الفراق

مرَّت أيام على ذهاب تلك المرأة الجميلة، و«راهب الفكر» منصرف إلى أعماله المعتادة، لا يفكِّر فيها كثيرًا، ولا يأبه لأمرها؛ فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أنها — لا محالة — عائدة إذا انقضى الأسبوع؛ شأنها في كلِّ مرة. ولكن اليوم الموعود جاء ولم تأتِ، فخامره شيء من القلق سرعان ما تبدد؛ فقد تذكر أنها كانت تتخلف أحيانًا عن الموعد المضروب … ولعلها في هذه المرة — وقد انصرفت في شبه استياء — أرادت أن تشعره بغضبها عليه فتباطأت، وأنها لن تتوانى عن المجيء في الأسبوع المقبل، ولكن الأسبوع المقبل جاء ولم تحضر.

هنا اتَّخذ تفكيره في شأنها صورة جديدة لم تبدُ له من قبلُ، فقد توالت الأيام عليه بعدئذٍ وهو يسلك سلوكًا غريبًا. ولعلَّ خادمه لَحِظ ذلك منه … فما من طَرقة على الباب لم يسأله سيده عن طارقها … وهو الذي كان لا يرفع رأسه من أعماق كتبه وورقه ولو هُدِم الباب من الطرق؛ بل إنَّ سيده جعل يصيح بين لحظة وأخرى: اذهب وافتح الباب، فقد خيِّل إليَّ أني أسمع طرقًا.

فيذهب الخادم ولا يجد أحدًا … أما جرس التليفون فقد كان يهرع إليه بنفسه، وينتزع السماعة انتزاعًا ليطرحها بعد قليلٍ خائب الأمل. ولم يعُد يقرأ بريد الصباح بتلك العناية السابقة، ولكنه كان يفرز الخطابات فرزًا سريعًا، باحثًا بعينيه المتلهفتين عن خطٍّ بعينه، ويفضُّ الرسائل على عَجَلٍ، راجيًا أن يعثر من بينها عن رسالة بالذات!

ولبث كذلك أيامًا أخرى لا يفعل شيئًا إلا انتظارها: لماذا لم تَعُدْ؟ كيف تُمضي هذه الأسابيع دون أن تأتي؟ ما الذي منعها من المجيء؟ كان لا ينفك يلقي على نفسه هذه الأسئلة وعينه لا تفارق الباب شوقًا إلى شبحها، وأذنه تترصد جرس التليفون لهفة على صوتها: أتراه قد نَسِيَ أنه هو الذي رجا منها الانصراف إلى غير عودة؟ أطلب إليها ذلك حقًّا؟ أكان جادًّا في الطلب؟ يا للعجب! أهو مجنون حتى يريد فراقها ويطلبه، ويسألها إياه؟ ولكنه فعل ذلك للأسف.

نعم … إنه يتذكَّر الآن كل شيء … لقد أفهمها أنه لا يجد مسوِّغًا لزياراتها، وتركها وانصرف إلى شأنه، وهي تنتظر منه كلمة لطيفة، إلى أن يئست فذهبت! وكان آخر ما سمعه منها همسة الوداع، تبعتها كلمة واحدة هي: «أشكرك»!

كيف يأمل الآن في عودتها بعد ذلك؟ وهيهات أن يستطيع العثور عليها اليوم … فهو لا يعرف اسمها، ولم يَحْفِلْ قطُّ أن يسألها أين تقطن؟ وهو لا يعلم اسم زوجها، ولا بد أن هذا الزوج قد ذكر له اسمه يوم جاءه زائرًا … ولكنه كعادته لا تلتقط أذنه الأسماء التي تُلفَظ، ولا تحتفظ ذاكرته بها إلا إذا توثَّقت بينه وبين أصحابها الصلة … وهو في هذه الحالة لم يكن يُقدِّر أنه سيحتاج يومًا إلى الحرص على معرفة هذه السيدة أو زوجها. إنها ذهبت إذن إلى غير رجعة … وإنه لفراق لا لقاء بعده. ولقد أضاعها في الفضاء كما تضيع الضربة الطائشة كرة «التنيس»! ألم يقل لها يومًا إنها في نظر القدر ليست إلا كرة، وإنه هو ليس إلا «مضربًا» في يده، مُسخرًا لغايته؟ ترى لماذا أراد القدر أن يطوِّح المضرب بالكرة هكذا إلى حيث لا يدري لها مقرًّا؟! أترى القدر حقًّا هو الذي أراد، أم هي حماقته؟ إنها كانت شيئًا جميلًا اعتاد أن يراه … إنها كانت عطرًا اعتاد أن يتنسَّم شذاه … إنها كانت لعبة بديعة اعتاد أن تسرِّي عنه … إنها كانت روحًا لطيفًا يملأ بيته حياة، ونورًا بهيجًا يبدد ظلام أيامه! إن زيارتها الأسبوعية كانت قد استقرت في برنامج عمله، ورسخت سويعاتها في صميم مشاعره … إنه اعتاد انتظارها، فكيف يعيش الآن بغير هذا الانتظار؟ وهذه الفكرة وحدها كانت تقطع سويداءه كأنها سكين … لم يبقَ له منها حتى حلاوة انتظارها! أستمضي به الشهور هكذا، وهو لا يستطيع حتى أنْ ينتظرها؟!

ومرَّت براهب الفكر ليالٍ مروعة لم يَنعم فيها بالنوم الهنيء؛ فقد كان طيفُها يمرُّ برأسه في الإغفاءة الأولى، وتبدو له في ثيابها التي اعتاد أن يراها في مثلها، وفي عطرها المحبوب الذي يملأ قلبه سعادة. ولقد كان يراها في أحلامه أحيانًا، وكأنها عادت تعتذر عن غيبتها الطويلة، وتخلُّفها فيما مضى من أسابيع وهي تخلع قفازها على مهلٍ، وتنظر إليه نظرة الود العميق … فيفيق من صدمة هذه الرؤيا، ويفتح عينيه، ويعلم أنه حلم … فيظل في فراشه، لا يستطيع رقادًا بعد ذلك حتى الصباح! إنه عذاب ما كان يتوقعه، وما كان له في الحساب، حتى القراءة التي كان يعتصم بها أحيانًا ما أفلحت في إنقاذه.

لقد نهض من نومه مذعورًا ذات ليلة؛ إذ خُيِّل إليه في الحلم أنها تطرق الباب، فلما رأى خيبة أمله، واستعصى عليه النوم؛ لجأ كعادته في ليالي السهاد إلى الكتب، وتخيَّر كتابًا في الفلسفة «لأبي بكر الرازي»، جعل يطالع منه هذه الصفحة من رأيه في الحب:

«إن مفارقة المحبوب أمرٌ لا بدَّ منه اضطرارًا بالموت، وإن سلم من سائر حوادث الدنيا وعوارضها المبدِّدة للشمل، المفرِّقة بين الأحبَّة. وإذا كان لا بدَّ من إساغة هذه الغصة، وتجرُّع هذه المرارة، فإن تقديمها والراحة منها أصلح من تأخيرها والانتظار لها؛ لأن ما لا بد من وقوعه متى قُدِّم أزيحت مئونة الخوف منه مدة تأخيره. وأيضًا فإن منع النفس من محبوبها قبل أن يستحكم حبُّه، ويرسخ فيها ويستولي عليها؛ أيسر وأسهل … وأيضًا فإن العشق متى انضمت إليه «الألفة» عسر النزوع عنه، والخروج منه، فإن بلية «الألفة» ليست بدون بلية العشق، بل لو قال قائل إنه أوكد وأبلغ منه لم يكن مخطئًا، ومتى قصرت مدة العشق، وطال فيه لقاء المحبوب كان أحرى ألا تخالطه وتعاونه «الألفة»! والواجب في حكم العقل من هذا الباب أيضًا المبادرة في منع النفس، وزَمِّها عن العشق قبل وقوعها فيه، وفطمها منه إذا وقعت، قبل استحكامه فيها … وهذه الحجة يُقال إنَّ «أفلاطون» الحكيم احتجَّ بها على تلميذٍ له، بُلي بحبِّ جارية، فأخلَّ بمركزه من مجلس «أفلاطون». فأمر أن يُطلب ويُؤتَى به، فلما مَثل بين يديه قال له: أخبرني يا فلان! هل تشكُّ في أنه لا بدَّ لك من مفارقة «حبيبتك» هذه يومًا ما!

قال: ما أشكُّ في ذلك!

فقال له «أفلاطون»: فاجعل تلك المرارة المتجرعة في ذلك اليوم في يومنا هذا، وأَرِحْ ما بينهما من خوف المنتظر، الباقي بحاله الذي لا بدَّ من مجيئه، وصعوبة معالجة ذلك بعد الاستحكام، وانضمام الألفة إليه!

فيقال: إن التلميذ قال «لأفلاطون»: إنَّ ما تقول أيها السيِّد الحكيم حق … لكني أجد انتظاري له سلوة بمرور الأيام عني أخف عليَّ.

فقال له «أفلاطون»: وكيف وَثِقت بسلوة الأيام ولم تَخَفْ أُلفتها؟ ولِمَ آمنت بأن تأتيك الحالة المفرقة قبل السلوة وبعد الاستحكام، فتشتد بك الغصة، وتتضاعف عليك المرارة؟

فيقال: إن هذا الرجل سجد في تلك الساعة «لأفلاطون». وشكره، ودعا له، وأثنى عليه، ولم يعاود شيئًا ممَّا كان فيه، ولم يظهر منه حزن ولا شوق … إلخ.

قرأ «راهب الفكر» ذلك ثم طوى الكتاب، وهو يقول في نفسه: آه لهؤلاء الفلاسفة الذين يحسبون أنهم بمثل هذا الكلام الجيد والمنطق السديد يحلُّون مشكلات العواطف الإنسانية! ثم تأمَّل ما قرأ منذ لحظة؛ وتذكر ما كان من أمره مع تلك الجميلة … إنه سلك معها المسلك اللائق به وبها، فلم ينبُ عن القصد من زياراتها، ولم يخرج عن الغرض النبيل الذي كان يحملها على المجيء، ولم يلفظ كلمةً ما كان ينبغي يلفظها، ولم يُبْدِ عاطفة ما كان يجب أن يظهرها!

لقد تصرَّف معها — من البداية إلى النهاية — عين التصرف الذي كان يصدر عن الفيلسوف الإسلامي «أبي بكر الرازي»، وعن الفيلسوف اليوناني «أفلاطون»، لو أنهما كانا في مكانه، ولقد خشيَ الألفة أن تستحكم، والجِد أن ينقلب عبثًا؛ فقطع الصِّلة من الفور! وها هي ذي النتيجة واضحة صارخة! أتراه لم يكن يدرك حقيقة مشاعره نحوها، من أول الأمر؟! أم أنه يدرك بعض الإدراك، ولكنه حسب الأمر أقل خطرًا من أن يشغل باله أو يقتضيه البتُّ السريع … وإذا كانت العاطفة لم تظهر جلية إلا بعد أن أدى واجبه وقطع الصلة وأغلق الباب، فما ذنبه عندئذٍ، وما جريرته؟ وما المطلوب منه وقتئذٍ في نظر «الرازي» و«أفلاطون»؟!

لم يتلقَّ بالطبع جوابًا عن هذه الأسئلة، ولم يكن في حاجة إلى جوابٍ، بل كان في حاجة إلى ما يخفِّف عنه ما به؛ فهو، من غير شكٍّ، قد قام بما أوصى به الفلاسفة … ولكن الفلاسفة، رقدوا في بطون كتبهم، متدثرين في صحائف منطقهم البارع، وتركوه ساهرًا يدمي جفنه الأرق، ويحرق قلبه الشجن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤