التصوف والسياسة

بقلم  عباس محمود العقاد

كان أول ما قرأت من شعر الدكتور عزام ديوانًا لطيفًا جمع بين طائفة من مترجماته للشاعر المتصوف محمد إقبال الملقب بشاعر الإسلام، وطائفة من مبتكرات عزام في المعاني الصوفية أو المعاني الروحية، وتشابه النسق في الشعرين لأنهما في العربية من كلام ناظم واحد، وتشابه الجوان، ولا أقول تشابه المعنيان، حتى لقرأت مثنوية لعزام حسبتها من كلام إقبال، ولم أصحح هذا السهو إلا بعد مراجعة وتحقيق.

لا يتشابه الجوَّان الروحيان هذا التشابه لأن الدكتور عزام يعجب بإقبال ويترجم كلامه إلى العربية، فلا بد من سليقة صوفية في روح شاعرنا العربي توحي إليه معانيه وخواطره، ولا شك أن الأصح من القولين أن هذه السليقة الروحية في نفس عزام هي التي حبَّبت إليه إقبالًا ومالت به إلى الإعجاب بشعره، فهذه السليقة هي مصدر الإعجاب بإقبال، وليس الإعجاب بإقبال مصدرها الأول ومبعثها الأصيل.

وعُدتُ أقرأ لعزام بعد ذلك الديوان اللطيف فلم يزل هذا الخاطر يثبت عندي ويتمكن كلما قرأت له جديدًا من الشعر أو قديمًا فاتني أن أقرأه في حينه، ثم قرأت هذه المثاني وفي ذهني هذا الخاطر فلم يزل يثبت كذلك ويتمكن كلما تتبعت أبياتها وموضوعاتها، حتى أكاد أنقل الديوان، أو معظمه، إذا أردت أن أسوق الشواهد على أصالة السليقة الصوفية في نفس الشاعر العالم الأديب.

لا يحتاج أن يقتبس الصوفية من أحد من يلهمه ضوء القمر على صفحة البحر أن يقول:

أحسب البدر ساطعًا نبع ماء
فأرجِّي لديه تطهير ذنبي
وأراه من الأشعة فيضًا
أتمنى لديه تنوير قلبي

أو يقول:

ذلك الماء والأشعة طُهر
وصفاءٌ يُخال نورًا وبحرَا
إيه يا نفسُ فاطهري وأضيئي
واشربنْ يا فؤاد صفوًا وطهرَا

فليس أشبه بفطرة المتصوف من تطهير النفس بجمال الكون ومن اتخاذ الجمال واسطة إلى الله.

ولا يحتاج أن يقتبس الصوفية من أحد من يفرق بين شريعة الباطن وشريعة الظاهر هذا التفريق:

قيل هذا محلَّل لا تدعه
قلت هذا الحلال عندي أثام
هو في شرعة الفقيه حلال
وهو في شرعة القلوب حرام

فهذا ميزان التصوف من قديم الزمن للفضائل الظاهرة والفضائل الخفية، وقصة موسى والخضر عليهما السلام خير مذكِّر بهما من آي القرآن الكريم.

ومن أعماق التصوف أن تواجه النفس آفاق الأبد متحررة من حدود الأزمان كما قال الشاعر:

لا يبالي الأحرار في هذه الأر
ض حدود البقاع والأوطان
ومن الناس من يحرَّر حتى
لا ترى نفسُه حدود الزمان

أو كما قال:

فلك دائر وصبح ومُسيٌ
أخذ الناس في الزمان دُوار
حرر النفس من نهار وليل
تجد الدهر ما به تكرار

وإذا اقتبس الناقل في معاني التصوف فإنما يقتبس العبارة المتفرقة هنا وهناك ولا يقتبس السليقة التي تنظر إلى كل شيء بمنظار واحد فيما هو قريب وما هو بعيد من لباب الحقيقة الصوفية، وهذه السليقة هي التي أوحت إلى شاعر المثاني أن يجعل للصلاة وضوءًا من العفة إلى جانب الوضوء من الماء.

اسأل الظالم المصلي من ذا
قد أحلَّ الصلاة للظُّلَّام
أول الطهر للصلاة اغتسال
يرحض النفس من حقوق الأنام

ولا أريد أن أنقل الديوان كله أو معظمه، كما أسلفت، في معرض الشواهد التي تبدي هذه النظرة في مختلف المنظورات، فسيراها القارئ غير معتمد على الشواهد، وسنزيد عليها فيما يلي شواهد أخرى في سياق غير هذا السياق.

يقول القارئ: عجب! أصوفي وسياسي؟ إن الدكتور عبد الوهاب عزام — كما يعلم القراء — سفير مصر الموفق عند دولة الباكستان، وهو مِنْ ثَمَّ في زمرة أهل السياسة الذين مثلوا لأبناء عصرنا في مثال يقول القائل منهم ما يشاء، إلا أنه مثال الصوفية والمتطهرين.

وإنني لأرحب بهذه المناسبة لأنها أصلح المناسبات لتجلية النفس الإنسانية وتصحيح الموازين الأدبية والفكرية في معرض من أهم معارض البحث الحديث، وهو البحث في حدود الملكات ومصادر الأعمال والنيات، وهنا موضع الشواهد التي قلنا قبل سطور إنها تدل على السليقة لأنها تأتي — على قصد وعلى غير قصد — في نسق واحد حين ينظر الشاعر إلى جميع المنظورات، وسنورد فيما يلي بعض الشواهد على السليقة التي تربط بين التصوف وبين السياسة في أشرف معانيها، وإنها لأقرب شيء في هذه المعاني إلى مثال الصوفية والمتطهرين.

لا عجب في أن يجمع شاعر المثاني بين السليقة الصوفية وملَكة السياسة؛ لأنه يدين بالصوفية التي دعته إلى الإعجاب بشعر إقبال، وما كان إقبال من متصوفة «الفناء» الذين يقولون «لا» حين يواجهون العالم أو يواجهون الوجود من ظاهره إلى خافيه، ولكنه كان من متصوفة «الثبوت» الذين يقولون «نعم نعم» لكل مظهر من مظاهر الحياة أو الوجود.

تصوف لا يهرب من غمرة الحياة؛ لأنه:

إنما يعرف التصوف في السو
ق بمال ومطمع وفُتون

وتصوف لا ينكص عن المعالي، لأن المعالي إذا ملأت النفس أخرجت منها وساوس الشيطان:

املأ النفس بالمعالي وإلا
ملأتها وساوس الشيطان

ومثل هذا التصوف والعمل في ميادين السياسة لا يتناقضان، ولا سيما تصوف «السفارة» وهو من الألف إلى الياء وئام وسلام. يقول المتصوف كما يقول السياسي السفير مع الشاعر:

أمنح الناس مسمعي وحديثي
وألاقي كلامهم بكلام
وسوى ذاك في الفؤاد حديث
من وراء الأسماع والأفهام

ويقول المتصوف كما يقول السياسي السفير مع الشاعر:

قلت للنفس ساء ظني بالنا
س وشاهت وجوههم والسماتُ
قالت: اصقل مرآة نفسك وانظر
رُبَّ وجه تُشَوِّهُ المرآة

ويقول المتصوف كما يقول السياسي السفير مع الشاعر:

كم بهذا الأنام أحسنت ظنًّا
فنهتني عواقب التجريب
ثم عاودت فيهم حسن ظني
آملًا فيهم صلاح القلوب

ويقول المتصوف كما يقول السياسي السفير مع الشاعر:

إن في النفس بغضةً لأناس
أصلحنْهم وحببنْهم إليَّا
واغسل الحقد والهوى من فؤادي
واجعلنِّي لكل حقٍّ وليَّا

وجماع ذلك كله قوله في ضبط النفس مفرقًا به بين الحر والعبد:

قيَّد الحر نفسه برضاه
وأبى في الحياة قيدَ سواه
وترى العبد راضيًا كل قيد
غير تقييد نفسه عن هواه

فهذه خصال تلتقي كلها في فضائل المصافاة والتغاضي وأخذ الناس بالحسنى وبسط المعاذير، مع ضبط النفس وتغليب الحكمة على الهوى في جميع الأحوال، وكلها من ملازمات الصوفية، وكلها كذلك من ألزم لوازم السفارة بين الأمم والآحاد.

وأحسب القارئ يحيط الآن بما عنيناه حين قلنا إن المتصوف الناقل قد يقتبس من التصوف عبارة هنا وعبارة هناك ولا ينظر بالعين «المتصوفة» إلى جميع المنظورات على هذا المنوال، وبهذه السليقة يتلاقى المتصوف والسفير أحسن لقاء.

على أن الشاعر السياسي كان سفيرًا بين مصر والشرق بعلمه قبل أن يكون سفيرًا لهما بعمله، وكان لدراسته الفارسية والأُردية أثر في تقريب ثقافتهما يُحسَب من سفارات الأدب التي تعاون فيها العلم والعمل، ومن هذا التقريب الذي لم يُسبَق إليه: تعريفه قراء العربية بتاريخ الرباعية في الآداب الفارسية والعربية؛ فهو أوفى ما كُتِبَ بلغتنا في هذا الموضوع.

وستكون هذه المثاني صلة جديدة بين آدابنا وآداب الفرس والهنود، فإنها تجدد لنا القالب الذي أفرغت فيه طائفة مختارة من شعر هذه الأمم، وتريد عليها فضل النسبة العربية فيما استوحاه الشاعر العالم السياسي من سليقته وفطنته وخياله، وفَّقه الله للمزيد من هذه السفارة العليا، وأفاد بجهده المشكور أتم ما يفيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤