تضامن النِّساء

في طفولتي المبكرة قبل أن أعرف من هو أبي، عرفت أمي، عرفتها بالشَّكل والرَّائحة والاسم والجسم، كان جسمها هو جسمي أو يشبه جسمي. كنت أتضامن مع أمي ضد أبي والعالم الخارجي؛ لكن شيئًا ما حدث جعلني أبتعد عن أمي، كنت طفلة لا أعرف بالضبط ماذا يبعدني عن أمي، وماذا يبعد أمي عني، ربما هو أبي كان يقف بيني وبين أمي، أو ربما هو العالم الخارجي كان يخدعني، يصوِّر لي أن الأب هو كل شيء، الاسم والشرف والاحترام والدين والعلم والماضي والحاضر والمستقبل والدنيا والآخرة.

لم يكن للآن شيء من كل هذا، بدأت أثور ضد أبي والعالم الخارجي من أجل أمي، تصورت أن أمي سوف تفرح وتتضامن معي، لكنها تضامنت مع أبي والعالم الخارجي ضدي. هذه أول صدمة في طفولتي، كنت في السادسة من عمري حين تلقيت الصدمة الأولى من أمي، رأيتها واقفة تبتسم والأيادي الغليظة تنتزعني من الفراش، تربط ذراعي وساقي، وتستأصل بالموسَى عضوًا من جسدي.

أصابتني خيبة أمل في أمي، أصبحت أتجه نحو أبي، بدا أبي كأنَّما يحنو عليَّ أكثر من أمي، وكأنَّما يحبني أكثر من أُمِّي، أي خديعة وأي وَهمٍ تسرَّب إلى عقلي دون أن أدري؟!

كم مضى من العمر وأنا أعيش هذا الوهم؟ قبل أن تموتَ أمي بقليل أو ربما بعد أن ماتت بدأت أدرك الحقيقة، كانت الحقيقة مثل جبل الثلج الغارق تحت الماء، تكشف عن نفسها جزءًا جزءًا.

حين بلغت الخمسين من العمر وبعد أن دخلت السِّجن أدركت أن تضامن النِّساء أخطر من السِّلاح النووي، لم يكن يهدد إدارة السِّجن إلا التَّضامن بيننا نحن النِّساء. بعد أن خرجت من السِّجن أدركت أن تضامن النِّساء يمكن أن يُسقط النظام الحاكم.

ألهذا السبب كان تنظيم النِّساء من المحرَّمات في نظر الأحزاب السِّياسيَّة جميعًا، يمينًا ويسارًا، وحكومة ومعارضة؟! منذ بدأنا تجميع صفوف النِّساء في مصر عام ١٩٨٢ تضافرت القوى الحكومية وغير الحكومية على ضرب أي محاولة يمكن أن توحِّد النِّساء.

النِّساء أنفسهن كنَّ يضربن المحاولة مثل الرِّجَال، كالأم التي تضرب ابنتها إرضاء للزوج أو الأب الحاكم. منذ عام ١٩٨٢ وحتى هذا العام ٢٠٠٠ كم محاولة ضُربت؟ بعد كل ضربة ننهض من جديد ونجمع صفوف النِّساء، ثمانية عشر عامًا نحاول توحيد جهود المرأة المصرية دون جدوى. وفي عام ١٩٩٩ شكَّلنا لجنة تحضيرية، أكثر من مِائة شخص من أجل تكوين الاتحاد النسائي المصري. عقدنا الاجتماعات، نشرنا الدعوة بين الجمعيات النسائية. بدأت الفكرة تنتشر، تحمست لها أعداد كبيرة من الشابَّات والشَّباب، وجمعيات المرأة في المحافظات. قررنا عقد اجتماع يوم ٢٢ أغسطس عام ١٩٩٩ للإعلان عن بدء تكوين الاتحاد النِّسائي المصري. قبل موعد الاجتماع بأيام قليلة فوجئنا بحملة صحفية ضد الاجتماع وتصريحات حكومية إن هذا الاجتماع غير قانوني.

وفي عام ١٩٩٢ نشرت كتابًا كاملًا بعنوان «معركة جديدة في قضية المرأة»، يوضح الكتاب كيف أغلقت الحكومة المصرية جمعية تضامن المرأة العربية بقرار غير قانوني، يوم ١٥ يونيو ١٩٩١، رفعنا قضية ضد الحكومة في المحكمة الإدارية بمجلس الدَّوْلة، وانقضى تسعة أعوام دون أن يصدر قرار المحكمة.

وتستمر المعركة حتى اليوم من أجل تضامن النِّساء. بدأت ظاهرة جديدة هذا العام هي تضامن الأم مع ابنتها ضد الأب أو الأخ، يوم ١٧ يونيو ٢٠٠٠ دافعت أم عن حياة ابنتها حتى الموت، الابنة الصَّغيرة تعرَّضت للاغتصاب وحملت سِفاحًا، وبدأت علامات الحمل تظهر على الفتاة الصغيرة. ذاع الأمر بين أهل قرية «الرَّواتب» التَّابعة لمركز أبو طشت بمحافظة قنا في صعيد مصر. عقد رجال الأسرة مجلسًا واتخذوا قرارًا؛ قتل الفتاة لمحو العار، وقع الاختيار على شقيقها (اسمه بدر نور الدين) للإجهاز عليها، ويساعده في ذلك عمها (عبد الفتاح) وابن عمتها (عبده محمود) وابن عم أبيها (أحمد راشد)، أربعة رجال أشدَّاء يعملون بالفئوس في الأرض. استدرجوا الفتاة الصغيرة بمفردها لقتلها، لكن أمها الواعية أدركت ذلك، كانت تقف لهم بالمرصاد تَحُول دون قتل ابنتها، اتفق الرِّجَال على خداع الأم وابنتها، قالوا إن ابن عمتها عبده محمود سوف يتزوج منها تغطيةً على العار (ربما هو الذي تسبب في الحمل لا نعرف) ولكنه سيتزوج منها بعد إجهاضها من الحمل السِّفَاح.

أصرَّت الأم على الذهاب مع ابنتها مع بعض سيدات الأسرة لمتابعة عملية الإجهاض، التي تمت داخل عيادة طبيب في نجع حمادي، ظلت الفتاة ثلاثة أيام تحت الملاحظة بالعيادة، وفي اليوم الثالث طلبت الأم عودة ابنتها، أحست أن مؤامرة تُدَبَّر لقتل ابنتها؛ هددت بإبلاغ الشرطة إذا تعرضت ابنتها لمكروه. تم اصطحاب الأم لمرافقة ابنتها في العودة بصحبة ابن عمتها عبده محمود، واتفقوا مع سائق أجرة على السير في طريق زراعي بعيد عن البيوت لتمكينهم من تنفيذ الجريمة. في ليلة الحادث كان الرِّجَال الثلاثة الآخرون ينتظرون في الطريق، وهناك حاولوا انتزاع الفتاة من يد والدتها لقتلها، إلا أن الأم تشبثت في استماتة لحماية ابنتها، وقدَّمت نفسها فداءً لها وهي تستغيث وتستعطفهم بالصَّفح عنها، لكن طعنات السواطير هوت على جسد الأم يضربها الأربعة الرجال حتى أصبحت جثة ممزقة أمام ابنتها، ثم انهالوا على البنت الصغيرة بالسواطير بعد قتل الأم، وتم تمزيق الجثتين إلى اثنتي عشرة قطعة، ألقوا بها في الترعة داخل أكياس بلاستيك كبيرة.

هذه هي الأم الجديدة التي أصبحت تتضامن مع ابنتها الحامل سِفاحًا حتى الموت، وكانت الأم في الماضي القريب تتضامن مع رجال الأسرة في قتل ابنتها لمحو العار. لا يمكن أن أنسى هذه الأم التي كانت تمشي في الشوارع تزغرد بالفرح، إلى جوارها يمشي ابنها الأكبر حاملًا رأس ابنتها الصُّغرى على سن السِّكين بعد أن فصل رأسها عن جسها. لم تكن الفتاة قد حملت سِفاحًا، بل كانت تحب زميلها في العمل وتفكر في الزَّواج منه، رآها أخوها تمشي في الشَّارع مع زميلها؛ فانقض عليها بالسكين، وراحت الأم تزغرد بالفرح، وتمشي إلى جواره مرفوعة الرَّأس بعد أن غسلت العار بالدم، أي عار وأي دم؟! أي خديعة وأي وَهْم كان يعشعش في عقول الأمهات كما كان يعشعش في عقلي منذ الطفولة.

كان صوت أمي يخفت إلى جوار صوت أبي، كان أبي يقول هذا العالم فاسد يا ابنتي، قائم على دعامتين: الظلم والكذب. مع ذلك كان أبي يرى أن أخي أعلى مني درجة لأنه ذكر، يعطيه ضعف ما يعطيني من مصروف، ويقول: للذكر مثل حظ الأنثيين.

كنت أتطلع لأمي لتقول شيئًا، كان أبي يدعم كلامه بكلام الله، لم يكن لأمي أن تعارض كلام الله.

منذ عام ١٩٥٧ حين كنت طبيبة القرية بدأت الحكومة تطاردني بهذه التهمة، معارضة كلام الله، لم أقترف إثمًا إلا التَّضامن مع فتاة مريضة حملها البوليس بالقوة إلى بيت زوجها، كان يكبرها بواحد وخمسين عامًا، يضربها كلَّ ليلة ويغتصبها جنسيًّا من الخلف وهي ساجدة تصلي لله. كنت الطبيبة المسئولة، واجبي حماية الفتاة من زوجها، لكن قوة البوليس كان أقوى مني، انتزعوا الفتاة وأعادوها إلى زوجها. ألقت نفسها في النيل بعد أسبوع، وأنا أصبحت متهمة بالعمل ضد الدين، دخل اسمي القائمة السوداء، تحت اسم عدوة الله، هل التَّضامن بين النِّساء يعني عداوة الله؟!

منذ عام ١٩٥٧ أصبحت متهمة بعدم الإيمان بالله، وفي عام ١٩٦٢ أضيفت إليَّ تهمة جديدة هي: عدم الإيمان بالثورة المجيدة. كان زملائي وزميلاتي في نقابة الأطباء قد انتخبوني لأكون عضوًا في المؤتمر الوطني للقوى الشَّعبية، عقد في قاعة جامعة القاهرة عام ١٩٦٢. جلس جمال عبد الناصر فوق المنصة يتوسط الوزراء كبار رجال الدَّوْلة. تبارى أعضاء المؤتمر في تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، فجأة تلاشت البديهيات والظواهر الواضحة كالشمس، لم يَعُدْ أحدٌ يعرف من هو العامل الحقيقي ومن هو الفلاح الحقيقي. كنت شابة صغيرة حديثة العهد بألاعيب السِّياسة، حين جاء دوري للكلام قلت الفلاح هو الذي بوله أحمر.

في طفولتي كانت جدتي تقول إن البول الأحمر دليل الصِّحَّة والعافية، لم أكن أعرف أنه الدم، حتى سمعت أبي يقول إن كل الفلاحين في مصر يمرضون بالبلهارسيا. وفي كلية الطب عرفت أن أبي كان صادقًا، ومات أبي قبل المؤتمر الوطني للقوى الشَّعبية بثلاث سنوات. لم يشهد المباراة حول تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، ولا هؤلاء الذين خلعوا البِدَل الإفرنجية وارتدوا الجلاليب أو العفاريت الزُّرْق ودخلوا البرلمان أو مجلس الشَّعب تحت اسم الفلاحين أو العمال.

في فبراير ١٩٥٨ بدأت الوحدة بين مصر وسوريا، وفشلت في سبتمبر ١٩٦١. ظلت أسباب الفشل مجهولة، لا يعرف الشَّعب شيئًا عما يدور في الدوائر العليا، تمتلئ الصُّحف بالأكاذيب وتسري الإشاعات.

كان صديقي رجاء الشَّاعر يعرف ما يدور، كتب قصيدة حَذفت الرقابة أهم أجزائها، كشف فيها عن أن الوحدة لم تَقُمْ إلا لإنقاذ سوريا من خطر الاشتراكية، وراء قيام الوحدة كان رجال حزب البعث والأثرياء في سوريا، لم ينقذ جمال عبد الناصر ما أرادوه، طردوه من سوريا وحدث الانفصال.

أصبح رجاء الشَّاعر مطاردًا من البوليس، لم يكن رجاء ينتمي إلى حزب اليسار أو اليمين، كان شاعرًا يكتب القصائد، أصبح متهمًا بالشُّيوعيَّة، لم يكن أمامه طريق للحياة إلا الهجرة خارج الوطن.

بعد هزيمة عام ١٩٦٧ لم يعرف أحد سبب الهزيمة، امتلأت الصُّحف بالأكاذيب. جاءتني رسالة من رجاء الشاعر، يقول فيها: أعيش في باريس مع أديب من سوريا وشاعر من العراق، لم يعد الوطن العربي يحتمل وجود الشعراء والأدباء، نتابع هنا ما يحدث في بلادنا. ما حدث في مصر يوم ٥ يونيو ليس نكسة بل هزيمة كبرى، خططت لها الولايات المتحدة مع إسرائيل، أبلغوا الاتحاد السوفييتي كذبًا أن إسرائيل تستعد للهجوم على سوريا، أبلغت موسكو هذا الخبر إلى القاهرة، قام عبد الناصر بتهديد إسرائيل إذا اعتدت على سوريا. كانت الخطة هي استدراج مصر إلى الحرب. لم يكن جمال عبد الناصر مستعدًّا للحرب، لكن المستشارين الأمريكيين في الجيش المصري غرَّروا به، شجعوه على طرد القوات الدولية من شرم الشيخ، خرجت القوات الدولية بسرعة دون اعتراض. الثالوث المشارك في الخطة: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ألا يذكرك هذا بالاعتداء الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، ورابعهم إسرائيل؟! ما إن خرجت القوات الدولية من شرم الشِّيخ حتى بدأت إسرائيل هجومها على مصر، ضربت الطيران المصري كله وهو نائم فوق الأرض صباح يوم ٥ يونيو ١٩٦٧، واحتل الجيش الإسرائيلي سيناء بالكامل.

وفي عام ١٩٧٣ جاءتني رسالة من رجاء الشاعر، يشرح لي كيف وقعت الثغرة في حرب أكتوبر ١٩٧٣، وخسائر الجيش المصري. كانت الصُّحف تنشر الأكاذيب ولا أحد يعرف الحقيقة. كتب رجاء الشاعر يقول: لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا مشابهًا لما حدث في حرب ١٩٦٧، أقنعت أنور السادات أنه يمكن أن يحرك القضية السِّياسيَّة بمعركة عسكرية محدودة، لكن الجيش المصري بعد أن أسقط خط بارليف أراد أن ينطلق إلى المضايق ومنها إلى تل أبيب، هنا أصدر السادات أمرًا بإيقاف النار، انتهز الجيش الإسرائيلي هذه الفرصة وطوَّق الجنود المصريين، هكذا وقعت الثغرة.

أعقب هذه الهزيمة استدراج السادات لتوقيع المعاهدة مع إسرائيل في كامب ديفيد عام ١٩٧٦، أكبر مسمار في نعش الوحدة العربية. وجاءت حرب الخليج عام ١٩٩١ لتمسح من الخريطة اسم العالم العربي، وتضع بدلًا منه اسم الشَّرق الأوسط تحت سيطرة إسرائيل.

منذ تزوجت شريف عام ١٩٦٤ لم تكفَّ الحكومة عن مطاردتنا، حصل شريف على عمل في الهند وغادر مصر عام ١٩٧٣. عاش وحده في المنفى أربعة أعوام، أغرق نفسه في العمل والكتابة وأحب الهنود. بقيتُ في مصر لأرعَى الابنة والابن، يرتبطان بحياتهما في المدرسة، الزملاء والزميلات والأهل والأصدقاء والصديقات، لم يكن لنا أن نخلَعهما من جذورهما في هذه السن المبكرة ليعيشا الغربة.

ثم انتقل شريف إلى أديس أبابا في الحبشة، عاش ثلاثة أعوام أخرى في المنفى، لم يعد إلى مصر إلا عام ١٩٨٠، قبل أن يكسر رجال البوليس باب بيتنا ويأخذوني إلى السِّجن يوم ٦ سبتمبر ١٩٨١.

بعد خروجي من السِّجن بدأت النِّساء والشابات يتردَّدن على بيتي في الجيزة، ظهرت في الأفق فكرة إنشاء جمعية تضامن المرأة العربية، تكونت النواة الأولى من مِائة وعشرين امرأة من ثمانية بلاد عربية منها مصر. أصبح شعارنا: رفع الحجاب عن العقل، المعرفة قوة، والتَّضامن بين النِّساء قوة.

في عام ١٩٨٢ بدأنا نؤسس الفرع المصري تحت اسم الجمعيَّة الأم، وقفت الحكومة المصرية ضدنا ثلاثة أعوام، وصلني خطاب في ١٩ أغسطس ١٩٨٣ بشعار الدَّوْلة النسر، يقول الآتي بالحرف الواحد:

تقرر رفض تسجيل جمعية تضامن المرأة العربية لعدم موافقة مباحث أمن الدَّوْلة، بعد الاطلاع على رد مديرية أمن القاهرة، إدارة البحث الجنائي قسم مكافحة جرائم الآداب العامة.

أرسلت صورة من هذا الخطاب إلى جميع الصُّحف في مصر، أردت أن أكشف كيف تتعامل الحكومة مع المواطنات من الشَّعب، كيف تنتهك الحكومة القانون والدستور تحت اسم مكافحة جرائم الآداب العامة. بدأت حملة صحفية ضد وزارة الشُّئون الاجتماعية، قادها كبار الصَّحَفيين من اليمين واليسار ومن الحكومة أيضًا. جريدة الأخبار من أكبر الصُّحف الحكومية في مصر، مصطفى أمين من أكبر الصَّحَفيين المصريين، يكتب عمودًا يوميًّا في جريدة الأخبار تحت عنوان «فكرة»، يوم ٢٣ أكتوبر ١٩٨٣ نشر ما يأتي بالحرف الواحد:

فكرة!

منذ عام اجتمع عدد من السَّيِّدات، بعضهن أستاذات في الجامعة، ومدرسات بها وصحفيات وشاعرات وكاتبات وربَّات بيوت، واتفقن على تأليف جمعية «تضامن المرأة» مَهمتها النهوض بالمرأة والدفاع عن حقوقها والارتقاء بها.

واعترض البعض بأنها حركة عنصرية رجعية تعمل على تكتيل النِّساء ضد الرِّجَال، وتفصل بين مشاكل المرأة ومشاكل المجتمع. ولكن جمعية تضامن المرأة تفادت هذا الاعتراض عندما فتحت عضويتها للرجال، وفعلًا اشترك بعض الرِّجَال في نشاط الجمعيَّة.

ومنذ بداية العام والجمعيَّة في نشاط مستمر، تجتمع مرة كل أسبوعين، وتقيم ندوات ثقافية وفنية وأدبية وتناقش بعض الكتب التي ترتبط بأهداف الجمعيَّة. ونظمت دراسات عن مشاكل المرأة العامة ونظرة الصحافة والتلفزيون والإذاعة والسينما إلى المرأة المصرية.

وتقدمت الجمعيَّة إلى وزارة الشُّئون الاجتماعية لشهرها، وإذا بالجمعيَّة تتلقى خطابًا من إدارة مكافحة جرائم الآداب العامة ترفض قيام هذه الجمعيَّة!

ودُهشت عضوات الجمعيَّة، ما علاقة بوليس الآداب بجمعيةٍ هدفها المساهمة في رفع المستوى الاجتماعي والثقافي للمرأة في مختلف المجالات وربط مشاكلها بمشاكل المجتمع، وفتح مجالات جديدة أمام المرأة في العمل، وتنمية الشَّخصيَّة الأصلية للمرأة المصرية؟!

هل الحديث عن الحرية قِلَّة أدَب؟! هل الكلام عن الدِّيموقراطيَّة عمل فاضح في الطَّريق العام؟! هل مطالبة المرأة بمزاولة حقها الانتخابي قلة حَياء؟! نفهم أن يكون عمل بوليس الآداب محاربة الفساد؟ ولكن ما علاقة بوليس الآداب بأساتذة الجامعة والمثقَّفات والمؤلفات والشاعرات؟ أي شيء في أهداف الجمعيَّة فيه قلة أدب أو قلة حياء؟

إن رئيسة الجمعيَّة هي الدُّكتورة نوال السعداوي الكاتبة المعروفة وصاحبة المؤلفات العديدة التي تُرجمت إلى عدة لغات، وآخِر كتاب لها هو «الإنسان»، اثنتا عشرة امرأة في زنزانة واحدة، وهو مُهدًى «إلى كل من عرف القهر في البيت أو في السِّجن»، وهي رواية عن حياة ١٢ سيدة قُبض عليهن في ٥ سبتمبر سنة ١٩٨١ بتهمة أنهن خصوم الحكومة! وبينهن عدد من أبرز أساتذة الجامعة ومدرساتها والصُّحفيات والكاتبات.

فهل اعتبر بوليس الآداب أن هذا الكلام قلة أدب وقلة حياء ولهذا رفض أن تكون جمعية رئيستها مثل هذه الدُّكتورة طويلة اللسان؟!

وسكرتيرة الجمعيَّة هي الدُّكتور منى أبو سِنَّة الأستاذ بكلية التربية بجامعة عين شمس. ومن أعضاء الجمعيَّة الدُّكتورة لطيفة الزيات، والدُّكتورة ليلى عنان، والدُّكتورة عواطف عبد الرحمن، والدُّكتورة عفاف محفوظ، وإنجي رشدي المحررة بالأهرام، وعائشة أبو النور الكاتبة بأخبار اليوم، والأستاذات عطيات الأبنودي وشهيرة محرز ومنى حلمي والدُّكتورة سهى عبد القادر …

يقولون إن الدَّوْلة تُحيل كل شيء يتعلق بالمرأة إلى بوليس الآداب.

وإذا كان هذا صحيحًا، فهذا أمر لا يمكن السكوت عليه في الوقت الذي أصبح في مصر وزيرات وسفيرات ووكيلات وزارات وعضوات في مجلس الشَّعب!

صدق … أو لا تصدق!

مصطفى أمين
وفي جريدة الشَّعب الناطقة في ذلك الوقت بلسان حزب العمل الاشتراكي، كتب فتحي رضوان من أكبر رجال السِّياسة في مصر يقول في ٢٢ نوفمبر ١٩٨٣ تحت عنوان:

دولتنا بوليسية

تفضلت الأديبة الكاتبة الدُّكتورة نوال السعداوي، فأطلعتني على خطاب أرسل إليها من السَّيِّد المدير العام للمكتب الفني بالإدارة الاجتماعية بالوايلي بمنطقة القاهرة، مؤرخ في ٩ / ٨ / ١٩٨٢ يتضمن قرارًا صادرًا من سيادته يقتضي برفض عدم إشهار جمعية «تضامن المرأة»، وقد ذكر الخطاب المشار إليه كجزء من قرار الرفض ومسبب له ما نصه: عدم موافقة مباحث أمن الدَّوْلة.

والحق أنني تولَّاني عجب لا نهاية له من أن إدارة من إدارات الحكومة، لا تجد حَرَجًا في أن تُعلن ببساطة أنها تعمل لحساب مباحث أمن الدَّوْلة، وأنها تتلقى صراحة أوامر وتوجيهات من هذه المباحث فتعمل بها وتطيعها، وتعلن للناس ذلك؛ أي تعلن للناس أنها لا تجد بأسًا في أن تكون ذيلًا لإدارة مباحث أمن الدَّوْلة المكونة لجهاز أكبر كثيرًا وأضخم، وهو جهاز الدَّوْلة الشَّامل العظيم؛ ومن ثم فإن هذا الجهاز الجزئي، مهما بلغ من خوف النَّاس منه وخشيتهم من قدرته على إيذائهم، ولا سيما في ظل قوانين الطوارئ، إلا أنه ليس سيد الحكومة، ولا صاحب الأمر والنهي فيها.

فإذا كانت وزارة الشُّئون الاجتماعية قد قبلت أن تخضع في المسائل الخاصَّة بتأليف جمعيات لتوجيهات إدارة مباحث أمن الدَّوْلة وأن تتلقى الأوامر منها فتطيع وتنفذ الأمر، وكأن هذه الوزارة عسكري من عساكر الشرطة، يُوجَّه فيتَّجِه ويُؤمَر فيُذْعِن؛ فقد كان ممكنًا أن يَتمَّ هذا الأسلوب من الخضوع والطاعة، في تسَتُّر؛ فرسول الله قال لنا: «إذا بُلِيتُمْ بِالْمَعاصِي فاسْتَتِرُوا»، والسِّتْر الذي نريد أن نسدله على الوزارة، يقتضيها أن تتلقَّى خطابات إدارة مباحث الأمن، فتنفذ ما جاء فيها وتتحمل مسئولية القرار الذي أصدرته إدارة المباحث دون أن تُعلن أنها تلَقَّت هذا الأمر، تلقَّت الخطاب الصادر من الوزارة إلى الجمهور المتعامل بوضع هذا الاعتراف المؤذي في صدر هذا الخطاب؛ فيعرف النَّاس جميعًا أن حكومتنا هي حكومة بوليسية، وأن صاحب السُّلطة الحقيقية في تصريف البلاد هو مُخْبِر المباحث الذي يكتب التقرير لإدارة المباحث التابع لها، مقترِحًا عدمَ التصريح بتأليف تكوين الجمعيَّة التي يَطْلُب تشكيلَها عددٌ من أفاضل أساتذة الجامعة أو عددٌ من أفاضل السَّيِّدات والكاتبات وصاحبات الرأي مِمَّن لهن عددٌ ضخم من التلاميذ والمريدين؛ بدعوَى أن هذه الجمعيَّة جمعية شيوعية.

والحكومة البوليسية هي حكومة مكروهة من العالم كله، وبعض الحكومات البوليسية تُخفي «بوليسيتها» تحت ستارٍ من المدنية والسرِّية، ولا تفعل ما تفعله وزارة الشُّئون الاجتماعية عَلَنًا وبلا خَجل.

فقد سبق أن أخبرني وكيل تعليم من كليات الجامعات أنه فكَّر وعددٌ من زملائه الأساتذة في تأليف جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان في إحدى عواصم الصعيد؛ فجاءهم خطاب مماثل تمامًا للخطاب الذي وصل السَّيِّدات اللواتي فكَّرن في تكوين جمعية تضامن المرأة.

والمؤسف حقًّا أن هذا التصرف الذي يصدر من وزارة ترأسها أستاذة للقانون هي الدُّكتورة أمال عثمان، وهي بحكم ثقافتها، ومهنتها وعلمها، تعرف الحكومة البوليسية، تعرف ما يقوله وقاله علماء القانون في استهجانها، والدعوة إلى وضع حد لخصائصها في كل بلد.

والطريف الذي يحوِّل الأمر، في موضوع دَسِّ المباحث أنفَها في نشاط الوزارات والمصالح الحكومية، إلى مَهزلة مُبْكِيَة ومأساة مُضحكة، أن طلب وزارة الشُّئون الاجتماعية يقول: إن اقتراح منع التصريح بتكوين جمعية تضامن المرأة، صدر من إدارة البحث الجنائي لمكافحة جرائم الآداب العامة … ومعنى ذلك بعبارة واضحة أن تصنيف النشاط الاجتماعي في وزارة الشُّئون الاجتماعية أضاف تأليف الجمعيات إلى إدارة تكافح الانحطاط الخلقي، وترويج الفاحشة والعمل على ممارستها، وهو شيء آخر يُرِينا العقليةَ التي يُحكم بها على نشاطِ أصحابِ الرأي والراغبين في الخدمة.

فبماذا ننصح السَّيِّدات اللواتي أردن أن يدافعن عن حقوق المرأة التي هي فرع أو ربما أصل لحقوق الإنسانية؟! أننصحهن بالكف عن هذه المحاولة الشَّريفة السَّامية، وأن يَدَعْنَ مجتمعنا بلا محاولة لرفع مستواه؟!

أم ننصحهن بإنشاء جمعيتهن دون مراعاة قواعد القانون التي تُحَتِّم على من تسَوِّل له نفسه تكوين جمعية أن يَعرض أمره على إدارة تكافح عيوب الآداب وآفاتها؟

إنه مُصاب يُبكي ويُضحك، ولكن لا نجد له حلًّا، إلا أن ندعوَ الله أن يأخذ بِيَدِ هذا البلد، وأن نقول للسيدة أمال عثمان وزيرة الشُّئون الاجتماعية إنها لا تخدم السَّيِّد اللواء حسن أبو باشا الوزير المشرف على إدارة مكافحة جرائم الآداب العامة، ولا تتلقى منه الأوامر، بل إنها لا تخدم السَّيِّد رئيس الجمهورية، إنما هي تخدم القانون الذي تعلَّمَتْهُ وأصبحت أستاذة فيه، وبفضل هذه الأستاذية اختيرت للوزارة، وأنها بسبب تبعيتها للقانون وانتسابها إلى أسرته يجب أن تراجع قواعد وأساليب العمل في وزارتها لتمنع صدور خطاب بهذه الصورة المؤذية الجارحة التي نَقَلْنا صيغتها بالحرف الواحد، ولنمنع مِنْ باب أَوْلَى، صدور قرار مؤسف محزن كالقرار المانع من تكوين جمعية تضامن المرأة.

فتحي رضوان

وفي جريدة الجمهورية، وهي من أكبر الصُّحف الحكومية في مصر، كتب صلاح حافظ في ٨ ديسمبر ١٩٨٣ مقالًا شديد اللهجة ضد منطق أمال عثمان وزيرة الشُّئون الاجتماعيَّة، واعتبر خطابها الرسمي إلينا فضيحة للحكومة المصرية، وأنه لا يزال على مكتبه يلوِّثه.

وكتب صلاح حافظ يقول بالحرف الواحد:

نعم تلوِّثه!

فلا شيء ينقض الوضوء في اعتقادي قَدْر ما تنقضه ورقةٌ تقول لنساءٍ يُعَلِّمْنَ أولادنا في الجامعة: أَحَلْنا أَمْرَكُنَّ إلى بوليس الآداب!

ولا شيء يُهين مصر، ويلَوِّثها، ويمتهن ثقافتها وحضارتها، ويشهِّر بها في العالم كله … مثل ما يفعله قرار مختوم بختم الدَّوْلة يعترف بأن الجهة المختصة بالتعامل مع الأساتذة والمديرات والكاتبات في مصر هي بوليس الآداب! صحيح أن في مصر عقولًا ومنظمات تعتبر مجرد تعليم المرأة فسقًا ودعارة، مجرَّد وجودها في حقل العمل ضلالة وانحلالًا؛ لكن الدَّوْلة لا تكفُّ في دعايتها عن اتِّهام هؤلاء النَّاس بالجهل والضلال، فما بالها تتبنى نفس أفكارهم، وتجعل التعامل مع المثقفات والرائدات من اختصاص البوليس المتخصص في مقاومة الفسق والدعارة؟!

هل تسللت هذه العقول، وتلك المنظمات، إلى داخل جهاز الدَّوْلة؟ وهل سيطرت إلى الحد الذي جعل الثقافة والدعارة في بلادنا وَجْهَيْنِ لعملةٍ واحدة، حسابها ورصيدها عند بوليس الآداب؟

كنت أتصوَّر حتى الآن أن الرأي في شئون الجمعيات الثقافية للجهات الثقافية في الدَّوْلة.

لقد تخلفنا كثيرًا فيما يبدو، دون أن نشعر.

ولن ينقذَنا من هذا التخلف إلا أن نَنْسَى بعض الوقت الذين يشهِّرون بنا في الخارج، ونلتفت بعض الوقت إلى الذين يشهِّرون بنا في الدَّاخل.

الذين يُلطِّخون وجه مصر على راحتهم، ويزينون اللطخ بالتوقيعات وختم النسر، ويقدِّمون للدنيا كلها وثائق تُثبت أننا قوم نَكْره الثقافة كراهية الدعارة، ولا نميز بينهما.

ومتى؟!

على مشارف القرن الواحد والعشرين، وبعد سبعة آلاف سنة من حضارة نفاخر بها العالم الذي نزعم أننا نحن الذين علَّمناه ورَبَّيْناه!

تخلصوا من هؤلاء يا سادة.

وثِقُوا أنَّ مصر بعدَهم ستستعيد ريادتها، وقيادتها، ودورها الحصين في العالم، وأنها ستقهر كل الصعاب التي تواجهها.

فالمشكلة ليست عجزَ مصر وإنمَّا إجهاض حماس شعبها، وقدرته الخلَّاقة، وفرض التَّخلف عليها فرضًا بأمثال هذه النظم التي لا تطالِب راقصات الهرم إلا بدفع الضرائب بينما تُحيل الكاتبات وأساتذة الجامعات إلى بوليس الآداب!

امتدت الحملة الصَّحفيَّة ضد أمال عثمان وزيرة الشُّئون الاجتماعية وضد الحكومة المصرية منذ ديسمبر ١٩٨٣ حتى نهاية عام ١٩٨٤. هكذا اضْطُرَّت أمال عثمان أن تعترفَ بشرعية جمعية تضامن المرأة العربية، وجاءنا الخطابُ الرسمي من وزارة الشُّئون الاجتماعية في ٧ يناير ١٩٨٥ يقرِّر الموافقة على تسجيل الجمعيَّة.

بعد خمسة شهور فقط التقيت بأمال عثمان وجهًا لوجه في مؤتمر المرأة العالمي، الذي عُقد في مدينة نيروبي عاصمة كينيا في يونيو ١٩٨٥، رمقتني بنظرة حمراء، أدركتُ أنها تُكِنُّ لي كراهية مكبوتة، وأنها لن تتوانى عن توجيه ضربة إليَّ عاجلًا أم آجلًا، في الظَّهر أو في البطن. كانت تُسرع الخطَى لتلحق بموكب السَّيِّدة حرم الرَّئيس. وفي المساء أقامت أمال عثمان حفل عشاء كبيرًا للسيدة حرم الرَّئيس دعت إليه جميع النِّساء المصريات المشاركة في المؤتمر، لم أذهب إلى الحفل وآثرت أن أقرأ في سريري روايةً دنماركية جديدة عن مصر القديمة، وفي نيروبي آثرت أن أنام بعد يوم طويل حافل بالعمل واللقاءات مع أعداد كبيرة من نساء العالم.

صديقتي بطة (الدُّكتورة كاميليا) كانت إحدى المشاركات في مؤتمر نيروبي، رأيتها في قاعة كينياتا تُهرول فوق كعبها العالي وراءَ أمال عثمان من أجل اللحاق بموكب السَّيِّدة حرم الرَّئيس، وذهبت بطة إلى حفل العشاء تلك الليلة، وفي الصباح الباكر جاءت إلى غرفتي بالفندق.

مش معقول يا نوال اللي بتعمليه ده! ليه ماجيتيش الحفلة؟ كلهم راحوا إلا إنتي؟ مش كفاية اللي عملوه فيكي؟! عاوزاهم يقفلوا الجمعيَّة بتاعتك؟! أنا بصراحة يا نوال باخاف أقول إنك صاحبتي وإلا رفدوني من شغلي! ثم كركرت بطة بضحكتها الطويلة المتقطعة، ضحكتُ معها ثم قلت: لا يمكن يرفدوكي يا بطة عندك حصانة عائلية برلمانية. أطلقت بطة ضحكة أخرى وقال: وعندي حصانة دبلوماسية كمان أُمَّال خيبانة زيك يا ست نوال؟!

ظلت وزيرة الشُّئون الاجتماعيَّة على عدائها لجمعية تضامن المرأة العربية، ومع أجهزة الحكومة والأمن، وبعض النِّساء شجعتهن الوزيرة على تكوين جمعية جديدة للمرأة. لجأت الحكومة إلى مبدأ فَرِّقْ تَسُدْ، امتلأت السَّاحة المصريَّة بالجمعيات النِّسائيَّة، كل أربع أو خمس نساء يُشكلن جمعية أو مركزًا أو رابطة أو شركة مساهمة أو أي شيء، المهم أن تتعدد الفِرق ويضرب بعضها بعضًا، تتنافس أيها تقترب أكثر من دوائر السلطة والمال والنفوذ.

لم تدخل جمعية تضامن المرأة العربية في هذا الصِّراع بين النِّساء، لكن وزارة الشُّئون الاجتماعيَّة لم تكفَّ عن مطاردة الجمعيَّة ومعها وزارة الدَّاخلية، أجهزة الأمن والمباحث كانت تترَبَّص، تطارد العضوات في أماكن العمل والبيوت، تسلِّط عليهن صحف الجماعات الإسلامية والإرهابيَّة، التابعة للحكومة. بدأنا نقرأ هجومًا في تلك الصُّحف على أنشطة الجمعيَّة، تحت المانشتات الكبيرة الحمراء والسوداء، بدأنا نقرأ عناوينَ من نوع: جمعية نوال السعداوي الكافرة تنظم مؤتمرات ضد الأخلاق والتراث، جمعية تضامن المرأة العربية مأجورة لهدم الإسلام والآداب العامة.

في ٢٢ مارس ١٩٩٠ عقدت جمعية تضامن المرأة العربية اجتماعًا كبيرًا من أجل الوحدة الوطنية، كانت أحداث القتل الإرهابية تغتال الأبرياء في صعيد مصر، ثم وقعت أحداث أبو قرقاص بالمنيا، وبدأت الفتنة الطائفية تهدد بلادنا. ثم عقدت الجمعيَّة اجتماعًا آخر كبيرًا ليلة الخميس ٢٩ مارس ١٩٩٠، زاد عدد المشاركين في الاجتماع عن المِائة، كونوا جميعًا الهيئة التأسيسيَّة للجنة المصريَّة للدفاع عن الوحدة الوطنية. في الاجتماع الثَّالث ليلة ٥ إبريل ١٩٩٠ بلغ أعضاء الهيئة التأسيسية مِائة وتسعة وأربعين عضوًا وعضوة من مختلف التيارات السِّياسيَّة أو المدارس الفكريَّة في مصر، أجمعوا على ضرورة العمل المتواصل لإخماد الفتنة الطائفية وتوحيد الشَّعب المصري نساءً ورجالًا.

هنا أدركت الحكومة خطر جمعية تضامن المرأة العربية، هنا بدأت الحرب الضاربة ضد الجمعيَّة وضد عضواتها، على رأسهم بطبيعة الحال رئيسة الجمعيَّة نوال السعداوي. بدأت وزارة الشُّئون الاجتماعيَّة مع وزارة الدَّاخلية إيفاد المراقبين والمفتشين ورجال المباحث إلى أي اجتماع تعقده الجمعيَّة. اشتدت الحملة في صحف الحكومة والصُّحف الإسلاميَّة ضد الجمعيَّة الكافرة ورئيستها الزنديقة التي لا تحترم القيم أو الآداب العامة.

ثم قامت حرب الخليج في يناير ١٩٩١، حرب أخرى جديدة في سلسلة الحروب المتعاقبة منذ نشوء دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، محاولة كبرى من جانب الثالوث القديم، أو الحلفاء الأربعة ضد العالم العربي، الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وزاد عددهم إلى ثلاثين جيشًا مسلحين بالقنابل الليزر، ضربوا بغداد ليلة ١٦ يناير ١٩٩١. احترقت بغداد، مات نصف مليون من النِّساء والأطفال والشَّباب، وحتى اليوم ونحن في يونيو عام ٢٠٠٠ لا يزال الشَّعب العراقي تحت الحصار، يموت فيه كلَّ يوم آلاف الأطفال دون دواء، دون طعام.

إنها حرب النفط الثَّانية بعد حرب ١٩٧٣، إنه الاستعمار القديم يرتدي حذاءً جديدًا يسميه النظام العالمي الجديد، ويدوس به على أرواح الشُّعوب من أجل البترول وتنشيط تجارة الأسلحة، وفتح أسواق جديدة في بلادِ ما يُسمى العالم الثالث.

النِّساء والفقراء هم العملة الرخيصة في الحروب والأزمات، أول من يدفع وآخِر من يأخذ، سُنَّة القانون الطبقي الأبوي الذي يحكم عالمنا الحديث وما بعد الحديث.

أرادت الولايات المتحدة أن تستخدم في حرب الخليج بعض الجيوش العربية كنوع من الغطاء، كنوع من التمويه يحدث دائمًا في كل الحروب، هكذا دخل الجيش المصري والجيش السُّوري الحرب ضد العراق تحت لواء الجيش الأمريكي وجيوش الحلفاء الثَّلاثين.

– الحلفاء؟!

في طفولتي سمعت أبي ينطق كلمة الحلفاء بطرَف لسانه، يَلْفِظها كأنها هي بَصْقَة، الحلفاء يا ابنتي هم الأعداء، يتخفَّى العدو تحت اسم الصديق، ماذا نفعل يا ابنتي؟! ضحكنا حين سمعنا الإذاعات تقول بصوت السادات عام ١٩٧٦ صديقي كارتر، ثم ضحكنا حين ردَّدت الإذاعات هذه العبارات عام ١٩٩١ مع تغير الأسماء.

وتجمعت النِّساء العربيات من خمس عشرة دولة عربية في مؤتمر جمعية تضامن المرأة العربية خلال الفترة من ٤–٧ سبتمبر ١٩٩٠، أصدرت النِّساء المجتمعات بيانًا ضد غزو العراق للكويت، وضد قيام حرب الخليج العسكرية، وتم تشكيل لجنة من النِّساء للعمل على منع الحرب وحل الأزمة بالطرق السلمية.

هنا انتهزت وزارة الشُّئون الاجتماعيَّة الفرصة لتوجيه ضربتها إلى الجمعيَّة، صدر قرار أمال عثمان وزيرة الشُّئون الاجتماعية بإغلاق جمعية تضامن المرأة العربية، ومصادرة أموالها وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها نساء الإسلام. صدر هذا القرار غير القانوني في ١٥ يونيو ١٩٩١، بدأت حملة في الصُّحف الحكومية والإسلامية التابعة لها لتشويه سمعة الجمعيَّة المأجورة الخائنة للوطن، وسمعة رئيستها نوال السعداوي المعادية للإسلام والآداب العامة ومصالح الوطن الكبرى.

لم يصدق أحد هذه الحملة، وبدأت بعض الأقلام تعارض قرار وزيرة الشُّئون، الذي أصدره نيابة عنها نائب محافظ القاهرة.

في ٢١ يوليو ١٩٩١ بجريدة الأخبار كتب مصطفى أمين في عموده اليومي بعنوان «فكرة» ما يلي:

في يوم ١٥ يونيو ١٩٩١ أصدر نائب محافظ القاهرة لمنطقة غرب القاهرة قرارًا بحل جمعية لتضامن المرأة العربية.

ونحن نشجع قيام الجمعيات في بلادنا، وندهش لأنَّ نائب المحافظ يغلق جمعية لتضامن المرأة العربيَّة وينقل أموالها إلى جمعية أخرى بغير أن يذكر سبب هذا الإغلاق.

والذي نعرفه أن هذه الجمعيَّة قامت منذ سنوات طويلة … منذ إنشائها وهي تلقى المعاكسات، بالرغم من أن الدُّكتور محمود شريف وزير الحكم المحلي ألقى محاضرة في هذه الجمعيَّة وفي الوقت نفسه صدر قرار يحظر على الجمعيات بدائرة غرب القاهرة أن تجادل في (الأمور السِّياسيَّة) ولا نعرف مثل هذا القرار في أي بلد ديموقراطي، وقد عشنا طوال عمرنا نرى نقابة المحامين ونقابة الأطباء وغيرهما من الجمعيات والنقابات تشتغل بالسِّياسة، وفي ثورة ١٩١٩ كانت جمعية المرأة الجديدة تصدر قرارات تهاجم الاحتلال ولم يحلَّها الإنجليز.

إننا ندهش أن تحل جمعية بغير تحقيق، وبغير أن يوجه إليها تنبيه إذا أخطأت.

نفهم أن تحل جمعية بسبب الآداب العامة، أو لأنها تدعو إلى قلب نظام الحكم بالقوة، ولكن لا نفهم أن تحل جمعية لأن رئيستها أو أحد أعضائها يعارض الحكومة، وخاصةً أن رئيسة هذه الجمعيَّة الدُّكتورة نوال السعداوي كانت تُلقي الخطَب والمحاضرات علنًا تعارض فيها سياسة الحكومة، وكانت الصُّحف العالمية تعتبر هذه المعارضة دليلًا على أن في مصر ديموقراطية تسمح بحرية الرأي.

هذا القرار أزعج كثيرًا من الجمعيات؛ فإذا اعترضت جمعية ما على حالة التَّموين في البلاد فهذا تدخُّل في السِّياسة! وإذا طالبت جمعية بالإكثار من زراعة الْبِرْسِيم فهذا تدخل في السِّياسة! وإذا طالبت جمعية بمنع استيراد الْحَمِير إلى مصر فهذه سياسة! بل صميم السِّياسة. كل شيء في البلد سياسة؛ ولهذا فمن واجب كل الجمعيات في مصر أن تسألَ ما هي حدود السِّياسة المسموح بها.

إنَّ الَّذين أصدروا هذا القرار لم يعلموا حتَّى الآن أن في مصر ديموقراطيَّة.

مصطفى أمين
وفي ٣١ يوليو كتب فليب جلاب رئيس تحرير جريدة الأهالي يقول تحت عنوان: وزارة الشُّئون و«الحلفاء» الرَّاشدون:

لا يستطيع أحد مهما بلغت جرأته على الحق أن يقنعنا بأي في مصر حكومة واحدة.

لدينا حكومة تتحدث عن الانفتاح والتعددية والشَّرعية، ولدينا حكومة أو حكومات أخرى تعتقد أن أعظم مظاهر الدِّيموقراطيَّة والتعددية والشَّرعيَّة هي تطبيق القانون العثماني أو على أحسن الفروض مبادئ الحكم المملوكي.

ولا يستطيع أحد أن يشكل جمعية لممارسة أي نشاط اجتماعي (دعك من النشاط السياسي) إلا بعد إجراءاتٍ وتحرياتٍ تَستدعي تدخل الأمم المتحدة وربما قوات «الحلفاء» الرَّاشدين لدى صاحبة العظمة وزارة الشُّئون الاجتماعيَّة.

ويبدو أن الوازرة وافقت في ظروف دولية غير مُواتِية على تسجيل جمعية تضامن المرأة (المصرية) كما سجلت إدارة الهيئات الدوليَّة بوزارة الخارجيَّة المصرية جمعية أخرى دوليَّة بنفس الاسم ذات وضع استشاري في المجلس الاقتصادي الاجتماعي بالأمم المتحدة.

وما إن بدأت تباشيرُ النظام العالمي الجديد حتى رأت وزارة الشُّئون الاجتماعية والسَّيِّد نائب محافظ القاهرة للمنطقة الغربية أن الفرصة أصبحت مُواتية لتأديب رئيسة الجمعيَّة المصرية الدُّكتورة نوال السعداوي، والخلط بين الجمعيتين ومصادرة ممتلكاتهما وتسليمهما إلى «محتسب» موظف في وزارة الشُّئون يرأس هو نفسه جمعية نسائيَّة، مع الاحتفاظ له شخصيًّا بعشرة في المِائة من هذه الممتلكات جزاء المشقة التي سيعانيها في عملية الاستيلاء على أموال الغير.

ونشر نائب المحافظ بيانًا يعتمد فيه على بلاغٍ لسيدة تزعم فيه أن الجمعيَّة المصرية تحتفظ في بنك مصري بأموال أخرى لم تُبلغ عنها، وهي في الحقيقة أموال الجمعيَّة الدولية، وزعم المسئول أنه راجَعَ وزارة الخارجية فأبلغته أنها لا تعرف شيئًا عن الجمعيَّة الدولية، مع أن لها ملفًا منذ تسجيلها في الأمم المتحدة. والمدهش هو أن رجالًا مسئولين يعتقدون أن من يريد إخفاء أموال عن مراقبة وزارة الشُّئون الاجتماعية يقوم بإيداعها في بنك مصري باسم الجمعيَّة في عاصمة مصر، مع أن تهريب مثل هذه الأموال يمكن أن يتم بغاية اليسر إلى بنوك في الخارج لو كان لما يزيد على ١٠٠ مليار دولار في الخارج، والأكثر إثارة للدهشة هو أن السَّيِّد نائب المحافظ استفسر عن حقيقة الجمعيَّة في وزارة الخارجية؛ فعرف منها أنه ليست هناك جمعية بهذا الاسم رغم الوثائق الرسميَّة التي تقدمها الدُّكتورة نوال السعداوي.

ولما كان من المستحيل أن تجهل إدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجيَّة المصريَّة اسم جمعيَّة دوليَّة ذات ملف رسمي لديها؛ فقد يكون سؤال محافظ القاهرة عن طريق الخطابات الرسمية المعروفة قد وُجِّه إلى وزارة أخرى أو ربما لوزارة الخارجية في عاصمة أخرى … أو ربما لم يَستدلَّ مندوب المحافظة على عنوان وزارة الخارجية كما حدث منذ أسبوعين عندما سجَّل أحد «المحضرين» على إنذار موجَّه لوزارة الصناعة لتنفيذ حكم لصالح عمال المحلة، بأنه لم يُستدلَّ على عنوان وزارة الصناعة بالقاهرة.

وهكذا استطاعت وزارة الشُّئون مع السَّيِّد نائب المحافظ أن يعيدا إلى ذاكرة المصريين والقاهرة بعضَ تقاليد مصر الزاهرة في عصور العثمانيين والمماليك حتى لا يتوهَّمَ أحد أن مبادئنا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة تنبع من خارج بلادنا في قضية إنشاء الجمعيات بالذات.

وهذا عمل من جلائل الأعمال يمكن أن يبعد النَّاس — ولو لأيام معدودة — عن مناقشة أمور كئيبة مثل الارتفاع الصاروخي للأسعار وضريبة الرَّأس (أو المبيعات) وما يتعرَّض له العرب من الخليج إلى المحيط دون استثناء، من إذلال وإهانة لم يَسبق لهما مثيل.

وفي جريدة الأخبار يوم ١٧ أغسطس ١٩٩١ كتب صلاح حافظ تحت عنوان: وزارة «الجماعات»:

عندي «للإسلاميين» في مصر خبر سعيد:

وزارة الشُّئون الاجتماعيَّة قررت أن تنوب عنهم، وتنفذ برنامجهم، دون ما حاجة إلى استيلائهم على الحكم!

وقد اختارت الوزارة أن تبشِّر الأمة المصريَّة بهذا الفتح العظيم منذ حوالي أسبوعين، وبدأت بقرار لن يصدقه القارئ، وإن كنت أقسم بالله العظيم ثلاثًا أنه صدر.

موضوع القرار جمعية اسمها «تضامن المرأة المصريَّة».

وهي جمعية ترأسها الطبيبة الكاتبة الأديبة نوال السعداوي، ولا أحد يجهل من هي نوال السعداوي. وهذه الجمعيَّة تعمل في مصر منذ سنوات ولها مقر، ولها صفة اعتبارية؛ بِناءً على قرار صادر من وزارة الشُّئون الاجتماعية.

لكن شيئًا ما حدث فجأة في الوزارة.

شخص ما في الوزارة لم تَعُدْ تَروق له هذه الجمعيَّة، وقد يكون السبب أنه يكره النِّساء المتمردات، أو أن زوجته التحقت بالجمعيَّة وعادت تناقشه بلهجة لم يألفها، أو أنه مسئول عن مراجعة حسابات آلاف من الجمعيات … ويريد أن يختصر العدد، أو أن السَّيِّد البدوي زاره في المنام وأركبه حصانًا أبيض، وقال له «قُمْ واشطب هذه الجمعيَّة.»

المهم على أية حال، هو أنه فعل.

وفي الصَّباح التَّالي صدر قرار من الدُّكتورة أمال عثمان الممثلة للمرأة في مجلس الوزراء، بإلغاء جمعية «تضامن المرأة المصرية».

ولم يكن في القرار أسباب؛ لأن القوانين في مصر لا تُلزم صاحبَ أي قرار بأن يشرح أسبابه.

لكن هذا لا يهم.

إنَّما المهم أن القرار فَرَضَ على الجمعيَّة أن تُسلِّمَ بيتها، وأدواتها وأموالها، لجمعية أخرى في ضاحية المعادي، اسمها «جمعية نساء الإسلام»!

وهذا هو ما يستحق أن نتوقف عنده.

فجمعية «نساء الإسلام» هذه بحكم اسمها جمعية للمسلمات فقط … والجمعيَّة التي تقرر حلها لكل المصريات؛ فكيف تسلِّم جمعية قومية ممتلكاتها وفلوس عضواتها لجمعية لا تقبل في عضويتها غير فريق المسلمات!

وإذا كانت جمعية نوال السعداوي ضارَّة، وغير مرغوب فيها ونخشى إذا تركناها أن تلوث البيئة، أو تثير حربًا عالمية ثالثة، فلِمَ لا تُحَلُّ وتئول أموالُها إلى أعضائها، وما معنى اغتصاب ممتلكاتها كما فعل صدام حسين بالكويت؟!

إن شيئًا كهذا لا يمكن أن يحدث في بلد متحضر.

وأمام القضاء المصري الآن دعوى رفعتها هذه الجمعيَّة وستكسبها؛ لأن القضاء المصري لا يزال متحضرًا والحمد لله.

لكن ما يهمنا هو السُّؤال الخطير: من الذي قرر حين رأت الوزارة حل الجمعيَّة أن تلتهم فلوسها جمعية دينية؟

قيل لي عندما سألت: إن المسألة أبسط كثيرًا مما توهمت، وإن الرَّجل المكلف بتصفية جمعية نوال السعداوي كان بالصدفة الرَّجل الذي أسس جمعية نساء الإسلام؛ فاختار على سبيل الكسل أن يضم الجمعيَّة المحلولة إلى الجمعيَّة التي أسسها.

وفي اعتقادي أن هذا عذر أقبح من الذنب.

فمعناه أن مصائر الجمعيات في بلادنا أصبحت رهنًا بمدى راحة بعض الصغار، من كبار الموظفين في أجهزة الدَّوْلة، وأن حكومتنا لم تدرك بعد — برغم آلاف الدروس — أهمية الجمعيات الأهليَّة في بِناء المجتمع والنظام، وأنها بإهدار كرامة العمل الاجتماعي الأهلي تُنهي إلى الأبد إمكان التوحُّد ما بين النَّاس ونظام الحكم، وتلغي المبادرة الشَّعبية، والإرادة الجماهيرية، وكل ابتكار يمكن أن يساند أجهزة البيروقراطيَّة البلهاء المتعفنة.

ثم يبقى بعد ذلك السؤال …

من الذي أصبح يحكم هذه الأجهزة البلهاء … إلى أي مدًى أصبحت تديرها «الجماعات» وهو سؤالٌ أُشفق على الدُّكتورة أمال عثمان من مواجهته؛ لكنني أَدْعُوها أن تفعل.

فهي بالنسبة لي نموذج لنجاح المرأة في المناصب الكبرى، ونجاحها يُنصف موقفي من المرأة عمومًا، وسيؤلمني كثيرًا أن تقفل عينيها عن مثل هذه الفضيحة في وزارتها، وأن يخرج علينا غدًا من يُعَيِّرنا قائلًا: هذه وزيرتكم ضَحِكُوا عليها، ولا يُفلح قومٌ وَلَّوْا أمورَهم امرأة!

مع خالص حبي، وتأييدي واحترامي للدكتورة أمال عثمان!

صلاح حافظ

لم تسفر هذه الحملة الصَّحفيَّة عن شيء، كما أن القضية العاجلة التي رفعناها بالمحكمة الإدارية لم تسفر عن شيء؛ لقد قررت الحكومة المصرية إغلاق جمعية تضامن المرأة العربية، وكانت وزيرة الشُّئون الاجتماعية أمال عثمان تنتظر هذه الفرصة منذ أصدرت قرارها بتسجيل الجمعيَّة عام ١٩٨٥.

لم تدخل صديقتي سامية تضامن المرأة منذ إنشائها، لم تكن تؤمن بتضامن النِّساء داخل تنظيم خاص بهن، فقط تؤمن بالحزب السياسي ومشاكل العمال والفلاحين. ثم تغيرت سامية وأصبحت ترأس جمعية نسائية وتتحدث عن النظام الأبوي والختان والعنف ضد النِّساء حتى حصولها على وسام الختان. ثم سرعان ما انقلبت على نفسها حين تغيرت موازين الحكومة، وبدأت تعلن أنها لم تتكلم على الختان أو ذلك الشيء الهامشي في حياة النِّساء وهو الجنس، إنها فقط معنية بمشكلات الفقر ومحو الأمية بين النِّساء.

أصبحت هذه هي النغمة الجديدة السائدة في مصر خلال هذا العام ٢٠٠٠، أصبحت زعيمات الجمعيات النسائية يُهَرْوِلْنَ إلى مؤتمرات المرأة، يَنطقن كلمة «الفقر» بالطَّريقة ذاتها التي تنطقها الحكومة، وفي المساء يحضرن حفل العشاء الفاخر على ضفاف النيل، تلتهم الواحدة منهن فخذة خروف مشوية، مع رشفات من الكأس البِلَّوْري، وتَرِنُّ كلمة «الفقر» في الجو عارية كالعورة.

وفي أغسطس ١٩٩٧ بعد عودتي من المنفى، كنت أسير في شارع قصر العيني حين التقيت وجهًا لوجه بصديقتي سامية. كانت واقفة عند ناصية الشَّارع، حيث كانت تعمل في الصيدلية القديمة هي وزوجها رفاعة. اختفت الصيدلية وانتصب مكانها مبنًى كبير تعلوه يافطة لامعة: الشركة التِّجارية العالمية، مكتب الاستيراد والتصدير. وأدركت أن سامية أصبحت تملك شركة خاصة مع زوجها، أصبح الاثنان من كبار رجال الأعمال في مصر، يتاجران بالعقاقير والكيماويات وحبوب منع الحمل، وحبوب إعادة الشَّباب وتنشيط القوَى الجنسية لدى الرِّجَال، ومنها حبوب الفياجرا وحبوب جديدة لم تنزل السوق بعد.

– خلاص يا سامية بقينا نعيش في دولة رجال الأعمال؟!

– ونساء الأعمال يا نوال، يعني نسيب الرِّجَالة ياخدوا كل حاجة؟! لازم يكون فيه مساواة! واحنا في عصر العولمة، العالم كله مع العولمة إلا أنتِ يا عزيزتي!

ضحكت سامية ضحكة قصيرة ساخرة، ثم مطَّت شفتيها الرفيعتين، وقالت: أنا شركتي صغيرة بالنسبة لشركة صاحبتك بطة، عارفة رأسمالها كام؟! وكمان جوزي رفاعة مشاركني فيها، لكن بطة عاملة شركة لوحدها وجوزها حمدي عنده شركة لوحده.

– وبطة تتاجر في إيه يا سامية، حبوب الفياجرا برضه؟!

– الفياجرا سوقها واقف يا نوال، رجل عجوز عنده تسعين سنة بلع الحبوب ومات بالسكتة القلبية، اسمه معروف، كتبت عنه الصُّحف، ومن يومها حصل هبوط كبير في المبيعات.

– بطة أخبارها إيه؟ بتشوفيها يا سامية؟

– طبعًا، بنتقابل دائمًا في مؤتمرات رجال ونساء الأعمال مع الوزراء والمسئولين، لكن بطة من نساء الأعمال الشاطرين أوي يا نوال.

– تتاجر في إيه يا سامية؟

– عاملة مصنع كبير لملابس المحجبات، شوبينج سنتر كبير في الدقي للزي الإسلامي والجلاليب الفلاحي والقلل والفخار والتحف والآثار القديمة، وعندها مجلة مهمة أوي بتدافع فيها عن تراثنا القديم والهوية الأصلية، والخصوصية الثَّقافية و…

وأطلقت سامية ضحكة قصيرة جافة ثم مطَّت شفتيها الرفيعتين في امتعاض: التجارة بالدين لها سوق كبير أوي أكبر من سوق الفياجرا يا نوال، على العموم التجارة حلال، والوزراء بقوا من رجال الأعمال، مش أحسن من اللي بيسرقوا، وعندهم حصانة برلمانية؟! خدي الجورنال اقرئي عن السَّيِّد الوزير والسَّيِّدة الوزيرة، وطبعًا عندهم حصانة وماحدش قفل الجمعيَّة بتاعتهم، ولا حد عمل تحقيق معاهم، وشوفي حكاية نواب القروض وسرقات أعضاء مجلس الشَّعب واللي هربوا من أصحاب البلايين من غير ما حد يمسكهم في المطار، رغم أن ما حدش يقدر يخرج من المطار إذا كانوا عاوزين، و… ثم تمطُّ شفتيها وتسكت.

حتى المجلات والصُّحف الحكومية أصبحت تنشر عن ظاهرة تهريب الأموال وفساد النِّظام السِّياسي في مصر. في مجلة روز اليوسف يوم ٢٤ يونيو ٢٠٠٠ قرأت موضوعًا كبيرًا تحت عنوان «الشَّائعات صناعة رجال الأعمال»، جاء بالحرف الواحد: «انتشرت الشَّائعات عن الهروب وسوء الموقف إلى حدٍّ يُنذر بزعزعة سوق المال.» ثم مانشيت كبير: «ديون رجال الأعمال للبنوك ٧ مليارات فقط مشكوك في تحصيلها من إجمالي ٢٤٠ مليار جنيه.»

وفي جريدة الأهالي، إحدى الصُّحف المعارضة، جاء في الصَّفحة الأولى يوم ٢٨ يونيو ٢٠٠٠ هذا المانشيت الضَّخم: «القائمة السرية للقروض التي تواجه خطر الضياع، ٢٥ مليار جنيه، ديون ٣٧ رجل أعمال للبنوك، شركات وهمية، وقروض؛ نظير عمولات وشيكات وسماسرة لنهب الأموال، نواب القروض ليسوا وحدَهم، والنظام المصرفي بلا ضوابط.»

أزمة الاقتصاد في مصر أصبحت حديث الساعة، أزمة السيولة وأزمة الركود، وانتشرت النكت والفكاهات حول القطط السمان والرءوس الكبيرة والحيتان، أصغرها بلقب وزير أو وزيرة أو نائب بمجلس الشَّعب أو الشورى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤