مدخل

فلنستسلم لهذه البداهة، أيًّا ما كان عذاب الصفائيين: ليس الفن المنتج حاليًّا «معاصرًا» دائمًا. أو أيضًا: لا يصاحب دائمًا الفن المنتج الآن الشعور بالمعاصرة. والواقع أن «الفن المعاصر» تعبير فرض نفسه على نحوٍ خاصٍّ بدءًا من الثمانينيات، ليحل حينئذٍ محل «الطليعية»، و«الفن الحي» و«الفن الراهن». وهو مجبول بخصائص العبارات الجاهزة والفَضفاضة إلى حد الانزلاق في جملةٍ عندما نخفق في تسمية محددة، لكنه واضح إلى حدٍّ بعيد ليدرك المحاور أن الحديث يدور حول شكل معين من الفن، وليس كل الفنون التي ينتجها كل الفنانين الذين هم على قيد الحياة، والذين هم — بناءً عليه — معاصرون. وربما يتمثل أحد أهداف هذا العمل بالفعل في التساؤل حول نجاح هذا التعبير: كيف ولماذا تنجح كلمتان عامتان — بكل هذه الملاءمة، وإلى هذا الحد — في تعريف أعمال فنية بعيدة عن أن تكون عادية؟ أما الأعمال التي سيرد ذكرها في الصفحات التالية، فهي لا تناظر قائمة الجوائز ولا الاختيار الشخصي للمؤلفة؛ بل تمثل منظرًا عامًّا شاملًا، أردنا أن يكون الأوسع قدر المستطاع.

لم نبدأ العمل بدون استقصاء تمهيدي محدود، فأرسلت استمارة استفتاء إلى حوالَي مائة متحف للفن الحديث والفن المعاصر، أو الفن الحديث والمعاصر في العالم (وسندرك فيما بعدُ لماذا استجوبتُ المتاحف قبل الآخرين). أجابت أغلبية كبيرة ﺑ «نعم/لا» على السؤال التالي: «هل تعتبرون كل الفن المنتج الآن «معاصرًا»؟» ولأنهم ديمقراطيون، لا يريد أمناء المتاحف — مسبقًا — استبعاد بعض أنواع الأعمال من مجال اهتمامهم. لكن … رغم الحالة الفكرية — ما بعد الحداثية — السائدة، التي تقبل كل الأساليب، يضع الأمناء شروطًا، على سبيل المثال.

«نعم»، حسبما يذكر متحف فيلادلفيا للفنون، وذلك في نطاق استخدامنا العام لمصطلح «معاصر» في سياق تسلسل تاريخي و«لا» في إطار نزوعنا أيضًا إلى التركيز على أكثر الأعمال الجديدة حدة. فقد تحتاج أحد الأعمال الفنية — التقليدية للغاية، لكنها متحققة بشكل جديد — إلى وصفها بعبارة من نوع «معاصر في أسلوب تقليدي …».

يرى «مركز لويجي بيكي للفن المعاصر» أنه «يمكن تقسيم الأشكال الفنية إلى: تقليدية مثل اللوحات والتماثيل والأعمال التركيبية الثابتة؛ وتجريبية مثل الأداء الحركي وفن المفهوم والفن الإلكتروني. ويبدو أن الاختلاف يقع بين «الأعمال الفنية» وتداخل الأشكال البصرية والأدبية، والمسرحية، والموسيقية، والخاصة بتصميم الحركة الراقصة، أو التصميم، عبر حداثات تكنولوجية، وتنسيق هذه الأشكال مع هذه الحداثات.»

يذكر متحف مونتريال للفن المعاصر أن: «كل فن يُصنع الآن معاصر بالضرورة. ورغم هذا، فالسؤال الذي ينبغي التفكير فيه هو الخاص بالفكر الذي يتحقق به هذا الفن. وما يسترعي انتباهنا بالأحرى هو الفن الذي يستكشف مجالات خلق جديدة، فيأخذ على عاتقه مكاسب حضارتنا، أو يجدد أشكالًا موجودة في التعبير الفني نحو ما هو أبعد من التأمل.»

يمكننا حصر المفهوم زمنيًّا. وجان-لويس فرومان مؤسس متحف «كابك» للفن المعاصر في بوردو، يستخدم — في حديثه — هذه الصيغة اللاذعة: «حقبة الفن المعاصر». بالتأكيد دارت في ذهنه أعوام الثمانينيات على نحوٍ خاص التي تحولت إلى مزادات عجيبة، وساهمت في شعبية الازدهار الإبداعي للستينيات والسبعينيات، فأصبح الفن المعاصر موضة دفعت بالبعض — وقد أزعجه ما اعتبروه تسلطًا فيه — إلى الهجوم عليه. ونشأت حروب كلامية متقطعة. وتطلب الأمر إعلان موقف مؤيد أو معارض للفن المعاصر، مما ينحو إلى إثبات أن هذا الفن — بالنسبة لمنتقديه والمدافعين عنه — يرسم حدًّا واضحًا للغاية، لا يستطيع المرء إزاءه سوى أن يكون في هذا الجانب أو ذاك.

في أكتوبر ۱۹۹٥م، منعت بلدية «كاربنترا» معرضًا لجان-مارك بوستامنت؛ فقد اشتمل على عمل تركيبي في الفراغ، يتكون من نصف مقطورة وُضعت في مُصلَّى كنيسة تحولت إلى قاعة عرض. ولأنه أراد فيما بعدُ تجنب هذا النوع من الفن المثير للنزاع، أعلن سكرتير المسئول الثقافي أن مُصلَّى الكنيسة لن «يُحجز أبدًا للفن المعاصر»، وأنه سيجتهد «من الآن فصاعدًا، في تشجيع الفن التشخيصي». لم يكن إذن يشارك الفكر الذي يمارسه الفنانون الذين — منذ واتت مارسيل ديشمان فكرة «الأشياء الجاهزة»، أي هذه الأشياء المصنَّعة التي تُعرض كما هي باعتبارها أعمالًا فنية — يرون أنه، في نهاية الأمر، لا توجد نسخة مطابقة أكثر إخلاصًا للشيء من الشيء نفسه … فبالنسبة لمسئول «كاربنترا»، نصف المقطورة لم «تشخص» المقطورة، بل كانت «فنًّا معاصرًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥