ألقاب

صرنا نخاف أن نخاطب الناس بيا سيد لئلا يغضبوا. فكل مرقعان يريد أن يكون أستاذًا، وكل من قعد على كرسي يصبح بيكًا، وإذا علت مرتبته وكثر ماله ركبوا له طرطورًا، وجلاجل من الألقاب لا حد لها ولا طرف.

كان الشعب يقول لأميره «سعادتك» لأنه كان سعيدًا ومسعدًا، يأكل ويُطعم. كان رغيفه في متناول الجميع، البيت مفتوح والمعجن مشاع للأتباع يستبيحونه متى شاءوا، أما سعادة هذه الأيام فتحيِّرني، فكيف تكون سعادة والموائد حصون لا تؤخذ، ودون الرغيف قلع الضرس؟

من طريف حكايات عشق الألقاب عندنا ما روي عن أحد المشايخ، صار «جناب» أحدهم معلمًا فخلع عنه حلَّاقه لقب الشيخ وصار يخاطبه بيا معلم؛ إما تقديرًا لعلمه، وإما ظنًّا منه أن يرضيه أكثر. ولكن شيخنا العزيز كان يسمع كلمة يا معلم ويسبُّ في قلبه ديك التعليم الذي أسقط عنه المشيخة.
figure

– أهلًا بالمعلم حنا، قالها الحلاق وهو منكب على حلق ذقن كبير المشايخ «الشيخ رشيد الخازن»، فاقترب المعلم الشيخ من الحلاق وقال له: تهذَّب، تاني مرة قل يا شيخ حنا. فضحك الشيخ رشيد، وقال له: لا تؤاخذه يا عمي، حنا، مسكين، حسبك المعلم عبد الله البستاني.

إن كلمة المعلم التي أطلقت على أرسطو وسواه سقطت اليوم من عين الناس، فكل من يقرأ ويكتب هو أستاذ، وكل موظف، وكل آخر الأسماء الخمسة بيك وصاحب سعادة، وهكذا طما الخطب حتى نابت كلمة أستاذ وبيك عن كلمة «حبُّوب» التي راجت مدة …

قعدت مرة أمسح بوطي — الحذاء — في الدكان المختص، فانغمست في مطالعة صحيفة، ولم أفق من سهوتي إلا على كلمة: يا أستاذ. فأجبت فورًا: نعم، فقال لي ماسح الحذاء: لا غنى عنك، أقصد شريكي.

أخجلني، وحق من لا شريك له، ولعنت كل نكرة مقصودة بياء النداء، وأخذت حذري من تلك الساعة فصرت لا أرد على من لا يسميني قبل أن أتثبت.

لست أدري من أين غمرنا هذا الطوفان من الألقاب حتى أغرق جميع طبقاتنا، فإذا لم «تبيَّك» و«تُسعِّد» من لك عنده مصلحة قطَّب وعبس وأجلك إلى أن يحسن الله تأديبك، وكيف نعمل ونحن لا نعرف البيك من السكيك!

عندما عين جلالة السلطان داود باشا أول متصرفي جبل لبنان عرف الشعب في الفرمان الشاهاني أن مراحمه السلطانية اختصت لبنان بالرجل الجدير «الحائز والحامل نيشان مجيدتي الهمايوني الرابع» كذا.

ولما شاخت السلطنة والمتصرفية صار المجيدي الرابع مبتذلًا مثل «جناب الأجل الأمجد» بل قل مثل كلمة «الكبير» اليوم. أما شاركنا جميعنا ذا القرنين وقسطنطين وغيرهما في هذا اللقب: الأستاذ الكبير، والشاعر الكبير، والأديب الكبير، والمثري الكبير، إلخ، فكلنا: كبير في كبير في كبير.

قال واحد للسيد المسيح: أيها المعلم الصالح، فأجابه يسوع: لماذا تدعوني الصالح وليس الصالح إلا الله؟ أما نحن فنقبل كل ما يكال لنا بالمد من نعوت وألقاب، حتى إن بعضنا يستجديها ويفرضها علينا فرضًا. فإذا قرعت بابًا وسألت الخادمة قائلًا: الأفندي أو السيد، أو الخواجا بالبيت؟ تجيبك حضرتها كما علموها: لا، البيك بالسوق …

الله الله! كيف بطل عندنا الميزان، حتى صارت الألقاب من مال القبَّان …

٢  /  ٢  /  ٥١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤