راهب الفكر

كان — في عباءته وقلنسوته — يشبه حقًّا الراهب، هكذا كان يرتدي وهو في بيته، ولعلَّ هذا المظهر كان يتفق مع لون حياته، تلك الحياة الهادئة بين الكتب والورق، الراكدة كمداد المحبرة! ما كان لديه قطُّ شيء يجري، حتى ولا أيامه، فهي، لتشابهها، تبدو كأنها واقفة لا تسير، أو أنها تجمَّعت كلها واندمجت فصارت يومًا لا يزول! ومع ذلك، فقد كان هناك سيلٌ متدفقٌ يجري عنه بغير انقطاعٍ في غمرة الناس، ولكنه كان يلقي إليهم دائمًا بفكره، يسعى بينهم ويؤثِّر في نفوسهم. كان شأنه شأن ذلك الجالس على الشط، يُلقي الفتات إلى السمك، وينظر إليها تجتمع عليه وتفترق … ولقد كان لكتاباته وقعٌ، ولآرائه صدًى.

وقد أحسَّ تبعة تأثيره في الناس؛ فأخذ عمله مأخذَ الجِدِّ، ولم يشأ أن يخادع الناس فيقول ما لا يعمل. إنه كان يؤمن بأن واجبَ رجل الفكر والقلم أن يُدخِل على البشر الإيمان بأن في إمكانهم أن يَسموا على أنفسهم، وأن هذا الواجب يفرض عليه أن يعيش هو حياة سامية لا مطعنَ فيها ولا غبار عليها.

لقد كان دائمًا يزدري أولئك الذين ينشرون على الناس أدبًا رفيعًا وجمالًا بديعًا، ثم يعيشون حياة كلها ضَعة وخسَّة وقبح … الكاتب الحق في نظره هو مَثل يُحتذى في باطنه وظاهره، وإن لم يكن كذلك فهو إذن مهرجٌ، يلبس للناس على الورق ثيابَ الملوك، فإذا خلا بنفسه خلعها، فبدا في حقارته كأنه شحاذ … كان هذا هو السبب في الْتجائه إلى تلك الحياة الصارمة، لم يكن في بيته أحدٌ معه غير خادم قديم يقوم على خدمته، ويدبر له معاشه، ويقضي له حاجاته. ولم تكن له حوائج كثيرة، فقد كان أقصى ما يطلبه بعد المطالعة والتأمُّل، مجرد الجلوس إلى خزانة كتبه، لا يصنع شيئًا غير تنظيم صفوفها، وترتيب فروعها، ترتيبًا لا تخطئه اليد في الظلام!

لقد كان دائمًا يقرأ في فراشه قبل النوم، وكان يعنُّ له أحيانًا أن يُحضِر من خزانته كتابًا في علمٍ من العلوم أو فنٍّ من الفنون، فما كان يفعل أكثر من أن يمدَّ يده، فيستخرجه من موضعِه دون الحاجة إلى إضاءة المصباح … لقد تدرَّبت أصابع يده على التمييز بين الكتب، فأمست وكأنها تقرأ عنوانها باللمس. وكانت أقدامه تدور به في الحجرة كلما أراد التفكير، فلا تستقر به في مقعدٍ إلا إذا استقر به الفكر على أمرٍ … أما عيناه وأذناه فهي بالضرورة عماده الأول في مهمته … لكأنه جنَّد حواسَّه كلها، وحشدها لخدمة فكره.

لقد كان يلِذ له أن ينفق لحظاته الضائعة في النظر إلى كعوب الكتب المصفوفة، يقرأ أسماء مؤلِّفيها الخالدين واحدًا واحدًا، كأنهم جنود أبطال يستعرضهم بعد النِّزال، فكان لا يملك نفسه من الصياح في القاعة الساكنة: «هؤلاء حرَّكوا العالم، وساروا بالإنسانية … إني أشعر بينهم، وأنا في هذه العزلة والركود، أنَّ كل شيء من حولي حركة دائمة … كل شيء ساكن خلا الفكر … ما الفكر إلا الحركة الكبرى!»

أقرب القول في هذا الرجل أنه كان يُذكِّر بصورة «رجل الأدب» كما وصفه «كارليل»: «نور الدنيا وكاهنها الذي يقودها، كأنه عمود النار المقدس، في جوِّها المظلم خلال هباء الزمن، وفضاء الأحقاب.»

ذلك كان الرجل، وتلك كانت حياته … بسيطة متجردة، إنه لم يكن ينظر إلى ملذات الدنيا إلا على أنها جرعات متقطعة، يطفئ بها ظمأه، وينشِّط بها قواه في صحرائه الجرداء، ولكنها لم تكن غذاءه اليومي ولا شرابه الدائم … لقد كان يشتاق أحيانًا إلى الأكلة الدسمة الفاخرة، ولكن طعامه المعتاد كان شيئًا لا يكاد يقيم الأوَد، ولقد كان يسير فيه على نظامٍ شبه صحي، لا ينحرف عنه إلا إذا دعته الظروف، أو قهرته نفسه التوَّاقة إلى الطيب الطريف من طعام أو شراب، فيتناول الأكلة الشهية تناول الملتذ الذواقة، ثم يجيء اليوم التالي، فإذا هو يعود إلى نظامه القديم الصارم وأكله البسيط ومائه القَراح.

كذلك كان في السهر وما اقترن به من متعٍ! فهو يحرص على النوم في موعده، والاعتكاف في حجرته، ولكن هذا لا يمنعه من أن يشذَّ عن نظامِه ليلة، فيسهر كما يسهر الناس، ويصنع مثل ما يصنعون، ويعرف من ألوان المتع ما يعرفون … ثم يصحو في الغد، فتحدث أعجوبته: وهي نسيانه ما حدث، واعتباره كل ما نعِم به البارحة قطراتٍ لا بد منها بين حين وحين، لمواصلة سيره الحثيث، وأداء واجبه المفروض، فهو لم يكن من أولئك الذين يتهالكون على اللذَّات ويندفعون فيها، ولا يملكون في نفوسهم تلك الأداة، التي توقِف اندفاعهم حيث ينبغي الوقوف.

لعلَّ أكبر قوة عند هذا الرجل هي قوة المقاومة؛ مقاومته لنفسه إذا شرب أحيانًا من كأس الحياة، فإنه كان يعرف بالضبط متى وأين يقف، ويستطيع — بكل عزمٍ — أن يقول لنفسه «كفى». لذلك لم يُشتَهر عنه حب الحياة، ولم يُعرف عنه الانغماس في ضربٍ من ضروب اللهو، بل لم يسمع أحدٌ عن اتصاله بامرأة من النساء بالذات. وكان هو حريصًا على أن يجهل الناس تلك النواحي منه، وأن يعرفوا زهدَه ذلك، وقلة احتفاله بهذه الأشياء … على أن هنالك فائدة كبرى جناها من هذه المزية؛ مزية «مقاومة النفس» كما كان يسميها! إن نظام البساطة الذي أخذ به نفسَه في شئون الدنيا قد حال بينه وبين الترهل والهرم الباكر! ما من أحدٍ يراه إلا قدَّر له سنًّا أقل من سنِّه الحقيقية … لقد كان في وجهه نضارة شاب في الثلاثين، ولولا وَخْط الشيب برأسه لما عرفت الأيام كيف تنال منه! كان شأنه في ذلك شأن كهنة المصريين القدماء الذين وصفهم «بلوتاركس» بقوله: «إنهم كانوا يراعون نظامًا دقيقًا في مأكلهم ومشربهم، لأن القداسة والصحة يسيران في نظرهم جنبًا إلى جنب، فكانوا لا يسرفون في أكل اللحم ولا بعض الخضر، ولا حتى في شرب ماء النيل، لزعمهم أن الإكثار من مائه يسمن، كما يدسم الأرض!»

إن البدانة كانت عندهم من عيوب الكهانة، فهم كانوا حريصين على أن يغلفوا نفوسهم بأجسامٍ نشيطة خفيفة، حتى لا يختنق ما في أرواحهم من جوهرٍ إلهي تحت ثقل المادة الفانية!

ما من كاهن مصري كان بدينًا، وما من كاهن مصري عرف الناس حقيقة عمره، فهم دائمًا نحاف الأجسام، يبدو عليهم الشباب دائمًا، كأن الآلهة قد منحتهم قوة مقاومة الزمن … والحقيقة أنهم ما أُعطوا قوة مقاومة الزمن … بل أُعطوا قوة مقاومة أنفسهم … ومن ظفر بالأخيرة فقد ظفر بالأولى، وهذا ما فهمه «راهب الفكر» وعمل به.

هكذا كان يعيش ذلك الرجل … حياة رحبة في نظره، مضيئة زاخرة بشتى الألوان! ضوءُها لا ينبعث من ثريات المراقص والملاهي والحانات، فقد كانت حياة الليل عنده هي حياة النفس في اتصالها النبيل، بما يقرأ في ساعات السكون، وفي إصغائها الطويل إلى الخواطر والأفكار التي تغمر عالمه الصامت.

أما حياة النهار عنده، فكانت في الصباح، مطالعة الصحف والبريد الوافد عليه من داخل مصر وخارجها، ثم الخروج للسير على الأقدام ساعة في الطرقات، ينظر في واجهات المكتبات، ويعود بعدئذٍ فيجلس إلى مكتبه، وهو يوصي خادمه بإغلاق النوافذ، حتى لا تزعجه زقزقة عصفور من عصافير الكناري التي في قفصٍ لدى الجيران … ثم يكتب الساعات الطوال إلى أن يناديه خادمه للمائدة، مرة ومرتين، وهو مستغرق في عمله لا ينتبه، حتى يثقل عليه الخادم بالإلحاح، ويخرجه — قسرًا — مما هو فيه، فيلقي بالقلم متبرمًا، وينهض متذمرًا، كأنه مسوق إلى حيث يُجلَد لا إلى حيث يطعم.

•••

في ذلك اليوم الذي بدأت فيه هذه القصة، جلس «راهب الفكر» — كعادته في الصباح — إلى بريده، يفضُّ الرسائل الآتية إليه من قرائه، وكانت تلك اللحظة من أمتع اللحظات عنده، فقد كان يلِذ له هذا النحو من الاتصال الفكري بأولئك الذين يكتب لهم، ويكدُّ من أجلهم دون أن يراهم … على أنه قلَّما كان يُعنى بالردِّ على رسالة من تلك الرسائل، لا عن ترفُّعٍ أو تصنُّعٍ؛ بل لأنه كان يعتقد أنه قد قال كل شيء لقارئه في كتبه التي تُطبَع وتُنشَر، وأن رسائل القراء ليست إلا ردهم على ما سبق أن وجَّهه إليهم من صفحات، وضع لهم فيها أثمن ما ادَّخره من عصارة الذهن على مدى الأيام!

على أنه في ذلك الصباح، وقعت في يده رسالة، استوقفت نظره، واسترعت انتباهه … هي رسالة من فتاة تقول: إنها في الثانية والعشرين، وإنها تريد الاشتغال بالأدب، وتسأله — بإصرارٍ — أن يأذن لها في مقابلته، كي تبسط له أمرها، وتتلقَّى رأيه فيه … ولم تذكر اسمها ولا عنوانها، ولكنها قالت: إنها ستخاطبه بالتليفون، لتعلم منه الموعد الذي قد يُضرب للقاء!

عجِب لهذا الخطاب، لأنه لم يكن على غرار الخطابات النسوية التي اعتاد أن يتلقَّاها، فقد كانت فيه نبرة جِدٍّ، وكان أسلوبه موجزًا، ولم يجد تلك الثرثرة التي يلجأ إليها عادة بعض العابثات من النساء والفتيات، وما أكثر رسائلهنَّ إليه. وما أكثر طلبهنَّ له بالتليفون، ذلك الطلب الذي كان يتحاشاه، مكلِّفًا خادمه بالرد عنه، والمبادرة إلى إنهاء كل محادثة لا غرض منها ولا طائل … ولكن هذا الخطاب الجِدِّي شيء آخر.

إن هذه الفتاة سارت إلى غايتها قُدُمًا، وأفصحت عن بُغيتها النبيلة في سطرَين، فكيف يردُّها عن هذا الغرض، أو يصدها عن هذه الغاية؟ إن واجبه يحتِّم عليه لقاءها.

وغرق في مقعده، وجعل يرسم لهذه الفتاة صورًا في رأسه: كيف هي؟ وماذا يمكن أن تكون؟ إنه يعرف المرأة التي تعطي الفكر حياتها … هي ولا شك المرأة التي لم تجد رجلًا تمنحه هذه الحياة! ولكنها في الثانية والعشرين، كما قالت، أي في ريعان الصبا ونضارة الشباب. إذن، لعلها تشعر بأن الطبيعة قد جرَّدتها من ذلك السحر الذي تسيطر به على قلب الرجل … والمرأة إذا جُرِّدت من هذا الرداء الساحر، فليس أمامها إلا أن ترتدي مُسوح الراهبات! ولعلَّ في تلك المُسوح قوة خفية أو روعة أخرى، قد تستخدمها المرأة في طَرق باب الأمل من جديد! على أي حالٍ، لا بأس من مقابلة الفتاة … وانقضى أكثر النهار، وجاء العصر، فدقَّ جرس «التليفون»، فهرع إليه الخادم، ثم أعلن سيده بخبر الفتاة وسؤالها عن الموعد، فأمره بأن يضرب لها موعدًا للزيارة في صباح اليوم التالي.

•••

جاء الغد … وجلس «راهب الفكر» إلى مكتبه، وانحنى على ورقِه وعمله، وإذا الباب يُطرَق، ثم ظهر خادمه بعد قليلٍ، ينبئه بقدوم الفتاة … فأذن له في إدخالها عليه، دون أن يبدي حراكًا، أو يبدو عليه اهتمام، فقد لبث غارقًا في شأنه … إلى أن فطن إلى حفيف ثوب على مقربة منه … رفع رأسه ونظر … وإذا الدَّهش يعقد لسانه … ذلك أن بصرَه لم يكد يقع على الفتاة التي أمامه حتى انقلب كل شيء في رأسه، وفسدت الصور التي نسجتها مخيِّلته في سرعة البرق، فالفتاة التي أمامه جميلة رشيقة أنيقة! إنها من ذلك الطراز الذي يخطر في حلبات السباق في أحدث الأزياء، ناثرًا في الهواء أحدثَ العطور، تاركًا خلفه، في كل خطوة، آلاف النظرات والحسرات والتنهدات! إنها من ذلك الطراز الذي يُرى في المقاصير الأولى من المسارح، ليالي الافتتاح فيلقي الهمس والافتتان في صدور الجماهير!

اضطرب أمرُه، وقال في نفسه: «ليس ها هنا مكان هذه الفتاة»! رأت هي ما به فبادرت بالتحية، وقالت في ابتسامة، وهي تجلس حيث أشار إليها بالجلوس: أريد منك يا أستاذ، أن تصارحني في كل شيء!

فقال لها كالمخاطب لنفسِه، وعينُه ما تزال تفحصها: بل أنا الذي يرجو أن تصارحيني بكل شيء!

فأطرقت قليلًا، وقد أرخت أهدابًا ألقت على خدِّها ظلالًا: إني يا سيدي … أحب الأدب!

فقال على الفور بسخرية بريئة من الاستهزاء: إن الأدب يا سيدتي يتشرف بهذا الحب.

وبدا على وجهه الارتياب فقال: لكن …

– لكن؟

– ماذا تقصدين بالضبط أيتها الآنسة؟ أرجو منك أن تفصحي قليلًا … فإني لم أفهم بعدُ كما ينبغي!

فأطرقت مرة أخرى، وكأنها لا تعرف كيف تبدأ الحديث … ثم رفعت عينيها، وأخذت تتأمَّل المكان الذي يعيش فيه ذلك الأديب، فلم تجد شيئًا باسمًا؛ فلا زهرة متفتحة، ولا أثاث أنيق، ولا حيطان زاهية اللون، ولا ضوء كثير باهر.

فرأى كأن صدرها قد ضاق، وأنها تريد التنفس، وأن شفتَيها القرمزيتين تهتزان، وأنها تكاد تصيح على الرغم منها: أهذا جو الأدب؟!

ولَحِظَها تنظر إلى النافذة وهي عارية، ليس عليها أستارٌ، وأمامها بناء عالٍ يحجب عنها الشمس … فخيِّل إليه أنها تقول له: أيكفيك هذا النور؟!

فأجابها بهدوء: يكفينا دائمًا النور المضيء في نفوسنا!

فلم يبدُ على الفتاة أنها فهمت عنه، فإن سطور وجهها ما زالت تنمُّ عن خيبة الأمل!

على أن الذي أدهشَه هو بقاؤها بعد ذلك!

ما الذي دفعها إلى المجيء؟ وما الذي يربطها إلى هذا المقعد الساعة؟ ونظر إليها مليًّا، ثم قال: إذا صدقت فراستي أيتها الآنسة فأنتِ لم تُخلقي للأدب!

فقالت في غير تحمُّس، وهي تبحث بعينيها — عبثًا — عن مرآة في الحجرة: لِم لا؟

فلم يحرْ جوابًا! ولم يستطع طبعًا أن يذكر لها السبب؛ إنها جميلة … إن الأديب قد يعطي الأدب «حياته»، لكنه لا يعطي الأدب «جماله». وأراد أن يستخرج سرها فقال لها: أي أنواع الأدب تحبِّين؟

فظهر عليها الارتباك، لكنها أسرعت تخفيه بحركة من يدها، فتحت بها حقيبتها الصغيرة، وأخرجت منها مرآتها وإصبع أحمرها، وجعلت تتزين وهي تقول: لست أفضِّل نوعًا على نوع.

فحدَّد إليها النظر، ثم سألها فجأة: لماذا شرَّفتني بالزيارة؟

فأجابت، وهي تنظر في مرآتها الصغيرة: لأني سمعت عنك كثيرًا.

– أقرأتِ لي شيئًا؟

– بالطبع.

– ماذا قرأتِ لي؟

– آه …

وتظاهرت بالنسيان ومحاولة التذكُّر، فلم يُرِدِ المضيَّ في إحراجها، ولَزِم الصمت. وجعلت أصابعه تعبث لحظة برسالتها، وأدرك أن هذه الفتاة تسخر منه، فما أكثر الفتيات المغرورات اللاتي يلذُّ لهنَّ مداعبة الرجال المعتزلين، والهُزء بالنسَّاك، المترهبين! فقال لها في شيء من الجفاء: أيتها الآنسة! لماذا كتبت إليَّ تقولين إنك تريدين الاشتغال بالأدب؟

فقالت، وهي تُعيد مرآتها وإصبع أحمرها إلى حقيبتها: لأني أريد ذلك … أهو شيء عسير؛ الاشتغال بالأدب؟

فلم يعرف كيف يجيبها، وشعر في نفسه بما يشعر به رجل الدين؛ إذ يرى شخصًا يقذف محرابه بحصاة … ولعلَّها رأت منه ذلك، فهي لا تخلو من ذكاء يلمع في عينيها الجميلتين، فبادرت تقول له: أأعترف لك بالحقيقة؟!

وصمتت قليلًا … وتأمَّل نفسه في جلسته وعباءته وقلنسوته، وتأمَّل عبارتها الأخيرة، فخيِّل إليه أنه «راهب تاييس» يحادث الغانية، ورفعت الفتاة رأسها، وأقبلت عليه تقول: الحقيقة أني لا أحبُّ الأدب … ولم أقرأ كتابًا قطُّ منذ تركي المدرسة، ولا شيء يثقل على نفسي مثل الكتابة والقراءة … إني لا أكتب رسالة إلى إحدى صديقاتي حتى أتناول بعدها قرصًا من «الأسبرين»! إني أحب «السينما» وسباق الخيل، والرقص والموسيقى!

فقاطعها قائلًا: «الجاز» طبعًا!

فقالت في نبرة المتحدث عن شيء مفهوم بالبداهة: طبعًا!

فتنهَّد، وقال كالمخاطب لنفسه: ألم أقل إن فراستي قد صدقت؟!

ولم تترك له الفتاة وقتًا للمُضي في الكلام، فأسرعت تقول: نعم … ولكني مع ذلك أريد …

– تريدين؟!

فارتفع صوتها بقوة وعزيمة: نعم أريد … أريد أن أحب الأدب!

فلبث فمه مفتوحًا من الدهشة، ولم يدرِ ماذا يقول لهذه الفتاة المدلَّلة.

– أتحسبين أيتها الآنسة أن الأدب فتًى جميل من فتيان الرقص، أو حصان «فافوري» من خيول السباق؟

فتجهَّم وجه الجميلة، وأسدلت أهدابها الطويلة، ورأى كأن عراكًا عنيفًا يهزُّ أرجاء نفسها … وأخيرًا انتفضت، وقالت متوسِّلة: أرجوك! أرجوك … لا تردَّني خائبة يائسة!

فأطرق لحظة، ثم قال مترفقًا: أنا طوع أمرك يا سيدتي، لكن … فلنتكلمْ في حدود المعقول!

– نعم، اجعلني أحب الأدب بأي ثمن، مهما كلَّفني الثمن.

– هذا يا سيدتي غير معقول … كيف أجعلك تحبينه؟

– لماذا لا تستطيع؟

– لأن الحب لا يُطلب ولا يُشترى، وأنت أدرى مني بذلك!

فهمست في ألمٍ: نعم، هذا صحيح! … آه!

وأثَّر في نفسه يأسُها، وذكر أنه لم يسألها بعدُ عما يدفعها إلى هذا الطلب الغريب، فالتفت إليها يستوضحها الأمر … فأسرعت قائلة: لا تسألني! ما الفائدة ما دمتَ لا تملك لي شيئًا؟

ونهضت تريد الانصراف، فنهض وهو يفكر في أمرها، ومدَّت إليه يدها مودعة وهي تقول: إني آسفة لإزعاجك! إني فتاة حمقاء … كنت أعتقد أن كل شيء في الإمكان!

فقال لها ويدها في يده: نعم، كل شيء في الإمكان ما دامت الإرادة قوية، والدافع نبيلًا!

فجذبت يدها بلطفٍ، وقالت على عَجَلٍ: وإذا ضمنت لك قوة الإرادة، ونُبل الدافع، أتعدني بالمساعدة؟

ورأى في عينيها بريقًا ينمُّ عن أملٍ متجددٍ، فشقَّ عليه أن يُطفئه بكلمة. غير أنه خشيَ أن يقطع على نفسه عهدًا لا يستطيع الوفاء به، وهو يجهل بعدُ كل شيء في الموقف، فهو في ضباب، الكلام يجري في أمور، يختلف معناها باختلاف المتكلم، وكلمة «الأدب» لها عنده مدلولٌ غير ما عند الفتاة، ولم يحسن — بعدُ — إدراك مرادها، ولا يأسها، ولا رجائها، فقال: أيتها الآنسة … لن أعد بشيء حتى أفهم … أليس لي الحق في أن أفهم على الأقل أصل الموضوع؟!

ففكرت قليلًا، ثم التفتت إليه قائلة: أرجو منك ألا تطلب إليَّ أسماء … لن أقول لك اسمي ولا اسم أسرتي … كل ما أستطيع الإفضاء به إليك هو، أن لي خطيبًا أحبُّه ويحبني، وهو مَثلي الأعلى الذي كنت أحلم به دائمًا! ليس فيه عيب غير أمر واحد؛ أنه يحب القراءة في كتب الأدب! إنه يذهب بي إلى «السينما»، وإلى سباق الخيل … ويحادثني في كل ما أحب، ولا أستطيع أنا أن أحادثه فيما يحب! إنه يسمِّيني «الفتاة الطائشة»، ويغتفر لي كلَّ شيء إلا ذلك الصمت الطويل الذي يدبُّ بيننا؛ إذ يفرغ الحديث فيما يسميه «تفاهاتي وحماقاتي»، إنه يقول لي دائمًا: إن الهوة السحيقة في حياتنا الزوجية هي أنه لن يستطيع أن يحادثني في شئون الفكر!

إني لن أنسى كلمة قالها لي يومًا: «لن يُحدث الزواج بيننا ذلك الاتصال التام الذي طالما تمنَّيته في زوجتي، فإن نصف الحياة، وهي حياة الفكر … ستبقى دائمًا خارج نطاق الزوجية … فأنتِ يا «…» لن يكون لك مني غير نصفي!»

ولقد حاول المسكين أن يضع بين يدي كتبًا فكنت أطرحها في ضجرٍ … إني أمقت الكتب، ولكني أريد أن يكون لي النصف الآخر من زوجي! أريد أن يكون كله لي؛ جسمه وفكره.

إنه يحب أيضًا لعب «التنيس» وكنت أنا لا أميل إلى «التنيس» ولا ألعبه، ولكن بإرادتي استطعتُ أن أتعلَّمه وأتذوقه وأحبه، في مدى بضعة أشهر! لقد نجحت إرادتي في كل شيء إلا في الكتب … لذلك جئتُ أطلب معونتك!

إن خطيبي يحب كتبَك، وقد قال لي بأنها بسيطة الأسلوب وتصلح لي، ولكني للأسف، أعترف لك بأنها ثقيلة على نفسي، كغيرها من الكتب … إن الدواء عندك ولا شك يا سيدي … إني أعتقد أن خالق الداء قد خلق له الدواء … إن كل سعادتي الزوجية هي الآن بين يديك! أرشدني! كيف تستطيع فتاة طائشة مثلي أن تصلح أمرها ليرتفع شأنها في عين زوجها؟ أهنالك أمل في أن يصبح فكري في مستوى فكره؟ تكلم يا سيدي! أليس لمثلي أملٌ في اجتياز أعتاب تلك المنطقة، السامية المقدسة، التي تسمونها منطقة «الفكر»؟ وهل كُتب عليَّ إلى الأبد أن أبقى خارجها أتطلَّع إليها؟!

وسكتت الفتاة … وتركت «راهب الفكر» واقفًا في شبه ذهول، تدوِّي في أذنه عبارتها الأخيرة الباكية … لأول مرة في حياته أدرك أن رجل الأدب، له رسالة تماثل رسالة رجل الدين! لطالما كتب يصف هذا التماثل، ولكن لم يوقن أن الأمر حقيقة واقعة إلا اليوم، ومرة أخرى طافت برأسه صورة «راهب تاييس»!

إن تلك الغانية اللعوب، جاءت الراهب تجرُّ وراءها كلَّ ماضيها الغارق في الضلالة والزيغ، وطرقت باب صومعته … تلتمس أن يكشف لها عن نور الحق! أتراه قد أبى عليها وردَّها يائسة؟ … لا … ليس من حق راهبٍ أن يصدَّ إنسانًا عن نور الله … هو أيضًا ذلك الخادم من خدام الفكر، والراهب المنقطع لنشر نوره … بأي حقٍّ يزرع اليأس في قلب من يريد وجهه؟

وهنا أيضًا، أدرك أن عليه واجبًا آخر، غير واجب الخلق والتأليف … نعم … عليه أن يمدَّ يده — على قدر الإمكان — لتلك النفوس المسكينة العمياء! فيفتح نوافذها رويدًا رويدًا لنور الفكر الدافق.

ورفع رأسه، والتفت إلى الفتاة قائلًا: اعتمدي عليَّ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤