يساق

إذا كان الانتظار يضيق الصدر في العراء فكيف به متى كان في غرفة لا تتجاوز خمسة أذرع طولًا في أربعة عرضًا، حركة بلا بركة، ياور يروح ويجيء تطربه خشخشة مهمازيه، وصلصلة سيفه؟!

كان يطل عليَّ كل ربع ساعة ليرى كيف أنا ومفتاح الفرج، فأبتسم حين يظهر، فتموج البشاشة تحت جلدة وجهه السمراء ولا تجرؤ على الظهور، أما فمه فما كان يمثل لي أكثر من شقِّ التينة، وغاب ثم آب فما شعرت إلا أني قلت له: من عند أفندينا؟ فحملق أولًا ثم ثاب إلى حاله وأجاب: عنده … عنده … ثم عبس وتولى.

فأثبت في مستنقع الصبر أرجلي
وقلت لها من تحت أخمصك الحشر
وبينا أنا في حيرة الواقف عند مفرق الطرق لا يعرف أيتها يسلك، إذا بصوت عريض يملأ الرواق. واقترب فسمعت تلك الشخرة والنخرة، فقلت: هذا صوت البيك، إن صدق الظن، نعم هذا هو، أهلًا بسعادة البيك!
figure

وقعد سعادته وقال وهو يلهث: الدرج حرق ديك أنفاسي، فقلت: يا بارك الله عظامك حاملة فوق قدرتها.

وجاء القولاغاسي مسلِّمًا، فأشار البيك بيده نحو قاعة المتصرف مستفهمًا، فأجاب سعيد بك: يساق. وضحكا حتى انفلقا، أما أنا فضحكت على الريحة.

ولملمت موجة المرح أذيالها فقال لي البيك: رأيتك ضحكت معنا كأنك تعرف الحكاية. فأجبته: لا. قال: إذن سماع. ثم انشق فمه كعادته ساعة يقبل على القصِّ، قال: يظهر أن عند الباشا واحدة حلوة فاسمع حكاية يساق كما سمعتها أنا في سطمبول.

دخلت على وزير الحربية في ديوانه أرملة أحد قواد الترك في حرب اليونان، ومعها صبي يدرج، فقال الوزير للحاجب: يساق، وأغلق الباب.

وأخذ أصحاب المصالح يتوافدون فما فازوا بغير كلمة يساق. وخلا للوزير الجو فراح يبيض ويصفر، كقبَّرة كليب، وراح الصبي يسرح ويمرح في الديوان. أعجبته أزرار النواقيس فراح يكبس عليها متنقلًا من هذا إلى ذاك، وما درى الغر أنه يدعو الناس إلى حضور الرواية …

جاء مدير ديوان الوزارة، ثم جاء الوكيل، ثم جاء وجاء الرؤساء وتكاثروا على الحاجب ولكنه ظل يقول: يساق.

وأخيرًا أقبل أركان الحرب، وهم يحسبون أن ساعة النفير العام قد دنت، ولكنهم صعقوا حين رفس الباب ورأوا أنفسهم أمام صبي يلاعب الأزرار، ووزير يداعب ذات الإزار … أما أصحاب المصالح ففي الانتظار! وقد قال الشاعر:

ليس الشفيع الذي يأتيك متَّزرًا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانًا
٨  /  ٦  /  ٥١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤