقة جديدة من الأديبات، دق الجرس، فتح لها الباب وأدخلها غرفة الاستقبال، سألتني «جوزك اللي فتح لي الباب؟» ترددت قليلًا «لأ مش هو» ثم تراجعت وقلت «أيوه هو.» كان في نظر العالم رجلًا وسيمًا مملوءًا بالرجولة، لكن عين الأديبة تكشف ما تحت الجلد. جلست أمامها في غرفة الاستقبال أتفادى النظر إلى عينيها، كانت لي هاتان العينان قبل الزَّواج، كأنما في حياة سابقة كنت مثل زرقاء اليمامة أرى ما لا يراه النَّاس، فما الذي حدث لأفقد البصر؟

كنت أمسك عقله الأبيض المرتخي أدلكه وأجادله؛ لتسري فيه دماء حمراء بدل الزرقاء، كنت أقاوم الطبيعة، ويصيبني الإعياء أو المرض، لا يعرف هو ما يعتريني، يتطلع في الشقة الواسعة لا يعرف لماذا لا أفرح، الأثاث الفاخر، الفساتين الحريرية التي اشتراها لي، والشباشب ذات الوردة الذهبية والكعوب الرفيعة العالية، وفخذة الخروف المشويَّة فوق المائدة والسَّيَّارَة الطَّويلة أمام الباب، وصوته يزعق «عاوزة إيه أكثر من كده؟» أمسح دموعي حائرة مذهولة، أتهم نفسي بفقدان البصر، كيف لا أرى كل هذه النِّعَم؟

أعود إلى طبيعتي الأولى، وتنقلب النِّعَم إلى النِّقَم، كلمتان متشابهتان رغم التناقض، لا يفرق الواحدة عن الأخرى إلا نقطة أو نقطتان.

في السابعة من عمري ضربني المدرس على أصابعي بالمسطرة بسبب نقطة حبر سقطت من سن القلم، تحولت كلمة بعل إلى بغل، لم أعرف حينئذ أن كلمة بعل تعني الزَّوج. وفي مرة أخرى سقطت نقطتان من الحبر فوق كلمة اللاه، أصبحت اللاة، لم أعرف أنها مؤنث كلمة اللاه، وتعني الإلهة الأنثى التي كان يعبدها العرب ثم حرَّم الإسلام عبادتها.

شطب المدرس بالقلم الحبر الأحمر على الكلمة ولسعني بالعصا الخيزران.

كانت الرِّوَاية هي هدف حياتي، قرَّرت تأجيل موتي حتى أنتهي منها، دربت يدي اليُسرى على الكتابة، أصبحت أكتب باليدين الاثنتين، أستبدل الواحدة بالأخرى حين يحل بإحداهما التعب، أحتضن القلم بين أصابعي وأكتب. يتسلل نور النهار من شقوق الشِّيش وأنا مُنكفئة فوق الأوراق، أسمع زقزقة العصفور فوق شجرة الكافور تفرد ريشها تحت أشعة الشَّمس، تلتقي عيناها بعيني وتبتسم ثم تطير مُحلِّقة في الجو.

كان هو يُشاركني السَّرير، لا شيء يُفسد الحياة الزَّوجيَّة إلا السَّرير المشترك، والحمام المشترك، انتهاكات يوميَّة للحياة الخاصَّة.

صحوت من النَّوم ذات يوم رأيته يقرأ أوراقي، كأنما كان ينتهك جسدي، ربما كان انتهاك الجسد أقل ألمًا. سمعت صوتي يقول: دي أوراقي مش من حقك تقرأها!

رأيته يمسك الرِّوَاية، يلقي بها من النافذة، وجدتني أقفز وراء الرِّوَاية من النافذة، تصورت أنني بهذه القفزة سوف أنقذها.

هذه اللحظة كان يمكن أن تُنهي حياتي، أن يتحطم رأسي فوق الأسفلت، لم تكن لحظة جنون، كنت عاقلة في كامل الوعي، كانت لي تجرِبة سابقة، قفزت من سور الشرفة فلم أفقد حياتي، كسر في الريدياس اليمنى ثم التأم العظم. هذه الرِّوَاية سهرت عليها الليالي والأيام، والشُّهور والسنين، أكثر من ثلاثمائة ورقة بحجم الفولسكاب الكبير، عقلي قال في تلك اللحظة: إن أنقذت الرِّوَاية أنقذت حياتي.

لحظة من الخيال ربما، وجدت نفسي أمشي فوق الماء، أهتز قليلًا لكني أواصل المشي، أدخل إلى سراديب طويلة تشبه الممرات في مستشفى قصر العيني، طوابير المرضى والمريضات يفترشون الأرض إلى جوارهم قُفَف وأطفال يخبطون الهواء بسيقان مُعْوَجَّة يرمقون الأطباء بنظرة استجداء، يدبُّ الأطباء فوق البلاط بكعوب قوية عسكرية، معاطفهم بيضاء ناصعة البياض، عيونهم من خلف النظارات مُطفأة أو مُغْمَضَة، ينقرون بأصابعهم الغليظة على صدور الأطفال الذين تحملهم النِّساء فوق صدورهن المهدلة، وأنا أمشي بين طوابير المريضات أترنح فوق ساقين يتساقط من بينهما الدم، تنفرج شفاههن الشاحبة عن صوت خافت: «ربنا يشفيكي يا بنتي»، يمسحن عيونهم الذابلة بطرَف الجلباب الأسود المغطى بالتراب، أشق طريقي بينهن بصعوبة، أتفادى النظر إلى عيونهن، لكن صدري يمتلئ بالدفء، أحتفظ في ذاكرتي بهذه النظرة الحانية في العيون الذابلة.

فتحت عيني فوجدتُني غارقة في الدم، راقدة فوق منضدة من الرُّخام تشبه مناضد المشرحة أو غرفة عمليات الجراحة، فوقَها مُلاءة من المشمَّع الأحمر، فوق رأسي كشاف كهربي قوي الضوء، راقدة فوق ظهري مفتوحة الساقين، الذِّراعان والقدمان مربوطة بأحزمة جلدية في قوائم حديدية ترتفع فوق المنضدة، أسمع الأطباء يتبادلون الكلمات غير المفهومة، يشمخون بأنوفهم ويقولون «إفاكيوويشن» عقلي مشلول مخدَّر، ترنُّ الكلمة في أذني منذ المدرسة الثانوية «إفاكيوويشن»، خرجت مع البنات في المظاهرة عام ١٩٤٦، كنا نهتف في وجه الإنجليز في نفَس واحد: «إفاكيوويشن ويذ بلاص»، وتعني «الجلاء بالدماء»، أو طرد الاحتلال الأجنبي من بلادنا بالحرب المسلحة، لكنها تَعني في لغة الطب أو الجراحة، طرد الجنين من الرحم بالأدوات الطبية المسلَّحة، بمعنًى آخر: عملية «الإجهاض».

•••

كان هو نائمًا إلى جواري في السَّرير العريض، شَخِيره يَسْري في أذني مثل دقات الساعة المشروخة، عيناي مفتوحتان شاخصتان إلى السقف، تحرَّرْتُ من القيد الذي كان يربطني به، عملية «الإفاكيوويشن» حررتني من الاحتلال الأجنبي لجسدي، نزعت عن نفسي الجسد الغريب الذي كان جزءًا مني، بدأ الطَّلاق يلوح في السماء مثل شَفَق الفجر، أنفاسي تلهث كأنما أَجري وأنا راقدة في السَّرير.

كان يتغطى بالملاءة من الرَّأس حتى القدمين، تُطِلُّ قدماه البيضاوان من طرَف الملاءة مضغوطتين صغيرتين، كأنما حُشِرَتا داخلَ حذاء من الحديد، كأقدام الفتيات في الصين القديمة، كانت أمه تدلكهما كلَّ ليلة منذ طفولته، تلفُّهما في جراب من الصوف، داخلَ صندوق مبطَّن بالحرير، تُبخرهما، تخشَى عليهما من عين الحسود.

فتح عينيه ورآني مفتوحة العينين شاخصة إلى السقف.

– صاحية ليه؟

– بافكر.

– في إيه؟

– في الطَّلاق.

انتفض واقفًا غاضبًا، قال إن الطَّلاق بيد الرجل وحدَه، الطَّلاق يتم بإرادة الرجل حين يريد وليس بإرادة المرأة حين تريد، الطَّلاق حق مطلق للرجل بحسَب القانون، وهو رجل قانون، رغم قامته القصيرة المربَّعة شَمَخَ بأنفه مثل الأطباء في المستشفى وقال: أنا رجل قانون! ثم نطق عبارة باللغة العامية انفجر بعدَها شريان في رأسي: «نُجوم الضُّهْر أقرب لك من الطَّلاق يا دكتورة!»

•••

منذ طفولتي سمعت أبي يردِّد هذه العبارة.

«إذا كان ثمن الحرية فادحًا فإن ثمن العبودية أفدح.»

وعاش أبي المنفيُّ في منوف عشرة أعوام، لم تغفر له الحكومة التمَرُّد على الرؤساء، ولم يغفر لها خيانة الشَّعب، اشتغل موظفًا في هذه الحكومة ثلاثة وثلاثين عامًا حتى مات، كلَّ يوم يفكِّر في الاستقالة ثم يتراجع، كان العائلَ الوحيد لأسرته وعِياله التسعة وأمهم، كالمربوط في الساقية، يقول عن نفسه رَهِينُ الْمَحْبِسَيْنِ: الوظيفة الحكومية وسَرِير الزَّوجية.

قبلَ أن يموت بشهور قليلة أحالَتْه الحكومة إلى المعاش، أصابه انتعاشٌ كأنما يولد من جديد، فرَدَ ذراعيه من آخِرِهما وأخذ شهيقًا أعقبه بزفير طويل، وقال: أخيرًا تحررت بعد ثلاث وثلاثين سنة سجن، أخيرًا سأقرأ وأكتب ما أريد، ثم مات أبي فجأة قبل أن يكتبَ شيئًا أو يتركَ أثرًا.

قبل أن يموت، قال: لو عادت حياتي إلى الوراء ربما لم أدخل الحكومة ولا الزَّواج، إنهما المصيدة والمقبرة. وكان يقول: اتركي وظيفة الحكومة وافتحي عيادتك الطبية يا نوال، لا شيء يقتل الإنسان مثل الوظيفة الحكومية.

وفي التاسعة من عمري سمعت أبي يقول لأخته رقية: «الطَّلاق لك أفضل من الزَّواج التعيس، اخلعيه يا رقية، من حق المرأة أن تخلع زوجها إذا ردَّت له المهر وتنازلت عن النفقة»، كان أبي دارسًا للشريعة الإسلامية في الأزهر ومدرسة القضاء الشَّرعي ودار العلوم.

لولا أبي ما استطعت أن أعرفَ هذا الحق الشَّرعي للمرأة يسمونه «الْخُلْع»، ساعدني أبي على أن أخلعَ زوجي الأول، تنازلت عن النفقة والمهر، الكلمتان ترنَّان في أذني نابيتين، لم يكن المهر إلا خمسة وعشرين قرشًا، حين سألني المأذون كَمْ يكون المهر؟ رنَّت الكلمة في أذني نابية؛ لا أقبل أن يدفعَ لي الرجل مقابل الزَّواج، ما الفرق بين الزَّواج والبغاء؟ قال المأذون: العقد لا يكون صحيحًا دون المهر، على الأقل خمسة وعشرون قرشًا، كنوع من الرمز! قلت: رمز لأي شيء؟! قال: رمز قوامة الرجل على المرأة، الرجل واجبه الإنفاق والمرأة واجبها الطاعة. قلت: أنا طبيبة يضع النَّاس أرواحَهم بين يدي ولا أقبل أن ينفق عليَّ أحد، كيف أعيش عالة على زوجي وأنا طبيبة؟! قال المأذون: العقد يكون باطلًا دون مهر. همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد. تكررت الواقعة في الزَّواج الثَّاني، لا بد من الرَّمز بالقروش على قوامة الرجل وإلا بطل عقد الزَّواج، همس زوجي في أذني: هذه مجرد شكليات. أمسكت القلم ووقعت العقد، أصبحت للمرة الثَّانية تحت طائلة القانون العبودي، يسمونه قانون الأحوال الشَّخصيَّة، تفقد فيه المرأة كيانها الإنساني، تصبح ناقصة الأهلية، قاصرًا مثل الطفل لم يبلغ سن الرشد أو المريض بعقله أو المعتوه، في حاجة إلى الوصاية، وزوجها هو الوصي عليها.

في الطَّلاق الأول كان أبي معي، دخل إلى مكتب المأذون بقامته الفارعة، كانت له هَيْبة الأنبياء، نهض المأذون واقفًا، أهلًا سعادة البيه. قال أبي: ابنتي الدُّكتورة تريد خلع زوجها والتنازل عن جميع حقوقها المادية وغير المادية! قال المأذون مخاطبًا زوجي: هذا حقها الشَّرعي يا أستاذ، ثم كتب قسيمة الطَّلاق.

في الطَّلاق الثَّاني لم يكن أبي موجودًا، مات أبي قبل أن أتزوَّج بعام ونصف، كنت وحدي في مواجهة رجل قانون، لا أعرف إلا القليل في القانون، صوت أبي الميت يقول: اخلعيه يا ابنتي هذا حقك الشَّرعي. عيناي تدوران في المكان تبحثان عن أبي، واقفًا إلى جواري بقامته الفارعة يُمسك يدي، صوته في أذني، تقدمي يا نوال ولا تخافي أنتِ على حق.

كان رجل القانون واقفًا أمامي في غرفة النَّوم، صوته يزعق: «نجوم الضُّهر أقرب إليك من الطَّلاق»، قامته مربعة قصيرة، قدماه صغيرتان بيضاوان، يرتدي منامة حريرية بيضاء، وجهه أبيض بلون المنامة، عيناه صغيرتان غائرتان في اللَّحم كعيني أمه.

كنت واقفة أمامَه، قامتي أطول من قامته، قدماي كبيرتان أكبر من قدميه، سمراوان محروقتان بالشَّمس، وهو واقف أمامي يمطُّ عنقه شامخًا بأنفه، يقول إنه رجل قانون، إن الرجل وحدَه يملك حق الطَّلاق، المرأة لا تملك هذا الحق.

– المرأة تملك حق الْخُلْع إن تنازلت عن حقوقها المادية بحسَب الشَّرع يا أستاذ!

– هذا في الشرع فقط يا دكتورة وليس في القانون!

– أتعيش معي ضد إرادتي؟!

– هذا حقي القانوني!

– أنا لا أريد أن أعيش معك!

– اذهبي إلى المحكمة!

المحكمة؟! اخترقت الكلمة رأسي مثل طلقة رصاص، لم أدخل في حياتي محكمة، ترنُّ الكلمة في أذني على وزن مشرحة أو مقبرة، الداخل إليها مفقود والخارج مولود، طوابير النسوة بالجلاليب السُّود أمامَ أبواب المحاكم، تشبه الطوابير أمام باب المستشفى والمشرحة والقبور، وجوههن الضَّامرة الشَّاحبة، عيونهن الذابلة جفَّت من الدموع، جحافل المحامين والقضاة داخل أروابهم مثل جحافل الأطباء يدقُّون الأرض بكعوب حديدية، يشمخون بأنوفهم، ترمقهم عيون النسوة المكلومات، واقفات في الطوابير الممدودة من الشَّارع حتى بابِ المحكمة.

كان واقفًا أمامي يمطُّ عنقه القصير الممتلئ باللحم، تيار من الدم الساخن يندفع من قمة رأسي، يهبط إلى عنقي وصدري حتى بطن القدمين، الغضب المتراكم في أعماقي منذ الطفولة، العشب الأسود في قاع البحر، خطوت نحوَه خطوة واحدة، أردت أن أقبض بأصابعي على عنقه، أصابعي طويلة قوية أمسكت بها المشرط وفتحت الصدور والبطون، فجأة تذكرت أنني طبيبة جراحة، حقيبتي جاهزة بجوار المكتب داخلَها المشرط، سرت نحوها خطوة بخطوة بطيئة، لم أسرع الخطو، مشيت بخطوة هادئة تشبه خطوة أبي الميت، رفعت قدمي اليمنى عن الأرض كما كان يرفعها، ثم القدم اليسرى، قدماي ثابتتان وعيناي مفتوحتان لا يطرف لهما جفن، كنت هادئة مثل أبي وفي كامل الوعي. انثنيت بجسمي الطويل أرفع الحقيبة من فوق الأرض، ثم انتصبتْ قامتي الفارعة مثل أمي، فتحت الحقيبة بأصابعَ قويةٍ ثابتة، أخرجت مشرط الجراحة من جرابه الجلدي الأسود بحركة قوية سريعة، كالفارس يَمْتَشِق سلاحَه واثقًا من النصر، لمع النصل الحادُّ تحتَ الضوء بلون أبيض.

كان ظهري ناحيته لم أستدرْ بَعْدُ لأواجِهَه، النافذة مفتوحة أمامي، ضوء الفجر يُشقشق في الأفق، العصفورة في عُشِّها داخلَ شجرة الكافور، التقت عيناها بعيني فانتفض ريشها وطارت بعيدًا، بدأ جسمي يتحرك لأستدير وأواجهَه، قبل أن تكتملَ الاستدارةُ تجمَّدت لحظة وأنا ألمح وجهي في مرآة الدولاب، ليس هو وجهي، الملامح لا أكاد أعرفها، البشرة شاحبة بلا قطرة دم، المقلتان كبيرتان مشتعلتان بنار سوداء، الجلباب قديم شاحب البياض يتدلى تحت الركبتين، القدمان حافيتان فوق بلاط أبيض، النصل الحاد يلمع في يدها بلون الموت الأبيض.

هذه الصورة محفورة في ذاكرتي حتى اليوم، نَسِيتها منذ تلك اللحظة كأنما لم تكن، ثم عادت إليَّ بعد عشرين عامًا، في خريف ١٩٨١، التقيت لأول مرة في حياتي بامرأة قاتلة داخلَ السِّجن، كانوا يُسمُّونها فتحية القَتَّالة، لم أتخيل حين رأيتها لأوَّل مرة أنَّها يمكن أن تقتل، كانت هادئةً وادعة، وإن غضبت كلُّ السجينات هي لا تغضب، ثم رأيتها مرة واحدة في لحظة غضب، أدركت أنها يمكن أن تقتل، عيناها الصافيتان مثل السماء في يوم مشرق تلَبَّدتا وتعَكَّرتا وأصبحتا بلون الطين الأسود. كانت الشاويشة في السِّجن تقول: القتل ليس جريمة يا ضكطورة، إنه لحظة غضب واحدة وتفوت، القتَّالات أحسن ناس، لا يدوروا ولا يلفوا زي بتوع المخدرات والنشَّالات.

تجمَّدت أمامَ المرآة وأنا أنظر إلى وجهي، ثم أَكْمَل جسمي الاستدارة وأصبحت أواجهه وجهًا لوجه، وعينًا لعين، ماذا رأى في عيني؟! رأيتُه يتراجع إلى الوراء من دون أن يستدير حتَّى الْتَصَقَ ظهره بالحائط، أصبح جزءًا من الحائط بغير حراك، وجهه بلون الحائط الأبيض، شفتاه بيضاوان منفرجتان دون أن ينطق، تصورت أنه مات وهو واقف قبلَ أن أقترب منه.

لم أَعُدْ في حاجة إلى المشرط، نطقت عبارة واحدة من كلمتين بصوت أبي الميت: أنا خلعتك.

•••

أربعون عامًا مضت على هذه اللحظة، تصورت أنها سقطت في العدم، إلا أنها باقية في الذاكرة مثل نجم صغير يتألق في الظلمة، حصلت بعدها على ورقة الطَّلاق وأنا في بيتي معزَّزة مكرَّمة، لم أخرج إلى المحكمة أو مكتب المأذون، لم أدفع شيئًا للمحامين أو الزَّوج المخلوع، لم أرُدَّ له شيئًا لأنني منذ البداية رفضت أن آخذَ شيئًا، وتحررت من قانون الطاعة بفضل مشرط الجراحة.

أقمت حفلًا صغيرًا في بيتي بمناسبة الطَّلاق، جاءت صديقاتي الثَّلاث بطة وصفية وسامية، أطلقت دادة أم إبراهيم زغرودة طويلة، قالت بصوت جدتي الفلاحة: بركة يا ضكطورة رجعتي لنا بالسلامة. كركرت بطة بضحكتها الطويلة المتقطعة، وقالت: عقبال عندنا يا رب! ابتسمت صفية بهدوئها المعتاد وقالت: إنتِ يا نوال أشجع واحدة فينا. ورفعت سامية ذراعها في الهواء كأنَّما تهتف في مظاهرة، تسقط مؤسسة الزَّواج!

•••

أربعون عامًا أسمع سامية تنطق الْهُتافين معًا في نفَس واحد: تسقط مؤسسة الزَّواج تسقط الإمبريالية والصهيونية! مضى أربعون عامًا من دون أن تتحرر سامية من زوجها رفاعة، ومن دون أن تتحرر مصر من الإمبريالية والصهيونية.

في السنوات الأخيرة فقدت سامية بعض قوتها مع فقدان الشَّباب وأحكم رفاعة سيطرته عليها، ومنذ هزيمة ١٩٦٧ فقدت مصر بعض قوتها، بعد معاهدة كامب ديفيد عام ١٩٧٦ فقدت مصر الوحدة العربية، تمزَّقت داخليًّا تحت وطأة الفتنة الدينية السِّياسيَّة، وبعد الهزيمة في حرب الخليج عام ١٩٩١ دخلت مصر غابة العولمة تحت السَّيطرة الإسرائيلية الأميركية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤