تنسيقات

قال القديس إيرونيموس عن قانون الإيمان: ينبغي لنا أن نحرر قانون إيماننا لا في قرطاس بل في صفحات قلوبنا. ولهذا أراني مضطرًّا إلى تجديد النذر، فأقر وأعترف بأنني كنت أول من ترجى عهد الاستقلال وأول من آمن به، وسأكون آخر من يموت ولا يرتدُّ، ولكن هذا لا يحول دون الشكوى، وطلب الإصلاح. فعلى «الربان» أن يكون متيقظًا.

إن الربان هو أول من يحس بالخطر فلا تذوق عينه النوم، أما «الركاب» فقد ينامون على سكين ظهورهم، ولا يسهرون ساعة واحدة، فاللهم قوِّ رباننا وشدده.

إن بناء بيت عظيم أمر ممكن هين، أما تأثيثه ففيه مشقة. قد يستحسن «الخواجا» هذا الطراز أو ذاك القماش، وأما «الست» فقد تعارض فيبقى البيت غير مكسو … نقول هذا بمناسبة التنسيقات التي يلغو بها الناس. وأغرب ما قرأت — حول هذا الموضوع — هو أنه طُلب من موظفي بعض الدوائر أن يكونوا جميعًا في مراكزهم، وعلى كراسيهم — إن كان لهم كراسي — ليتعرف عليهم المنسقون، وينظرون فيمن يستغنى عنه منهم.

عجبًا! المعَّاز يعرف قطيعه مهما كثر، إنه يعرف الملحاء والسكاء والبرشاء والبلقاء حتى التي لا علامة فارقة في تذكرة هويتها … إنه يعرف أخلاق ذاك الفحل وهذاك التني، ولا يخفى عليه أمر تيس ما، فكيف لا يعرف الرؤساء مرءوسيهم؟! اللهم وطِّد إيماننا، وكن في عون الرئيس، فهو من هذا في بلاء وجهد عظيمين.

وهب أننا عرفنا من يستغنى عنه وعن خدماته الجليلة! أبسهولة يستطاع قلع هذه الأضراس المسوسة التي سمَّت جسم الدولة؟

إن كثيرًا من الموظفين كالتوتياء البحرية شوك كثير ومحٌّ قليل … ما أشبه موظفي الدوائر المراد تنسيقها — بكبكاب الشوك — في الفصحى: شيهم، درَّام، حسيكة، مدجج، دلدل؛ نقِّ ما يعجبك، وترحم على الشدياق.

كلما حاولت لمس كبكاب الشوك انطوى على ذاته وصار كبكبَّة الغزل، مخفيًا عنك مقاتله، إن مسسته شوَّكك، وإن تركته سعى ورعى … فكلما مسَّ موظف — ولو صغيرًا — نعص من ورائه عشرون نائبًا، وخمسون متزعمًا من رجال دين ودنيا، وهنا جهنم البكاء وصريف الأسنان لا جهنم الإنجيل.

إن شفاعة هؤلاء «القديسين» ترد غضب الله عن المبتهلين المصلين، فلا ينسق إلا «الفاترون» الذين هم عن صلاتهم ساهون … والمثل يقول: من ليس له ظهر فهو مقطوع الظهر، فإذا بقي «العهد» على هذا العهد؛ يكون كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

بلى، سيبقى الأميون وأنصاف المتعلمين على الكراسي الرفيعة، أما أصحاب الكفاءات وذوو الشهادات المثقفون فعليهم أن ينتظروا، عليهم أن يظلوا «مهندسي شوارع» إلى أن يبلغ وارثو كل «العهود» الخمسة والستين … وبعد الستين تصحح تذاكر وتصح أبدان وجيوب، هكذا يتم فينا قول دعبل:

بنات «زياد» في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوات
١٦  /  ٧  /  ٤٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤