الخاتمة

في ضحى اليوم التالي كانت جنازة «البكباشي» ابن خال الزوج تَسير في موكبها العسكري إلى المقبرة! وقد وضعوا نعشه فوق عربة مدفع، ملفوفًا في العلم الأخضر، وسارت جنود فرقته، على جانبَيِ الطريق، ببنادقهم منكسة! ووقْع خطواتهم على الأسفلت يُحدِث صوتًا منظومًا متزنًا، في ذلك الصمت الرهيب! وكان يقطع الصمت، بين آنٍ وآن، نغمات موسيقى الجيش، تعزف لحن «شوبان» المحزن! ثم تصمت هي أيضًا، لتدع دقات الطبل وحدها تلقي في النفس روعة كئيبة، وتغمر الموكب كله في جوٍّ مهيب! وكان «راهب الفكر» بين المشيِّعين، يمشي مُطْرِقًا في أحد الصفوف ورأسه نهب لأفكار شتى! إنَّ الناس حولَه يعتقدون — ولا شكَّ — أنَّ الفقيد مات قضاءً وقدرًا؛ لأنهم يجهلون ظروفه الداخلية، ولكنه هو يكاد يوقن أنه انتحر بذلك «المسدس»!

لقد أدرك ذلك منذ أن تلقَّى نعيَه البارحة! إنَّ الزوج لم يقطع له برأيٍ حتى الساعة، فقد كان مشغولًا بإجراءات الدفن، ولكنَّه أخبره أنه عاد إلى الفندق أمس، ليأخذ أمتعته، ويرى ابن خاله ويُفضي إليه بما اعتزمه، فوجده في حجرته يفحص مسدسًا له … فارتاع لهذا المنظر، وخامره منه شيء! ولكن ابن خاله طمأنه قائلًا: إنه يتسلَّى بتنظيف مسدسه، وهذا أسهل من تنظيف شرفه … ومزح معه لأول مرة منذ وقع في أزمته الأخيرة! وكان هادئ المظهر، هدوءًا يبدِّد كلَّ قلق أو ريبة … فتركه مؤقتًا، وذهب إلى حجرته يُعِدُّ حقائبه، وإذا طلق ناري يدوِّي في الفندق كله … فحدَّثته في الحال نفسه بالكارثة، وهرع إلى حجرة ابن خاله فألفاه صريعًا!

وهو لا يستطيع أن يقرِّر أكثر مما رأى، ولكنه ختم قوله لراهب الفكر بنظرة ذات مغزًى، علم منها أنه يوقن مثله في دخيلته بأن هذا التعس قد انتحر، ولكنه لا يحب أن يفهم أحد ذلك … ربما كانت تلك الحقيقة برمَّتها، وربما كان الأمر قد وقع على خلاف ذلك! ولكن الزوج بادر بحَزْمِه ولباقته، وحسن تصرفه المعهود فأخفى كل رائحة لمأساة عائلية، وكل أثر ينمُّ عن وجود صلة بين الموت والزوجة والأطفال! ولعلَّه فَهِم أن الميت قد آثر الانسحاب من الحياة، عندما شعر بأنه عاجزٌ عن علاج شكوكه … وأنه مُقبِل على تحطيم أسرته، وتلويث اسم الطفل البريء، الذي يرتاب في نَسبه، وأنه فضَّل أن يجني على نفسه، ولا يجني على غيره! وإذا كانت تلك رغبته، فلا أقل من أن تُحترَم، وأن يُوضع ستار كثيف على ما سبقَ، وفاتَه من مؤثرات، وما اكتنفها من بواعث!

ورفع راهب الفكر رأسَه، ونظر إلى النعشِ أمامه، ثم عاد فأطرق، ومضى في تأمُّلاتِه هامسًا: يا ألله! ما أقوى ذلك الرباطَ المقدَّس عند الرجل! إنه في الحقيقة رباطُ الرجلِ بطفله … وإنَّ منبعَ القداسة فيه ذلك الدم الذي يجب أن يجري بينهما نقيًّا؛ فإذا تلوَّث أو تدنَّس، أو داخَله الغش، أو خالطه التدليس، أو مرَّ عليه شبح الشك والارتياب؛ فإن الرجل قلما يتحمَّل ذلك! هذا ما لا تفهمه المرأة، لأن كل طفل يخرج من بطنها هو لها، دون حاجة إلى أن تفرز أو تميز بين دم ودم! ولهذا قَلَّ أن تدرك معنًى لقداسة ذلك الرباط!

لا قداسةَ عندها لشيء إذا اصطدم بغريزتها، أو وقف في طريق شهوتها!

وتذكَّر «راهب الفكر» ما جرى البارحة، وما كاد يقع … يا للخجل! كيف استطاعت هي في لحظة أن تنسيه كلَّ شيء؟! وأن تخرجه حتى على أبسط قواعد الأخلاق، ومبادئ السلوك؟!

كيف كان يستطيع أن يلقى زوجها وجهًا لوجه بعد ذلك؟ هذا الزوج الذي احترمه، ووضع في يده أسراره، ووثق به وبرأيه ولجأ إليه، واعتمد عليه! وجعل منه وكيلًا له يفاوض الزوجة عنه.

ماذا كان يقول فيه لو علم أنَّ وكيله الأمين، قد وقع هو الآخر في أحضان زوجته، ومثَّل عينَ الرواية المخجلة، وقام بذات الدور الذي لعبه ذلك الممثل الموصوف في الكراسة؟!

ثم هو الذي كان قد احتقرها، واقتلعها من نفسه، وطرحها من تقديره، وعرفها غير جديرة بحبِّه، ورآها عاريةً عن كل ما يدعو إلى احترامه! كيف أغمض عينه عن ذلك في طرفة عين، وتحركت نفسُه إليها، ورغب فيها، وتهيأ لعناقها؟!

الحق أنه في تلك الليلة كان قد شعر نحوها بعاطفة جديدة، عاطفة لا علاقة لها بحبه الأول الرفيع، فهي عاطفة أخرى بعيدة عن كل جَوٍّ نَقِيٍّ، في إمكانها أن توجد مع وجود الاحتقار! هي نوع من أزهار الحبِّ التي تنبت في المستنقعات! لكن … كيف حدث ذلك؟ ما من ريبٍ في أنها هي! هذا الحب الأخير هو صنعها هي … ومن غرسها! كما أن الحب الأول كان من صنعه هو وغرسه!

هذا هو نوع الحب الذي تريد مثلها اليوم أن تثيره في النفوس! يا للمرأة! ذلك الجهاز المشبَّع بالكهرباء … الذي يُلقي، منذ مطلع الأجيال، تيارات وموجات، لا تلتقطها غير الغرائز، فما العطور التي عرفتها المرأة منذ فجر التاريخ — بما تذيعه في الجوِّ من شذا — إلا إشارات لا سلكية تخاطب بها حواسَّ الرجال، وكذا النظرات والبسمات والتنهدات! وكل ما هُيئ لكي يحدث على البُعد أثرًا يطيش بالعقول. ولطالما حاول الشعراء أن يلتقطوا تلك الإشارات بنفوسهم الرفيعة، وأن يفسِّروها بلغة النفس العليا، ولكن … هذا تفسيرهم هم، ولا شأن له بما يرمي إليه جهاز الإصدار.

ولقد حاول سلطان الدين أن يصدر — من قبابه ومآذنه وأبراجه — تيارات مضادة، يعالج بها الأمر، ويخاطب بها العقل والقلب، ويوعد ويتوعَّد، ويرهب ويرغِّب، ويرعد ويبرق … وكان لهذا بعض التأثير أيام أن كانت المرأة حبيسة خدرها وبيتها، وجليسة أهلها ولِداتها … لم تصل بعدُ إلى فمها كلمة الحرية … ولم تعرف بعدُ قَدَمُها الطرقَ الصاخبة والمجتمعات الحافلة … فكان إشعاعها مقصورًا على التسلل من حجرة إلى حجرة، أو من بيت إلى بيت، وكانت تيارات الدين تطغي على كل البيوت، وتسكت فيها كل إشارة … أما اليوم، فقد تركت المرأة العصرية البيت والحجرة لصوت الدين! يدوِّي فيهما كيف يشاء، ونزلت هي إلى الشوارع والحوانيت والمقاهي والملاهي! وكل مكان، في كل حين … تخطر بعطرها وزينتها وابتساماتها ونظراتها … جهاز لا سلكي متنقل في ثياب امرأة، يلقي في وجه كل عابر بموجاته التي لا تُقهر ولا تُرَدُّ!

هكذا في عصورنا الحاضرة ضعفت تيارات الأديان، عن صد تيار المرأة، وشحبت عبارات النصح والإرشاد، ولم يبقَ لها من الحرارة في أغلب القلوب والعقول أكثر مما لأشعة الشمس في ساعة الأصيل!

لا بدَّ للمرأة إذن من موجات أخرى قوية، تحوِّل مجرى حياتها إلى ناحية رفيعة! الآن وقد فتحت نوافذ الحرية الاجتماعية وأبوابها على مصراعيها؛ لا أمل في قوة أي نور يأتي من الخارج! إنه لن يُبهر عينًا، ولن يفاجئ بصرًا، ولن يُحدث أثرًا!

هنالك أمل واحد؛ هو أن يخرج هذا النور، وتنبعث هذه الموجات من داخل المرأة نفسها على نحوٍ جديدٍ، ذلك أن المرأة ستهزأ منذ اليوم بكل رأي أو قول فيها يأتيها من بعيدٍ، ولن يكون هناك قيمة إلا لكل ما يصدر عنها هي، ويخرج منها! بل يجب أيضًا أن يكون ما ينبع من داخلها قطعة من غريزتها، وجزءًا من طبيعتها!

الأمل الوحيد معقود على شيء واحد: عاطفة الجمال! إن المرأة منذ خُلِقت وظهرت من مبدأ الأجيال، وفي أعماقها عاطفة، هي عندها أقوى من الدين والعفة والفضيلة … تلك هي رغبتها دائمًا أن تكون جميلة. ذلك يفسِّر لنا قدر المرأة حتى قبل أن يُعرف الزجاج، فإذا استطاعت المرأة أن تدرك أنَّ هنالك نوعًا من الإشعاع يمكن أن يضيء فيها، فيمنحها جمالًا لا تستطيعه المساحيق ولا اللآلئ، فإن المشكلة تكون قد حُلَّت!

إن الحسناء المزيَّنة المصنَّعة، هي كالمصباح البديع المصنوع من الذهب الإبريز، ولكن أين النور؟ النور شيء معنوي! إنه ليس اللهب، وليس الشرر، إنه النور؛ ذلك الإشراق الهادئ الطاهر الذي لا يحرق ولا يؤذي، ذلك الشيء الذي ليس بمادة تُلمس، ولكنه يبعث في النفس متعةً لا تدنس، ذلك السر الذي يمكن يودَع في المرأة كما أودع في الزهرة، فأضاءها بألوان تُلقي الخشوع عن بُعد في نفوس الناظرين، وجعلها تُعبَد لذاتها على عرش آنيتها، وصانها من عبث الانتفاع المادي الرخيص، الذي لا يرى فيها غير نبتٍ يصلح للاعتصار ثم يُلقى، وثمرة تُقتطف للاستقطار ثم ترمى!

إذا حرصت المرأة على اقتناء ذلك النور الداخلي … فقد انقلب جهازها اللاسلكي نعمة كبرى … تتحرك وتتنقل فترسل، حيثما تسير، موجات من الأضواء العلوية تنير القلوب، وتيارات من الأفكار السامية تلهم النفوس، وإشارات تخاطب الجوانب الرفيعة في الإنسان!

لكن … هنالك معضلة؛ مَن الذي يمهِّد لها سبيل ذلك؟! إن أدوات إشعاعها المادية يُهيِّئُها لها أناس مختصون، هم: صناع العطور، وصناع الحلي، وتجار المساحيق! لا بد من مختصِّين آخرين يهيئون لها أدوات إشعاعها الروحي!

هنا تبرز مهمة «رهبان الفكر»! نعم! كيف نسي ذلك؟ أوَليس هو الذي قال يوم زارته أول مرة: إنه يريد أن يجعل منها عروسًا تمرح بشعرها المرسل، وروحها المضيء في مروج الفكر الرحبة المزهرة، وأن يجعلها ملكة، تعرف كيف تمس، بصولجان روحها، نفوس الرجال، كما يمس المرود العين، فإذا تلك النفوس قد تفتَّحت لترى ما لم تَرَ! وإذا النشاط قد دبَّ فيها فتثمر القرائح وتنهض الهمم، وإذا الخير قد فاض، والحياة قد نبضت في الأشياء والكائنات!

أوَلم يقل إنه يرجو لها روحًا تضيء داخل نفسها البلورية، فينطق لسانها بالحديث الرفيع، وتطلق من صدرها المشاعر العالية والأفكار السامية؟ إذن ما الذي جرى؟ ها هو ذا رجل الفكر قد أخفق كما أخفق رجل الدين؟ كلاهما قد أحسن الظنَّ بطبيعة المرأة أكثر مما ينبغي، ونسج حولها أضغاث أحلام!

ولم يُفِق «راهب الفكر» من هذه التأملات إلَّا أمام المسجد، فقد وقف سَيْر الموكب، ونُقل الجثمان إلى الداخل حيث صلُّوا عليه، بينما انتحى أهل الفقيد ناحية يتقبَّلون تعزية المشيعين! وانفضَّت أكثر الجموع منصرفة بعد ذلك، ولم يبقَ إلا الأقرباء والأخصاء، فقد رافقوا الراحل إلى المدافن، وكان «راهب الفكر» بالطبع بين هؤلاء، فلَبِثَ معهم حتى أُنزلت الجثة القبر، وحيَّتها جنود الفرقة التحية العسكرية الأخيرة بإطلاق واحد وعشرين طلقة مدفع، وجعل اللحادون يهيلون عليها التراب، والمقرئون يلقِّنون الميت ما ينبغي أن يقول للملائكة عند اللقاء، ويصيحون به: «يا عبد الله هذا آخر يوم لك في الدنيا، وأول يوم لك في الآخرة!»

تأمل «راهب الفكر» هذه الصيحة فيمن تأملها من الحاضرين، والتفت ينظر إلى أثرها في وجوههم الواجمة الخاشعة … لا ريب في أنهم قد أدركوا منها جميعًا تلك الحقيقة الرهيبة: ما أقصر أيام الدنيا بالقياس إلى أيام الآخرة!

أما هو فقد أدرك منها حقيقة أقسى وأرهب … ما أقصر حياة الجسد بالقياس إلى حياة الروح! كم من الأعوام عاش جسد هذا الرجل؟ ثمانية وثلاثون عامًا؟ ولكن روحه ستعيش الأبد كله … هذا الجسد بحيويته وخلاياه وأنسجته وإفرازاته وملذاته وحرارته وفورته … كل هذا قد تفكك وتحلل واختلط بالتراب، وصُبَّ عليه الماء، وعُجنت ذراته بالغبراء! فلن تستطيع ذرة بعد اليوم أو خلية أن تثور على الروح، أو تطالبها بمتعة الحسِّ، أو لذة من لذات اللحم والدم! يا له من انتصار للروح رهيب! إذن كانت الخلايا على حقٍّ وهي تثور في إبَّان قوتها وعنفوان توقُّدها؟

إنها كانت تعلم مصيرها المخيف … وتَعُدُّ أيام سلطانها عدًّا، وتدرك أنها ذرات، لا في جسم الإنسان، بل في بحر الزمان ومحيط الأبد، الذي تمخر فيه الروح إلى غير حدٍّ! إذن، فيمَ كانت الروح تنافسها وتحسدها على أعوامٍ لن تتجاوز الستين، أو الثمانين أو المائة! ولماذا لا تدع لها هذه الأعوام القليلة الضئيلة … ما دام أمامها هي الخلود؟!

لماذا هذه المعركة بينهما دائمًا في هذا الميدان التافه: «جسم الإنسان الهش قصير الأجل؟!» علامَ هذا النضال القائم بينهما خلال حياته المادية الضئيلة الخطر؟ لماذا لا تترك الروح هذه الأعوام المعدودة للمادة، تحياها كما تريد في سلامٍ؟! ليس يدري «راهب الفكر» ما الذي كان يهتف داخل نفسه بهذا الكلام؟ أتراها حواسه المقهورة، راعها ذلك المنظر فنهضت تحاول الثورة من جديد! ما الذي يحُول بينه وبينها الآن؟ لماذا هذا التزمت والورع الكاذب؟ لم لا يتخذها خليلة؟ ليست هي التي تعارض ذلك! وإن لم ينعم بها هو فإن غيره سينعم بها ولا جدال! ولا شيء يوقر ضميره، فليس هو الذي أغراها، ولكنها هي التي تغريه. أما زوجها فلا يهمه أمرها بعد اليوم … وقد انقطع ما بينهما بالطلاق، فهي الآن امرأة حرة في نظر المجتمع! لها أن تفعل ما تشاء … وليس في اتصاله بها الآن أي مساس بكرامة الزوج أو تهجُّم على حق له! ثم مَن الذي سيخبره؟ إن هذه المرأة معه ستكون محاطة بجدران من الكتمان، لن تتوافر لها مع رجل آخر! إنه سيكون أحرص على سمعتها وسمعة الزوج من أي خليل آخر! ولو كان لهذا الزوج أن يفاضل في هذا المجال لما اختار غيره هو!

تلك هي الخواطر التي طافت بنفسه، ولم يغادر بعدُ فناء المقبرة … وهنا لمحت عينه فجأة صديقه الزوج الحزين المسكين على مقربة منه، وقد لمعت فوق خده دمعة! فثاب إلى رشده، ونظر يمينًا وشمالًا، كأنما خيِّل إليه أن الناس قد خرقوا بنظراتهم جمجمته، ونفذوا إلى أفكاره … ويا لها من أفكار! سيعجبون ولا ريب كيف تخطر على بال مثله في «مقبرة»! ولكن لحسن الحظ! ربما خُلقت الجماجم من عظام سميكة لتحجب أحيانًا مثل هذه الخطرات عن العيون … لا … لا ينبغي أن يفكر هكذا … حتى لو رضي الزوج أن تنشأ علاقة كهذه بينه وبين تلك المرأة، فإن هذا الرضا لا يبرر عمله، ولا ينزع عنه صفة القبح! إن اللذة الحسية ليست كل اللذة! هنالك أيضًا اللذة المعنوية … إذا استمعنا إلى صياح حواسنا وخلايانا وحدها، وصدقنا مطالبها لما كان الإنسان أكثر من حيوان! ولكن هنالك لذات لا تعرفها أعضاؤنا المادية! إن للتضحية في سبيل الواجب لذة، وللحرمان في سبيل الشرف لذة، إن الحياة بغير القِيَم المعنوية هي حياة تافهة لا معنى لها! وماذا يكون الفارق بين «راهب الفكر» وثور في حقل إذا فقد اللذات الروحية، ولم يكن له غير لذات الأنسجة والذرات؟! كلا! إن الروح في حياتنا القصيرة ليست مصدر شقاق وشغب وشقاء … تلك مزاعم الجسد! ولكنها منبع سعادة من نوع آخر! ولو آمنت المرأة بأن كبح جماح النفس من أجل واجب الزوجية يمنحها من السعادة الروحية ما يعوض عليها ملذات البدن؛ لما استهانت برباطها المقدس لحظة واحدة، فكيف إذن «براهب الفكر» هو الذي يعيش للجمال الفكري، ويبصر بنور الروح، أيستهين برباطه المقدس، الذي يربطه بالقيم المعنوية؟!

وكان الزوج قد اقترب منه، وأخذ بذراعه في صمتٍ فسار معه إلى خارج المقبرة، وقد انتهت المراسيم، وأخذ الحاضرون في الانصراف!

ودعا الزوج «راهب الفكر» إلى سيارته، وفي أثناء السير بدا منه تلميح إلى مسألة زوجته … وما تم فيها. فأخرج «راهب الفكر» الورقة التي وقَّعتها الزوجة، وقدَّمها إليه، فقرأها ودسَّها في جيبه، وتناول يد صديقه وضغط عليها ضغطًا ينم عن شكره، وتقديره لهذا الصنيع!

وخطر «لراهب الفكر» شبح الزوجة، وخاف أن تعاود المجيء إليه متذرعة بحجة من الحجج، لتحاول فتنته مرة أخرى! وقد يضعف أو يلين لشيطان سحرها وغوايتها، فما يجدر به أن يفعل؟ لا بدَّ من تدبُّر الأمر منذ الآن!

إن خير حلٍّ هو أن يغادر «القاهرة» فترة من الزمن، تكفي لدفن كل هذه الحوادث تحت غبار النسيان، وتمكِّن كلَّ ذي شأن فيها من الانصراف إلى طريقه في الحياة!

ووقفت السيارة حيث أراد «راهب الفكر» أن ينزل، فمدَّ يدَه، مودعًا، لصديقه الزوج قائلًا: إني مسافر صباح الغد إلى الريف! أمكث فيه شهرين أو ثلاثة.

•••

وعاد «راهب الفكر» بعد شهور إلى «القاهرة» بنفسٍ صافية، وروح راضية … وقد علم من خادمه بما توقع قبل سفره … فقد حضرت تلك المرأة مرتين في الأسبوعين الأولين … ولما أيقنت أن سفره سيطول حقيقة، ذهبت إلى غير عودة … وجلس «راهب الفكر» إلى مكتبه من جديدٍ مستأنفًا أعماله الأولى … وقد اختفت تلك الزوجة من محيط حياته اختفاءً تامًّا، فلم يَعُدْ يسمع عنها شيئًا، ولم يُرِدْ أن يزعج الزوج فيبدأ هو بِطَرْق بابه، ولعلَّه قد نسيه أو أحبَّ أن ينساه، لينسى الظروف القاتمة التي عرفه فيها، فليس هو — على أي حال — الذي يذكِّره بما كان.

ومرَّت الأيام … وإذا هو يرى صورة تلك المرأة وأخبارها بارزة في صفحات المجلات، وأخبار المجتمعات، وقد تزوجت شخصية معروفة بالتفاهة وقلة الذكاء، فأدرك أنها قد ظفرت أخيرًا بالزوج المثالي للمرأة العصرية.

أما هو فقد رجع إلى عادته السابقة، يفضُّ رسائل قرائه في الصباح باسم الثغر، هادئ الأعصاب، وإذا هو، بعد زمنٍ قليلٍ، قد وقعت في يده رسالة بين البريد ارتجف لها.

إنها من امرأة تسأله أن يحدد موعدًا للقائها، لأنها تريد أن تحادثه في شأن من شئون الأدب والفكر! فصاح في نفسه: «لا … لا …» كفى! ألم يعرفهن؟!

وضغطت أصابعه على الرسالة يريد أن يمزقها، ولكن … ولكنه ثاب إلى رشده قائلًا: الشجاعة ليست في تجنُّب مزالق الجسد، وتحاشي مواطن الزلل، بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المثل العليا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤