الشُّرفة في الدور السَّادس والعِشْرين

يوم من أيام يوليو الحارَّة عام ٢٠٠٠، أجلس في الشُّرْفَة المطلَّة على النِّيل في الدور السَّادس والعشرين، مُنذ عودتي من المنفى وَأنَا أعيش في هذه الشَّقَّة الصَّغيرة في حي شبرا القديم، أعيش المنفى داخل الوطن كما عشته في الخارج. لم يعد هناك داخل وخارج، أو شرق وغرب، أو شمال وجنوب، أو العالم الإسلامي والعالم المسيحي. نحن نعيش في عالم واحد يحكمه نظام طبقي أبوي منذ نشوء العبودية، تغيرت أشكال العبودية تحت أسماء جديدة؛ منها العولمة وحرية السوق، والخصخصة والخصوصية، يتربع على قمة النظام العالمي الجديد أقل من خمسمائة شخص يملكون أكثر من نصف ثروة العالم، ويعيش مليار ونصف من البشر تحت خط الفقر، أغلبهم نساء وشباب وأطفال، يعيشون داخل هذه البيوت على شكل العشش، أراها من حولي، تمتد من شبرا إلى إمبابة وبولاق وروض الفرج، ومن نزلة السمان عند سفح الأهرامات إلى القلعة والسَّيِّدة زينب وسفح المقطم، تتساند البيوت القديمة الآيلة للسقوط إلى جوار المباني الجديدة الفاخرة، يتربع على العرش في بلادنا قلة قليلة تملك الثروة والسلطة والسلاح، والاتصالات بالخارج، من حولها نخبة مثقفة تعيش في كنَفها، تُحوِّل جرائمها إلى بطولات. تحت اسم الدِّيموقراطيَّة يتم ذبح الدِّيموقراطيَّة، تحت اسم حقوق الإنسان يتم ذبح حقوق الإنسان، تحت اسم حقوق المرأة يتم ذبح حقوق النِّساء. من يختلف في الرأي عن الفرد الحاكم أو الأفراد الحاكمين يجد نفسه في السِّجن دون محاكمة، أو محاكمة شكلية تختفي فيها العدالة، يفقد الإنسان سمعته الأدبية أو الوطنية، يتحول من مُدافع عن حقوق الفقراء والنِّساء إلى خائن للوطن، يتم اختزال الوطن إلى أفراد قلائل أو فرد واحد يجلس على العرش، مثل فرعون القديم الحاكم والإله في آنٍ واحد.

حين يبلغ الحزن مداه تعجِز العين عن الدمع، تكف الحواس الخمس عن الإحساس، لا يبقى إلا الحاسة السادسة، المجهولة الغائرة في أعماق الجسد والعقل والتَّاريخ، القادرة وحدَها دون الحواسِّ الأخرى على إدراك أن الأرض تدور رغم السكون، أن الزمان يلتحم بالمكان، لا شيء يفصل الروح عن الجسد أو الإله عن الشَّيْطان أو المرأة عن الرَّجل.

منذ أيام قليلة أصابني غثَيان شديد وقيء، رقدت في الفراش لا أستطيع الحركة، تصورت أنَّها النِّهاية، طلبت حضور ابنتي وابني لأراهما قبل مغادرة الدنيا، الاثنان الغاليان هما قطعة من جسدي وعقلي، ثالثهما شريف رفيق العمر منذ خمسة وثلاثين عامًا، الأسرة الصغيرة الدافئة العواطف، تختلف عن أغلب الأسر الخاضعة لسيطرة رجل واحد، أسرتنا لا يسيطر فيها أحد، لا رجل ولا امرأة ولا ابن ولا ابنة، كلنا سواسية، يدور بيننا الجدل حتى نصل إلى القرار الأصوب.

قالت ابنتي: ماذا أكلتِ بالأمس يا أمي؟

قلت: لم آكل إلا بطيخًا مع جبنة بيضاء قريش.

قال شريف: هناك حالات تسمم بسبب البطيخ أو الخيار أو الخوخ، يرشونها بالمبيدات الحشرية، أو يحقنونها بالهرمونات، يستوردون أغذية من الخارج غير صالحة للبشر، يرسلونها إلى بلادنا الإفريقية بمثل ما يرسلون النُّفايات النووية لتُدفن في صحرائنا الشرقية أو الغربية، أصيب بعض الفلاحين في قرية ميت حلفا بمحافظة القليوبية بإشعاع نووي وماتت أسرة بكاملها، ويعيش سكان القرية تحت رعب الإشعاع، وهناك تكتم شديد على هذه الأخبار الأخيرة، لا نعرف بالضبط ماذا حدث … لكن بعض الحقائق تتسرب إلى الصُّحف.

اشتدَّ الغثيان والدوار، قلت لشريف ولابنتي وابني: لا أريد أن أُدفن في مقبرة تحت الأرض ليأكل جسدي الدود، أريد أن أتبرع بجسدي إلى مشرحة عادلة، تشرِّح جسدي وتعرف الأسباب الحقيقة لهذا التسمم الغذائي، وأرجو محاكمة المسئولين الكبار عن مشروعات التنمية والإصلاح الاقتصادي، التي أدت إلى مزيد من الفقر والجهل والمرض.

سمعت صوتي يصرخ وأنا في الفراش، لازم النَّاس دي تتحاكم محاكمة علنية عشان النَّاس تعرف. رأيت حولي ثلاثة من الأطباء، شخَّصوا الحالة تسممًا غذائيًّا، أخذت العلاج ثم تماثلت للشفاء بعد أن فقدت شهيتي لجميع أنواع الفاكهة في مصر.

أجلس في الشرفة العالية، أُطل على أسطح البيوت القديمة الآيلة للسقوط، جسمي لا يزال ضعيفًا بعد النقاهة من المرض، أشعر بالدوار كلما حرَّكت رأسي، كأنما سأفقد الوعي. فكرة الموت تلوح قريبة مني، أتذكر أمي حين ماتت ويدها في يدي، أكاد أحس يدها تمسك يدي، رغم مرور أكثر من أربعين عامًا على موتها، وجه أبي يلوح أمامي كأنما مات بالأمس، كنت في أول الشَّباب أتفتح كالزهرة المغلقة الأوراق، لا أعرف شيئًا عن جرائم الإله المتنكر في زي فرعون، لا أحد يحاسب الإله، يعيش ويموت ملفوفًا بالعلم المقدس، ويُساق إلى المقصلة كبش فداء من عامة الشَّعب، يطلقون عليه اسم الشَّيْطان. رجل فقير نطق الحقيقة دون أن يدري، أو فتاة صغيرة غريرة حملت سفاحًا ولم تعرف من الذي اغتصبها في ظلمة الليل، ربما هو الإله ذاته المتنكر في ثوب رب العائلة الكبيرة أو الصغيرة، تسقط عنه الجريمة بحكم القوة أو القدسية، تُساق الفتاة إلى الموت أو إلى الزَّواج ممن اغتصبها؛ حماية لشرف العائلة.

تغيرت الأشياء عبر أربعين عامًا، تضامنت النِّساء المقهورات تحت اسم الشرف مع الرِّجَال المقهورين تحت اسم الفقر. بدأ الترابط بين القهر الجنسي والقهر الاقتصادي، أخطر ما يهدد النظام الحاكم هو هذا الترابط، بين الجنس والاقتصاد. منذ نشوء العبودية حتى اليوم، كيف يغتصب الإله الفتاة العذراء في الظلمة وكيف يسرق قوت الفقراء من الشَّعب، كيف ينجو من العقاب تحت اسم السيادة أو القدسية، ربما يحاكَم بعد الموت، ربما ينقلب عليه بعد الموت أحد أعوانه ويكشف جرائمه تحت اسم «عودة الوعي».

قبل أربعين عامًا كنت في ربيع الشَّباب، اليوم أنا في مكان آخر وزمان آخر، أشعر بشيء من الوهن بعد النقاهة من التسمم الغذائي، أشعر بشيء من التفاؤل كلما زاد الترابط بين المقتولين تحت اسم التنمية والإصلاح الاقتصادي. رغم المحاولات لضرب التَّضامن بين هؤلاء وهؤلاء فإن المقهورات والمقهورين لا يكفُّون عن التمرد والثورة والاستمرار في الكفاح ضد النظام الحاكم وأعوانهم من النُّخبة المثقفة.

يحدث هذا في مصر وفي بلاد العالم الأخرى، تتكرر المظاهرات الشَّعبية في عواصم الغرب والشرق، والشمال والجنوب، ضد الآلهة في واشنطن ولندن وباريس ودمشق والرياض والقاهرة والخرطوم وبغداد وتونس والرباط وموسكو وطوكيو وبكين وغيرها وغيرها، يتجمع الآلهة في اجتماعات القمة هنا وهناك تحت اسم العولمة والدِّيموقراطيَّة وحقوق الإنسان وحقوق النِّساء، ويتجمع الشياطين المقهورون والمقهورات في مظاهرات في الشوارع تحت اسم العولمة من أسفل، يضربون الآلهة بالحجارة والطوب والزلط، يرد الآلهة بالقنابل النووية والمسيلة للدموع.

قرأنا عن المظاهرات في سياتل في خريف ١٩٩٩، ومظاهرات أخرى تتكرر، آخرها المظاهرات في جنوب فرنسا في أول يوليو ٢٠٠٠، تجمَّع الرِّجَال والنِّساء والشَّباب والأطفال وضربوا معاقل الآلهة، منهم «ماكدونالد» الإله القوي الذي يلد نفسه في جميع بلاد العالم، و«سينسبري» الإله الجديد المنافس للآلهة القدامى، وفي شارعنا الذي يسمونه شارع معهد ناصر فتح «سينسبري» محلًّا ضخمًا، أطلق عليه اسم «سينسبري أغاخان»، ليست منطقة أغاخان الثرية المجاورة لنا، ولكن منطقة حي شبرا القديم الفقير. جاء هذا السوبر ماركت البريطاني الجديد ليضرب محلات البقالة الصغيرة والمنتجات المحلية المصرية، وليملأ شارعنا بالصناديق الفارغة والقمامة والذباب دون أن تحاسبه وزارة البيئة المصرية، رغم أنها تحاسب المحلات المصرية الفقيرة حسابًا عسيرًا، وقد تأمر بإغلاقها إن لم تتخلص من قُمامتها أو ما يسمونها النُّفايات. حاولنا أنا وشريف مع سكان الحي الفقير أن نعترض على النفايات المتراكمة في شارعنا، التي يلقي بها السوبر ماركت اللامع البلاط «سينسبري» إلى عرض الشَّارع الذي نعيش فيه، ذهبت محاولاتنا حتى اليوم عرض الرياح، لم يتحرك مسئول واحد في الحكومة المصرية لحماية حي شبرا الفقير من نُفايات الإله البريطاني الجديد.

يدور الصِّراع غير المتكافئ بين الآلهة الكبار القليلين المالكين للإعلام والسلاح والمال، وبين الملايين من الشعوب الفقيرة المعدَمة من النِّساء والرِّجَال، يلعب الإعلام دورًا أمضَى من السلاح العسكري. بالأمس قرأت في بعض الصُّحف المصرية تشويهًا للمظاهرات الشَّعبية الأخيرة في جنوب فرنسا، كتب أحد رؤساء تحرير صحيفة حكومية يقول في ١ يوليو ٢٠٠٠ التالي: شهدت فرنسا مظاهرات شعبية مؤيدة للشذوذ الجنسي ضمن الْهُتافات ضد العولمة، تحولت هذه المظاهرات إلى ما يشبه الظاهرة العالمية لتشجيع الشذوذ الجنسي تحت اسم محاربة العولمة والشَّرعية الدولية، وقد قطع الرِّجَال والنِّساء في الغرب شوطًا كبيرًا في قبول الشذوذ الجنسي كأنما هو شيء طبيعي، مع أنه انحراف أخلاقي خطير، وقد شارك في هذه المظاهرات مِئات الألوف من الشَّعب الفرنسي تتقدم صفوفَهم الأحزابُ السِّياسيَّة المختلفة ومنظمات حقوق الإنسان؛ فهل يمكن لنا أن نؤيد مثل هذه المظاهرات المنتشرة في الغرب اليوم؟! نحن بلاد شرقية لنا خصوصية دينية وقيم نابعة من تراثنا وثقافتنا وهويتنا الأصليَّة، ولا نقبل أن ننساق وراء هذه الإباحيَّة والشُّذوذ الجنسي الخطير!

هكذا تم الربط بين المظاهرات الشَّعبية ضد العولمة وضد كافة أشكال القهر الاقتصادية والجنسية إلى مجرد مظاهرات ضد القيم والأخلاق والخصوصية والهوية.

جسدي ينتفض بالغضب وأنا أقرأ الصُّحف، أكتشف الزيف بحكم خبرتي ومشاركتي في بعض هذه المظاهرات الشَّعبية العالمية، التي كسرت الحواجز بين النَّاس، حواجز الدين أو الجنس أو الجنسية أو العِرْق أو اللون أو المهنة أو غيرها. كنت أجد نفسي بين آلاف البشر بصرف النظر عن اختلافاتنا نهتف معًا ضد هؤلاء القلة من الآلهة الذين يتربعون على العروش في جميع البلاد، وأسمع صوت شريف يقول: هذا الغضب يا نوال مُضِرٌّ بصحتك، وأنتِ لا زلتِ في دور النقاهة بعد هذا التسمم الغذائي، علينا أن نحافظَ على صحتنا. وأقول له: معك حق يا شريف، لكن كيف لا أغضب وأنا أقرأ هذا التزييف اليومي تحت اسم الهوية والخصوصية واحترام الاختلافات الثقافية، يشجعون الخصخصة وضرب الاقتصاد المحلي، وتحت اسم العولمة من أعلى يضربون العولمة من أسفل.

كان معنا تلك الليلة صديق قديم لشريف، اسمه عادل أمين، وهو محام معروف، تولى الدفاع عني حين دخلت السِّجن عام ١٩٨١، جاء في زيارة لنا تلك الليلة يحمل زجاجة نبيذ وكتابًا جديدًا سجل فيه وقائع محاكمة الشيوعيين عام ١٩٥٣، ضحك عادل أمين وهو يجلس معنا في الشرفة العالية، يرشف من كأسه على مهل، وقال: لا بد لنا من نبيذ عمر الخيام يا دكتور شريف حتى نتذكر هذه المحاكمات منذ سبعة وأربعين عامًا، وفي هذا الجزء من كتابي نقلت أقوالك في التحقيق عام ١٩٥٣، وأقوال الدُّكتور إسماعيل صبري عبد الله وغيره من قيادات الشيوعيين، وسوف تكتشف الفرق الكبير بين أقوالك في التحقيق وأقوالهم، وأنت يا شريف إنسان صادق مستعد أن تدفع حياتك لتعبر عن رأيك، وهذا واضح في التحقيق معك، لكن بعض زملائك الشيوعيين لم يكونوا كذلك، لقد دخلوا السِّياسة لأهداف أخرى مثل الحصول على منصب وزير أو رئيس وزراء أو جوائز الدَّوْلة، وأنت لم تحصل على شيء من هذا، لكنك حظيت باحترام الجميع وأنا منهم.

تركت شريف وعادل أمين يتبادلان الذكريات عن التحقيقات، أخذت الكتاب إلى غرفتي لأقرأ ماذا قال شريف حتاتة في ذلك التحقيق عام ١٩٥٣، ذلك العام كنت طالبة بكلية الطب، أعاني ما يعانيه أحمد حلمي والفدائيون الذين شاركوا في حرب القنال عام ١٩٥١، أصبحوا كبش الفداء بين صفقة الحكومة المصرية والاحتلال البريطاني، مات بعضهم على أرض المعركة، مات بعضهم في المنفى في الخارج أو في الداخل، من عاش منهم أصابه المرض النفسي أو الإدمان من أجل النسيان، حتى اليوم لم يؤرِّخ أحد لهذه الفترة من حياة مصر، سقطت أسماء هؤلاء الفدائيين الشهداء في العدم.

تحت اللمبة الكهربية في غرفتي فتحت كتاب عادل أمين وقرأت أقوال شريف حتاتة في التحقيق:

ذكر شريف أنه قُبض عليه في ٣ نوفمبر ١٩٥٣ الساعة الرابعة صباحًا، وأُودع السِّجن الحربي، وتم التحقيق معه يوم ٥ نوفمبر ١٩٥٣، وقيل له إنه مقبوض عليه بأمر من مجلس قيادة الثورة، وعومل بطريقة غريبة، السِّجن الانفرادي المطلق لمدة أربعة شهور محرومًا من كل شيء، صحف أو كتب أو الاتصال بعائلته أو بمحامٍ، وضُرب عدة مرات ضربًا مُبَرِّحًا، وكُبل بالحديد الخلفي والحديد في الأرجل، وهدده ضابط المخابرات أحمد محمود بالشنق، وبالاعتداء الجنسي، والانتقام من أفراد عائلته إن لم يُدْلِ بالأقوال التي يريدها، كما هدده عدة مرات بالاعتداء عليه وشنقه داخل زنزانته. لم يصدر أمر من النيابة العامة بحبس شريف حتاتة إلا في ١٥ مارس ١٩٥٤، ونُقل إلى سجن مصر بأمر حبس عسكري، مطلوبًا تقديمه لمحكمة الثورة وإعدامه مع بعض زملائه، لولا أن هذه المؤامرة أُحبطت. كان التحقيق يجري في ظل الأحكام العرفية. وقال شريف في التحقيق: إن الشَّعب المصري يريد الكفاح المسلح في القنال لطرد الاحتلال، وإن النيابة مشترِكة في الجريمة ضده، وإنه يحتجُّ على هذا الإرهاب. وأضاف أن التعذيب أدى إلى إصابة زميله كمال عبد الحليم باختلال في قواه العقلية، وعولج بالصدمات الكهربية في المستشفى العسكري، ومَرِضَ الآخرون بحالات عصبية وجسمية يحملونها معهم بقية العمر.

وتم مع شريف حتاتة ضبط مطبوعات كالآتي: ست نسخ من نشرة صوت الفلاحين، ست عشرة صفحة مكتوبة بالآلة الكاتبة ومطبوعة بالرونيو في شكل كتيِّب صغير، الصفحة الأولى منها عبارة مأثورة عن فردريك إنجلز تقول: «بغير نظرية ثورية لا يمكن أن توجد حركة ثورية»، وفي الختام عبارة تقول: «رجال الحكم في مصر يتعاونون مع الاستعمار لا يستطيعون مواجهة الشَّعب إلا بالدبابات والمشانق ومحاكم الثورة»، ثم هذه العبارة الأخيرة: «تسقط جمهورية الدكتاتورية العسكرية وتحيا الجمهورية الشَّعبية الدِّيموقراطيَّة.» وقد حُكم على شريف حتاتة بعشرة أعوام سجن مع الأشغال الشاقَّة، أدَّاها بالكامل داخلَ سجون مصر، لم يُطلق سراحه إلا عام ١٩٦٣، وظل تحت المراقبة عدة سنين بعد ذلك، حتى غادر مصر عام ١٩٧٣، ثم عاد إلى الوطن عام ١٩٨٠.

وفي عام ١٩٨١ دخلت أنا السِّجن وبقي شريف خارجَه، وعشنا المطاردة عدة سنوات حتى ١٩٨٨، حين دخل اسمي قائمة الموت. وفي عام ١٩٩١ وجهت إلينا الحكومة ضربة كبيرة بسبب وقوفنا ضد حرب الخليج. وفي عام ١٩٩٢ كان لا بد من السَّفر خارج الوطن حمايةً لأرواحنا، ثم عدنا إلى الوطن بعد ستة أعوام في المنفى، وها نحن نعيش المنفى داخل الوطن، في تلك الشقة الصغيرة، تكاد تشبه العُلبة من الأسمنت المعلقة بين السماء والأرض في الدور السادس والعشرين في حي شبرا القديم، لولا هذه الشرفة العالية المطلة على النيل والفضاء الواسع، لولا انهماكنا في الكتابة الإبداعية، ولولا زيارات الأصدقاء القدامى والصديقات الجديدات من الشابات والشَّباب … ربما أصابنا الاختناق أو الموت بالذبحة الصدرية أو التسمم الغذائي.

في هذه الشرفة نجلس في الليل، شبورة سوداء ترقد تحتها مدينة القاهرة، المآذن وقباب الكنائس تغرق في الخِضَمِّ الأسود على حد سواء، أصوات صاخبة ترتفع من خلال مكبرات الصوت، تراتيل دينية بصوت ذكوري خشن، وتراتيل غنائية بأصوات المطربات وراقصات يطرقعن بالصاجات، رائحة الهامبرجر الأمريكي تتصاعد من قُمامة سينسبري البريطاني فوق الشَّاشة، وفي الإذاعات تتكرر الصورة الواحدة والصوت الواحد للحاكم الإله، من حوله رجال ونساء البلاط.

قلبي ينوء بالحزن على هذا الوطن، ستون مليونًا من البشر يعيش نصفهم تحت خط الفقر، أغلبهم نساء معذبات داخل البيوت، يعانين إلى جانب الفقر الاغتصاب الجنسي داخلَ الزَّواج أو خارجَه، يقهرهن رجال العائلة بمثل ما يقهرهن رجال الدَّوْلة.

منذ ولدت في بداية الثلاثينيات وأنا غاضبة ثائرة ضد هذا الظلم منذ الطفولة أحلم بعالم آخر، أبحث عن شيء لا أعرف ماذا أسميه، تعجِز اللغة الطبقية الأبوية عن التعبير عنه، ليس هو الحب الذي يتغنى به هذا العالم المزدوج الوجه، وليس هو الإله الذي يعبده الرِّجَال ويضعهم في درجة أعلى من النِّساء.

شيء أبحث عنه لا أجده في هذا الكون، قد يجذبني البريق في عيني الإنسان أو الإنسانية، أنتبه كالعشب الحساس العاري، أبحث تحت البريق عن الشيء العميق، أنخدع وأخدع نفسي المرة وراء المرة، ثم أُفيق بعد عام أو عامين أو عشرين عامًا، أكتشف جزءًا من الحقيقة التي تتخفى مثل جبل الثلج، يتراكم الحزن في قلبي العامَ وراءَ العام، لا شيء إلا الحزن حين أواجه الحقيقة في هذا العالم.

مفتوحة العينين أحملق في وجه الموت، أحملق في وجه الزيف، في وجه فرعون الإله حاكم البلاد، أثبت عيني وهو جالس فوق المنصة العالية، أشير إليه بإصبعي وأقول له: أنت أول من يحاسب عن الظلم والفساد والفقر في هذا البلد وليس نائبك أو مندوبك؛ لأنك الوحيد الذي تقبض في يدك على السلطة المطلقة، ومن يملك السلطة هو المسئول.

لكنهم يفصلون بين السلطة والمسئولية، كلما ازدادت السلطة اكتسب الحاكم حصانة أكبر، مثل الإله يصبح مسئولًا عن الخير فقط، أما الشر فهناك كبش الفداء أو الضحية، يسمونه الشَّيْطان أو حواء الآثمة، أي النِّساء الفقيرات المغتصبات جسديًّا واقتصاديًّا تحت سطوة القيم الطبقية الأبوية.

في المرآة أرى سحابة الحزن تكاد تُخفي البريق القديم في عيني، أجلس في الشُّرفة العالية أُطل على المدينة، القاهرة لأهلها المقهورة بحكامها، أقاوم الحزن بالكتابة، أحب ملمس القلم بين أصابعي، الأوراق متراكمة فوق مكتبي بخط يدي، تُطل من داخل الغِلاف البرتقالي مكتوب عليه: أوراقي حياتي، الجزء الثالث. مفكرتي الصغيرة غِلافها أزرق تشبه الكشكول في طفولتي عام ١٩٤٢، مكتوب عليها ٢٠٠٠. ثمانية وأربعون عامًا مضت منذ بدأت أكتب في مفكرتي السرية، لم يعد عندي أسرار، كتبتها كلها ونشرتها على النَّاس، تحولت من ذكريات مكبوتة تبعث على الخزي والعار إلى قيمة علمية وأدبية يدرسها الطلاب والطالبات في جامعات العالم، ما عدا الجامعة المصرية.

هناك مَثَل شائع يقول: «لا كرامة لنبي وسط أهله.» أحيانًا أُدرك أن الحظ يحالفني؛ لأنني أعيش ولم يغتلني أحد بعد، أفرد ذراعي عن آخرهما وآخذ شهيقًا عميقًا، أشعر بحرية الخروج من دائرة المألوف، أتذكر أبي منذ اثنين وأربعين عامًا حين ترك الحكومة المصرية، فرد ذراعيه عن آخرهما وقال: أخيرًا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين عامًا عشتها رهين المحبسين، الوظيفة الحكومية وسرير الزَّوجية!

ضحك شريف وقال: أبي أيضًا مثل أبيك تحرر من الحكومة بعد الإحالة إلى المعاش. لكنه تحرر من سرير الزَّوجية قبل ذلك يا شريف كان أبي مخلصًا لأمي، لم يكن يفصل بين الإخلاص للزوجة والإخلاص للوطن. قال شريف: أنتِ مثالية يا نوال، كل شيء نسبي في الحياة، لا يوجد إخلاص مِائة في الْمِائة. قلت: كم تستخدم نظرية النسبية يا شريف لتبرير كثير من الموبقات في العالم! ضحك شريف وقال: وكم من موبقات أكثر تحدث تحتَ اسم المثالية والمطلق.

يدور الحوار بيني وبين شريف ونحن جالسان في الشرفة، ستة وثلاثون عامًا منذ تزوجنا ونحن في حوار دائم، نُطل من الشرفة العالية على القاهرة من أهرامات الجيزة إلى جبل المقطم والقلعة، مساحات من الأسمنت بلا شجرة خضراء أو حديقة للأطفال، قطعوا الأشجار وزحفت الجدران على الزرع، جدران سوداء بلا نوافذ، أو نوافذ كالشقوق داخل الشقق، كالعُلب المستوردة، يحفظون فيها الفاصوليا وحبوب الصويا، داخل كل علبة تكدست الأجسام، الجد والجدة والأب والأم والأولاد والبنات والأحفاد والحفيدات، والأعمام والأخوال والخالات والعمات وأولادهم وبناتهم، يرقد اللحم إلى جوار اللحم في غرفة واحدة، يدس الواحد منهم إصبعه في عين الآخر دون أن يراه، يدخل قضيب أحدهم في ثقب مظلم داخل الجدار أو داخل اللحم، لا يُعرف في الظلمة الجدار من الجسد. لا شيء يتحرك في النَّوم إلا الأشباح وأرواح الجان، ورد ذكرهم في كتاب الله، كلهم يؤمنون بالكتاب وبالأرواح الخفية، ينامون دون أن يتكلم أحد في النَّوم، في النهار يسيرون بعيون نصف مغمضة، لا أحد ينطق بشيء مما يدور في عقله، إنهم يعيشون تحت حكم قانون الطوارئ يشبه قانون الأحكام العرفية، إن نطق أحدهم بما يدور في رأسه أخذوه إلى السِّجن دون تحقيق. بالأمس وافق مجلس الشَّعب على مد العمل بقانون الطوارئ ثلاثة أعوام أخرى حتى عام ٢٠٠٣، وبعدها لا أحد يعرف الغيب إلا الله والسَّيِّد الرَّئيس.

بالأمس اعترض مجلس الشَّعب على حق المرأة في السفر دون إذن زوجها، قلت لابنتي: أنتِ أكثر حرية من أمك لأنك غير متزوجة. قالت ابنتي: ولماذا تزوجتِ يا أمي؟ قلت: لم يكن ممكنًا أن أُنجب أطفالًا منذ أربعين عامًا دون زواج، أنا لا أومن بورق الزَّواج أو شهادة الطب أو الأدب أو شهادة الميلاد أو الوفاة، لكني تزوجت بعقد مكتوب ليكتسب أطفالي الشَّرعية، لكن اليوم لم يعد عقد الزَّواج الرسمي صالحًا، لم تعد النِّساء خاضعات مكسورات، أغلب الشَّابات المثقَّفات يرفضن الزَّواج الرَّسمي، بدأت أنواع أخرى من الزَّواج غير الرَّسمي تنتشر مثل الزَّواج العرفي وزواج المسيار، وزواج الدم، وكلها تتحدى الزَّواج الرسمي المختوم بالنسر.

في هذه الشرفة في الدور السادس والعشرين يدور الحوار بين أجيال مختلفة من الشَّباب والشابات، من عمر ابنتي، وعمر ابني، أرمقهم بإعجاب … عيونهم لم تعد منكسرة، رءوسهم لم تعد مُطْرِقة إلى الأرض، عيونهم لم تعد نصف مُغْمَضة، يتحاورون ويعبرون عما يدور في عقولهم دون خوف.

وقال شريف: سيكون المستقبل أفضل من الحاضر يا نوال! قلت: لكننا لن نكون هنا يا شريف. قال: لا يهم أن نكون هنا بأجسامنا لكن أفكارنا ستكون موجودة في الكتب.

وأسأل بدهشة: أيكون الورق أطول عمرًا من البشر؟! ألهذا لجأ الآلهة أيضًا إلى الكتب من أجل البقاء؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤