المعركة

مضى يوم و«راهب الفكر» ينتظر صامتًا، لا يدري ما يفعل، وقد وضعته الزوجة في هذا الموقف المحير، ولكن انتظاره لم يَطُلْ؛ إذ ما جاء ظهر اليوم حتى دَقَّ جرس تليفونه، وإذا هو الزوج يخاطبه بصوت الغاضب، ويخبره بأن الزوجة قد عرفت مكانه في «حلوان»، وأنها ذهبت إليه ضحى اليوم باكية، فاستقبلها كما يستقبل سيدة أجنبية ما سبق له أن رآها … وأجلسها في بهو الفندق بأدبٍ، ولم يُتِح لها أي فرصة للكلام في أي موضوعٍ خاص، ولم يُبْدِ لها قطُّ أنه فطن إلى دموعها، أو حفل بها، أو اهتمَّ بسببها.

ثم استأذنها بعد أقل من دقيقة، معتذرًا لها بعملٍ يستوجب ذهابه، وانصرف تاركًا لها الفندق … على ألا يعود إليه إلا ليأخذ أمتعته، ويقيم في جهة أخرى مجهولة، ولن يخبر بمقره الجديد أحدًا حتى يُصفِّي كلَّ ما بينه وبينها.

ورجا صاحبه أن يُسرع بكل الطرق إلى إنهاء هذا الموضوع بالحسنى، قبل أن ينفد صبره فيلجأ إلى الوسائل الأخرى المعروفة، مع ما فيها من صخبٍ وعنفٍ وسوء عاقبة! وانتهت المحادثة بينهما، ووضع «راهب الفكر» السماعة وهو متردد فيما يقدم عليه: أيطلبها كالمعتاد بالتليفون، ويسألها الحضور، أم ينتظر حضورها من تلقاء نفسها كما وعدت؟!

مما لا ريب فيه أنها آتية على كل حالٍ، ومجيئها على هذا النحو خير من طلبها، لأنها ستأتي لتتكلم هي، لا لتصغي إلى ما يعرض عليها من مطالب، فالأجدر به إذن أن يتركها حتى تأتي بقدمها. كل ما يرجوه ألا تبطئ في المجيء، وهو يقدِّر أنها لن تبطئ بعد أن قوبلت تلك المقابلة الباردة الحاسمة من زوجها، وقد صدق تقديره، فما كاد الليل يجنُّ حتى أقبلت … لكن على أي صورة … إنها لم تَبْدُ على حالٍ كسيرة، بل ظهرت براقة خلابة، كقطعة من النور، تتلألأ في ظلام المساء! ودخلت عليه الحجرة تخطر في ثوبٍ حريري، يبدي محاسن جسمها، وقد سبقها عطرها، وكأنه يفتح لها عن بُعد طريق الفتنة … يا لقوة العطور! لكأن المرأة — في هجومها للسيطرة على الأفئدة — عرفت من قديم كيف تلجأ إلى الحرب الكيميائية! ولم تجلس في مقعدها، بل دنت من مكتبه، وبادرته قائلة: أين القلم والورقة؟

فلم يستطع إخفاء ارتياحه، وصاح: أتكتبين؟

– نعم! … أيدهشك هذا التسليم السريع؟!

– خاب سلاحك الأخير إذن؟!

– صدقت، لم تعد أي حياة زوجية بيني وبينه ممكنة!

– رأيت بعينيك؟!

– كيف علمت؟ هو الذي أخبرك طبعًا أني ذهبت إليه!

– نعم! أخبرني بكل شيء!

– نعم! لا فائدة … إني منذ وقع نظري عليه للوهلة الأولى أدركت أني أمام رجل آخر! ليس هو زوجي الذي أعرفه … لقد أحسستُ عندئذٍ أن كل شيء قد انتهى … ومن الخير أن نطوي صفحة زواجنا بسلامٍ! إنه رجل مهذب حقًّا، ولا أظنك سمعتني أشكو يومًا من خُلقه! لقد رأيت منه اليوم أنه يؤذيه ويجرحه أن يحادثني في مثل هذا الموضوع … وأن كل ما يريد حقًّا هو البعد عني، بغير إثارة كلام! فلا أقلَّ من أن أريحه في ذلك، وألا أعارضه في رغباته … أما الطفلة فإني واثقة بأنه لن يحرمني رؤيتها وقتما أريد، لأن فكرة تعذيبي لن تخطر ببال مثله، مهما يكن الحال، فليكن له ما أراد! وليذهب كلٌّ منا في طريقه … أَمْلِ عليَّ ما ينبغي أن أكتب!

فأَمْلَى عليها الصيغة التي رآها تتفق مع مطالب الزوج، ووقَّعت عليها بإمضائها، وأخذ الورقة فطواها وحفظها في ملف عنده! واستقرت هي في مقعدها، وأخرجت سيجارة من حقيبة يدها، وقالت باسمة، وهي تتنفس: الآن أنا حرة … أصنع ما أشاء!

– طبعًا!

– وأستطيع أن ألقى منذ الليلة من تحلو لي مقابلته، وها أنا ذي قد تجمَّلت، كما ترى، لأني على موعد في سهرة ستكون ولا شك لذيذة ممتعة!

– هنيئًا لك يا سيدتي.

قالها بنبرة لا يتبيَّن منها مغزاها الحقيقي؛ أهو المجاملة، أم السخرية، أم الغيظ! ورفعت هي أهدابها ببطء ناظرة إليه، كأنها تحاول أن تفسر معنى عبارته، ولكنها لم تستطع، فقد أطرق وتشاغل بترتيب الأوراق فوق مكتبه، ومضت هي تقول: حقًّا … ما أجمل الحرية! إني كنت حمقاء؛ إذ حاولت التشبث بزواجي هذا … لماذا لا أجرب حظي مرة أخرى؟ إني صغيرة السن، ولست فيما أظن قبيحة المنظر … ألا ترى ذلك؟

فرفع رأسه، ونظر إليها متسائلًا: أرى ماذا؟

فلم تتراجع، وقالت بجرأة: ترى إذا كنت قبيحة أو جميلة؟!

فتمهَّل، ثم قال دون أن يلتفت إليها: ألم يحدِّثك في ذلك أحد بعدُ؟

– كل الناس … إلا أنت.

فأخذ يعبث بأوراق مكتبه، ويقول: يخيَّل إليَّ أني أبديت فيك رأيًا!

– نعم … في حمقي، وجهلي، وطيشي، وسوء تصرفي!

– لقد أبديتُ إذن رأيي!

– في ذلك، نعم! ولكن … ولكنك لم تقل لي مرة واحدة إني جميلة!

– رأيي في هذا لا يعتدُّ به كثيرًا.

– عندي أنا يُعْتَدُّ به كثيرًا.

– أشكرك على هذا التقدير المبالغ فيه!

فنفخت دخان سيجارتها من فمها في الهواء بحنقٍ، قائلة: أعوذ بالله منك … إنك فظيع … فظيع … هل تظن امرأة تستطيع أن تتحمَّل هذا؟ أتصدق إذا قلت لك إنك الرجل الوحيد ممن صادفت، الذي لم يخاطبني في الحب؟! ولم يقل لي «أحبك»! إني أحيانًا أكاد أنفجر غيظًا منك، ويخيل إليَّ أنك تهينني وتجرح نفسي وتمس كرامتي … وأتمنى لو أستطيع يومًا أن أقتص منك … لماذا لم تحبني؟ لماذا لم تعجب بي؟ لماذا أنت وحدك تعاملني هكذا؟ ما الذي لم يعجبك في شكلي وجسمي؟ لطالما ألقيت على نفسي هذه الأسئلة ووددت لو أظفر بجواب!

وأطرق «راهب الفكر» … ومضى يعبث بقلمه فوق ورقة ويرسم عليها رسومًا لا معنى لها … وربما كان ذلك ليخفي بعض خلجات، مرَّت كالنسيم فوق شغاف قلبه … ولكنه قال لها دون أن يلتفت إليها: ما كان يجب أن تشغلي بالك بسخافات كهذه!

فنظرت إليه مليًّا، كأنها تفحصه فحصًا دقيقًا، وقالت: لا أستطيع أن أصدقك … إن موقفك مني ليس طبيعيًّا … إني لأعجب كيف تسمِّي سخفًا اهتمامي بك … إنك ولا شك تزدريني! أعرف ذلك ولا أكابر فيه … ولكن … ولكن ذلك لا يمنع من أن تُسَرَّ على الأقل لشعوري نحوك … ربما كنت تخافني أو تحسب أني أحادثك اليوم هكذا لغرضٍ آخر … خصوصًا في ظروفي الحاضرة … ولك الحق في هذا الظن … فالظواهر كلها تؤيده! لكن ثِق بأنه ما من غرضٍ لي غير مصارحتكَ بكل ما يدور في خاطري! إذ من التعسف حقًّا ألا نكون صريحَين في كل شيء، وقد دخلت أنت في شئوني الخاصة على هذا النحو! اطرح من رأسك إذن أي غاية أخرى لي فيك! لن أفكر في الزواج منك مطلقًا! إني أعلم أنك لن تتزوج بمثلي أبدًا! أليس كذلك؟ ألم أعبِّر عن الحقيقة؟! تكلم!

– الزواج منك شرف لا أستحقه.

– أف! لا تكن قاسيًا في التهكم بهذا المقدار! أخبرني لماذا لا تكون الآن باسمًا صافي النفس معي، بعد أن أذعنتُ لك، ووقَّعت الورقة عن طِيب خاطر؟ إلا إذا كنت أنت أيضًا تريد أن تقطع بي كل صلة أسوة بزوجي! وهو موقف يخرجك عن حيادك العادل … صارحني بحقيقة موقفك مني؟

– ثقي بأني لن أخرج على موقف الحياد أبدًا!

– إذن خاطبني بلهجة الصداقة، التي لا شكَّ في أنك تخاطب بها زوجي.

– ليس هنالك ما يدعوني إلى مخاطبتك بلهجة العداوة!

فامتعضتْ لهذا الجواب الجاف! ولكنها مضت في حديثها الليِّن: فلنتحدث إذن كأصدقاء، سأكشف لك عن كل خوالجي: أتدري ما هو نوع الزوج الذي أحلم به؟ هو نوع ليس من طراز زوجي ولا من طرازك! إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تتوافر لامرأة في عصرنا الحديث، إلا مع زوجٍ باهت الشخصية، قليل الذكاء … لقد خبرت ذلك بنفسي، وأحصيت بين كل معارفي عدد السعيدات الناعمات، في بحبوحة الحرية، المتمتعات بالراحة العائلية، فإذا هنَّ المتزوجات برجالٍ من ذلك الصنف المتوسط في مواهبه، المتواضع في مداركه! إن غلطتي الكبرى هي أني وقعت في نوعٍ لا يصلح لامرأة مثلي … ألست معي في هذا الرأي؟!

– إني من رأيك!

– وأنتَ، هل تسمح لي أن أسألك عن الطراز الذي يعجبك من المرأة؟

– قليلة الذكاء، باهتة الشخصية!

فضحكت بملْءِ فِيها، حتى بدا لؤلؤ أسنانها يبرق في ضوء الليل الشاحب، فقد كانت الحجرة لا يضيئها وقتئذٍ غير مصباح المكتب الكهربائي، ورمته بنظرة؛ سحرها لا يقاوم! ومضت قائلة: وتربيتها رجعية؟

– مثلي!

– وشكلها؟ حسناء؟

– مثلك!

ألقاها في نغمة لا يعرف فيها جِدها من هزلها! وحاولت هي أن تكشف مراده لحظة، ثم قالت: آه … لو لم أكن واثقة بأنك تسخر، لعددتُ هذا أول اعتراف منك بأني حسناء!

– وماذا يقدِّم هذا أو يؤخِّر؟!

فقالت بصوتٍ مبتهجٍ حلو: إنه كسب عظيم لي … لقد ظفرت على الأقل بإعجابكَ في شيء ما!

– لا تبالغي يا سيدتي!

فأخفت امتعاضها قائلة: «يا سيدتي»؟! دائمًا يا «سيدتي» بعد كل هذه المعرفة، وكل هذه الصلة، ما زلت تدعوني «يا سيدتي»؟! متى إذن تقول لي يا «صديقتي»؟!

– «صديقتي»؟!

لفظها من فم بارد فاتر، ولكن وقْعها هبط في مكان حار من قلبه وذاكرته … وتذكر رسائله وكراستها، وكيف وردت هذه «الكلمة» فيما كتب هو، وفيما كتبت هي … وكيف عاشت هذه «الكلمة» حياتين مختلفتَين؟ إحداهما في سحبه، والأخرى في أديمها … فهزَّ رأسه استهزاءً بهذه «الكلمة»، وبنفسه، وبالجميلة التي بجواره … ولزم الصمت، وطال انتظارها لكلامه عبثًا، فقطعت هي صمته قائلة، بصوتها الناعم: تستكثر عليَّ صداقتك أيها البخيل، وأنا التي كانت تنتظر أكثر من ذلك!

– ماذا كنت تنتظرين أكثر من ذلك؟

– أن أكون لك على الأقل مثلما كانت «تاييس» للراهب «بافنوس»!

– تاييس؟!

– لا أظنك نسيت أنه الكتاب الذي وضعته أنت في يدي، يوم لقيتك ها هنا لأول مرة … ثِق بأني قرأته بإمعانٍ كلمة كلمة، ورأيت كيف استطاعت «تاييس» أن تخلب لبَّ الراهب، وتجعله يخلع مُسُوحه، ويهجر صومعته، ويجري في أثرها كالمجنون … إنها هي استطاعت ذلك … أما أنا؟ ومع ذلك فلقد طالما سألت نفسي: لماذا جعلْتَني أطالع هذا الكتاب بالذات؟

وصوَّبت إليه عينين أرغمتاه على الإطراق … ولو كان هذا السؤال مفاجئًا لما تمكَّن من إخفاء اضطرابه … ولكن جنوحها بالحديث نحو هذه الصخور، كان قد بدرت بوادره منذ حضورها الليلة … فلم يبدُ على وجهه تغيُّر … وقال مالكًا زمام نفسه: جعلتكِ تطالعينه لتعتبري بنهاية تلك الغانية!

فقالت ضاحكة ضحكتها الناعمة: إني اعتبرت ببدايتها.

– لست أنا المسئول إذن عن اختيارك!

– أوَكنت تريد مني أن أكره بدايتها الباسمة، وأحب نهايتها القاتمة؟!

– نهايتها ليست قاتمة، بل مضيئة بنور الفضيلة … لقد كان جسمها محاطًا بالدَّنس، ولكن روحها كانت مرتفعة طاهرة، كالزهرة البيضاء الناهضة بساقها فوق الطين!

– عجبًا لك! هذه تعرف كيف تلتمس لها الأعذار، مع أنها كانت في نظر الناس ساقطة؟!

– لا أهمية لذلك … إن الساقطة تكون أحيانًا في رذيلتها ومباذلها أمام الناس، ولكنها في فضيلتها وطهارتها أمام الله! والحرة أحيانًا تكون في رذيلتها ومباذلها أمام الله، وفي فضيلتها وطهارتها أمام الناس! «تاييس» كانت نقية أمام الله، وهكذا حدثت لها الأعجوبة، وانقلبت تلك التي كانت ساقطة في نظر الجميع، قديسة تتفتح لها أبواب السماء!

– ولكن الراهب «بافنوس» لم يحب فيها القديسة، بل أحب المرأة!

– نعم … للأسف!

– ما من رجلٍ يحب في المرأة غير المرأة!

– هذا صحيح، ولكن ذلك الراهب حقَّت عليه اللعنة، وفقدَ السماء إلى الأبد، فقدَ سماءه التي أنفق حياته كلها يتطلع إليها! إنَّ لكلِّ راهب سماءه!

– أراك أنت قد اعتبرت جيدًا بنهاية الراهب!

– لقد أحسنتُ صنعًا؟

– لا!

قالتها بشيء من التحدي … فهزَّ كتفيه، وقال لها: هذا رأيكَ أنتَ، وماذا كان يُنتظر من مثلك؟

–كان يُنتظر من مثلي أن تنصحك، وأن تصارحك بالحقيقة وتقول لك: إن كل من يرفض الحب — عندما يأتي — هو ذلك الذي حلَّت عليه الخيبة! مضى عهد القديسين والأولياء الصالحين! اخرج معي الآن إلى المجتمع الحاضر، لتعرف في أي عصر تعيش! إنه ليدهشني من رجلٍ مفكرٍ مثلك أنه ما زال يحيا مع شبح الأفكار الميتة، وخرافات الكتب القديمة!

– أعيش مع الشيء الباقي … إن الأفكار لا تموت.

فضحكت وقالت: بل لا شيء يموت مثل الأفكار … إنَّ لكلِّ جيلٍ أفكاره، كما أنَّ لكل عصر ثيابه … إن الأفكار كورق الأشجار تتساقط في كل خريف! أين هي الأفكار التي كانت حية منذ ألف عام، بل منذ مائة، بل منذ خمسين؟! ولكنَّ القُبلة هي القُبلة … لم تفقد حرارتها من ألف ألف عام … بل منذ خلق الإنسان؟! والعناق هو العناق، ما زال يثير في الجسم والنفس عين الإحساس منذ مبدأ الأجيال!

– تقارنين الكتب والأفكار بالقُبل والعناق؟! يا لها من مقارنة جميلة!

فابتسمت ابتسامة خلَّابة، وقالت: ترى أيها الرابح في نظرك بهذه المقارنة؟!

– لا محلَّ في نظري للمقارنة على الإطلاق!

– لسببٍ بسيطٍ، وهو أنك تجهل ما هي القُبلة؟

– وهل خسرت بهذا الجهل شيئًا كبيرًا؟!

– خسرت كلَّ شيء!

– يا للطامة الكبرى!

قالها في نبرة استهزاء … ولكنها مضت تقول بجِدٍّ: هي بالفعل طامة كبرى! لقد كنتُ مثلكَ إلى وقتٍ قريبٍ، أحسب القُبلة — وضع الشفاه على الشفاه — رمزًا للحب! أو معنى للوفاء! لا … إنها ليست رمزًا ولا معنى … إنها مادة حية بذاتها، مجردة من كل معنى وكل رمز! لا شيء حقًّا يفسد حيوية المادة غير تلك المعاني أو الرموز، التي نلقيها عليها، ونكتم بها أنفاسها … المادة هي المادة بحرارتها المنبعثة من داخلها، لا من المعاني التي تُسبَغ عليها! مصيبتك — وصدقني فيما أقول — مصيبتك الكبرى هي أنك ترى في القُبلة مادة باهتة، مختنقة تحت غطاء معنًى من المعاني.

إني في زواجي كنت أجد القُبلة هكذا … ويوم وجدت مَن كشفَ لي هذا الغطاء عنها، أحسست كأن ستارًا قد رُفع أمامي عن جنَّاتٍ من الإحساسات واللذات لم أَرَ لها نظيرًا ولا شبيهًا، لا في عالم الخيال ولا في دنيا الأحلام! إن تصورات المخيِّلة الذهنية لا تستطيع أن تطرق باب المشاعر الجسدية، ولا أن تحيط بها إلا كما يحيط الهواء الخارجي بجدران إناء مختوم! لعل هذا يفسر لك لماذا كتبت كراستي؟ إنه كان طيشًا مني حقًّا … ولكني لم أستطع مقاومة تلك الرغبة في أن أسجل تلك اللحظات الأولى لمشاعري الجديدة المستيقظة … لقد شعرت — وأنا أصفها على الورق — كأني أعيشها مرة أخرى ومرات! ولقد أردت فعلًا أن أعيشها مرة أخرى ومرات … ثِق أيها الصديق بأن الدنيا كلها، بأفكارها، وفضائلها، ورذائلها، وعقائدها، ومُثُلها العليا ومطامعها العظمى، كل ذلك يذوب في لحظة واحدة … في حرارة قُبلة حقيقية!

كانت تقول ذلك، وشفتاها الرطبتان تهتزان، كأنهما كرزتان توءَمتان يهزُّهما النسيم فوق شجرة … واختلس «راهب الفكر» إليها النظر؛ ورأى ذلك الجمال كله، وتأمَّل تلك الكرزتين، وما يمكن أن يكون فيهما من عسل … وذلك البدن البضَّ الغضَّ اللَّدِن، وما يمكن أن يُحدِث لمسُه من أثر … لقد صدقت … إن جسمها الذي أمامه لم يكن عنده أكثر من جدار يضع عليه صورًا من اختراع خياله، ومعانيَ مِن ابتكار ذهنه! أما الجدار ذاته فلم يلمسه، ولم يعرف ما وراءه … كيف استطاعت هي أن تقول هذا القول الصائب؟! حقًّا … إن رءوسنا بما تفرز من معانٍ تغلِّف بها المادة، لَتُقصينا بدون أن نشعر عن لمس حقائق الأشياء!

إنها المبارزة الدائمة بين المعنى والمبنى، والفكر والجسد، والروح والمادة، كل منهما يريد أن يحجب الآخر، فلا تبصر منه غير ظلالٍ شاحبة؛ فالفكر إذا طغى يفسِّر لنا الجسد بمعانيه، والمادة إذا طغت تفسر لنا الروح برسلها! لا … لا شيء يفسر المادة غير المادة، ولا يكشف عن الروح غير الروح! لا بد أن يلتحم صدر بصدر، وتلتصق شفة بشفة، حتى يخرج من ذلك الاحتكاك قبسٌ من شعورٍ خاص، هو وحده الذي يرينا ما لا يستطيع الفكر المجرد أن يتخيل!

إنها على حق، وإنه لَيُغالي في تقدير الفكر! وما هو سوى عين واحدة من عينَي كياننا المطلِّ على الحقيقة! إذن لماذا أَغمض العينَ الأخرى، ولم يَستخدم الجسدَ كما استخدمَ الفكرَ، أداةً للمعرفة؟ ليس يدري … إنه في علاقاته الجنسية — كما في طعامه وشرابه — لم يكن يتناول غير القدر اللازم لخدمة فكره … إنه لم يخطر له أن يجعل من تلك المآكل وليمة شهية، ينقضُّ عليها بأنيابه، ويلتذها لذاتِها، ويحسُّ كأن حلقه ينعم بمرور الطعام الفاخر فيه، وملامسته له! وكأن غشاء المعدة مرتاح بلذة الامتلاء، والبطن سعيد بذلك الضغط الخفيف اللطيف على جدرانه اللينة! إنَّ كلَّ جزء من جسمنا، وكل عضو من أعضائنا، هو مخلوق حي، له سعادته الخاصة به، وهي سعادة بعيدة عن كلِّ خيال ذهني!

وكما أن الأسنان تسعد وتنتعش وتقوى، إذا قضمنا بها تفاحة، كذلك كل طرف من أطرافنا يسعد بالقضم أو اللمس أو العناق … حتى أصابعنا تنتعش إذا لمست جسمًا ناعمًا جميلًا … ولكن «راهب الفكر» لم يعطِ لأصابعه غير لذة لمس الكتب وإخراجها من خزائنها في ظلام الليل! كل شيء في جسمه قد سخَّره لخدمة ذهنه! ذلك الساحر الدجال الذي لم يصنع شيئًا لأعضاء الجسم المستعبدة، غير أن لفَّق لها لذَّاتٍ وهميةً.

ونظر «راهب الفكر» إلى أصابعه نظرة إشفاق، وكأنه يقول لها: «صبرًا … صبرًا على خداع ذلك الذهن الساحر!»

وكأنها ترد عليه قائلة: «إلى متى هذه السخرية؟! نريد أن نلمس شيئًا آخر غير الكتب!»

يا لها من فتنة تستيقظ على مهلٍ! إنها بوادر الثورة تهمس من كل طرفٍ من أطراف بدنه! وإنه ليتمثل تلك اللحظة التي تهبُّ فيها كل شعرة من شعراته صائحة: «فليسقط الفكر»! وإذا كان «الراهب بافنوس»، لم يصمد لهذه الثورة بإيمانه المتأصِّل العريق فطرحَ الإيمان؛ أفيستطيع هو الصمود بالفكر؟ والفكر ليس صلبًا كالإيمان!

فالإيمان قاطع، لا يحتمل الشك، ولا يقبل المناقشة والجدل … ولكن الشك هو نافذة الفكر، التي تجدِّد دمه بهواء المناقشة والجدل!

إن إيمان «بافنوس» حماه، وذاد عنه حتى اللحظة الأخيرة! ولكن الفكر، باتجاهاته، وتأملاته، وآرائه، وشكوكه؛ سيحاور الثوار، ويفاوضهم من اللحظة الأولى! وقد ينتهي به الأمر إلى الانضمام إلى ثورتهم، والْتماس الأعذار لها، واختراع الحجج لتبريرها! وقد يتزعمها، ويقوم على رأسها، ويسعى في تنظيمها! إذا حدث هذا فلا بأس، ولكن من ذا يتنبأ بمصير ثورة؟ إن نار الثورة تأكل فيما تأكل زعماءها … إنها عقاب الطبيعة لكل طغيان، حتى وإن كان الفكر والإيمان! إن ثورة الأعضاء إذا شبَّت حقًّا فهي لن تقف في جموحها أمام الفكر، وهو ساحرها القديم، وسيدها العظيم! إنها ستجتاحه فيما تجتاح، حتى وإن لبس لها ثياب الذلة، ولوَّح لها براية التسليم!

وهكذا مضى «راهب الفكر» في تصور هذه الثورة، وما تسفر عنه، وخُيِّل إليه أنه غرق في لجَّتها وانتهى الأمر … ونسيَ أنه لم يزل في منطقة المعاني الفكرية، على الرغم من نقده لها، وشكِّه فيها، وأنه لم يزل خاضعًا لإفرازات الرأس وحده.

ولبثت هي ترمقه في صمتٍ، وكأنها أدركت — بغريزة الأنثى فيها — ما يجول في خاطره، وقرأت بعين خفية تلك اللغة الخفية التي لا يفهمها غير الأنسجة والخلايا! ولعلَّها رأت في وجهه وقتئذٍ، لا ملامح الراهب المستنكر، بل ملامح المفكر المتشكك! إنها تراه في أقرب أوقاته إلى التخاذل والتساهل!

فانطلقت تقول: نعم! إني لا أعرف أيَّ نوعٍ من النساء قابلت في حياتك! إنك لم تخبرني بذلك بعدُ! ولكني أؤكد لك أنك لم تصادف امرأة استطاعت أن تسيطر بجسدها عليك وعلى جسدك!

فنظر إليها نظرة اطمأنت إليها … وشجَّعتها على المُضي في كلامها، فمضت تقول: تلك التي تغمرك بقبلاتها، فتحسُّ كأنَّ كلَّ ذرة من ذراتك قد شربت وارتوت.

فلم يُجِبْ، فمضت تقول: تلك التي تُشعرك بأنها جوعى، وأنها تريد لو تضعك في جوفها بلحمك وعظمك … إني لأتخيلك مع هذه المرأة … وقد عرفت كيف تثير فيك جوع الذئاب، وأتصور أسنانك هذه وهي تضغط على لحمها الطري! إنك ستكون مخيفًا، رائعًا لذيذًا في الوقت نفسه! وإني لواثقة بذلك … وأعرف ما سيحدث كأنه حقيقة وقعت!

ولزم هو صمته، ولم تكن هي في حاجة إلى كلامه، فقد أفضت نظراته بكل شيء … إنه في تلك اللحظة كان أشبه الأشياء بسفينة عظمى، وقفت فيها المحركات، وقد أخذ بزمامها قارب صغير، يقودها إلى داخل الميناء … إنها أدركت منه — وقتئذٍ — أنه يدخل وئيدًا وئيدًا ميناء نفوذها، فابتسمت له ابتسامة ظفر أو إغراء أو ابتهاج … أو كلها مجتمعة، لا أحد يدري … كل ما كانت تعلم — عند ذاك — هو أنها قد أفلحت في استدراجه إلى ميدانها! ها هنا، حيث أسلحة الغريزة تعينها، في إمكانها أن تقهره! أما أن تذهب إليه في ميدانه، حيث يعتصم بحصون الفكر، والكتب والأدب، فقد باءت بالخيبة منذ الجولة الأولى. وضحكت ضحكاتها الناعمة، وأخذت في حديث تافه، وجذبت بحركة طبيعية لا تكلُّفَ فيها ولا إغراق، طرفَ ثوبها فكشف عن أعلى ساقيها وحدجته بنظرة ناعسة من خلال أهدابها الطويلة علمت منها أن الدم قد صعد في رأسه! نعم … لقد حدث ذلك حقًّا … لقد رفع الثوار راية العصيان … وبهذا صعد الدم الأحمر في الرأس! إن الفكر الآن محاصر، والدم حوله في كل مكان … والحواس، والخلايا، والذرات والأعضاء؛ هي الآن صاحبة السلطان!

وعندئذٍ نهضت كالغزال رشيقة خفيفة، ونظرت في ساعتها الصغيرة في معصمها، وقالت: أوه … لقد تأخَّرت عن موعدي!

ومدَّت يدها الرقيقة الملساء إليه تحييه … وضغطت على يده … فتناول هو يدها ولم يتركها، وقال لها كمن يصحو من نومٍ: موعدك؟

فقالت بابتسامتها الخلابة، وهي ترميه بتلك النظرة التي لا تقاوم: ألم أقل لك — عند مجيئي — إني على موعدٍ في سهرة لذيذة ممتعة؟!

– مع رجل؟!

– طبعًا … ومع مَن إذن؟

قالتها بضحكة قصيرة لطيفة، فترك يدها، وقال متصنعًا عدم الاكتراث: اذهبي إذن!

فقالت بحنوٍّ: أيسوءُك هذا؟

– أنت حرة في تصرفاتك، لقد قلتِ إنكِ تريدين أن تنطلقي حرة، تفعلين ما تشائين … اذهبي إذن وافعلي ما شئت، وأَلْقِي بنفسك في أحضان كل رجل! اذهبي! … اذهبي! … وألقي بجسمك بين ذراعَي أي رجل!

فرَنَتْ إليه لحظة، ثم قالت بدلالٍ: أراكَ قد غِرْتَ!

– أنا؟

– إني لست طفلة حتى أجهل الغيرة!

– اذهبي … لا أريد أن أراك! لقد تَمَّ كلُّ ما بيني وبينك، ولم يبقَ ما يدعو إلى وجودكِ معي، اذهبي إلى موعدك، وإلى سهرتك اللذيذة الممتعة!

– إني ذاهبة … ولكن ألا تريد أن تعرف مع مَن هذه السهرة؟

– لا ضرورة لأن أعرف!

– هو رجل تعرفه!

– هذا لا يعنيني!

– إنه رجل ظريف جدًّا … أأخبرك باسمه؟

– لا.

– سأقول!

– لا أريد أن أسمع.

– أكتبه لك إذن … أعطني قلمًا وورقة!

ولم تنتظر … بل أسرعت ودنت من مقعده، وأخذت تنبش أوراق المكتب بدلالها، واستخرجت منها ورقة بيضاء، وتناولت القلم، وجلست بإحدى فخذيها على ساعد المقعد. فالتصق جسمها بجسمه، وانحنت برأسها لتكتب فانحدرت بعض خصلاتها المعطرة على جبينه … ثم تحركت فأحسَّ أحد نهديها يلامس خده، ويكاد من ضغطه الرقيق ينبعج بلطفٍ ورقَّة، كما تنبعج كرة المطاط لضغط أصابع اليد، وشَمَّ رائحتها تملأ أنفه، رائحة جسم الأنثى ممتزجة بعطورها!

إن لِعَرق المرأة وأنفاسها من الرائحة الذكية أحيانًا، ما يزري بأي عطرٍ مصنوع، فهي رائحة طبيعية في المرأة كما في الزهرة … ولكنها لا توجد في كل النساء، كما أن الشذا الطيب لا يوجد في كل الأزهار! وإن فيها لَسِرًّا تعرفه الطبيعة، ولا تعرفه الصناعة، هو الذي يجعل في تلك الرائحة الطبيعية إغراءً جنسيًّا لا يُقهر.

ولم يستطع «راهب الفكر» أن يميِّز رأسه من قدمه، فقد أمسى شيئًا ليس له زمام … ولم يفطن حتى إلى معنى كلماتها وهي تمازحه، ولكن أذنه منتشية بحلاوة صوتها، ولم يُبْدِ اهتمامًا بكلماتها التي تخطها فوق الورق، ولكن عينه تلتهم تلك اليد الرَّخْصة البضَّة!

إنه لم يعد إنسانًا مفكرًا أو قابلًا للتفكير، في أي صورة من صوره، لا التافه منه ولا النافع، إنما هو كتلة لحم ودم وأعصاب بغير قياد! وكان الليل ساجيًا جميلًا … والضوء القليل المنبعث من مصباح مكتبه، يلقي أشعته الهادئة على وجه تلك الفاتنة، وخصلات شعرها المنثور، ونحرها وصدرها؛ فيبدو كأنَّ كلَّ ذلك فيها يتحرَّك ويلعب بفعل الظلال والنور! ولبث هو بين كل هذا هادئ المظهر! ولكنه في داخله يهتزُّ كالمرجل، بل إنه كان في هدوئه الخارجي، وعنفه الداخلي، كالقنبلة التي تنفجر في ساعة معينة! لقد كان يحسُّ أنه لا بد من انفجاره … ولكنه لم يكن يدري متى على وجه التحقيق؟ مجموعة أعصابه هي التي ستبتُّ في ذلك! كل ما يعي هو أنه لم يزل في نفسه منطقة تقاوم، لتؤخر تلك اللحظة التي يجد فيها ذراعيه قد انطلقتا من تلقاء نفسيهما، تطوقان هذه المرأة ليقطعها فمه تقبيلًا! ولكن على الرغم من هذا السكون الذي يسبق العاصفة … فقد أدركت هذه المرأة كلَّ شيء، وفطنت إلى ما به! وشعرت بما في أفق نفسه، كأنها طير من طيور البحر التي تحسُّ بغريزتها الزوابع قبل وقوعها.

بل لقد رأت منه هذه المرأة — في صمته وسكونه وجموده — شيئًا واهيًا، كتمثالٍ من رمال، يتداعى إذا لُمِس لمسة أخرى من أناملها! وعندئذٍ لم تتردَّد، ومالت نحوه بجسمها، حتى أحسَّ ثديها الطري كالفاكهة الناضجة يكاد يبلغ فمه … وأدنت رأسها من رأسه، وجعلت أنفاسها الحارة تُلهب وجهه … وهمست في أذنه كنسيم الربيع بدفئه الرطب المنعش، وهي تُريه ما خطَّت يدها على الورق: «حبيبي الذي بيني وبينه الموعد هو … أنت»!

في تلك اللحظة كانت يده قد امتدَّت، بدون أمر منه، تريد خصر الفاتنة، وشفتاه، بدون أن تطيعاه، قد تحركتا تبحثان عن …

وإذا … وإذا جرس التليفون يرنُّ كأنه الرعد الصاخب في فضاء الحجرة.

وهنا … وهنا انتفضا انتفاضة فصلت بينهما … وأسرع هو إلى السماعة فتناولها … وإذا هو الزوج يخاطبه بصوتٍ يتهدج قائلًا: «البقية في حياتك … ابن خالي توفيَ اليوم؛ انطلقت فيه رصاصة طائشة وهو ينظِّف مسدسه … أنا الآن في «جراند أوتيل»! في «حلوان» … لإجراء اللازم نحو إخراجه، وتشييع الجنازة.»

وانتهت المحادثة … ووضع «راهب الفكر» السماعة، وقد تبدَّد كل ما كان في نفسه وجسمه … وعاد إليه فكره يقود خطواته … ونسيَ الزوجة … ولم يذكر إلَّا الزوج ومُصابَه بابن خاله … ورأى الواجب عليه أن يذهب إليه فورًا في «حلوان»، ليكون إلى جانبه وفي عونه، فهو قد بلَّغه في تلك الساعة بالمصاب، وأخبره بمكانه ليدعوه بلطفٍ إلى لقائه. ونظر «راهب الفكر» إلى ساعة المكتب الصغيرة، فإذا هي العاشرة والنصف، فأسرع إلى حجرته الداخلية، ليتأهب للخروج، ورأى الزوجة واقفةً تنظر إليه متسائلة عن الخبر الذي قلَبه هكذا في لحظة، فقال لها بصوتٍ أجش ولهجة سريعة: ابن خال زوجك تُوفِّي!

– توفِّي؟!

ولم يلتفت إليها … ويمَّمَ شطر باب الحجرة، وهو يقول لها مع إشارة من يده: إني خارج! وداعًا يا سيدتي!

فعلمت أنه لم تَعُدْ هنالك فائدة … وتركها ماضيًا لشأنه، وهو يخاطب نفسه هامسًا: مات الرجل … لعنة الله على النساء! لعنة الله على النساء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤