اللقاء

غادر «راهب الفكر» «حلوان» في اليوم نفسه عائدًا إلى بيته، ولم يضيع وقتًا؛ فقد أمسك في الحال بسماعة التليفون وطلب الزوجة، وجرى ذلك كله بسرعة، صرفته عن التفكير في نفسه. وكأنما هو مُسيَّر بدَفعة من يد ذلك الزوج التَّعِس، فلم يكن همُّه إلا تنفيذ ما كلَّفه به، وقد استطاع أن يقنع نفسه بأن تلك المرأة أجنبية الآن بالنسبة إليه … وأنَّ في مقدوره أن يلقاها بهدوء وقلة اكتراث؛ كأنما هو يراها لأول مرة، ولن يكون بينهما غير حديث وجيز شبه رسمي؛ كذلك الحديث الذي يجري بين محامٍ وخصم في دعوى مدنية؛ فالمسألة لن تعدو … عرضًا بسيطًا لمطالب الزوج وإصغاءً لردِّها بالقبول أو الرفض … وهي لا بد قابِلة ذلك العرض الكريم بغير جدالٍ تجنبًا للفضيحة … ولكن … ولكن صوتها الرقيق ما كاد يرن بدلالٍ قائلًا: «آلو» حتى ارتجفت السماعة في يده … إنه صوتها، إنه على الرغم من كل شيء صوتها الذي عرفه قديمًا … مهما يكن رأيه فيها اليوم؛ فإن مجرد صوتها لم يزل يُحدِث في نفسه أثرًا … إن في الإنسان منطقة عجيبة سحيقة لا تصل إليها الفضيلة ولا الرذيلة، لا تشع فيها شمس العقل والإرادة، ولا ينطق لسان المنطق، ولا تُطاع القوانين والأوضاع، ولا تتداول فيها لغة أو تستخدم كلمة … إنما هي مملكة نائية عن عالم الألفاظ والمعاني … كل ما فيها شفاف هفاف يأتي بالأعاجيب في طرفة عين … يكفي أن ترن في أرجائها نبرة، أو تبرق لمحة، أو ينشر شذا عطر، حتى يتصاعد من أعماقها في لحظة من الإحساسات والصور والذكريات، ما يهز كياننا ويفتح نفوسنا على أشياء لا قِبل لنا بوصفها، ولا بتجسيدها، ولو لجأنا إلى أدق العبارات وأبرع اللغات … وهنا أحسَّ الخطر وخاف أن يتهدج صوته أو يضطرب نطقه فسكت ليتمالك … إلى أن ردَّدت هي مرتين: «آلو … آلو …» فتنحنح، وتكلم بسرعة معرفًا بنفسه … فأبدت دهشة مع شيء من الفرح … وخشيَ أن يطول الحديث، أو يخرج عن قصده، أو يُحرَج فيه، فبادر يخبرها بأنه مكلَّف من قِبَل زوجها بأن يراها في شأن مهم، وأنه ينتظرها في أقرب وقت؛ فضربت له موعدًا ذلك المساء، وختم للفور حديث «التليفون» على هذا النحو المقتضب، حتى لا تزول عنه صبغة الجد وصفة التكليف … وجلس إلى مكتبه ينتظرها؛ كما كان يجلس أيام زيارتها الأولى … يا للعجب! نعم إنه ينتظرها الآن … ولطالما انتظرها وهو جالس إلى هذا المكتب عينه، وأنظاره اليائسة الضارعة متَّجهة إلى ذلك الباب … ها هي ذي آتية عما قليل … وعما قليل يرى قدميها تجتازان هذه الأعتاب … إنها عائدة الآن … وعودتها حقيقة واقعة لا وهم من الأوهام، ولا حلم من الأحلام … نعم، هذا صحيح! لكن … لكن شتان! وامتدت يده فأخرجت من بين ملفات أوراقه رزمة رسائله إليها، وجعل يتصفَّحها، ويقرأ قوله لها:

«هنالك امرأة أخرى أحبها كثيرًا لأنها أيضًا على مثالك، وإن كنت لا أرى لها جمالك؛ تلك هي «إيزيس» المصرية.»

«هكذا فعلت «إيزيس» الزوجة، وهكذا كنت تفعلين أنت أيضًا لو أنكِ في مكانها؛ لأنك أيتها الصديقة العزيزة تحملين عين القلب! إني لا أشك في هذا لحظة … عين القلب الذي ينبع منه كل هذا الحب، وكل هذا الوفاء!»

«… إن المرأة النادرة هي هبة الله الكبرى … آه أيتها العزيزة! لو سألوني عنكِ لقلت ليس في دنياي اليوم إلا أنتِ!»

ثم قوله في رسالة أخرى:

«إني في حاجة إلى مجرد طيفكِ! لأن طريقي موحش حقًّا …»، «آه لو علم الناس أني أحب؟! ما من أحد في الوجود يرى ذلك الحب المضيء في نفسي كاللؤلؤة … حتى ولا أنت!»

ووقع بصره في إحدى الرسائل على قوله لها:

«ما من رجل في التاريخ سعد بزوجة عظيمة إلا تخيلتها على صورتك، وأعطيتها ملامحك، وأعرتها سماتك وصفاتك! لا ريب في أنك الآن بجوار زوجك السعيد تحدبين عليه بتلك المشاعر الرقيقة، التي أعرفها فيك! إني لأراكِ دائمًا في صورة الزوجة المُثلى.»

وهو لم يقوَ على ضبط نفسه؛ فإن اليد التي وصفت تلك المرأة بأنها «زوجة مثلى» لتسخر الآن — ولا شك — من حُسن ظنِّه وصائب تقديره!

وانهالت كلتا يديه على الرسائل تقطيعًا وتمزيقًا، وملأ بها سلة الأوراق المهمَلة عند أقدام مكتبه!

… حقًّا إنها لحماقة كبرى! كيف استطاع أن يُخطئ في أمرها هذا الخطأ؟ وكيف استطاعت عيناه أن تبصرا جمالًا روحيًّا، ونُبلًا سماويًّا، ومُثُلًا عُليا في مثل هذه المخلوقة؟ أتراها غفلة منه وسوء بصر بالأشياء، أم هي طبيعة الفنان أحيانًا تحوِّل القبح إلى حسن، والتفاهة إلى روعة وجلال؟ إنها مثل جهاز «الكاليدوسكوب» الذي يحوِّل قطع الورق الملون وفتات الزجاج المشوَّه إلى صور رائعة الرسم، وأشكال بديعة التنسيق!

لعلَّ تلك وظيفة من وظائف الفن والأدب والفكر! أن تكون للإنسانية بمثابة ذلك الجهاز الذي يجمِّل الأشياء! لقد صوَّر هو في تلك الرسائل امرأة مثالية، ولو أتيح للناس الاطلاع على رسائله لرأَوا صورة للزوجة الفضلى، تبعث في نفوسهم الرجاء، وتقوي في قلوبهم الثقة بالخير والفضيلة، وتلقي في روعهم الإيمان بوجود الجمال الخلقي، فلماذا ننزع من رءوس الناس هذا الوهم الجميل، ونقول لهم: إن ما ترونه من كمال مثالي، وجمال علوي، ليس سوى قطع من حياة امرأة ملونة المظهر، ملوثة المخبر، وفتات شخصية نسائية أهش من الزجاج وأحقر؟ أي فائدة تُجنى إذا كشفنا للناس عن حقيقة الأمر، وفجعناهم في آمالهم، وأطلعناهم على ذلك التزييف، وأريناهم كيف أنَّ تلك القطع الآدمية والفتات البشري، قد استوت خَلقًا بديع البناء كامل البهاء، بمجرد انعكاسها على تلك المرايا الكاذبة في ذلك الجهاز «الكاليدوسكوبي» القائم في قلب الأديب أو رأس الفنان؟ إنَّ إيهام الناس بوجود عالم الحق والخير والفضيلة هو واجب كل مفكر! وله أن يتخيَّر الوسيلة التي يراها، والأسلوب الذي يحذقه، لغرس هذا الوهم في النفوس … عجبًا! لماذا يسميه الآن وهمًا، ولا يسميه إيمانًا؟ أفقد إيمانه هو الآخر بوجود الفضيلة لأن امرأة خيَّبت أمله؟! الواقع أنه كان يشعر ويفكر في تلك الساعة، لا بوصفه أديبًا أو مفكرًا، ولكن بوصفه رجلًا، وليس أدل على ذلك من اجترائه على تمزيق تلك الرسائل، ولو أن الأديب أو الفنان هو الذي كان يتصرف وقتئذٍ، لأبقى على رسائله قائلًا: «ماذا تعنيني حقيقة النموذج بعد أن أبدعت المثال؟» أو على الأقل: وما العلاقة بين رسائلي وتلك المرأة؟ إني كنت أخاطب طيف امرأة لا صلة لها بهذه المرأة … الطيف من صنعي، والمشاعر مشاعري، فلأبقِ على ملكي ومخلوقات ذهني … بل لأنشرها إذا شئت على الناس، كما نشرت وأنشر غيرها من صفحات!» ولكن الرجل فيه … الرجل المخدوع المفجوع هو الذي كان يحس، ويفكر ويتصرف. ولئن كان زوجها لا يفكر اليوم إلا في بتر كل سبب يربطه بها … فكذلك هو، ذلك الذي كان لها في الخفاء شبه «زوج روحي» قد اتجه تفكيره هو الآخر إلى بتر كل ما كان يصله بها من أسباب … ولم يكن بينهما من رباط مادي سوى تلك الرسائل، فكان حتمًا عليه أن يصنع بها ما صنع … ولقد شعر حقًّا ببعض الراحة، وقد فعل ذلك!

ومرَّ الوقت سراعًا، وغربت الشمس، وأقبل المساء! إن موعد مجيئها قد قرب … إنها في الطريق إليه … إنه يسمع وقع خطواتها، لأن دقات قلبه تخبره بذلك! لقد أخذت دقاته تسرع، كأنها تتابع تلك الخطى، أو كأن بين هذه وتلك عرقًا نابضًا، ولكن … لماذا قلبه يدق؟ ليس يدري! ليس هو الحب على كل حال … هذا ما يؤكده لنفسه على الأقل! وهل يمكن أن يحمل لها اليوم غير الكراهية والازدراء؟ إنما هو نوع من الاضطراب يخالج المقبِل على لقاء غير عادي! فهو يحسُّ بعواطف شتى في وقتٍ واحدٍ، يحس شيئًا من الارتياح الداخلي لرؤياها، ولكنه لا يعلل هذا لنفسه إلا بأنه حب استطلاع!

نعم إنه مشوق إلى أن يرى وجهها الآن، وما صارت إليه، ويصغي إلى كلامها وما ينطوي عليه! وإنه ليحس شيئًا من الرهبة منها، ويتمنى في قرارته أن يجدها قد تغيرت، وذهب سلطان جمالها، حتى يلقاها هادئًا غير مكترث لها، ويحس كذلك شيئًا من الغيظ والغضب، والأسى والأسف، لأنها عائدة الآن بغير الثوب الخلقي النقي، الذي تركت به تلك الحجرة آخر مرة … كل هذه المجموعة من المشاعر امتزجت في نفسه تلك الساعة، وأثارت ساكنها، فجعل كل همِّه القبض على زمام أعصابه، والتهيؤ لمقابلة الزائرة رابط الجأش كعهدها به فيما سلف.

ودق جرس الباب! فانتفضَ قائمًا على الرغم منه، ثم تنبَّه للفور فجلس في مكانه من المكتب، وتشاغل بالكتابة، وفتح خادمه باب المسكن، وسمع صوتها وهي تسأل عنه، وخطواتها وهي تدنو منه، إلى أن دخلت عليه الحجرة، وقالت: «بونسوار» يا أستاذ!

فرفع رأسه بتؤدة، وردَّ التحية بهمسة، وأشار لها بيده إلى مقعد، وعاد فدسَّ رأسه في الورق، متشاغلًا بالكتابة من جديد! وكانت تلك خير وسيلة يكتسب بها وقتًا، يهدِّئ فيه روعه! ذلك أنه نظر إليها — عندما رفع رأسه — نظرة خاطفة، وكانت تلك النظرة كافية، فقد أدرك منها كلَّ شيء! إنها هي بجمالها … هي بحُسنها للأسف، وسحرها! ولكنَّ فيها مع ذلك شيئًا قد تغيَّر! جمالها اليوم ليس جمال الأمس … إنه الآن جمال خطر! إنه الجمال المتحفِّز … الجمال المتحدي … الجمال الذي يحلو له أن يهجم، وأن يصرع، وأن تكون له ضحايا! إنه الجمال المخيف الشرير … إنه الجمال الآثم … إن طريقة زينتها وحدها تنطق بذلك! فصبغة الشفاه ورسمها … و«الرميل» حول الأعين والحذق في وضعه … والعطر والتفنن في اختياره؛ كل شيء فيها الآن يكاد يصيح قائلًا: «حذار مني!» إنها لم تعُد الزهرة النضرة وكفى … ولكنها الزهرة ذات الرضاب المسموم والألوان الزاهية، لغرضٍ معلومٍ! إنها الزهرة القانصة … التي تتفتح بهاءً لِتُطبق على فريستها فناءً … رأى منها ذلك كله في هذه النظرة … وهو لا يدري أعينه هي التي أبصرت ذلك حقًّا، أم رأسه وما صوَّره فيه الوهم … فهو لم يكن ينتظر زيارة امرأة بريئة، بل امرأة يعلم من سيرتها ما علم!

مهما يكن الأمر، فها هي ذي تلك المرأة أمامه، بكل سحرها وحُسنها الغابر والحاضر … فليغمض عينيه عن شكلها ورسمها … وليضرب صفحًا عن شخصها واسمها، وليواجه المهمة التي نُدب لها بغير إبطاء، وينفض يديه من هذا الأمر، ويخرج من هذا الموقف … وآنس من نفسه بعض الهدوء والاطمئنان، فنحى أوراقه بيده، والْتفت إلى الزوجة قائلًا بلهجة جادة جِد أصحاب الأعمال أو رجال القانون: الموضوع الذي استدعى تشريفك بالحضور يتلخص فيما يأتي …

ولم يُتِمَّ كلامه، فقد قاطعته الزوجة الحسناء قائلة: «باردون!» تسمح لي بسؤال؟

– تفضلي!

– أخبرتني بالتليفون أنك قابلت زوجي … أين قابلته؟

– في «حلوان»!

– حلوان؟ آه … هو إذن في «حلوان»؟ لا … لست أقصد مقابلتك له أخيرًا … إنما أسأل أين قابلته أول مرة؟

– أول مرة؟ أذكر أنه تفضَّل بزيارتي هنا.

– متى كان ذلك؟

– منذ أكثر من عام.

– أتذكر لأي علَّة زارك زوجي منذ أكثر من عام؟

– كان ذلك لأجل … لأجلك!

– لأجلي! لماذا؟

– للحديث عنك، وعن القراءة والكتب، والأدب.

– كنت تعرفني إذن في ذلك الوقت؟!

– نعم … بالطبع!

– وهل رأيتني يومئذٍ؟

– طبعًا!

– أين؟

– هنا … كنت تتفضَّلين بالزيارة من آنٍ لآن!

– إذن لم تكن زيارتي اليوم للمرة الأولى … إذن معرفتي بك ومعرفتك بي لم تنشأ الساعة للمرة الأولى … إذن وافقني على أنه ليس من الطبيعي مطلقًا أن تلقاني الآن، بعد افتراقنا بعام، فلا تجد ما تستقبلني به من كلام، غير هذه العبارة الجافة تصدمني بها: «الموضوع الذي استدعى تشريفك بالحضور يتلخَّص فيما يأتي.»

فأطرق «راهب الفكر»، وارتبك قليلًا، وأخذ يعبث بالقلم على ورقة بيضاء، ثم قال بغير أن ينظر إليها: إني آسف … ولكن … بأي لهجة تريدين أن أخاطبك؟ لا أظن أني غيَّرت كثيرًا طريقتي في الخطاب معك!

– أعترف أنك لم تكن معي يومًا قَطُّ مسرفًا في اللطف، ولكنك على بخلك في التودد إليَّ، وتحفُّظك في معاملتي، كنتُ أشعر، برغم ذلك، أنك طبيعي، وأنك لم تتكلَّف تجاهلي، كما فعلت الساعة!

– إني أردت أن أوفر من وقتكِ، وأن أطرق الموضوع مباشرة … فصمتت على مضضٍ، ثم قالت: إني مصغية!

لفظتها على مهلٍ، وهي تُخرج من حقيبة يدها صندوقًا أنيقًا للسجاير على أحدث طراز، تناولت منه سيجارة، ووضعتها في فمها، ثم قدَّمت الصندوق إلى الأديب تعزم عليه … فاعتذر شاكرًا.

فقالت باسمة: «آه! حقًّا … أنت لا تدخن!»

فأجابها بنظرة تكاد تنطق بمرارة: وأنتِ أيضًا فيما مضى … أما اليوم فأنت تدخنين!

ولكنه تجنَّب الحديث في هذه الأشياء، وآثر أن يشرع فورًا في الكلام الجِدي … إلا أنه لم يدرِ كيف يبدأ، فالتفت إليها كالمستعين بها، سائلًا: ما هو — في اعتقادك — السبب في غيبة زوجك؟

فانتهزت الفرصة، وقالت متحدية، وهي تشعِل سيجارتها بوقادة (ولاعة) ذهبية ثمينة: من فضلك لا تُلْقِ عليَّ أسئلة … اطرق أنت موضوعك مباشرة، وقل ما أردت أن تقول، ولا تنتظر مني غير الإصغاء!

فسكت لحظة، وقد أدرك أن الحديث في مثل هذا الجو لن يوصل إلى نتيجة، فغيَّر من لهجته قليلًا، وقال لها: أما زلتِ مصرةً على اتهامي بأني أسأت استقبالك؟

فغيَّرت هي أيضًا من لهجتها بعض الشيء وقالت: بالتأكيد! لقد كنت أنتظر منك أن تقدِّر لي على الأقل قَبولي دخول بيتك بعد أن طردتني منه، منذ أكثر من عام … يوم طلبت إليَّ — في هذه الحجرة بالذات — أن أكفَّ عن زيارتي لك!

– دخولك بيتي اليوم هو لأمر يخصُّك، ويخص زوجك!

– كان في إمكاني أن أسألك سرد هذا الأمر بالتليفون … ولكني لم أكد أتلقَّى دعوتك، حتى هرعتُ إلى زيارتك بغير تردُّد!

– ليست هذه أول مرة تدخلين فيها بيت رجل، بغير تردد!

لفظها في نبرة صارمة ذات معنى، فالتفتت إليه في الحال، وقد فهمت … على أنها لم تغضب ولم تعترض، بل ابتسمت راضية، وقالت وهي تنفخ دخان السيجارة من فمها: لا بأس … إني أفضِّلك قاسيًا معنِّفًا … لقد كنت معي كذلك أحيانًا فيما مضى … وفي هذا على الأقل شيء من الاهتمام! ولكن … من أين جاءك أنها ليست أول مرة أدخل فيها بلا ترددٍ بيتَ رجل؟ أترى زوجي قد أخبرك؟ أم تراه قد أطلعك على …؟!

– نعم! على كل شيء!

قالها على عجلٍ كمن يلقي عن كاهله عِبئًا، فقد هوَّنت عليه بعض مشاق الحديث، وسلكت به أقصر السبل إلى لبِّ القضية … ورفعت سيجارتها إلى فمها، وجذبت منها الدخان طويلًا، ثم مضت تقول أيضًا، وهي رابطة الجأش: وقرأت إذن بالضرورة …؟!

– كراستك!

لفظها سريعًا وهو ينظر إليها ويراقب عينيها … لكن يا للعجب! ما هذا الهدوء؟! ما من هُدْب فيها قد ارْتَجَفَ، بل لقد كانت عيناها مصوبتيْن إلى عينيه كأنهما تقرآن فيهما عوامل نفسه، وتدرسان خوالج فكره، ولم يجد هو بُدًّا من أن يغضَّ نظره، ويتشاغل بالعبث بقلمه … فهو الذي قد تخونه عينه ونظراته … أما هذه المرأة … فكل ما بدا منها عندئذٍ ضحكة ناعمة طويلة تموَّجت في فضاء الحجرة مع الدخان المائج … ختمتها بقولها: ما تنتظر لتخبرني برأيك فيما قرأت؟

فتمسَّك بالهدوء وقال لها: ليس رأيي يا سيدتي هو الذي يجب أن تسألي عنه … بل رأي زوجك!

– زوجي ليس صاحب اختصاص في هذا الأمر … إنما هو اختصاصك!

– اختصاصي؟!

قالها بلهجة الغارق في لجة لغز أو أحجية، وضحكت هي منه، وقالت: أنسيتَ هكذا سريعًا أني كنت تلميذتك؟ يجب أن تعلم يا أستاذي العزيز أن دروسك قد أثمرت!

– أستغفر الله … أستغفر الله!

لفظ ذلك، لا بلهجة التواضع، بل في صيحة الأسف والخجل، والاحتجاج والذعر … ولم تُلْقِ هي بالًا إلى مقصده، بل أنشأت تقول: ربما كان هذا غرورًا مني … نعم … لا شك في أنه منتهى الغرور أن ألصق نفسي بكَ، وأقرن عملي بعملكَ، وأزعم أني كتبت شيئًا يستحقُّ الْتفاتك … إن ما قرأت ليس أكثر من محاولة قصصية … لك أن تسميها ما شئت، ولكن واجبي يقضي عليَّ بأن أعترف لك بالجميل … فأنت على كلِّ حال الذي حبَّب إليَّ الكتب … ولقد أغرتني المطالعة، بعد ذلك، بمعالجة الكتابة! فكتبت — كما ترى — تلك الكراسة في أوقات فراغي … وقد اختفت للأسف قبل أن تتم … وكان في نِيَّتي أن أقدِّمها لك عند تمامها … وأن أتَّخذها ذريعة على الأقل لمعاودة رؤيتكَ … وكنتُ على ثقة بأنها ستشفع لي عندك، وستقنعك بأني كنتُ جادة يوم جئتك لتغرس في نفسي حب الأدب، وأنك ظلمتني بإبعادي عنك، وطردك إيايَ من جوارك … وإني — حتى بعد أن غادرتك احترامًا لرغبتك — ظللت مقيمة على أن أمضي فيما وجَّهتني إليه، راجية أن ألقاك يومًا بشيء يرضيك، ويضطرك إلى الندم على سوء ظنك بي! وقد شاء القدر أن يصل إليكَ عملي ناقصًا من يدٍ غير يدي … وهذا لا يهم! فالقيمة كلها عندي الآن هي في اطِّلاعك على هذه الكراسة المتواضعة … وإني مع اعتقادي بأن هذا المجهود البدائي لن يظفر برضاك الكامل، أراني مبتهجة على كل حالٍ لهذه النتيجة، منتظرة منك أن تبدي لي رأيك بكل صراحتك وقسوتك وخشونتك، التي اعتدت أن تختصَّ بها تلميذتك، فما هو رأيك؟ تكلَّم؟ لماذا تنظر إليَّ هكذا؟!

الواقع أنه فوجئ مفاجأة؛ فهذا كلام ما كان يتوقع سماعه … هي إذن بريئة من الإثم، وتلك الاعترافات المزعومة لم تكن سوى عمل أدبي خيالي … اندكَّ إذن صرح الاتهامات الموجهة إليها، وانهار الأساس الذي بُنيت عليه مهمته … فهي لم تَخُن زوجها، ولم تدنِّس شرفها … بل إنها لم تَخُنْه هو في إيمانه بها، ولم تلوث الصورة التي رسمها في نفسه لها! ليته إذن لم يتعجَّل فيمزق رسائله إليها! وافرحتاه لو كان هذا الأمر صحيحًا … وظل يتفرس في وجهها وكأنه يريد أن يخترق حجب نفسها، وأخيرًا قال لها في صوتٍ، لا يتبيَّن منه تصديق أو تكذيب: اعترافاتك إذن لم تكن حقيقية؟

– لا، بالتأكيد!

– وذلك الممثل السينمائي؟

– لم أره قط في حياتي!

– شخصية وهمية؟

– بلا شك!

– وكل تلك الحوادث والتفاصيل والوقائع، هي من نسيج قريحتك؟

– طبعًا!

– يا لها من قريحة خصبة!

قالها على نحوٍ لم تستطع أن تستشفَّ منه مرماه، ولم تَدْرِ أساخر هو أم جاد؟ وأرادت أن تكشف عن حقيقة قصده. فقالت: ما أظنك كنت تعتقد أنَّ لي قريحة روائية؟

– أعترف بأني ما كنت أعتقد أنك بهذه البراعة!

– إني مغتبطة … حدِّثني أيضًا عن براعتي في هذه القصة!

– بل فلنتحدَّث عمَّا هو أهم … فلنتحدث عن براعتك في دفاعك!

– دفاعي؟!

لفظتها في شيء من التجهُّم والاحتجاج … ولكنه مضى يقول: الحق أنه دفاع بارع جدًّا … دفاع ما كان يخطر لأحدٍ على بالٍ! ولست أدري كيف استطعتِ في هذا الوقت القصير، منذ أن حادثتكِ في «التليفون» عصر اليوم، وعلمت مني أني مكلَّف بتلك المهمة الخطيرة من قِبل زوجك، أن تُعدِّي دفاعَك بهذه السرعة، وبهذه المهارة؟!

يقولون إنك ذكية، وكنت أعرف ذلك من قبلُ، ولكني لمست ذكاءك الساعة على صورة رائعة! ثم طريقة تمثيلك للدور الذي أردت تمثيله، والمرأة بطبعها ممثلة قديرة، ولكنك تمتازين في التمويه والكذب، على ما أعهده فيك من قديم! ولا أحسبك نسيت قولك لي ذات مرة إنك تحبين الكذب كما تحبين «السينما، والتنيس، وسباق الخيل والكونكان»!

ثقي بأني — لسوء حظك — قوي الذاكرة جدًّا … خصوصًا فيما يتعلق بك، وبما سمعت منك، وقرأت لك!

وكان في صوته شيء من الحرارة والعنف؛ فلم تكره ذلك، وصوَّبت إليه نظرة فتَّاكة، وقالت: لا يدهشني أن يكون هذا رأيك فيَّ!

فقال، وهو يعبث بقلمه على ورقة: من واجبي أن أصارحك برأيي … ولقد طلبتِ إليَّ الساعة هذه الصراحة … وها أنا ذا أقدمها إليكِ خالصة.

فقالت في شبه تنهد: للأسف … هذا رأيك فيَّ دائمًا منذ زيارتي الأولى … إني سيئة الحظ معك … هذا كل ما أستطيع أن أقول!

– لا أظن أني ظلمتك! ربما كنتُ حقًّا قد أسأتُ فهمَك، وقدَّرتك أكثر من حقيقتك!

ولفظ العبارة الأخيرة في همسٍ لا تسمعه، ونظر بإحدى عينَيه على الرغم منه إلى رزمة رسائله الممزقة في السلة، ثم رفع صوته قائلًا لها: والآن يا سيدتي … هل لي أن أسألك بدَوري أن تَصْدُقِيني القول … لا من أجلي، بل من أجل زوجك، فنحن حتى الساعة لم نتقدَّم خطوة نحو الغرض الذي اجتمعنا له الليلة!

فاتخذت هيئة الجِد فجأة، وقالت بقوة: بل أنا التي يحق لها أن تسألك: لماذا تُكذِّبني؟ وبأيِّ حقٍّ يجوز لك أن تُلصق بي مثل هذه التهمة الخطيرة؟ وكيف تسوِّغ لنفسك أن تسمِّي تقريري الحقيقة أنه دفاع بارع؟ ما أظن زوجي قد أقامك نائبًا عامًّا لتحقِّق معي وتفنِّد أقوالي! إذا كانت تلك هي المهمة التي كلَّفك بها، فأخبرني حتى أفهم حقيقة الموقف!

فنظر إليها مليًّا وهو هادئ هدوءًا لم يكن ينتظره، فهو قبل حضورها كان يخافها، ويتوهم أنه لن يستطيع مواجهتها، بغير أن يخفق قلبه، ويتلعثم لسانه! ذلك أنه كان لا يزال — على الرغم من كل شيء — يعيش مع طيفها. الذي تمثل فيه كل الصفات العليا التي ترفعه إلى طبقة المعبودات! هذا الطيف هو الذي كان في حقيقة الأمر يخافه، ويقدِّر ضعفه وانخذاله في حضرته! أما هذه المرأة، فقد كفاه مجيئها بلحمها ودمها وحديثها، حتى يحس الاطمئنان والأمان، ويدرك أنه سيد موقفه، وقد بدأ ينسى الطيف، ويتأمل الواقع! ويدرس هذه المرأة في كل عبارة تلفظها، ويَزِن حقَّها وباطلها ومرامي لينها وثورتها … إنه لم يعُد يخشاها … ولكن من المبالغة أن يزعم أنه فقدَ كلَّ اهتمامه بها … والاهتمام أحيانًا كالرماد الساخن لنارٍ كانت متأججة! قد لا يخيف، ولكن لا ينبغي أن يطرح من الحساب، على أنه في تلك اللحظة لم يكن يفكر في غير مهمته، وقد تلقَّى عنفها بابتسامة، وقال: زوجك النبيل لم يُقِمْني نائبًا عامًّا! ولعله رأى من لطفه أن يعفيني من هذا المنصب الشاق، ولكنكِ أنتِ التي ألقت في روعي أن صراحتي تسرُّها، وأوهمتني أني حر في أن أقف منها الموقف الذي أراه، وقد رأيت أن أحكم عليكِ لا لكِ! هذا كل ما في الأمر!

فهدأ صوتها ورقَّ، وكأنها آثرت أن تعود فتأخذ محاورها باللين، وتكتسبه بالرفق والوداعة، فقالت: أتقسم أن ضميرك مستريح لهذا الحكم الذي أصدرته عليَّ؟

– ضميري مستريح!

– أَلِيَ أن أعرف على أي أساسٍ بنيت حكمك، يا سيدي القاضي؟!

– على أساسٍ تؤمن به كل امرأة … على الإحساس!

– الإحساس؟!

– نعم … الإحساس، وهو أساس لا يكفي وحده لإقامة العدالة في المحاكم، ولكنه عندي في مثل حالتك يكفي كل الكفاية! إن إحساسي وأنا أُصغي إلى دفاعك الساعة — واسمحي لي مرة أخيرة أن أسميه دفاعًا — هو غير إحساسي وأنا أقرأ اعترافاتك … إني لم أهتز لكلمة من كلماتك الآن … وأنت ماثلة أمامي بشخصكِ نابضًا، والحديث يتدفق من فمك حارًّا، ولكن كل حرف قرأته في كراستك كان يقف له شعر رأسي … إنها تفاصيل لا يمكن أن تكون ملفَّقة … إنها الحقيقة قد قُلْتِها أنت بحذافيرها … إنها وقائع قد عِشْتِها بكلِّ دقائقها … إنه الصدق كله قد أودعتِه تلك الصفحات المروعة! إن المسكين زوجك كاد يجنُّ وهو يطالعها، ولقد شاء لي أن أطالعها في ليلة! فكانت ليلة! أعني أني كدت أنا أيضًا … نعم … لقد كانت شيئًا فظيعًا … نعم … إنها لا يمكن أن تكون غير حقيقة رُوِيَت بكل دقة … كل سطر فيها ينطق ويصيح بشيء حدث بلا مراء!

حقًّا يا لها من صفحات! كيف تستطيع امرأة أن تعرض كل هذا على الورق؟!

قال ذلك وأطرق كأنه يخاطب نفسه … ونظرت إليه الزوجة لحظة صامتة، ثم قالت: ليس هذا بالدليل الكافي … لماذا لا تقول إنها موهبتي؟! أليس من الكُتَّاب من يُلبِس الخيال ثوب الحقيقة؟

– هذا هُراء! إن الكاتب قد يتخيل حوادث، ويلفق وقائع! ولكن المشاعر والإحساسات لا تُخترع ولا تلفَّق، فهي لا بد أن تنبع من الصدق القراح، وتصدر عن نفس تشعر بها حقيقة، وتنبعث عن قلب ينبض بها حية، ويحسُّها فعلًا طبيعية، كأنها جزء من كيانه الداخلي.

فإذا سلَّمنا معك بأن حوادثك مخترَعة، ووقائعك متخيَّلة، فماذا تقولين في مشاعركِ العميقة، التي بدا منها ميولكِ الدفينة للمغامرات الغرامية العنيفة، على هذه الصورة المحمومة التي أودعتِها صفحاتك؟!

فابتسمت لقوله، ثم قالت: وهل كنتَ تنتظر من امرأة أن تكتب في موضوع غير هذا! إن المغامرات الغرامية هي حلم كل امرأة!

– كل امرأة على طرازكِ!

– بل كل امرأة إطلاقًا، ما دامت جميلة وفي إمكانها أن تسحر رجلًا، وكذب من قال لك غير هذا، وإني أعرف نساءً كثيراتٍ، وعددًا لا يُحصى من الزوجات لا حديث لهنَّ اليوم فيما بينهنَّ إلا هذا النوع من المغامرات! إن الزمن قد تغير، وأنت في عزلتك، بين كتبك، لا تعرف ما يحدث في المجتمع … وأغلب من أعرف من الأسر والبيوت تجري فيها أشياء لا أدري ماذا تقول فيها، لو اطَّلعت عليها؟ ثِق بأنه من النادر الآن أن تجد الزوجة التي لا يكون لها إلى جانب زوجها صديق أو خليل، أو مجرد أنيس، ما دامت قد استطاعت أن تحصل عليه فهي لن تتردد … اطرح من حسابك تلك التي لا تستطيع! لقد أصبح اليوم مما يَمَسُّ كرامة المرأة الجميلة أن يقال: إنها عاطلة من المعجبين، وإنهنَّ ليتباهين أحيانًا فيما بينهنَّ بعددهم، ويتبارين في اكتساب أجملهم وأشهرهم وأغناهم … إني أعرف صديقة متزوجة، تفخر بأنها تملك أثمن مجموعة من المحبِّين … مجموعة يمثِّل كل رجل فيها ما تشتهيه المرأة من صفة؛ فلديها الثري، ولديها الشاب الوسيم، ولديها صاحب الاسم والجاه ولديها صاحب النكتة والظَّرف! وكل واحد من هؤلاء يظن أنها له وحده … ولكن الحقيقة أنهم هم كلهم لها وحدها! كل هذا يحدث، وأخشى ألا تصدقني إذا قلت لك: إن هذا يكاد يأخذ مجرى الحياة العادية في كثير من البيوت والأسر، دون أن يقع ما يعكر صفو الزوجية، أو يحطم ذلك الرباط المقدس!

إني لم أسمع حتى الآن في محيط صديقاتي بحادث طلاق أو انفصال، من أجل سبب كهذا بالطبع! كثير من أولئك الأزواج لا يعلمون كل شيء عن زوجاتهم … ولكن العواقب على كل حال سليمة … والعواصف التي تهبُّ على الحياة الزوجية قليلة، لذلك أرجو منك ألَّا تسرف في لومي، على تلك الصورة التي رسمتها للزوجة الحديثة! ولو كنتُ في مكانك لذهبت من فوري إلى زوجي، ونصحته بألا يبالغ هو الآخر … وإني آمل أن تصنع ذلك لا من أجلي ولا من أجل زوجي، بل من أجل حياتي الزوجية وطفلتي … فإنه لمن الحمق أن نحطمها، ونُشقي ثمرتها لسببٍ كهذا … هل أنتظر منك أن تقف هذا الموقف؟ إني مصغية إلى إجابتك! تكلم! لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

الواقع أنه كان ينظر إليها مشدوهًا … هذا ليس تمثيلًا … إنه اعتقاد! إنها طبيعتها … إنها تتفوَّه بهذا الكلام، وكأنها تنطق بأشياء عادية مما تجري به الألسن دون جدال … أشياء بديهية لا يقف عندها التفكير … تُرى هل أُلغيت مبادئ الأخلاق في هذا المجتمع … وحذفت كلمات الفضيلة والعفة والحياء من القواميس المعمول بها دون أن يدري؟!

ولبثت تنتظر ردَّه، وهي تُخرِج من حقيبة يدها صندوق مسحوق «البودرة»، وإصبع الأحمر، فتصبغ وجهها وشفتيها … وهو يتأمل ذلك، ويذكر يوم كانت زينة المرأة شيئًا خفيًّا، يتمُّ في حجرة مغلقة … فإذا هو اليوم عمل علني تجريه في كل مكان تحت أنظار الرجال، والسيجارة كانت لا تدخنها من النساء غير العاهر، والخمر لا يحتسيها غير المومس! فإذا حرائر النساء يدخنَّ ويَسْكرنَ علانية في السهرات والمجتمعات والحفلات! كذلك كلمة الخليل أو العشيق كانت المرأة تلفظها قديمًا هامسة بين طيات الحجب وكأنما تلفظ إثمًا … فلا عجب، ما دام كل شيء يتطور، إذا تحدثت النساء اليوم عن العشاق المعجبين بملء أفواههن أمام الناس، كأنما يتحدثن عن أثوابهن، ويُشِدْنَ بأحاديث المغامرة بالبساطة التي يدخنَّ بها «سيجارة»، ويصِفن حوادث الغواية بالعناية التي يطلين بها الشفاه … كل هذا طبيعي عندهن الآن فلا فائدة من المناقشة! ولكنها ترمقه بعينيها تنتظر كلامه … ماذا تريد منه بعد ذلك على وجه الدقة؟ فالتفت إليها أخيرًا، قائلًا: لم أفهم بالتحديد، ماذا تنتظرين مني يا سيدتي؟

فقالت بكل هدوء: أنتظر منك يا سيدي القاضي ألا تكون جلادًا، بل تكون قاضي صلح!

– صلح؟!

لفظها في مزيجٍ من الدهشة والارتياع والسخرية.

فلم تخرج عن هدوئها، وقالت مبتسمة: ولِم لا؟ ألا يَسُرُّك أن يتمَّ بيني وبين زوجي كلُّ تفاهم وصفاء؟!

فقال بشيء من التردد: بالطبع يسرني ذلك … ولكن؟

– ولكن ماذا؟ إنها خير خدمة تقدمها للطرفين … ومن يدري؟! ربما كانت هذه هي المهمة التي كُلفت بها.

– على النقيض!

– أكانت مهمتك إذن إشعال نار الخصام في بيتنا؟

– لا يا سيدتي … بل مجرد تبليغك طلبات زوجك!

– ما هي طلباته؟ … الانفصال طبعًا.

– الطلاق بغير ضجَّة … وتسليمه الطفلة.

– هذا ما توقعت بالضبط، فأنا أعرف زوجي … تلك هي حلوله الهادئة العاقلة الرزينة … لكن … إذا احتكمنا إلى فكرك أنت … فكرك العميق المتسع … ألا ترى خيرًا من كل هذا أن نَرمَّ عشَّنا المتصدع، وأن ننشئ ابنتنا في حجرنا؟

– لست مكلَّفًا بمهمة التحكيم، بل بمهمة التبليغ.

فسكتت قليلًا … ثم قالت: لقد قمتَ بمهمة التبليغ من قِبل زوجي، فهل لديك مانع من أن تقوم كذلك بمهمة التبليغ من قِبَلي، فتخبر زوجي بكل ما أخبرتك به الآن؟ أي بذلك الذي سمَّيته أنت دفاعًا … قل له: إني أرفض اتهامي بالخيانة … وإن الكراسة ليست سوى قصة خيالية! أتتفضَّل بتبليغه ذلك، وإخباري بالنتيجة؟

فتفكر «راهب الفكر» لحظة … ثم قال: ليس لديَّ ما يمنع من تبليغه ذلك!

فقالت، وهي تنهض للانصراف: لن أطمع في أن تقف إلى جانبي، وتعرض الأمر بما فيه مصلحتي، فأنا ما زلت أعتقد في سوء حظي معك! إني لم أظفر قطُّ يومًا بقليلٍ من عطفك، ولكني أنتظر منك على كل حالٍ ألا تؤذيني بكلمة تلقيها ضدِّي! كُنْ على الحياد التام على الأقل.

– لكِ ذلك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤