عالم الفن

ميلاد الفن الحديث

كان أمناء المتاحف — على الأرجح — هم أول من فكر في مفهوم الفن المعاصر، ومن هنا حقيقة ذَهابنا إليهم باستقصائنا. لقد تأملوا المفهوم على نحو مزدوِج. فخلال الثمانينيات هذه، رأوا أعدادهم تتزايد، ووظيفتهم تنتمي للمؤسسات و«تصبح مهنة» (لقد مضى العهد الذي يخترع فيه المهنةَ واحدٌ من قبيل ويلهيلم ساندبيرج، وإيدي دي وايلد بمتحف ستيديليك بأمستردام وبونتوس هولتون بالمتحف الحديث باستوكهولم). فقد أدركوا عندئذٍ ازدواجية دورهم: ما معنى أن تكون «أمين متحف» — يضمن خلود الأشياء — لفن في حالة تكوين، سيسمح لنفسه، وعلى نحو خاص خلال هذا النصف الثاني من القرن، بانعطافات وتحولات متعددة ومنحرفة.

تتضارب الآراء. ففي «مفارقة حول أمين المتحف»، يؤكد جان كلير صراحة — هو نفسه أمين متحف ومنظم لكثير من المعارض الاستعادية عن الحداثة — أن «متحفًا للفن المعاصر» — بالنسبة له — «إساءة استخدام للمصطلحات». بينما لا ينكر زميله الهولندي جان ديبو التناقضات التي يقع في شَرَكها، ويصر على القيام بهذه المهمة المستحيلة. «أول مشكلة تُطرح على أمين المتحف، حسبما يعلن في إحدى الندوات، هي تحديد وتفسير الاسم نفسه لمؤسسته: متحف الفن المعاصر […] ومتحف الفن المعاصر ينشغل من حيث التعريف بما يتغير في الفن […] فينجم عن ذلك إذن بالتأكيد أن متحف الفن المعاصر يزعج باستمرار نظامًا يبحث عن التوازن […] فيثير لهذا السبب ضغوطًا ويجعل الحياة صعبة على الجمهور.»

لكن حتى قبل مواجهة هذه الانشغالات المتعلقة بالواجبات الأدبية، تعرَّض أمناء المتاحف لمشكلة ملموسة للغاية، فالمنتمون إلى أهم المؤسسات المزودة سلفًا وبسخاء بالأعمال الفنية منذ بداية القرن، والتي لا تزال مجموعاتها تتزايد باستمرار، اضطُروا إلى الشروع في تصنيف هذه المؤسسات. ومن تولى انطلاق عمل هذه المؤسسات الجديدة المكرسة تمامًا للفن المعاصر، اضطُر إلى تحديد مجال اختصاصه تجاه المتاحف التي، منذ عدة عقود، كانت تتابع تطور الفن الحديث. وبالنسبة للبعض، مثلما هو للآخرين، يظل السؤال هو: «أين ينتهي الفن الحديث وأين يبدأ الفن المعاصر؟»

ففي مركز جورج بومبيدو، على سبيل المثال، يُطرح هذا السؤال دوريًّا دون أن يجرؤ أحد على البت فيه. فالمكان الممنوح للمتحف القومي للفن الحديث كان صغيرًا للغاية ولا يسمح بعرض مشرِّف للمجموعة (١٦٥٠٠ عمل لحظة افتتاح المركز عام ۱۹۷۷م، وأكثر من الضعف بعد عشرين عامًا، دون ذكر التصميمات وماكيتات العمارة). فمنذ فترة طويلة يسود التفكير في تقسيم هذه المجموعة إلى جزأين ووضع الجزء الأقدم في مبنًى آخر. لكن، إلى جانب ضرورة العثور على هذا المبنى أو بنائه، تظل القضية الدقيقة الخاصة بتاريخ تقسيم كهذا معلقة. وهل يمكن أيضًا طرح رؤية أو فهم للفن المنجَز بعد الحرب العالمية الثانية دون اقتراح أي رابط — بعد ذلك — بالفن الخاص بالنصف الأول من القرن؟

الحقيقة، وربما ينظم مركز جورج بومبيدو مبناه في المستقبل، ثمة إجابة توافقية تفرض نفسها الآن، فتاريخ ميلاد الفن المعاصر قد يدور بين عامي ١٩٦٠–١٩٦٩م. هذا رأي معظم أمناء المتاحف الذين أجابوا على الاستقصاء، وعديد من الشخصيات الأخرى المعنية؛ فخلال الستينيات ساد «الفن الشعبي» الواقعية الجديدة، الفن البصري، الفن الحركي، فن الحد الأدنى ومدرسة المساحات اللونية، وتفرقت جماعة «فلوكسوس» وتكاثرت عروض الحدث. وفي نهاية العَقد، ظهر فن المفهوم، ومعاداة الشكل، والفن الفقير، وفن الأرض، وفن الجسد، و«دعامة-سطح» … أشكال فنية عديدة تلجأ إلى كل أنواع المواد الملفقة، والأشياء المصنعة، والمواد الطبيعية وسريعة التلف، بل جسد الفنان نفسه. وأصبحت كل الأساليب مباحة حتى أكثرها تضليلًا وأكثرها استفزازًا وقابلية لعدم الإدراك. فالفنان يضع متفرجه في الفخ أو، على النقيض، يهرب منه لينحت مباشرة أرض صحراء بعيدة؛ والجمهور، الذي تتقاذفه أعمال تستعيد ردود فعله الغريزية، وأخرى تجبره — على النقيض — على متابعة استدلالات نظرية معقدة، يواجه أعمالًا تغزو الفراغ، في حين أنه كان مجبرًا على تخيل فضاءات أخرى، غير مرئية تمامًا … فطليعيو بداية القرن زعزعوا الأعراف من قبل — بقوة، بالتأكيد — ومارسوا دور السحرة، لكن خلال هذا العَقد المرح، انتشرت هذه الممارسات، وتمتعت بمجال حرية لم يستمتع به الرواد بالتأكيد. ومجال الحرية هذا هو الذي لا يزال يرتع فيه الفن الراهن.

فالفن الذي يسميه أمناء المتاحف «معاصرًا» هو، بالتحديد الفن الذي بطبيعة مواده وأساليبه، يجبرهم بعمق على تغيير دورهم ونمط حياتهم. وسنرى فيما بعد الصعوبات التقنية التي يلاقونها لعرض هذه الأعمال، وحفظها وترميمها عند الضرورة والتحديات إزاء الفطرة السليمة، وأحيانًا الحكم الصائب الذي ينبغي أن يظهروه.

كان معرض «عندما تصبح السلوكيات أشكالًا» — الذي أقيم في «كونستهال» في بيرن عام ١٩٦٩م، ويُعتبر اليوم «تاريخًا» — تسجيلًا للحالة الجديدة للأمكنة. وقد حدد منظم المعرض هارولد زيمان — بالنسبة له ولزملائه دفعة واحدة — تبعات هذه المواقف الجديدة، وهذا الشكل الفني الجديد، فصرح ذات يوم: «عندما كنا نرى أنفسنا مع وايد، بيترسون أو بييرن من أمستردام مع «هالتون» من استوكهولم، لم نكف عن ترديد هذه العبارة: «إنها مهنة دنيئة». فكل العواقب تقع علينا، فعندما بسط «بويز» الزبد الصناعي على الأرض، انقلب الكل ضدنا قائلين: «زيمان» يلوث المتحف، ومن أموال دافعي الضرائب سنزيل كل هذه القاذورات.»

إنها — كي نستعيد كلمات «جان ديبو» الأقل تحديدًا — حياة أمناء المتاحف، قبل حياة الجمهور، التي يجعلها الفن المعاصر «عصيبة». وربما يتمثل تعريف هذا الفن المعاصر — جزئيًّا — في هذه العَلاقة بين أعمال تسعى إلى فرض نمط للوجود لن يكون صالحًا — على نحو صارم — إلا لها، وأبنية اجتماعية تقبل — كل مرة — اختراع وسائل التوافق معها.

من الفن الحديث إلى الفن المعاصر

ليست الستينيات سنوات ازدهار فحسب لعدد من الحركات الطليعية، فهي أيضًا — مثلما أثبتت الأمثلة التي ذكرها متحف استوكهولم وأمستردام، أو «كونستهال بيرن» — سنوات انفتاح اجتماعي لهذه الحركات الطليعية. فالزمن الذي احتاجه أبطالها ليتعرف عليهم السوق والمؤسسات أقل مما احتاجه سيزان لقبوله في «الصالون». ويقول «ليو كاستيللي» إنه عرض أعمال «روي ليشتنستين» في الجاليري الذي يملكه بعد مقابلته على الفور عام ١٩٦١م، رغم أنه وجد لوحاته المنفذة عن الرسوم المتحركة «غريبة». ورغم «الغرابة» التي اتسمت بها، اعتبرها إيدي دي وايلد «روائع فنية»، وأراد واحدة منها فورًا في متحفه فانتزعها من كاستيللي الذي — لرغبته في الاحتفاظ بها — عرضها مع ذلك بسعر مرتفع.

عندما جعل إرنست جومبريش مؤلفه «تاريخ الفن» مواكبًا للعصر، لاحظ إحدى النتائج. ففي عام ١٩٥٠م، تاريخ الطبعة الأولى من مؤلفه، اعتقد أن الجمهور مُعادٍ على نحو نهائي للحركات الثورية لفن القرن العشرين. لكن «الفن المعاصر انتصر تمامًا» — حسبما يقول — خمسة عشر عامًا فيما بعد. والفن الحديث الذي انتصر، هو الفن الذي يشعر المجتمع بالتزامن معه، أي الفن المعاصر، بالمعنى الاشتقاقي. فالفن المعاصر يُلحم القطيعة التي تسجلها الحداثة.

في منتصف القرن التاسع عشر، كانت كلمة بودلير الجوهرية هي «حداثة». فبطله هو المتأنق المتباهي بتفرده والفنان يخالط من هم على هامش المجتمع، وبصحبة المومسات بالإضافة إلى ذلك. وبعد ثلاثين عامًا، لن نستطيع إحصاء توارد كلمة «أصالة» في مجمل دراسات تيودور دوريه — التي جمعها في «ناقد طليعي» — في إطار مدحه للانطباعيين. فهؤلاء «باحثون»، ومانيه «مخترع»، ومن هنا الاختلال بينهما وبين معاصريهما. «لا أحد من هؤلاء الفنانين الكبار، حسبما يشير دوريه، استمتع وهو على قيد الحياة بشهرته الواسعة، فالزمن والمسافة ضروريان لتقدير الأعمال الكبرى».

الواقع أن «معاصر»، في القرن التاسع عشر، تنحو إلى تعيين كل الوارد من الإنتاج الفني الذي لا يكون «حديثًا» بالضرورة. ويشكو هويسمان من «الفن المعاصر» الذي هو «خليط بائس» من الأساليب. وفي بداية القرن العشرين يدافع أبوللينير عن التكعيبيين في حديثه أيضًا عن الفن المعاصر. لكن «الفنانين المعاصرين» في الستينيات — بالنسبة لبيير ريستاني الناقد الفني ومحامي الواقعيين الجدد — هم من ينظرون إلى «الشارع باعتباره لوحة». ومن يستعيرون منه فتاة غِلاف من الكارتون لإعلانات زيت الشمس «آمبر» أو ينزعون منه قصاصات ملصقات.

أصبح الفن معاصرًا عندما حدثنا عن حياتنا اليومية. وأصبح معاصرًا عندما بدأ، على نحوٍ ما، في تحقيق المشروع الحديث بالمعنى الذي قصده بودلير؛ فصاحب الملصقات ريمون هاينز هو «الجوال» في المدينة الكبرى وفتيات غِلاف مارسيل رايس لهن الجمال المصطنع للنساء اللاتي يضعن مسحوق الأرز وأحمر الشفاه. فواقع «الواقعية الجديدة» هو «الطبيعة» الجديدة، المدينية والصناعية. ولا شك أننا نجد آثارًا لهذا الواقع في كولاج التكعيبيين أو الدادائيين، وهذا هو الواقع الذي عرضه — انطلاقًا من وجهات نظر متعارضة — المستقبليون الإيطاليون والرسامون المنتمون ﻟ «الموضوعية الجديدة» الألمانية. ثم حادت عنها حركات أخرى أو رفضتها، مثل الكلاسيكية، التي استولت على التكعيبيين السابقين أو ما بعد التكعيبيين بعد الحرب العالمية الأولى، أو الطبيعية، التي أثرت على جزء من التجريد بعد الحرب العالمية الثانية. وتجند فترات ما بعد الحروب الاحتياج إلى الموارد، سواء كانت ماضوية أو أحدية.

لكن حتى قبل نهاية الخمسينيات، ظهرت حالة فكرية جديدة لا تلتفت إلى الماضي. فالمراهق الذي يستمع إلى ألفيس بريسلي وأذنه ملتصقة بالكاسيت، والفنانون، يدركون — على نحو متضامن — أن نمط الحياة والبيئة في حالة تغير. وتختلف العملية في الولايات المتحدة، فالتحرر ليس من الماضي الذي لم يوغل في القدم، وإنما من أوروبا. فتخترع مدرسة نيويورك — جاكسون بوللوك، ويليام ديكونينج، بارنت نيومان — تجريدًا لا يدين كثيرًا للنماذج الأوروبية الأولى. وما نجح فيه جيل «الفن الشعبي» (البوب) الذي تلاه — روبرت روشينبرج وجاسبر جونز — هو التوفيق بين هذه الرؤية الجمالية التي يعبر كل امرئ فيها عن نفسه داخل أشكال خاصة به، والصور التي — على النقيض — تنتمي للعالم كله فيسيل الطلاء في لوحات روشينبرج على خلفية نتعرف فيها على صور فوتوغرافية لأحداث معاصرة قُصَّت من الجرائد، وعلى لوحات إشارات أو صفائح معدنية.

بالتأكيد، ساهم «الفن الشعبي» المطَّلع على الثقافة الشعبية، والمستعد للعودة إلى الانصهار فيه، في مِقْرَطة الفن، مثله مثل ارتفاع مستوى حياة الطبقات الوسطى وتقدم التعليم. ولاحظ الناقد هارولد روزينبرج أن فناني «البوب» أدخلوا — بين شخصيات القصص المصورة وأكياس الغسيل — كثيرًا من اللوحات التاريخية الكبرى المستنسخة. نذكر لوحة فينوس لروبنز في عمل لروشينبرج، وعشرات من لوحة «الموناليزا» في أعمال آندي وارهول، دون الحاجة إلى الحديث عن مسلسلات ليشتنستين الكاملة المنقولة عن موندريان، بيكاسو، بل عن لوحات تجريدية غنائية، و«فينوس» بوتيتشيللي التي «سترها» آلان جاكيه تحت قوقعة «شل»، أو أيضًا النسخة الثانية التي صنعها نفس الفنان ﻟ «الغداء على العشب». فَروشينبرج، الساخر لحدٍّ ما، أشار إلى أن عالم الفن الشعبي، على نقيض الأفكار المسبقة، لم يكن عالم «كل امرئ» قدر ما هو «عالم الفن المتسع».

تجميل الحياة اليومية

هناك أسلوبان في إدراك العَلاقات بين الفن والتاريخ وكلاهما يعنِيان فلسفتين متعارضتين تمامًا. أن نعتبر الفن انعكاسًا للتاريخ، أو أن الأخير هو الذي يظهر في خلفية فضاء «يتم تنظيمه وفيه يحدث كل شيء، وأشكال» نحن «مغلفون بها». والمؤرخ أندريه شاستيل — المذكور هنا — كان من مؤيدي المفهوم الثاني لمعرفته أنه «تحدٍّ» للتاريخ الممارَس على نحو مألوف. وقد شكا أنه حتى من خارجه «كل شيء مزيف [… ]، بدءًا بالجهد الوهمي ﻟ «استنباط» [الفضاء المظلم والأشكال] لحاصل هم موجودون فيه مسبقًا».

أخطأ من أراد السخرية من طليعِيِّي بداية القرن الذين — مثلما نعلم — كانوا يحلمون بتغيير العالم. فخلال فترة «بعد-بعد الحرب» — موضوع حديثنا — بدأ الفن الحديث في تغيير العالم. فبعد هجرتهم إلى الولايات المتحدة، عمل أساتذة اﻟ «باوهاوس» فيها وأسسوا مدرسة بالمعنى الحرفي والمجازي. وشيد مخترع النحت المضيء المتحرك، «لازلو موهُلي-ناجي»، معهد شيكاغو للتصميم الذي يدرب مصممين صناعيين. وولَّدت المواد البلاستيكية الإنسان الآلي المنزلي أملس الشكل ويتمتع بحيوية في آنٍ، ويشبه إلى حدٍّ بعيد تماثيل جان آرب أو قسطنتين برونكوزي، أما حاملات المعاطف — التي تنتصب فيها كرات ملونة — فهي الشقيقات الصغيرات لأعمال كالدير المتحركة.

وإذا كان الفن الحديث يجدد عَلاقته مع الجمهور، فالتفسير ليس اجتماعيًّا فحسب، فهو يعود أيضًا إلى الوظائف الجديدة التي ينسبها الفن لنفسه وإلى التغيرات التي جرت في بنيته. فلأنها اعتبرت نفسها إنجازًا للطليعيين أعادت حركات الستينيات الصلة بطليعيي بداية القرن. فمشروعات البِنائيين الروس الذين جندتهم الثورة، ومشروعات فناني ومعماريِّي اﻟ «باوهاوس» — الذين بدءوا في إقناع بعض الشركات بفلسفتهم الجمالية — ابتلعها المد الستاليني، بالنسبة للحالة الأولى، والقومية الاشتراكية، للثانية. لكن في عهد يرى تلاشي صدمات الحرب العالمية الثانية، وهدوء هستيريا الحرب الباردة ويتمتع بالتوسع الاقتصادي، يحين الوقت لاستعادة هذه المشروعات من حيث هُجرت، وإدارتها على نحو جيد.

في مطلع الخمسينيات، أرادت «هوشُّول فور جيستالتونج أولم» — مدرسة «أولم» الشهيرة — أن تكون وريثة اﻟ «باوهاوس»، فتأسست بمبادرة من مؤسسة «شول» — التي تبجل ذكرى اثنين من رجال المقاومة أعدمتهما النازية، هانز وصوفي شول — وأدارها في السنوات الأولى ماكس بيل، وهو تشكيلي، نحات، مهندس معماري، رسام جرافيك، وتلميذ سابق في اﻟ «باوهاوس». ودربت المدرسة — إلى أن أُغلقت عام ١٩٦٨م — أجيالًا من المصممين، وعلى نحو خاص من يفرضون التصميم الوظيفي في ألمانيا، فمنتجات «براون»، على سبيل المثال، نماذج لها لا تشوبها شائبة.

لسنا أكثر ورعًا في فرنسا التي يصل إليها فيكتور فاساريللي، المشبَّع أيضًا بمبادئ اﻟ «باوهاوس»، بعد تردده على أكاديمية موهُلي في بودابست. فهو يستعيد من اﻟ «باوهاوس» فكرة تعايش الفن والعمارة. والواقع أنه أنجز وَحَدات معمارية مكتملة محدودة للغاية في فرنسا، لكن شعبيته الواسعة يمكن قياسها في الشارع اعتبارًا من الستينيات، حيث نرى فساتين مطبوعًا عليها أعمال للفن البصري، ويذكرنا شعار اﻟ «فناك» — فورًا، بخلفيته الراقصة المكونة من مستطيلات صغيرة سوداء وبيضاء — بأستاذ الفن الحركي، الذي سينتظر السبعينيات ليمنح بعض الاندفاعية لشعار رينو.

وهكذا، بينما يهتم البعض بتجميل الحياة اليومية، يرى آخرون ضرورة الإشارة إلى أنها تخبئ — مسبقًا — صورًا جديرة باهتمام علماء الجمال. وكثيرًا ما قيل إن اللوحات التركيبية لروشينبرج تستعيد — في مقياس كبير — مبدأ كورت شويترز في الكولاج، فنجد فيها قطع خيوط وتذاكر ترامواي قديمة. أما سيزار وأرمان — عرَض الأول سيارات مضغوطة، وراكَم الثاني كَميات من أشياء صناعية — فهما يضعان منهجًا لحركة ديشامب الذي نسب لنفسه حاملة زجاجات وحاملة قبعات ومِحرقة جليد … وبتوضيح حقيقة أن «الألوان تُصنع في المصنع» (شويترز)، وأن «أنابيب الطلاء منتجات مصنعة» (ديشامب)، قصد الدادائيان — كل على حدة — أنه لا يوجد سبب — أيضًا — لعدم استخدام أي شيء آخر منتج صناعيًّا في الأعمال الفنية.

بالنسبة للفنانين الشعبيين، لا سيما فناني الجيل الثاني مثل وارهول و«الواقعيين الجدد»، هناك — بالإضافة إلى ذلك — فكرة أن عددًا من هذه الأشياء جدير بالوجود في المتحف بنفس طريقة عرض لوحة أو تمثال كلاسيكي. فيختار سيزار — من تلال الأشياء المضغوطة لدى بائع الحديد — أجمل القطع وأكثرها تعبيرًا. وبالنسبة لوارهول، فثمة شيء متفق عليه: «المحلات الكبرى نوع من المتاحف». والمسألة متفق عليها إلى حد عكس مصطلحات المقارنة: «أحب روما للغاية، فهي نوع من المتحف، مثل محلات «بلومينجدال» الكبرى». فهؤلاء الفنانون لا يريدون فحسب عقد الصلة بفكر التجديد لبداية القرن، بل يريدون — فضلًا عن ذلك — أن يجعلوه مفهومًا. فهم يبينون، لجمهور مصدوم بحريات الفن الحديث، أن هذه الحداثة تسمح لنفسها — في واقع الأمر — بأشكال يجيزها المحيط اليومي.

الرسالة مزدوِجة: لا ينبغي الخوف من الفن الحديث، لا ينبغي الخوف منه لأنه لا ينبغي الخجل من الحياة الحديثة بأوانيها المصنوعة من البلاستيك وملصقاتها الدعائية الصارخة الألوان. وتصريح روشينبرج عن رغبته في الوقوف «في المسافة الفاصلة بين الفن والحياة» أصبح صيغة صنعت طريقًا. بينما الأشياء أكثر اختلاطًا — مسبقًا — بالنسبة لوارهول: «لا أستطيع أن أشرح لكم، حسبما يقول، ما هو الفن الشعبي، فالأمر معقد للغاية. فهو لا يفعل غير تناول الخارج ليضعه في الداخل ويأخذ الداخل ليضعه في الخارج، فيُدخل الأشياء العادية في المنزل. الفن الشعبي للجميع. لا أعتقد أنه ينبغي حجز الفن لنخبة، أعتقد أن عليه أن يكون لكل الأمريكيين الذين يقبلونه عادة في كل الأحوال».

الناقد الفني لورانس آلوي، الذي ساهم في الظهور المبكر للفن الشعبي في إنجلترا — بل هو من عمَّد الحركة — عارض زميله كليمنت جرينبرج، مؤلف مقال شهير عن «الفن الرديء». فبالنسبة لآلوي، الذي تحركه الرغبة في «تشجيع تراكب ما نسميه «الفن والحياة»»، لا مجال ﻟ «إعادة وسائل الإعلام إلى «مادة ثقافية بديلة»». ﻓ «الدور الجديد المتنقل للفنون الجميلة هو تمثيل أحد الأشكال الممكنة للاتصال في قلب نظام في حالة انتشار يتضمن أيضًا فنون الإعلام». وفي الثمانينيات، أصبح جيف كونز نجم الفن الأمريكي، بأعماله التي تتسم بأعلى مستويات الذوق الرديء، مثل — على سبيل المثال — تماثيله الخشبية العملاقة متعددة الألوان، المستوحاة من فولكلور جبال الألب. وها هو كيف لا يجعلنا نشعر بالذنب لأننا لا نكرهها: «ما أقوله للناس هو أنه لا ينبغي أن يمحوا ماضيهم … فثمة أشياء يرتبطون بها، أشياء بسيطة جميلة، مثل الزهرة، أو ذلك الشيء العاطفي الصغير الذي نذكر دائمًا أننا رأيناه عندما كنا صغارًا ونزور جدتنا». لقد انتشر النظام إلى حده الأقصى، ولم يعد المقصود فحسب تذوق هذا الذوق الرديء الحديث الذي حلَمنا به أيًّا ما كان الأمر، لأنه علامة على التقدم الاجتماعي، بل أن نحب أيضًا صناعة الطرائف المحزنة التي تواصل إزعاج العالم الحديث: ذكرى الإجازات في «سافوا» العليا التي تتصدر محطات التليفزيون.

لكن الانخراط في فن الستينيات لا يحدث عبر موضوعات جديدة فحسب. فهناك أشكال وأسلوب — أو بالأحرى غياب أسلوب — يسهله أيضًا. فقد أنتج التصوير — في فترة ما بعد الحرب — أساليب في نفس عدد الرسامين. وذهب هارولد روزينبرج، المنظر لمدرسة فعل التصوير، إلى حد ادعاء أن الرسامين حددوا شخصيتهم خلال تنفيذ لوحاتهم. فلا أحد غير ديكونينج أمكنه تصوير امرأة مثل ما صورها هو؛ لأن هذه المرأة، في الحقيقة، لا تمثل امرأةً ما قدر تعبيرها عن أعماق شخصية الفنان … وبالمقابل، يشبه أسلوب رسم مارلين، لوارهول، أسلوب الملصقات التي اعتدنا رؤيتها، وأي شخص يمتلك معَدَّات الطباعة يمكنه صنع نسخة منها.

إثر جمالية متفردة للغاية تعاقبت جمالية غير شخصية، جماعية إذا صح القول. فوارهول ينجز أعمالًا مبتكرة بمساعدة تقنية آلية مخصصة لإعادة الإنتاج، للطباعة، ويزعم أنه يريد «أن يكون آلة». ويؤكد ليشتنستين على هذا الاختلاف بين جيله وجيل التعبيريين التجريديين: «سعى الجيل السابق للوصول إلى شعوره الباطني بينما يسعى الفنانون الشعبيون إلى الابتعاد عن أعمالهم. أريد أن يبدو عملي مبرمجًا وغير شخصي …»

ثمة طُرفة ذكرها أحد أصدقاء وارهول، السينمائي إميل دي أنطونيو، وسجلها الفيلسوف آرثر دانتو بفطنة، تلخص العَلاقة الجديدة التي يقيمها هذا الفن بينه وبيننا. فخلال بحث وارهول عن ذاته كفنان، عرض ذات يوم على هذا الصديق لوحتين تمثل كلٌّ منهما زجاجة كوكاكولا؛ في إحداهما كانت الزجاجة ملطخة بالألوان (وهو ما أطلق عليه دانتو «زجاجة الكوكاكولا التعبيرية التجريدية»)، بينما الأخرى — ببساطة — نسخة منها بالأبيض والأسود، بأسلوب الطباعة الذي سيصبح في الختام أسلوب الفن الشعبي. لم يتردد دي أنطونيو فقال له: «آندي، اللوحة التجريدية خراء، الأخرى فريدة. إنه مجتمعنا، وما نحن عليه …». ومن لا يريد شيئًا آخر غير وضع مرآة للمجتمع سيتبع النصيحة، سيختار، وسيضاعف الصور التي تتيح المطابقة.

كان فاساريللي نجمًا فاخترق الفن البصري أوساط الموضة والدعاية. والواقع أن هذا النمط من الانتشار أكبر تأثيرًا من انتشار الأعمال الخاصة للفنان عندما أرادها على مقياس كبير. وقد كتب فاساريللي أنه يحلم ﺑ «فن اجتماعي»، وبمساندة قاعة «دونيز رونيه» صنع أعمالًا كثيرة من أجل الطباعة بالحروف البارزة، وابتكر أيضًا ما سمي ﺑ «المضاعفات»، وهي أعمال غير مستنسخة من عمل أصلي، وإنما تنفيذ متماثل لنموذج أصلي.

توقفت فجأة تجرِبة «المضاعفات» بلا نتيجة تُذكر. ولم ينجح بالمثل مشروع التعاون مع «آي. بي. إم». وبدون ادعاء أنه هو نفسه آلة ابتكر فاساريللي أشكاله، وهي غير شخصية أيضًا، وَفقًا لمنهج تركيبي اعتقد في إمكانية نقله إلى الآلة. «سنصبح قادرين في أساس برمجياتي، حسبما كتب، على إعادة خلق كل برمجياتي، وأيضًا تلك التي ستقترحها علينا الآلة، والتي لا حصر لها». وإذا ظلت هذه الآلة طوباوية، فذلك لأن بنى المجتمع متخلفة عن الشارع. فمن نوافذ قاعة عرضها في شارع «لابوييسي»، كان يمكن لدونيز رونيه أن ترى — في الجهة المقابلة — واجهات محلات «بريزونيك» تمتلئ بالفوط الإسفنجية المطبوعة على طريقة الفن البصري. بل اضطُرت — في يوم من الأيام — إلى إقامة دعوى ضد «جاليري لافايت» التي أفرطت في استخدام تفصيلة من لوحة لفاساريللي لتزيِّن واجهاتها. لقد تحقق تكيُّف الجمهور العريض مع الفن الحديث.

الفنان إنسان مثل الآخرين

و«عالم الفن الواسع» الذي ذكره روزينبرج، هو بالفعل عالم الفن القابل للتمدد وللاختراق في آنٍ. وهو يظل هامشيًّا، لكنه لم يعد منطويًا على ذاته أو عدوانيًّا. فالفنان يهتم بالضبط بنفس الأشياء التي تهم كل معاصريه. وهو — بالإضافة إلى ذلك — يعمل مثل كل شخص مستخدمًا الآلات، أو على الأقل دون ادعاء تميُّز إنجازاته — ﺑ «لمسة فريدة» — عن الكم المشترك للمنتجات الإنسانية. ولا ينبغي إهمال هذه المعلومة لفهم كيف تطورت نظرة الجمهور. فكل امرئ يمكنه التأكد بنفسه أنه من المحتمل — من الآن فصاعدًا — أن يصبح فنانًا دون الالتحاق بأية أكاديمية أو حتى امتلاك موهبة خاصة. وأوائل من تحقق من ذلك هم طبعًا من يعمل في الدعاية أو الرسوم التوضيحية، لأن الفنانين نظراؤهم ببساطة. وهكذا وضعت الناقدة لوسي ليبار قائمة بالمهن الأولى لكل كبار الفن الشعبي: «كان وارهول يرسم بنجاح كبير أحذية من أجل إحدى مَجلات الموضة، وروزينكويست يعمل في رسم الملصقات، وليشتنستين مسئول عن عرض السلع ورسام في مجال الموضة، بينما كان أولدينبرج رسامًا في الصحف. أما ويسيلمان فقد درس الرسوم المتحركة». وعندما استقر في باريس، عمل فاساريللي كخطاط من أجل «هافاس». وجاك مونوري وبيتر ستامبفي اللذان ساهما عام ١٩٦٤م في معرض «أساطير يومية» في باريس — (تمثلت مهمة التيار المتبلور في هذا المعرض في «تشويه» جمالية الفن الشعبي وتبني وجهة نظر نقدية عن المجتمع)— قاما أيضًا بانعطافة من خلال التعبير الخطي.

أن يمارس التشكيليون نشاطًا آخر غير التصوير لكسب العيش ليس حقيقة جديدة تمامًا. الجديد، بالمقابل، هو واقع تبنيهم، في ممارستهم الفنية، لنسقٍ مستعار من نشاطهم المربح. فالفنانون المعاصرون برجماتيون يرفضون تعلم مهنة المصور أو النحات، لكنهم مهرة للغاية في اشتقاق أدواتهم ومناهجهم الخاصة، أو في الاستيلاء على أدوات ومناهج الآخرين.

أصبح نادرًا أن يظل المرء مذهولًا أمام أحد الأعمال الفنية كأنه نتيجة كيمياء غامضة (سر الرسم!)؛ فنمط الإنتاج يبدو شفافًا، مما يحث على نمط جديد في التذوق: فلم نعد في وضع أسلافنا نشهد «تداعي» فن نبيل وقديم ينهيه هؤلاء الانطباعيون الذين لا يُعنَون بإنجاز لوحاتهم. فعلى النقيض، وبفضل استثمار الفنانين لها، يتاح لنا تقدير تقنيات لم تُقدَّر حتى ذلك الحين، لأنها جديدة — بلا ذاكرة، ومن ثَم بلا بُعد ثقافي — وصناعية. وفي عام ١٩٦٤م اخترع ريستاني مصطلح «فن الميكا» للإشارة — من بين أشياء أخرى — إلى أعمال آلان جاكيه الذي ينجز — وهو يستخدم الطباعة أيضًا — لوحات تتلاعب بأساليب الإنتاج الفوتوغرافي بالمبالغة فيها: لحام وفصل ألوان.

لم يعد الفنان كائنًا استثنائيًّا لا نستطيع مقارنة أنفسنا به، إنه شخص مثلنا. ومن ناحية أخرى فإن ديشامب، هذا الساحر المولع بالفنون، الذي ادعى أنه يعيش حياة «صبي مقهى»، جعلنا نشعر بالراحة: «في الواقع، لا أعتقد في الخاصية الإبداعية للفنان. إنه رجل مثل أي رجل آخر، هذا كل ما في الأمر. فشاغله أن يصنع أشياء محددة، لكن رجل الأعمال يصنع أيضًا أشياء …» وقد جعلني أحد الفنانين ألاحظ، ذات يوم، إلى أي حد ساهم «الواقعيون الجدد» — بإعلان ميلهم لنمط معين في الحياة يحرص، على سبيل المثال، على السيارات الجميلة — في منح الفنان صورة جديدة بشكل عام؛ صورة استفادت منها بالتأكيد الأجيال التالية. ومحادثي كان واحدًا منها. وبالنسبة لمن قدموا بيانًا — في أعمالهم — بزيادة المنافع المادية، انتهى بالنسبة لهم التشرد الذي لا يغذي سوى الروح.

وتلاشى — على نحو مطرد — الشعور بالابتعاد عن العالم الفني بين فئات اجتماعية يتزايد تنوعها. وأصبح في متناول أي شخص الاندماج في هذا العالم، على نحو واقعي أو خيالي. وكشف النجاح التِّجاري والإعلامي المذهل للفن المعاصر عن وجود حشد من المهيئين لهذا الاندماج.

مرة أخرى نجد لدى وارهول — من الآن فصاعدًا — الإشارات الأولى لسلطة الفن الحديث الفاتنة. فمن لم يسمع عن «المصنع»، هذا الاستوديو الضخم الذي استخدمه وارهول كأتيلييه — استوديو — مكتب وصالة استقبال. فنظرًا للأنشطة العديدة التي تدور فيه لا سيما إخراج الأفلام وطباعة مَجلة «إنترفيو»، كان فريق كامل يعمل فيه، لكن عددًا أكبر منه كان يذهب هناك؛ ﻓ «المصنع» مكان لقاء وسط نيويوركي بأسره — رغم أنه «خليط» — منجذب في أغلبه بمساحة الحرية المخالفة التي يمثلها، وأيضًا بشخصية من تنبأ للجميع بالشهرة، وإن دامت ربع ساعة. ويقدم «بات هاكيت»، الذي جمع جريدة وارهول الناطقة، صورة لحشد الشخصيات غريبة الأطوار — إلى هذا الحد أو ذاك — التي «تتدافع نحو الباب الصغير»، أي باب المصنع، بأمل «اكتشافها»، أي الحصول على دور في أحد الأفلام الجاري إخراجها.

زمنية

اتسعت الدائرة انطلاقًا من «المصنع». وعلى أية حال لماذا لا يتزايد عددنا في المشاركة في تاريخ الفن، لا سيما أننا نساهم مسبقًا في تاريخ الفن، بلا أية زيادة.

في دراسة مكرسة لما يسميه «ما فوق الحداثة»، يلاحظ مارك أوجيه — مخترع علم أصول حياتنا اليومية — وجود نوع من المِقرطة للعَلاقة بالتاريخ. «التاريخ يتعقبنا، حسبما يكتب […] التاريخ: أي سلسلة من الأحداث يُعترف بها كأحداث من جانب الكثيرين (البيتلز، ٦٨، حرب الجزائر، فيتنام، […] حرب الخليج، تفكك الاتحاد السوفيتي)، أحداث يمكننا الاعتقاد أنها ستُقدَّر من مؤرخي الغد أو بعد غد، ويستطيع كل واحد منا — وهو واعٍ تمامًا أن لا عَلاقة له بهذا الموضوع مثله مثل فابريس في معركة واترلو — أن يحدد بعض الحالات أو بعض الصور الخاصة بها، كأنه كل يوم أقل حقيقة من الرجال الذين يصنعون التاريخ (إذ، وإلا، من غيرهم)، ولا يعرفون أنهم يصنعونه.»

يعرف الفن أيضًا هذا المنطق. فالمتاحف التي يتزايد عددها ويتزايد استعجالها (بسبب التنافس؟) على تقام حول موضوع رئيسي، والمعارض الاستعادية التي نرتادها، هي بنفس القدر مناسبة لإلقاء نظرة تحليلية غير متمهلة على أحداث حديثة، بل جارية.

الواقع أن وظيفة الإقرار الشرعي للمتاحف تتم على مستويين: فمن ناحية، يتطلب التنوع المشوَّش البحث عن مصادر واضحة له في الماضي البعيد أو القريب، حتى يمكن للمرء أن يعرف موضعه فيه. ومن ناحية أخرى، فإن كل إبداع معاصر — وقد اتضح على هذا النحو، وضُبطت عَلاقته بالماضي — يجد نفسه مسجَّلًا بشكل آلي كامتداد لهذا الماضي؛ فهو — في ذاته — حلقة في سلسلة تاريخية فاعلة. والواقع أنه كلما بدا لنا الإبداع المعاصر مشوشًا، مستغلِقًا، وبلا معنًى، شعرنا بالحاجة إلى الإسراع في تأريخه.

تأثير الجِدة

لم تكن المساعي الفنية التي بدأت في التوالد في النصف الثاني من الستينيات وبداية السبعينيات تشبه أشياء عظيمة معروفة، كما اتصفت بغياب الوَحدة بينها في هذه السنوات، بدأ «أون كاوارا» يرسل تلغرافات يبلغ فيها المرسَلة إليهم أنه «لا يزال على قيد الحياة»، بينما أخذ جوزيف بويز، ووجهه مغطًّى بالعسل والذهب، يشرح اللوحات إلى جثة أرنب يتأبطه. فأي عَلاقة بين الشاحنة-القاطرة، والجرافات التي سرعان ما سيجندها روبرت سميثسون ليرسم على بحيرة «ساليه» الكبرى شكلًا حلزونيًّا قطره ٤٥٠ مترًا من صخور البازلت السوداء؟ قبل أن ينتهي العَقد، دُعي هؤلاء الفنانون للاشتراك في معارض بالمتاحف. وكان من بينها، عام ١٩٦٩م، «عندما تصبح الحالات شكلًا» في بيرن، وOp losse Schroeven (حرفيًّا: «دِسارات مربعة في ثقوب مستديرة») في متحف «ستيديليك» في أمستردام، و«مفهوم» في متحف مدينة ليفيركوزين. وقد بيَّن فيم بيرن منظِّم معرض Op losse Schroeven، بوضوح شديد، أن ما يقصده هو وزملاؤه هو اكتشاف كل هذه الأشكال الفنية الجديدة والتمكن — بعد زوال الصدمة الأولى — من فهم الرابط المحتمل بينها.
يُسقط تأثيرَ جِدة الأعمال — مؤقتًا — كثافةُ الشفرة الرمزية؛ فنحن لا نرى لوحة تمثل شيئًا، وإنما الشيء نفسه. وهذه الظاهرة قديمة قِدم الفن الحديث، وربما قديمة مثل الفن. فالصامدون هم أول من يتم أسرهم — مثل طيور أفلاطون — بعناقيد العنب المرسومة، فهم لا يرون «فينوس» في «أوليمبيا» مانيه، وإنما امرأة مبتذلة تمارس مهنة «الموديل». بل قد يحدث ويتطور هذا النَّموذج في القراءة — بدون مسافة وعلى نحو متناقض — ليستقر في الإسقاط النفسي الاستيهامي. أتذكر مقالًا عن «السرير» لروشينبرج يقول فيه إنه كان يرى بقع دم وسائلًا منَويًّا، حيث لم يكن هناك سوى طلاء مخربَش على ملاءات وفي كلمة «قهوة» لخصت مقالات عديدة نُشرت خلال معرض Op losse Schroeven، وصفها لأعمال يانيس كولينوس الذي وضع فيه بالفعل أكياسًا من نبتة الجوتة تمتلئ بالقهوة وبموادَّ أخرى بالإضافة إلى ذلك.

وتمثلت مهمة المدافعين عن الأشكال الجديدة في الفن، على النقيض، في تمجيد متعة الإحساس بالفنان بسهولة، وبالمشاركة في تجرِبته بلا تأمل، مع التصديق — مع ذلك — على أنه ثمة «عمل» فني بالفعل. وأعمال الانطباعيين — المصنوعة وَفقًا لنَموذج، وبشكل مباشر بدون تخطيط — تسجل أحاسيس جعلت دوريه يقول: «ينبغي الركض مع مونيه في الحقول.» لكنه لا ينسى التأكيد على حقيقة أنه من خلال مؤثرات الجِدة استطاعت هذه الأعمال ادعاء أنها وريثة «الفن العظيم لعصر النهضة». وبعد ٧٥ عامًا، سيصبح شحذ الحجج ضروريًّا لتفسير «الأحداث» التي يمارسها آلان كابرو، عندما يجعل جمهوره يجري بالفعل في شوارع نيويورك.

والطليعيون، الذين في منعطف الستينيات والسبعينيات سيستولون على كل أنواع المواد، حتى تلك الملقاة على الرصيف، وأيضًا على جسد من يأتي لمشاهدة الفعل، يسعون إلى هذا التواطؤ/الصدام بين الجمهور والعمل ويفرضونه عليهم. أعمال عابرة تثير اللحظة القصيرة التي تقتسمها مع حفنة من المشاهدين؛ أعمال مفتوحة وجدت لأن المشاهدين لمسوها وتغلغلوا فيها. فمن واجه حائط البراميل الذي نصبه كريستو وجان كلود في شارع فيسكونتي في باريس عام ١٩٦٢م، ومن عبر عام ١٩٨٥م — وهم أكثر عددًا — جسر «بون-نوف»، الذي غلفه الفنانان السابق ذكر هما، احتفظ بالتأكيد بذكرى أكثر حيوية من تلك التي نشعر بها أمام الصور الفوتوغرافية للأحداث نفسها. ولم يكن لأغلبهم في هذا الشأن مسئولية أكبر من مسئولية فابريس في واترلو (كي نستعيد مقارنة مارك أوجيه)، لكنهم — وقد عرَفوا المساحة الممنوحة من الآن فصاعدًا لهذه الأعمال في حوليات الفن — يمكنهم أن يقولوا لأنفسهم إنهم شهود مباشرون للحظة تاريخية. ومع اختفاء هذه الأعمال — التي ذكراها هي الوديعة — يظل شيء جوهري فيها مفقودًا للأبد.

مشاركة الجمهور

هناك أعمال أخرى تُدرَك على نحو يجعل المشاهد يشعر أنه يلعب دورًا في إنجازها. فهو فاعل فيها بشكل جزئي. ومنذ مرحلة مبكرة للغاية، وصف أمبرتو إيكو الطريقة في مؤلَّفه الشهير «العمل المفتوح». فالمرسل إليه ينجز العمل من خلال تفسيره، وأحيانًا عبر فعله الحقيقي وفي السبعينيات سُمي هذا المبدأ «مساهمة المشاهد»، وقُصد به عمومًا — التخلي عن مفهوم الفنان الذي «يفرض» على الجمهور رؤيته عن العالم، والسماح لهذا الجمهور بالتعبير عن نفسه.

على صعيد نمط اللعب، نجد قبل عام ١٩٦٨م بقليل في باريس، أفعال «مجموعة البحث الفني البصري» (Grav)، التي جعلت الفن الحركي يهبط إلى الشارع. فهي تقدم للمارة فرصة شحذ ملكاتهم الإدراكية، فيرون العالم بوجه آخر من خلال مشكال١ عملاق، أو يتخلون عمدًا عن اطمئنانهم بالسير على بلاطات معْوَجَّة. وينجز هانز هاك بجدية تحقيقات حقيقية ستقوده إلى نقد اجتماعي صارم. فعلى سبيل المثال، خلال معرض بإحدى قاعات العرض النيويوركية، دعا كل زائر إلى تسجيل مكان ميلاده وعنوانه على الخرائط. وعمله المسمى «مظهر عام لزوار قاعة عرض فنية» هو نتيجة هذا البحث، وقد عُرض في معرض آخر. فمجمل الجمهور هو الذي منح العمل شكله من خلال ما تذكره العناوين عن أصل كل فرد ووضعه الاجتماعي والفنان لورنس وينر، الذي ينتمي لمدرسة المفهوم، لا يقدم أعماله غالبًا إلا في شكل شِفاهي، مصحوبة بتعليمات تترك المجال مفتوحًا لكل الاحتمالات: «يستطيع الفنان تنفيذ هذه القطعة. يمكن لشخص آخر تنفيذ هذه القطعة. لا ينبغي بالضرورة تنفيذ هذه القطعة».

ويصطف جزء كبير من الأعمال المنتجة في القرن العشرين داخل هذا التقليد المسمى النظري، الموروث من فكر القرن التاسع عشر. ليست هذه الأعمال تمثيلًا أو استكشافًا للعالم أو للكائن البشري، قدر ما هي تأملات حول تعريف الفن نفسه. ونجد من بينها أيضًا اللوحات التجريدية للمدرسة الشكلية، حيث يُختبر السطح المستوي لقماش اللوحة، وحدود الإطار … إلخ، مثلما نجد نصوص فن المفهوم التي تضع عاداتنا الإدراكية في أزمة، وتدفع إلى ظهور النصوص النظرية. ووَفقًا لجوزيف كوسوت، أحد قادة الحركة، يناوب فن المفهوم الفلسفة.

يتصدر فن الأشياء الجاهزة مركز حقل الهدم وإعادة البناء هذا. فهل هو أساس أم انحلال الفن الذي يليه؟ من يعتقد في الفن المعاصر، ومن يهاجمه، يواصل مواجهة وتأمل هذا السؤال. والحاصل دائمًا أن الأشياء الجاهزة تمنح الجمهور مسئولية ضخمة، إذ إنه هو الذي — في الختام — يقرر أن يقبل — أو لا يقبل — اعتبار عجلة رُكِّبت بالمقلوب على مقعد بلا ذراعين، عملًا فنيًّا. كانت الرغبة في اختبار ذائقة معاصريه أحد الأسباب العديدة التي دفعت ديشامب إلى عرض أشياء مصنَّعة. وظهرت له النتيجة بسرعة للغاية: «نستطيع أن نجعل الناس تبتلع أي شيء، وهذا ما حدث.» ولأن حالة إجماع فرضت نفسها، افتتحت مبولة (رفضتها لجنة تحكيم أحد الصالونات عام ۱۹۱۷م) بعد ستين عامًا، المعرض الاستعادي لمارسيل ديشامب في مركز جورج بومبيدو. ومن قبل، كان ديشامب قد خلص قائلًا: «أمنح من ينظر إليه [العمل الفني] نفس الأهمية التي أمنحها لمن صنعه.»

لسنا مدعوِّين فحسب إلى تأمل الأعمال غير المنجزة إلى هذا الحد أو ذاك، بل علينا أن نقرر ما إذا كان النظام الأساسي لبعض الأشياء هو حقًّا نظام العمل الفني. فهذه الأشياء لا تصبح أعمالًا فنية إلا بنظرتنا، شرط أن نتقبلها بالتأكيد. فليس هناك أعمال قدر ما هناك اقتراحات بأعمال. وفي الفترة التي كان دانييل بوران يعلق فيها في الشارع أوراقًا — طُبعت عليها شرائطه الشهيرة، البيضاء والملونة بالتناوب (لكن، آنذاك، لم تكن شرائطه مشهورة بالطبع، وكان الفنان يحرص على أن تظل مجهولة) — لم يسْعَ لجعل ألواح الإعلانات متكأً لمتحف مفتوح. وبوران — الذي انتقد حب الفنانين الآخرين للسلطة — لم يدَّعِ إجبار المتسكع على الذهول أمام شرائطه، وكأن المقصود هو «الجوكندا». فالنظرة، المنتبهة أو غير المنتبهة، حرة في اكتشاف، صدفة، هذه الهاوية الدلالية في قلب غابة العلامات المدينية، وأن تتساءل، صدفة، عن وظيفتها. اكتفى بوران بهذا الوعي لتبرير تدخله. وفي الحالة المتطرفة، الخاصة بنظرة متأهبة تتعرف على علامة فنان طليعي، ربما اقترح التفسير التالي: إنها النظرة المشروطة لهاوٍ يحمل معه مضمون المتحف …

اختارت مجموعة «فن ولغة» — عمدًا — «مجالات انتباه» يصعب تحديدها كأشياء على نحو خاص. وخلال المناقشات تحلل ملاءمتها المحتملة في المجال الفني. فهل نعتبر نظام التكيف، على سبيل المثال، جزءًا مكملًا للمعرض؟ هناك شيء سقراطي لدى علماء الجدل هؤلاء الخطرين. فالعمل الفني تشكَّل من التأمل الذهني الذي أثارته هذه الأسئلة. وحلقة النقاش كانت مفتوحةً للنقاد الذين يشاركونهم مساعيَهم ولأفرادٍ معينين مثل الطلبة المعنيين بالأمر. كان مفهوم الجمهور أقل اتساعًا مما هو في حالة «جراف» التي اجتهدت لتفعيل الرجل العادي، لكن مستوى الكفاءة المطلوبة كان أرقى.

والناقد سيريل جارتون راودته فكرة ربط مفهوم الفن المعاصر بنوع من الأعمال وصفها ﺑ «أدائية». واﻟ «أدائي» — في علم اللغة — هو نص منطوق يمثل — في آنٍ — الفعل الذي هو الشيء الموصوف: «أعدك أن …» نص أدائي منطوق. فنحن لا نقول فحسب إننا نعد، بل نعد بالفعل أثناء الكلام. وقد اكتشف جارتون أن عددًا كبيرًا من الفنانين يستخدم اليوم خامات لا تُعتبر فنية على نحو أولي، وأنهم يتبعون مناهج شخصية للغاية.

إذن لا تُعرَّف هذه الأعمال — باعتبارها أعمالًا — بالارتكاز على نَموذج فني قد يكون خارجيًّا عنها، فهي لا تتكون كأعمال فنية إلا بالالتحام — الذي سيظل فريدًا — بأنساقها. ومن ناحية أخرى، يخلط كثير من هذه الأعمال — أداء حركي، أعمال مركبة في الفراغ … — بين زمن الإعداد وزمن العرض. وربما لا يعيد الفنان أبدًا استخدام الأشياء ولا التقنيات التي يلجأ إليها في مثل هذه المناسبة أمام جمهور آخر، ﻓ «المؤدي» لن يكرر أبدًا نفس الحركات. وقد نستطيع القول — عند الضرورة — إن كل عمل يذكر تعريفه هو عن العمل الفني.

ربما عثر جارتون على مفهوم النص الأدائي المنطوق لدى فيكتور بورجان، فعندما صنع بورجان منه أحد أسسه النظرية، صاغ أعمالًا مصنوعة من مقترحات في هيئة نص بمصاحبة صورة فوتوغرافية أو بدونها. هذه المتتاليات توفر إطارًا ملموسًا ومجردًا في آنٍ، يستطيع المتفرج/القارئ أن يملأه بالخيال. هنا، ليس الجمهور عمومًا هو الذي يساعد في تشكيل العمل بل كل امرئٍ على نحو خاص، شرط أن يرغب حقًّا في المشاركة في اللعبة التي تهيئ في كل مرة عملًا ذهنيًّا جديدًا على نحو جزئي.

ربما لا تؤدي هذه الأمثلة — الوارد ذكرها منذ بداية هذا الفصل — إلا إلى توضيح أو تضخيم قانون اعتبره الفيلسوف لويجي باريسون صالحًا لكل عمل جدير بهذا الاسم، أي أن المقصود من «أن نشكل» هو «أن نصنع»، لكنه صنع يخترع طريقته في الصناعة خلال صنعه. وربما لا تصبح «مشاركة المشاهد» أيضًا سوى تنظيم للدور الحاسم الذي أقره نفس الفيلسوف من قبلُ عن التلقي. ورغم هذا فقبل طليعيِّي نهاية الستينيات هؤلاء ما كان لأي عمل — عن حق بالفعل — ادعاء صفة «المعاصرة»: فما كان لأي واحد منهم أن يخلط وجوده — إلى هذا الحد — بأن يجعل معطياته راهنة من خلال المرسل إليه.

أعمال دائمًا طازجة

ليست التبعات دائمًا طيبة بالنسبة لعلم تنظيم المتاحف. نعلم أن الفن المعاصر يشير — جملة — إلى هذه الأشياء التي يتعذر نقلها أو الإمساك بها، الطارئة، وأحيانًا السهلة الاتساخ، التي لا نعرف من أي طرف نلتقطها. وبالإضافة إلى ذلك، على أمين المتحف — في حالات كثيرة — أن يكون من طراز المفسرين. فعندما يدخل في تكوين الأعمال أشياء ينبغي تجديدها، أو تجميعها على نحو مختلف وَفقًا لمكان العرض الجديد، سيكون على أمين المتحف، أيًّا ما كانت دقة تعليمات الفنان أن يتخذ القرارات بمبادرة منه وحده. وهكذا، ثمة عمل لجيوفاني أنسيلمو يتألف من كتلتين من الجرانيت تلتصق بينهما سَلَطة طازَجة، ويشد هذا الكلَّ سلكٌ نحاسي. فإذا ذبلت السلَطة، تسقط الكتلة الأصغر؛ فهي التي تمسك بالتكوين. والالتزام بتبديل هذه السلَطة كل يومين أو ثلاثة لا يصعب تلبيته، فلا شيء يشبه الخس أكثر من الخس. لكن عندما يتعطل تلفاز٢ في عمل مركب لنام جون بايك، ويتضح أنه لا يمكن إصلاحه، وأن شركة جي. في. سي لم تعد تصنع هذا الطراز، يتساءل دِيدْيِيه أُوتِّنجِيه أمين المتحف المسئول: ألن تغير أحدث صيحة من تلفاز هيتاشي من طبيعة العمل المركب؟ ألا يساهم الشكل الكروي لأول تلفاز — الذي يميز إلى هذا الحد التصميم خلال مرحلة معينة — في سحر هذا العمل المركب؟ باختصار، ألن يكون ذلك مثل وضع أذرع إضافية ﻟ «فينوس» ميلو؟

بالنسبة لديديه سومان الأمين بمتحف مركز جورج بومبيدو، لم يعرف المتحف بعد، مثل الصناعة في القرن التاسع عشر، التكيف مع أنماط الإنتاج الجديدة؛ فهو يرتبك أحيانًا إزاء مشاكل لم يواجهها الحكام بعد، وفي إجراءات تدهش أو تُسَلي من هم ليسوا في المهنة. فعلى سبيل المثال، يملك المركز عملًا لمارسيل برودهاريس على هيئة غرفة من خشبٍ ذي نتوء ومغطًّى بالكتابات. ولتجنب مخاطر التلف، هناك «نسخة سفر» من هذا العمل المركب، يتم إعارتها عندما ترغب متاحف أخرى في عرضها. والواقع أن «القاعة البيضاء» لا تشكل جزءًا من الأعمال الفنية التي تتمثل خصائصها في النقد الخبيث للفنان. ورغم هذا، عندما تُعار بالفعل، يُحجب العمل المركب في مركز جورج بومبيدو، وَفقًا لاتفاقية مع ورثة الفنان! بلا شك للمحافظة على مفهوم العمل الأوحد. وبما أن المقصود هو عمل لبرودهاريس الساخر، الذي درس لدى السيرياليين الثوريين، نقول إن أثر المعاصرة غير شامل بعد، وأن العقليات تُظهر — أحيانًا — تخلفًا عن الأعمال …

لكن ربما يملك سومان تفسيرًا لهذا البطء — النسبي — في تسجيل إعادة الاتهام لمفاهيم الدوام والوجدانية والأصالة من خلال الأعمال نفسها. فإذا تخلينا بالفعل عن هذه القيم في أعمال الفن المعاصر ألا نخاطر بتحريك آلية منسحبة إلى الماضي؟ وهكذا، ألا نستطيع القول بصدد كل أعمال تاريخ الفن، إن المادة المصنوعة منها لا تتمتع بأي شيء مقدس، وأنه يمكننا التدخل فيها بنسب تتخطى الترميم البسيط؟

هناك فنانون وافقوا على المبدأ من قبل. فدانييل ديزوز — الذي انتمى لمجموعة «دعامة-سطح»، التي تناولت مشروع الهدم/إعادة البناء على اللوحة نفسها، في السبعينيات في فرنسا — أنجز خلال هذه الفترة عرائش من الخشب، منوِّعًا مصادر الإطار، المهمَلة في ذلك الحين. وعندما تلف أحد هذه الأعمال، فضل الفنان إنجاز عمل جديد بدلًا من محاولة ترميمه.

وعلى النقيض، عندما تطلَّب الأمر ترميم تمثال دوان هانسون — «سيدة السوبر ماركت» المنتمي للواقعية المفرطة والمحفوظ في «لودفيج فوروم» في إكس-لا-شابيل — قرر أمين المتحف إحالته — قدر المستطاع — إلى حالته في فترة إبداعه عام ۱۹۷۰م. وجاء هذا القرار مخالفًا لرأي الفنان، الذي كان يأمل تبديل علب الغسيل القديمة — التي يحملها خادم السيدة — بعلب أخرى متداولة وقتئذٍ في المتاجر عام ۱۹۹٥م. ويلخص الأمين القصة قائلًا: «إن مشكلة الفن المعاصر الخاصة للغاية تتمثل في عَلاقته بالزمن واللانهائي.»

ثمة خيار ينحو إلى السيادة في مجال ترميم الأعمال القديمة، ويتمثل في التخلي عن حالة أصلية افتراضية، والاكتفاء بالمحافظة على الأعمال في حالتها الراهنة. فهل ستخلد هذه الحالة الراهنة؟ والأعمال التي رُممت خلال العَقد الأخير من القرن العشرين، هل سيحافظ عليها دائمًا في نفس حالتها خلال هذه الفترة؟ لقد حذرَنا فلاسفة ومؤرخون وفنانون: لقد تغيرت عَلاقتنا بالزمن بعمق، فقد دخلنا — كي نستعيد تعبير جي ديبور المنظِّر ﻟ «مجتمع الفرجة» — في «حاضر أبدي»، في «حاضر توقفت فيه فيه حتى الموضة نفسها، من الثياب إلى المغنِّين، حاضر يريد نسيان الماضي، ولم يعد يعطي الانطباع بالإيمان في مستقبل ما». ويسلم المؤرخ هانز بلتينج — من جانبه — بأن الفن المعاصر «يعكس تاريخ الفن المعروف»، لكنه يلاحظ أنه لا يمتد به «إلى الأمام»، فهو لا يهدف إلى الكمال ولا يرغب في تحقيق التقدم.

يعكس الفن المعاصر إذن، وأيضًا، تاريخ الفن المعروف، لكن في أية شروط؟ تنتمي شيري ليفين إلى جيل الفنانين النيويوركيين الذين يلقَّبون ﺑ «أتباع الصورية».٣ (لأنهم كانوا يستشهدون بجان بودريلار مؤلف «صور وصورية» Simulacres et simulation). وعندما كنا نرى عملًا لها — في بداية الستينيات — كان يمكننا الاعتقاد أننا ضحية الهلوسة، فتوقيعها يظهر أسفل صور معروفة تمامًا لوالكر إيفانز، جيورجو موراندي، بيت موندريان … إلخ. وقد قارنت الفنانة نشاطها بنشاط بوفار وبيكوشيه. «العالم ممتلئ إلى حد أننا نختنق فيه … نستطيع فحسب محاكاة حركة دائمًا سابقة … والمنتحل الذي يخلف الفنان لم يعد يحمل الانفعالات داخله … وإنما بالأحرى هذه الموسوعة الهائلة التي ينهل منها.» ولهذا الاجترار تفسير: «لم يعد بوسعنا التمتع بهذا التفاؤل الساذج الذي كان يعتقد أن الفن يستطيع تغيير النظم السياسية … طموح تقاسمته مشروعات حداثية عديدة.»

عندما يتوقف الزمن

الزمن المعلق، إذا جاز القول، استغرق بعض الوقت ليتوقف. ولأنه فيلسوف ماركسي صالح، وصف أرنولد هاوزر الانطباعيين بمواطنين شباب منقادين إلى التحالف ضد جمهورٍ معادٍ. لكنه بيَّن أيضًا الدور الذي يُفرض على الفرد، في هذا السياق. لنقل إنه يسند إلى الانطباعيين سبق الاكتشاف الديشامبي (نسبة إلى ديشامب)، الخاص بالنظرة المشكَّلة: «ينتج العالم، الذي تكون الظواهر فيه في حالة تدفق وانتقال مستمرَّين، انطباعًا بالاتصالية يذوب فيه كل شيء، ولا يتضمن اختلافات أخرى غير وجهات النظر المتنوعة للمشاهد. وفن يتوافق مع عالم كهذا لن يؤكد على الطبيعة المؤقتة والانتقالية للظواهر، فهو لن يرى في الإنسان مقياس كل شيء فحسب، وإنما سيبحث عن معيار الحقيقة «الآني» للفرد.» وفي عالمنا الراهن، حيث التداول المتسارع للصور «ينتج الانطباع بالاتصالية»، وحيث تختلط الصور القادمة من أعماق التاريخ والصور الراهنة، لم يعد هناك «معيار للحقيقة» لتمييز الأصلي من المستنسخ، فدلالة المستنسخ لا تقل عن الأصلي، إذ — حسبما تصرح شيري ليفين، التي تستخلص كل تبعات القانون الذي عبر عنه ديشامب — «لا تكمن دلالة عمل في أصله، وإنما في مقصده. وعلى المتفرج أن يولد على حساب الفنان التشكيلي». فللعمل الفني مساره، ووحده من يستدعي الصورة على شاشته الخاصة هو الذي يثبت المعنى.

في مقاربته بين الانطباعيين وأعمال بروست، الذي تتفتح له الحياة في الذاكرة، يخلص هاوزر إلى أن «الزمن لم يعد مبدأ الانحلال والهدم (…)، إنه بالأحرى الشكل الذي نسيطر من خلاله على حياتنا الروحية (…). فنحن نصبح ما نحن عليه لا في الزمن فحسب، وإنما من خلال الزمن». وفي الخمسينيات لم يكن روزينبرج بعيدًا جدًّا عن هذه الفلسفة عندما دافع — خلال حديثه عن فعل التصوير — عن فكرة اعتبار قماش اللوحة «حلبة»، وعن أهمية الفعل الذي يحدث فيها وزمن تنفيذه اللذين يتجاوزان الصورة الناتجة عنهما، فهذا الفعل فرصة ﻟ «الإبداع في ذاته» بالنسبة للفنان التشكيلي. ولنقل بلا إلحاح إنه من المرجح تمامًا أن تكون اللوحات قد عملت مثل شاشات التليفزيون أو الكمبيوتر (وقبل اختراعها)، التي يقول عنها المعماري والباحث بول فيركييو، والمحلل البارع للتكنولوجيا الجديدة، إن «الزمن يطفو (فيها) على السطح.»

ولأنه هناك دائمًا لحظة، في فن القرن العشرين، يتجذر فيها أحد المبادئ عندما يجد تطبيقه الحرفي، سرعان ما ستتأسس الأعمال بالفعل في سياق الهدم. هذا ما نجده في «ثورات غضب» أرمان، المصنوعة من أجزاء متشظية لآلة كمان، وبيانو، وحتى أثاث شقة كاملة، حطمها الفنان بعنف. وبالتأكيد يستطيع الجمهور المساهمة في الهدم؛ ففي عام ۱۹۷۱م في قاعة تيت في لندن وضع روبرت موريس إنشاءات مخصصة للسير فوقها وتسلقها … إلخ، وخلال بضعة أيام؛ ولأن الزوار لم يحرموا أنفسهم من التجرِبة، تحطم العمل المركَّب، وأُقفل المعرض. وسيعيد المسئولون عن المتحف فتح المعرض بإحلال الجزء المحطم بأعمالٍ أخرى أقدم للفنان، ليثيروا على هذا النحو استياءه. فلو ظل المعرض مغلقًا، لاتضحت حقيقة أن موريس تحمل مسئولية الهدم ويدمجه في عمله.

في عام ١٩٦٥م، بدأ جيلو دورفل، الناقد الفني والباحث في علم الجمال، كتابه «أساطير وطقوس راهنة» بهذه السطور: «ربما تتمثل أحد أكثر المظاهر تفردًا للحظة التاريخية التي نجتازها في حقيقة «الاعتقاد أنها تاريخية» وفي الاهتمام المتزايد بالوقت الراهن أكثر من الأمس، وكأن التاريخ بدأ فقط عندما انتهى مجراه سلفًا، عندما لا يمكن تعريف دراسته باعتبارها كذلك.» ألا نعتقد أننا نقرأ الآن أحد هذه الأوصاف عن «نهاية التاريخ» النَّموذجية للفكر ما بعد الحداثي؟

لم يعد الفن — في الفترة التي كتب فيها دورفل — يستمد نماذجه من الماضي، مثلما رأينا، وإنما من الحاضر، ﻓ «صناعة أسطورة» مارلين بواسطة وارهول تحل محل أسطورة فينوس. ومنذ ذلك الحين ازداد الوضع تجمدًا. فلم نعد في قطيعة مع الماضي، مثلما كان شأن وارهول عندما أعلن أنه تردد — في فلورنسا — على محلات الوجبات السريعة بدلًا من المتاحف (نسخة معتدلة وأليفة من بيان المستقبليين، الذي صرح فيه فيليبو مارينيتي، عام ١٩٠٩م، قائلًا: «نريد هدم المتاحف»). فالقطيعة ناجزة والماضي — من الآن فصاعدًا — مثل مشهد نستطيع رؤيته مثل أي مشهد آخر، بلا إجلال أو حقد خاص. وسيثير مؤلَّف بلتينج «نهاية تاريخ الفن» — الصادر عام ۱۹۸۳م — اضطراب عقول كثيرة. وما قصده المؤرخ هو أن الإبداع المعاصر لم يعد يُعرَّف في عَلاقة مضادة لفن الماضي؛ فالفن القديم والفن الحديث لم يعد كلاهما «شاهدين متصارعين» وإنما (مجرد) تقاليد.

هكذا يمتص حاضرنا المتسع الماضي. إنه يمتصه داخل تاريخ نحن منفصلون عنه إلى حد يجعله متجرًا للإكسسوارات ننهل منه في الفوضى. وهذا الحاضر، أيضًا، يسحب المستقبل نحوه؛ مثلما لا يزال دورلف يقول، وهو يرهنه. فنحن نشتري بالائتمان، لنتمتع فورًا بما سنقتنيه غدًا. ومن ثَم، نحن نوقف هذا المستقبل؛ ما دمنا نعيش الآن التاريخ (ما دامت متاحف الفن المعاصر، من بين أشياء أخرى، ترسخ سلفًا صورة التاريخ للأجيال المقبلة)، فهو لم يعد يحتفظ لنا بالمفاجآت، ولم يعد يفتح آفاقًا مجهولة.

مسألة كلمات

«هذا هو الغد»، كان عنوان أحد أوائل معارض فن «البوب» عام ١٩٥٦م في لندن. لقد بدأت مطاردة المستقبل. وبعد أربعين عامًا، يتوه النقاد والمنظرون بعض الشيء: لم يعد الحديث يدور إلا عن «ما بعد الحداثة». بعدئذٍ سيؤلف الناقد جيرمانو سيلان المرتبط بمدرسة الفن الفقير مصطلح «لا انطباعية» لوصف أعمال جيل جديد من الفنانين، وسيجعل منه عنوان كتاب وضع له — بدون عناء كبير — عنوانًا فرعيًّا: «الفن فيما وراء عهد ما بعد الحداثة» ولِتأمُّل الحاضر يعود آرثر دانتو إلى عمل لوارهول يرجع تاريخه لعام ١٩٦٤م، ويسمي مجموعة دراساته «فيما وراء علبة بريللو». فهل لأننا لم يعد بوسعنا القذف بأنفسنا في المستقبل نجد كل هذه الصعوبة في تسمية الحاضر إلا بالإحالة إلى الماضي؟

لخص الفنان فيليب توماس بمهارةٍ هذا الوضع، حيث التاريخ رهن لأننا نساهم فيه جميعا مسبقًا. فاعتبارًا من عام ۱۹۸۷م، انزوى خلف شخصية اعتبارية، وكالة مسماة ببلاغة «الأشياء الجاهزة»، تنتمي للعالم كله. فعندما يظهر شخص، يدعي امتلاك أحد الأعمال خلال تظاهرات هذه الوكالة، يظهر توقيعه عليه تلقائيًّا. وهكذا، نجد اليوم أسماء هواة جمع التحف المختلفين أسفل مستنسخات الأعمال، في الكتب والمَجلات، وليس اسم فيليب توماس. وفي عام ۱۹۸۸م، طبعت الوكالة ملصقًا تطرح فيه هذه الصيغة: «تاريخ الفن يبحث عن أشخاص … لا تنتظروا الغد للدخول في التاريخ.» وعرضت الصورة صفًّا غير مكتمل من كتب الفن الضخمة، ودعت كل امرئ إلى تخيل اسمه على ظهر كتاب جديد، بالضبط بحوار ما يمكن قراءته الآن، فن البوب ووارهول.

تتمثل أعمال الأمريكية بربارا كروجر في تحريف الشعارات الدعائية، ولأنها أكثر اقتضابًا، فهي ترشقها: «تصنعون التاريخ عندما تقومون بعمل مشروعات.» وخلال الثمانينيات احتدم سوق الفن المعاصر. كانت الظاهرة مدهشة، وأثارت انتباه الجمهور الواسع. وربما يكون هذا الكتاب الصغير نفسه — الذي يجد مكانه في سلسلة عامة — محصلة بعيدة لها. واليوم، ينبغي بالفعل تفسير أحد الأشكال الفنية التي تُركت بفظاظة للجمهور. بل قبل التمكن حتى من تأمل الأعمال من خلال الأسباب العميقة لنشأتها، كان ينبغي مشاهدتها من قبل وقد أصبحت أسطورة من جراء المبالغ الخرافية التي يُفترض أنها تمثلها. فمن الضروري أيضًا — إذن — تصحيح الانحرافات التي سببتها المضاربات والوساطات.

مزايدات

تتمثل أحد الموضوعات الرئيسية المشتركة، التي ينبغي تفنيدها، فيما يلي: الفن الذي صيغ في عهد الطليعيين الخالصين والقساة — إذا كان هناك عصر ذهبي، أو بالأحرى برونزي، للطليعيين — ربما كان بمقدور مجتمع الربح استعادته، فإذا اعتبرنا، مثلما دافعت عن ذلك المبدأ، أن الفن محرك للمجتمع وليس مجرد انعكاس شاحب له، علينا الاعتراف عندئذٍ أن للفن نصيبه من المسئولية في الظواهر التي ينتهي به الحال أن يصبح ضحية لها، وذلك لا يعني أن المقصود إنكاره. والواقع أن سوق الفن المعاصر، حسبما تفجر بين أيدي «الصبية الذهبيين»، وحسبما تطور — فيما بعد — من ناحية أخرى مع الركود، هو الظاهرة الطارئة للتحول الذي حدث في وعينا بالزمن، تحوُّل — مثلما رأينا — ساهم فيه الفن إلى حد بعيد.

فسوق الفن يراهن على ما يعتقد أنها قيم الغد الفنية. وإذا كان الغد هنا الآن، والتاريخ يُكتب الآن مسبقًا، عندئذٍ لا نرى لماذا لن نتعرف فورًا على هذه القيم. وهكذا، تبتاع قاعات العرض أعمال الفنانين الشبان، ثم يعاد عرضها للبيع بسرعة، لا سيما في عمليات بيع علنية. فعمليات البيع في المزايدات هي — بشكل طبيعي — وسيلة لمراجعة السعر. ولأن الجمهور الذي أخذ يتزاحم في هذه المزادات تزايد عدده فجأة، أمكن لأسعار هذه الأعمال الارتفاع كثيرًا بالفعل خلال بضعة أسابيع.

لا يوجد تضخم مالي بدون انكماش، والانحسار الذي تلى التضخم مدرج، بالتأكيد، في سياق أزمة اقتصادية أوسع، مثلما ارتفعت الأسعار بسرعة مع النمو العام للاقتصاد القومي، وليس من المستحيل أن الانكماش تفاقم من جراء الإحساس بالحياة في حاضر يتمدد ولن يليه أي مستقبل. وفي هذه الحالة، ما جدوى المضاربة؟

خلال فترة ارتفاع الأسعار، أدان أشخاص راشدون هيستريا السوق. فالناس نسيت أنه — منذ عشر سنوات مضت — أصابهم الهوس بسباق آخر، سباق الطلائع نفسها المتعاقبة الواحدة وراء الأخرى في إيقاع جامح. والواقع أن هيستريا السوق في الثمانينيات تلت المزايدات الطليعية للسبعينيات، والمزايدات على علامة التنظير «يَّة»، مثلما كان يقال وقتئذٍ.

فخلال النصف الثاني من الستينيات، وحتى منتصف العَقد التالي على نحو أدق، لم يكن للهواة غير شكوى واحدة — شكوى أطفالٍ مدللين — يتشدقون بها: هناك طليعيون على نحو مفرط! فما إن يتحمسوا لطليعةٍ ما حتى تنبثق طليعة أخرى تدعي تجريد السابقة من حقوقها الأهلية. وهكذا هاجم المعادون للشكل صرامة مدرسة الحد الأدنى، بينما نقل أصحاب مدرسة أعمال الأرض هذه الصرامة في الطبيعة، أو عندما قصد الفن الاجتماعي إضافة بعد معين لا يملكه فن المفهوم، كان المنطق الذي تُدرَج فيه كل هذه الحركات المتسارعة هو منطق الغائية الحديثة. كانت هناك حقيقةٌ ما تُومِض في أحد الأمكنة في نهاية الطريق، وكل حركة طليعية تسجل مرحلة اقتراب منها.

فجأة بدا وكأن هناك من يقول: «كفى!» بالتأكيد ظهرت علامات منذرة، لكن ما حدث على نحو خاص، ورمزي، أنه في بداية العَقد، عام ۱۹۸۰م، في إطار قسم بعنوان «أبيرتو» خصصه بينالي فينيسيا للجيل الجديد، جاء فنانون شبان أقل ضراوة في دفع حدود العمل الفني وأكثر ميلًا إلى إعادة اكتشاف أشكالٍ مختبَرة، ورغبتُهم في إعادة الارتباط بمهنة الفنان التشكيلي أكبر من لعب دور مطلِق الجانِّ. في البدء ساد الاعتقاد أنها عملية ترميم. فبقدر اندماج الثورات الشكلية مع الأيديولوجيات الثورية، بدا تعطيلها نتيجة لنقد هذه الأيديولوجيات، ولزعزعة المجتمعات التي استخدمتها كسند لها.

لكن الظاهرة كانت معقدة. فإذا كان هذا التصوير الجديد يستند إلى الماضي، فهو — على نحو خاص — يرد الاعتبار إلى تيارات حداثية أُهملت واستُبعدت عن المحور السائد. وهكذا، أثبت الفنانون الألمان أنفسهم بانتسابهم لتعبيرية بداية القرن بينما اتبع إيطاليُّو عبر-الطليعة نَموذج دي كيريكو والقرن الجديد، اللذين زاوجا، على نحو ملتبس، بين المأثور التقليدي والحداثة. وبالإضافة إلى ذلك، سرعان ما ساد الإدراك أن هذه «العودة إلى التصوير الزيتي» لا تمنع ظهور اتجاهات أخرى — مثل الصورية السابق ذكرها — رفضت، هي، اعتبار الطليعيين حالة عرضية، وأنابت عن فناني الحد الأدنى وفن المفهوم، أو استمرت في استغلال موارد الأشياء الجاهزة. عرَفت السبعينيات مزايدات اﻟ «يَّة»، وشهدت الثمانينيات الازدهار المتزامن للأساليب اﻟ «جديدة». ففي مجال الإبداع حدثت ظاهرة تضاهي تلك التي لاحظها بول فيريليو في مجال الاتصالات. ينتج التسارع قصورًا ذاتيًّا. وراكب الطائرة، التي تربط في بضع ساعات المتقاطرات،٤ مجبر على أن يظل شبه ثابت في مقعده. والوسط الفني، الذي يجرفه هروب الطليعيين للأمام، انتهى به الأمر إلى الاستقرار في إيقاع رحلة بحرية تتحمل كل الاتجاهات في نفس الوقت.

وقد دافع الناقد آشيل بونيتو-أوليفا، مؤسس عبر-الطليعيين، عن هذا التزامن. فخلال إدانته ﻟ «داروينية» الحركات الطليعية (فكرة أنها تتسلسل الواحدة وراء الأخرى وتتقدم في معرفة الفن)، مجَّد نموذج «الخائن»: للفنان الحق في الانتقال من حقيقة في الفن إلى أخرى (لأنه ليس هناك حقيقة وحيدة)، ومن أسلوب لآخر، بل خلطهم. وعلى النقيض، وفي مواجهة بونيتو-أوليفا، أدان جيرمانو سيلان ما عرَّفه ﺑ «مدرسة المعاصرة» أي اختفاء المعاصر لصالح «معاصر مفرط». ويمكننا أن نضيف، إزاء هذه القائمة الطويلة من اﻟ «جديد» (التصنع-الجديد، الوحشية-الجديدة، التعبيرية-الجديدة، صورة التصوير-الجديدة، جغرافية-جديدة … إلخ) المسئولة عن هذا الإدغام للزمن، أن هؤلاء ظهروا بسبب قوة اندفاع الطليعيين، وكأن المزايدة التي انكبت عليها المدارس الجديدة فيما بينها تغلغلت في البنية الداخلية لكل واحدة منها.

لا يعود نجاح أنسيلم كيفير، أحد ممثلي التعبيرية الجديدة، إلى حقيقة أنه أعاد ظهور موضوعات وصور متوطدة بعمق في الثقافة الجرمانية فحسب، ومن ثَم يرضي الميل إلى الماضي، وإنما أيضًا إلى حقيقة أن الفنان التشكيلي يمارس أيضًا التصوير الفوتوغرافي ويعد الكتب التي تنتمي إلى النسق الخاص بالمفهوم. وهكذا، وهو يؤدي دور رجل من طراز «الكلاسيكي الحديث»، استطاع كيفير تسجيل الأفكار المتقدمة للطليعيين، وسيتوفر لفنه ما هو أكثر من التعبيرية ومن فن المفهوم، ما دام يسمح لنموذج تاريخي بالتلاشي في شكل أكثر معاصرة، ويستفيد، في آنٍ، من هالة القداسة التي تحيط بالنموذج التاريخي.

وسيشارك فن المفهوم-الجديد، هو أيضًا، بشيء ما بالنسبة للنماذج الأولى والمتقشفة لفن المفهوم. فإزاء فن يشرع في «نزع المظهر المادي للعمل الفني» (كي نستعيد عنوان أحد المؤلفات المرجعية للناقدة لوسي ليبار)، غالبًا ما يضيف … إغواء أحد الأشياء الجميلة! وهو — من ناحية أخرى — يستعير من أجل هذا العمل جمالية «الفن الشعبي» (البوب)، الذي أدانه بعض المنتمين لمدرسة المفهوم. فأعمال بربارا كروجر، بمحتواها المرتكز على النص، وبالوعي الاجتماعي الذي تنادي به، تذكرنا بفن المفهوم! لكن إخراج النصوص على شرائط حمراء على نحو يتعارض بفاعلية مع الصور الفوتوغرافية الضخمة غير الملونة — عملت كروجر في الطباعة — يمنحها قوة جذب «العناوين الرئيسية» لصحف الإثارة. كما أن وظيفتها أيضًا متعارضة. لقد وقَّعت الفنانة على صورة نقرأ فيها: «أنا أتسوق إذن أنا موجودة»، مطبوعة على أكياس محل ديكور إسباني على الموضة، «فانسون». لذا ندرك لماذا شكلت هذه الانتقائية أرضية مثالية لتطوير سوق الفن. فنفس الأشياء بإمكانها الاستجابة لأذواقٍ، بل لآراءٍ، مختلفة للغاية، وباستطاعة كل الأنواع التعايش دون أن ينفي بعضها بعضًا.

هندسة لا كَمية

يتوافق الوسط الراكد مع زمن يتجمد. ورغم أن اللقاءات الكبرى («دوكيمنتا»، كل أربع أو خمس سنوات في «كاسيل» بألمانيا، وبينالي فينيسيا، وبينالي ساو باولو، وبينالي إسطنبول وجوهانزبورج الأكثر شبابًا، وأسواق الفن في «بال»، كولونيا، باريس، مدريد، شيكاغو، برلين …) تجذب دائمًا جمهورًا كبيرًا، لم يعد الوسط الفني ككل، منجذبًا نحو بؤر اقتصادية وإبداعية مثل نيويورك. وإذا كان هذا الوسط لا يزال متمسكًا ببعض السجالات، فذلك بضراوة قتالية أقل بكثير مما في عهد الطليعيين.

والتاريخ الأفقي الذي سُجِّل فيه هؤلاء، وضع درجات للبشر والأشياء والأحداث. ففي عمود الجيل، لم يلعب الجميع نفس الدور في قيادة التاريخ نحو «الأرض» الموعودة، بل ربما وُجدت بعض الرغبات الشريرة القادرة على كبحه أو تضليله، فنجد عادة الطرد، على سبيل المثال، لدى السرياليين. لكن عندما لا يقود الحاضر التاريخ بعد الآن، مثلما لم يعد المستقبل يوجهه، عندئذٍ، يمكن للعمود أن يتبدد حقًّا في الطبيعة. فالوسط الفني اليوم وسط متشظٍّ. ويحدث عند الخروج من معرض أو سوق للفن، يتسبب فيه عدد العارضين وتنوع أعمالهم في الشعور ببعض الدُّوار، أن يتنهد بعض الهواة؛ ففي عهدهم لم يكن هناك فنانون بهذا القدر. ويفسر لهم جومبريش الأمر: «في الوقت الحاضر يمنح تنوع الآراء النقدية فرصة الاعتراف بعدد أكبر من الفنانين.»

يصعب تمييز ذرة عن أخرى. وعندما تتجاوران — حسبما يبدو — تشكلان حقلًا موحَّدًا إلى ما لانهاية. وفضاء الفن المعاصر، إذا استخدمنا مجازًا مرسلًا، مجال مطاط، يصبح فيه العالم الأصغر هو العالم الأكبر وبالعكس. فنحن نعبر من عالم شخصي للغاية، غالبًا منعزل، إلى تجمعات لكل هذه العوالم في معارض يزداد جمعها لفنانين يمثلون كل الحضارات.

سيادة الفنان

في هذا المشهد البانورامي المتشظي، يتعرف هاوي الفن على شكل خارجي يعرفه جيدًا. فمنذ زمن طويل وهو يقبل «حق الاختلاف» لكل فنان. بالضبط منذ أن أصبحت الأشياء الجاهزة لديشامب المرجع الملازم للأجيال الجديدة. ففي اختياره لأشيائه، قدم ديشامب الدليل على اعتباطية تامة، بل ادعى أنه لا يحتفظ إلا بالأشياء التي يشعر باللامبالاة إزاءها، حتى لا يزيف هذه الاعتباطية أي حافز ذاتي. هذه السلطة، يستطيع كل فنان يأتي بعد ذلك أن يطالب بها. والنتيجة كمٌّ من الأعمال تحكمها قوانين أصدرها الفنان ولا أحد غيره. وكي نُجمِل، فهذا الفنان يعمل منزويًا، وللهواة حرية التطفل في المكان الذي ينعزل فيه. لقد بنى الفنان عمله مثل عالم في ذاته تنتشر داخله رموز حددها هو وحده.

يمكن لهذه الرموز أن تكون على مستوًى عالٍ من التطور والتعقيد. ففي الفترة الممتدة بين عامي ١٩٦٨م و۱۹۹۳م أصبح المنزل الذي تَصوَّره جان بيير رينو لأحد أعماله، المرتكزة على أبجدية شكلية قابلة للمماثلة تمامًا ومركبة (أصيص زهور مطلي باللون الأحمر، وبلاطات من الفاينس الأبيض …)، مسكنًا له بالمعنى الحرفي والمجازي. فالمنزل الذي يُشيَّد ويتحول بلا انقطاع، لم يعد يقبل — اعتبارًا من لحظة معينة — أي زائر. وفي الختام، نظم الفنان عملية تدمير المنزل الذي منه وُلدت، من ناحية أخرى، أعمالٌ جديدة … وشيد زوش — في نمط يرتكز على المحاكاة الساخرة — دولة خيالية (أفريجو)، يديرها وزراء وتصدر أوراق بنكنوت وطوابع بريد … إلخ. وتضم أعماله الطباعية شخصياته المنحدرة من هذا العالم وكتابة مخترعة، فهو يستخدم لغة لا وجود لها في القاموس للإعلان عن ألقاب هذه الشخصيات (Evrugi omorena … Ovrud derad).
ويتناول فنانون أصغر سنًّا المنشأة التِّجارية كنموذج، برُوح يتزايد تلاعبها بفكرة أن عالمهم الفريد يمكنه الاندماج في المجتمع. فعمَلُ فابريس هيبير لا يتمثل إلى هذا الحد في «المنتجات» التي توزعها SARL، التي سجل تشريعها بالفعل (فسمَّاها UR، مسئولية غير محدودة)، وإنما في التشغيل ذاته لهذه المنشأة: تصدير-استيراد، معارض يباع فيها كل شيء مثل ما في المحلات الكبرى … إلخ. ولأن هذه العوالم مستقلة لا نجرؤ على قول إنها ترتبط بتقليدٍ ما، لكن عددًا منها يُدرج في منظومة الطوباويات المميزة تمامًا للحداثة.

عندما نظم سيزمان «دوكيمنتا ٥» عام ۱۹۷۲م، خصص قسمًا لاتجاه أشار إليه في صيغة مفارِقة لكنها ملائمة، إلى حد إعادة استخدامها بكثرة فيما بعد؛ صيغة «الأساطير الفردية». فلم تعد الأساطير تؤسس معتقدات الجماعة في القرن العشرين، وإنما تعبِّر عن استحواذات الأفراد. وقتئذٍ، كان كريستيان بولتانسكي الفنان النموذجي للأساطير الفردية. فقد انهمك في اهتمامات بدت دلالتها بلا معنًى للوهلة الأولى لخصوصيتها الشديدة — صناعة أعواد ملفوفة، منحوتات من قطع السكر — أو أيضًا جمع ذخائر رقيقة لحكاية عائلية، صور قديمة لأيام العطلات، وخُصلات شعر.

لا يشكل شيء صغير ملفوف عملًا فنيًّا للجميع للوهلة الأولى، ومع ذلك يتأثر البعض فيتذكرون أعمالهم الحِرفية وهم أطفال، أو يتعرفون على الاهتمام الذي كانوا يولونه لعجن لب الخبز. لكن فنانين آخرين بالغوا للغاية في اعتباطية الرمز إلى حد جعله بلا سند في واقع الأشياء التي يُخضعونها لنظرتنا. كان جوزيف بويز ضيفًا آخر على «أساطير فردية»، وتستند أعماله على نظام محدد ومعقد للرمز، يرتبط بالأشياء التي تجسده عبر منطق شخصي للغاية، إلى حد أن من لا يملك مفتاحه لن يرى بالتأكيد ما يدعو الفنان إلى رؤيته. فعندما نعلم أنه يعتبر إحدى منحوتاته، المصنوعة من القطيفة الرَّمادية السميكة، تمثيلًا ﻟ «عالم واضح، مضيء، فوق طبيعي ورُوحي»، ندرك لماذا أضاف قوميسير معرضه الاستعادي إلى أعماله، عام ١٩٩٤م في مركز جورج بومبيدو، لوحات ضخمة تضم نصوصًا واستشهادات، لتساعد الزائر على فهمها.

كثيرًا ما يتم ذكر المدارس الطليعية لنهاية الستينيات باعتبارها «المدارس الطليعية الأخيرة». ورغم هذا، فهي تتميز عما سبقتها بلفت الأنظار إلى بعض التمايزات. ففن الأرض، وفن المفهوم أو الأساطير الفردية، يشكلان اتجاهات تتميز بخصائص محددة، لكن محركيها لم يخضعوا لما يُفرض بالقوة، كما أنهم لم يصطفُّوا أيضًا خلف قادة أو منظِّرين فلم يضع «سيلان» لوائح للفن الفقير، في حين سيطر جرينبرج بشكل مستبد على مشهد التجريد الشكلي في الستينيات.

كونية

كانت النتيجة الطبيعية للتنوع الداخلي لهذه الاتجاهات هي الإقرار بتنوع مجال الإبداع عمومًا. وهكذا منذ الاعتراف بهؤلاء الطليعيين الليبراليين، بدأ التأمل في تباين الأساليب المعاصرة، بل الانفتاح على أساليب تبدو، لانتمائها لتاريخ آخر غير الحداثة الغربية، كأنها تقوم على زمنية أخرى. فقد وضعت «دوكيمنتا ٥»، التي قامت بتعريف الأساطير الفردية، كشفًا عجيبًا لكل الصور في العالم، شمل الطليعة الغربية، بدءًا بالواقعية المفرطة وانتهاءً بفن المفهوم وفن الجسد، وأدمجت فيه الفن الخام، رسومات الأطفال، البوب آرت، الكيتش، القصة المصورة، الأيقونة الدينية، الصور الإباحية، الدعاية السياسية … إلخ. ولم تُدرِج فيه الواقعية السوفيتية والصينية، ليس لأن المنظمين سهَوا عنهما أو استخفُّوا بهما، وإنما لأن الاتحاد السوفيتي والصين رفضا الدعوة خوفًا من الخلط.

هكذا، وحتى قبل أن يَفرض مبدأُ المساواة ما بعد الحداثي نفسَه، بدأت رؤيا عالمية وشمولية في الظهور. وكان معرض «سحرة الأرض»، الذي نظَّمه مركز جورج بومبيدو عام ۱۹۸۹م، أكثر الأشكال نجاحًا في التعبير عنه. فقد أتاح، في جادة «السوق الكبير» في «لافيلات»، رؤية اللوحات الرملية للهندي النافاجي جوبن-جير، والتوابيت المنحوتة على شكل سرطان البحر أو المرسيدس للغيني كاني كوبي، وجدارية للإنجليزي ريتشارد لونج، أحد الممثلين الرئيسيين لفن الأرض.

جلب المعرض، على نحوٍ ما، العالمية التي حلَم بها الطليعيون التاريخيون، مع الفارق الهام مع ذلك؛ فلم يعد المقصود ضم الفنانين إلى أكثر الأشكال الفنية تقدمًا، مثلما زرع مارينيتي، في السنوات الأولى للقرن، بذور المستقبلية عبر أوروبا بأسرها، وإنما — على النقيض — إظهار التداخلات بين الحداثة وممارسات تقليدية، طقسية، أو يتم اعتبارها بُدائية. كان جاكسون بوللوك، الذي نفَّذ لوحات «التنقيطية» بترك اللون يسيل فوق لوحاته الملقاة على الأرض، قد رصد اللوحات الرملية للهنود. وريتشارد لونج، الذي يطبع يديه المغموستين في الطين على الحائط، ألا يسترجع شيئًا ما من ممارسات موغلة في القدم؟

ذاتية

وفي الختام، ولاحتمال الوقوع في اعتبارات أكثر ابتذالًا، نشير إلى أن ازدهار الثمانينيات أنهى هذا التشظي للساحة الفنية، فطاقة السوق وقابلية المؤسسة باعدتا بين المصالح، فلم يعد الفنانون يشعرون بالحاجة إلى تجميع قواهم ليفرضوا أنفسهم على المستوى الاجتماعي. وليس من المستحيل أيضًا أن تكون هذه الفترة قد تسببت في زوال محبة المثقفين، فالولع بالتجارة وصناعة المؤسسات استطاعا بث اليأس فيمن يسعون إلى هيكلة الإبداع بالتنظير له.

خلال قرون، كان الفنان المبتدئ يواجه نظرة أساتذته وأتباعه وأصدقائه الكتَّاب والشعراء، قبل التصدي لنظرة الهواة. ولم يعد الحال كذلك في الوقت الراهن، حيث تستولي دوائر التوزيع مبكرًا للغاية على الأعمال، وتختصر طريق إبداء رأي الأتراب. وهكذا، فإن انتشار دعاوى التقديس، مثل الانتقائية الأسلوبية السابق وصفها، هو أحد أسباب عملية التدمير الذري. فمن ناحية، هناك مزيد من المساحات للعرض، ومن المجموعات العامة والكتب والمَجلات المخصصة للفن المعاصر مثلما لم يحدث أبدًا من قبل. ومن ناحية أخرى، يتمتع أمناء المتاحف، والتجار والنقاد، وكل المحترفين الذين يَشغَلون الوظائف الوسيطة التي خلقتها الصناعة الثقافية، يتمتعون كذلك بحُرية التصرف في اختيار الفنانين مثلما يتمتع الفنان بحُرية اختيار خاماته. وينتظم هذا العالم في شبكات، هذه الشبكات يراقب بعضها بعضًا، وتحدد موقعها وموقع الآخرين في مقياس يبدأ من أكثرها تقليدية إلى أكثرها طليعية، لكن لم يعد هناك غير موجة الصدمة البعيدة للغاية للصراعات والقطيعة التي ميزت بدايات الحداثة. وإجمالًا، يسود من الآن فصاعدًا تعايش سلمي يضمنه — جزئيًّا، من ناحية أخرى — الإحكام النسبي للشبكات.

والهرم الذي يبلغ أوجَه في سلطة مدير متحف كبير، أو احتكار تجار، يقرضه دود خشب السلطات الصغيرة المحلية، التي هي أحيانًا سلطات مضادة. فخلال ذروة غبطة السوق، حقق زواج مديرة إحدى قاعات عرض نيويوركية على الموضة — ماري بون (انقطع منذ ذلك الحين)، بتاجر مهم من كولونيا؛ مايكل وارنر — تحالفًا اقتصاديًّا اتسم بمحاباة رمزية ورومانتيكية، ضمن تفوق الشبكة الأنجلو-سكسونية.

خلال هذه الفترة، وفي قاعة عرضه المشيَّدة على هيئة شيء طائر، في «شانيي»، «ساون-إيه-لورا»، خمسة آلاف نسمة، كان بترو سبارتا يدبر أموره جيدًا إلى حد أنه نجح في تقديم فنانين مشهورين على الساحة الدولية، فتنهم وجودهم هنا حيث يتنفسون هواءً مجددًا، وليس مثل الخاص بدوائر المفْرِطين في الاحتراف. وبلا شك لا يبلغ سبارتا نفس كفاءة ماري بون أو مايكل وارنر المالية، لكن ذلك لا يعني أن الوقائع لا تسجل نشاطه مثلما تحتفظ بوقائع زملائه ذوي النفوذ. كذلك فإن العمل مع فنانين من قبيل ماريو ميرز، الشخصية البارزة في مدرسة الفن الفقير، عكَس تمسُّك سبارتا بمفهوم عن الفن خاصٍّ بطليعيِّي السبعينيات، بينما فرض الزوجان (الجرماني-الأمريكي) تصويرًا أمريكيًّا جديدًا (إيريك فيشيل، ديفيد سال، جوليان سنابيل)، أو تعبيرية ألمانية جديدة (جورج بازيليتس وجورج إيميندروف)، تعارضت، مبدئيًّا، مع هذا المفهوم. والمقارنة بين هذين النمطين من التجار شيء وثيق الصلة للغاية بالموضوع، من وجهة النظر الجمالية.

إن متحف نيويورك للفن الحديث هو أكثر المتاحف سحرًا في العالم، وجاسبر جونز أغلى فنان على قيد الحياة (بيعت إحدى لوحاته بسبعة عشر مليون دولار عام ۱۹۸۸م). والحق أنه — قبل كل شيء — فنان كبير. وعندما حيَّاه متحف الفن الحديث عام ١٩٩٦م، بتنظيم معرض استعادي له للمرة الثانية — الأمر الذي لم يحدث أبدًا من قبل لأي فنان على قيد الحياة — كان ذلك حدثًا هامًّا، لكن تأثيره نسبي. هناك اليوم بالفعل عدد كبير من المراكز الفنية في العالم يتمتع فيها جونز بالتقدير، لكنها تفضل — دون التورط في الأمر — الاهتمام بفنانين آخرين، مثل الأمريكي بول مكارثي، غير المشهور بين الجمهور العريض، مؤلف عروض أدائية ومشاهد مسرحية جنسية استفزازية للغاية، تضعه، في تجديده لفن الجسد، في مقدمة المشهد (الفني). فالشبكات متعددة ومتشبعة بإفراط كي يتم فرض سلطة مهيمنة.

تعددية

وبالإضافة إلى ذلك، أصبح الفنانون والهواة — الذين يشكلون منذ الأبد أحد أكثر المجتمعات نشاطًا — مدفوعين الآن إلى أن يجوبوا الكوكب من جهة إلى أخرى. فكوريا، التي أنشأت في كوانجو بيناليًا دوليًّا، أصبحت مقصدًا في نفس كفاءة الولايات المتحدة وألمانيا. لكن الدراسة تُجرى أيضًا حول المراسم وقاعات العرض التجميعية، في جلاسجو أو في ليفربول، عندما تظهر اسكتلندا فجأة كمخزن للطاقة الإبداعية. ثم نطير إلى ندوة في موسكو أو وارسو، لأنه ينبغي حساب الطاقة الكامنة للدول الشيوعية السابقة. وهكذا، نشرت مؤسسة «سوروز» — التي تحمل اسم مؤسسها رجل الأعمال الأمريكي الثري المجري الأصل — مراكز فنية نشطة في عواصم أوروبا الشرقية.

لا ينبغي تجاهل المغزى الثقافي للنشاطات التي تقام على هامش الدوائر التجارية الكبيرة، لا سيما أن النموذج الرأسمالي، أينما كان، لا يبعث على الحلم إلى هذا الحد. ومن ناحية، يقدم نفوذ الوسط الفني وسيلة نادرة للاتصال على مستوًى دولي لمن يعيش على هذا الهامش. كما نجد، من ناحية أخرى، لا سيما منذ أواخر الثمانينيات في البلاد الأكثر إعدادًا على المستوى الثقافي، نزعة فضول واضحة إزاء منتجات أفلتت — بالتحديد — من المنطق التجاري.

ويتوافق انتشار المؤسسات، على الأقل، مع تعدد محير لأنماط الاختيار. وفي مؤلَّفها «الفنان، والمؤسسة، والسوق»، نشرت عالمة الاجتماع ريموند مولان قائمة بأكثر الفنانين الذين اقتنت البنوك الإقليمية للفن المعاصر (Frac) أعمالهم في الفترة بين عامي ١٩٨٢م و١٩٨٥م. والبليغ في الموضوع أن هذه القائمة ليس لها أي معنًى! فنحن نجد فيها سول لي ويت، فنان مدرسة الحد الأدنى المطلوب بشدة على المستوى الدولي، بجوار أوليفيه دوبريه، الذي لم تكن لوحاته عن المناظر الطبيعية على الموضة وقتئذٍ على نحو خاص. ويجيء أنطونيو سورا على رأس القائمة، وهو فنان تشكيلي لم يستفد من أي معرض مهم في أي متحف فرنسي، وذلك — من ناحية أخرى — شيء مؤسف. ليست القناة الرسمية إذن أكثر استقامة من قاعات العرض الخاصة. وتقرر ريموند مولان، في الصفحات الأخيرة من كتابها، ألا تستخلص من استقصائها الدقيق شيئًا أفضل من اللاقانون، وهي تستعيد كلمة أحد التجار الذي أكد فيها أنه «ثمة أسواق بقدر ما هناك فنانون»، وتضيف: «وسنفترض، عن طيب خاطر، وجود كم من المهن والأساليب للحياة المهنية تعادل ما هو موجود من السير الذاتية.»

المتحف كعمل فني

إن الحركة التي ولَّدها المتحف في الفضاء المطاط للفن المعاصر مندفعةٌ نحو المركز وطاردة منه في آنٍ. مندفعة نحو المركز لأن المتحف يتولى مسئولية الأعمال سهلة الاتساخ وتهدد أي شقة بورجوازية، أو تلك الوقتية التي يصعب استيعابها في الإرث العائلي، إلى حد الحديث عن «فن المتاحف» (أغلب الأفراد الأكثر جرأة، الذين يجمعون هذا النوع من الأعمال، ويملكون الإمكانيات المالية لذلك، يشيِّدون بناءً متخصصًا يشبه المكان المحايد والوظيفي للمتحف، مثل مبنى مجموعة «ساتش» في لندن، الذي أصبح متاحًا للجمهور).

لكن المتحف ليس وعاءً سلبيًّا. فدوره يتمثل أيضًا في تنظيم ما يُعرض في أكثر حالات الفوضى اكتمالًا، وفي تثبيت ما هو متغير. فليست الخامات وحدها منزلقة، وإنما الدلالات أيضًا. وربما تكون زجاجة الكوكاكولا «ما نحن عليه»، لكن الجدل سيدور باستمرار لمعرفة ما إذا كانت الصورة ترفع أو تخفض من قيمة أنفسنا. وسيستمر الجدل أبدًا بين من يرى في فن «البوب» تقريظًا للمجتمع، ومن يرى فيه نقدًا له.

أما التجريد، فتتمثل إحدى وظائفه الرئيسية في أن يخلق، ويحافظ، ويحيي متعارضات بصرية، أي وَفقًا للتعريف، تُفقد العقل. وهكذا، يستطيع فرانك ستيلا الإيهام بالسطح على أكمل وجه، وفرض وجهة نظر فريدة بمساعدة بناء ثلاثي الأبعاد وبه فجوات، كما يستطيع، على سطح حقيقي، أن يضع العناصر الواحدة فوق الأخرى، فيستحيل البت أيهما أعلى اللوحة وأيهما أسفلها. «ربما يكون التفكير في التصوير، حسبما يقول، مثل لعبة الحطة في اتجاهين مختلفين». فالفن الذي يفكك الأشكال يفكك أيضًا المعنى. ومن هنا المغالاة في العناية التي يوليها أمناء المتاحف في تعليق الأعمال كي — على أية حال — تتحاور فيما بينها، ومن هنا طموح المفوضين الذين يعدون معارضهم التي تدور حول موضوعات، وكأن المقصود «عروض تعليمية».

ربما سيواصل مؤرخو المستقبل مماثلة «الفن المعاصر» مع هذه الفترة من نهاية القرن العشرين، وسيجدون صعوبة، مع ذلك، في تصنيفه كأسلوب، مثلما يميز الروكوكو النصف الأول من القرن الثامن عشر. وبالمقابل، سيتمتعون بتأثير أكبر إلى حدٍّ ما على معمار المتاحف. وسيرون في هذا المجال — على أية حال — اهتمامًا بما يمكن أن يكون عليه «الشكل الملائم». فغالبية متاحف الفن الحديث والمعاصر هذه لجأت إلى معماريين مشهورين: ريترو بيانو وريتشارد روجرز لمركز جورج بومبيدو، نورمان فوستير في نيم، هانز هولين في مونشينجلادباش في ألمانيا، أرتا إيزوزاكي في لوس أنجلوس، ماريا بوتا في سان فرانسيسكو، ريتشارد ميير في برشلونة، ألدو روسي في مايستريتش وممفيس في جرونلنج، وفي هولندا … لكن ذلك لم يمنع اندلاع المناقشات كل مرة. هل تنجح العمارة في إظهار قيمة الأعمال الفنية؟ أم أن المعماري فضل التعبير عن ذاته مُضرًّا بإمكانية الرؤية الصائبة، والمسيرة المنطقية؟ وإذا كنا نتوقع الكثير من عمارة المتاحف، أليس ذلك لأننا نحتاج إليها مثل احتياجنا لشكل صُلب يجمع ويحتوي ما مضاد للشكل وما «لا شكل له»، وكل الأعمال متغيرة الشكل وأخرى أيضًا افتراضية أو متعلقة بالمفهوم؟

وهكذا، فإن المؤرخ توماس كرو على حق أيضًا عندما وضَّح أن «المربع الأبيض» الكبير، الذي فرض نفسه على الأذهان، إن لم يكن دائمًا في الواقع المشيَّد، باعتباره مساحة العرض المثالية، هو في الواقع الإجابة الخاصة بالمؤسسة لهذه الأماكن الصناعية التي استثمرها، في نهاية الستينيات، فنانو الطليعة وقاعات العرض التبادلية، والاستوديو الكبير، على الحوائط المستقيمة الخالية من الزخارف وسهلة التنظيف. وهكذا، يرى كثير من الهواة أن المصنع القديم الذي يقع في شانهاوزن بسويسرا، من أفضل الأماكن المتكيفة مع الفن المعاصر، ففيه يمكننا الإعجاب بالمجموعات الكبيرة من أعمال الفن الفقير وفن الحد الأدنى، الخاصة بمقتنيات «كريكس». فقد تم عن عمد تصوُّر كثير من الأعمال بحيث لا تتوافق مع مكان العرض التقليدي. وليس مؤكدًا أن المسئولين في متحف نيويورك للفن الحديث، على سبيل المثال، وافقوا فورًا على ما وافق عليه القدري هارولد زيمان في متحف كونستهال في بيرن. لكن متحف نيويورك للفن الحديث أعد، منذ ذلك الحين، مساحات جديدة متوافقة على نحو خاص مع أكثر الأعمال معاصرة.

يحدث أن يترجم المتحف هذا التكيف إزاء الأعمال بالخروج بعيدًا عن حوائطه؛ إنها الحركة المركزية التي لا تفعل سوى متابعة الحركة التي بدأها «الحدث» في الشارع، وأعمال الأرض في قلب الحقل، ولوحات «دعامة-سطح» المعلقة على الأشجار. وفي عام ١٩٦٩م تطلب الأمر شخصية مستقلة مثل سيث سيجيلو لاختراع مهنة جديدة؛ مهنة منظم معارض متشظية عبر الزمان والمكان. وهكذا، يسجل كتالوج معرض «مارس ٦٩» الفعل الذي ينجزه يوميًّا أحد الفنانين المساهمين، في مكان ما في العالم.

لكن ما إن استوعبت المتاحف هذا النمط من الأعمال، حتى تساءل البعض عما إذا كانت العناصر التي تحتفظ بها ما هي إلا فراشات محنطة. عندئذٍ، نظمت الجولات الخاصة بعلم الحشرات. وفي عام ١٩٨٦م، دعا جان هويه، مدير متحف الفن الحديث في «جان»، الجمهور إلى زيارة «غرف الأصدقاء»، فكان ينبغي اختراق المدينة وزيارة شخصية متخصصة في غرفتها وحمامها، لاكتشاف الأعمال التي وضعها الفنانون فيها، وشاع استخدام هذه الصيغة. كذلك انتشر تعبير «في الموقع»، الذي استخدمه دانييل بوران للإشارة إلى معالجاته التي هي — إلى هذا الحد أو ذاك — تفسير للمكان الذي ترتبط به. لكن، ومن الآن فصاعدًا، أصبح العديد من أعمال «الموقع» — سواء ساهمت في إحياء أرض صناعية أو رفعت من قيمة برنامج مديني — نتيجة لطلب المؤسسات أكثر من كونها نتيجة لمبادرة الفنان.

ربما يصبح شعار الفن المعاصر «في كل مكان»، هذه اللوحة التي تعالَج فيها المساحة كلها بنفس الأهمية، ولا يتصف التكوين فيها بالتراتب (والنموذج هو لوحات لبوللوك، يرسم فيها «التنقيط» شبكة من الألوان في كل الاتجاهات). وتترابط لوحات تنتمي لكل الأساليب مثل الأجزاء المتفرقة من لعبة «البازيل». والبازيل الذي يتزايد حجمه تدريجيًّا، ينحو إلى تغطية كل سطح الأرض. وهكذا، تتوحد الطبيعة المتعادلة والتوسعية للفن المعاصر آنية ذاكرة تتزايد كثافتها.

النمط الخاص بعلم الإنسان

لم يتطرق تاريخ الفن — حسبما أعلم — لأعمال فناني الأحد، غير أن المؤرخين عملوا مؤخرًا على إظهار أو إعادة تقدير أعمال أُهملت إلى ذلك الحين. فعلى الشاشة الانتقائية لما بعد الحداثة، تجاورت مساعٍ متفردة أو غير قابلة للتصنيف، وأساليب متشبثة بالقديم أو أكاديمية … إلخ، ووجدت صدًى لها إزاء تنوع الأعمال المعاصرة. فخلال بحثه في العَلاقات بين الإدارة الفرنسية والفنانين في القرن التاسع عشر، وضح المؤرخ بيير فيس تمامًا ظلال الفروق الدقيقة في التصوير القائم، فهو يفكك، على سبيل المثال، إحدى «الأساطير المؤسِّسة» للحداثة. فعلى نقيض أحد المعتقدات الراسخة تمامًا، لم ترفض الإدارة أبدًا — في أي لحظة — إرث «كايبوت» الشهير (الذي يشكل اليوم جزءًا هامًّا من المجموعة التأثيرية لمتحف أورسي). فليس هناك — من جهة — موظفون خاملون لا يُعجبون إلا بالتصوير المتحذلق، ومن جهة أخرى فنانون مجددون مبدعون في قطيعة مع المجتمع. فيحدث أن نجد موظفين مستنيرين وفنانين مجددين اشترت الدولة أعمالهم لصالح وجهة نظر أقل حسمًا بالتحديد. فالتعايش السلمي للأساليب صالح للماضي مثلما هو صالح للحاضر.

في شرق أوروبا، يخضعون — على نحو أكبر بكثير مما في الغرب — لعواقب التفكك الأيديولوجي. وهنا، نجد انشقاقات متعارضة بعنف مع الماضي ينبغي الاجتهاد لتأملها بنفس الموضوعية. فهناك جيل جديد من المؤرخين والنقاد لا يزمع إخفاء الفن الواقعي-الاشتراكي، مثلما طمسه الطليعيون من قبل. فبينما يعيد تملك ذكرى هؤلاء، يطالب هذا الجيل أيضًا بإعادة بحث الفن المنتج خلال المرحلة الشيوعية. والفنانان كومار وميلامي، المولودان في موسكو ويعيشان حاليًّا في نيويورك، اشتهرا بإنجاز لوحات ضخمة معًا، تتميز بأسلوب أكاديمي متقن، وتبدل، على نحو ساخر، أسلوب التصوير الستاليني. «فقد الناس، حسبما صرح كومار، الأفكار البسيطة والواضحة حول الخير والشر في الفن، وربما نجد نفس الأثر في السياسة.»

لا أعتقد، كما قلت، في وجود تاريخ لفناني الأحد، لكن الخرافة موجودة، وتعود إلى أحد الفنانين، براكو ديميتريجفيك. فمفهوم ما بعد التاريخية الذي اختلقه يتيح له النظر إلى الماضي كمجال ضخم للاحتمالات. والصدفة وحدها، حسبما يحكي في إحدى الحكم، هي التي جعلت اسم ليوناردو دافنشي مشهورًا، بينما ظلت أسماء فنانين آخرين، من كبار الموهوبين، مجهولة. فبدأ — لهذا السبب، في بداية السبعينيات — في إيقاف المارة في الشارع ليلتقط صورًا لهم، ثم يلصق صورهم، بعد تكبيرها في حجم هائل، على واجهات المباني (ربما مثلما رآهم يفعلون خلال طفولته في سراييفو، مع صورة تيتو الشخصية). وقد أمر أيضًا بصنع تماثيل نصفية من الرخام لهؤلاء المجهولين، وحفر أسمائهم على قاعداتها. لم يتوقف هؤلاء المجهولون في العرض الطارئ لصورتهم التي وعدهم بها وارهول. وفي سبق بسيط على هواة جمع أعمال فيليب توماس، زاولوا حق الاختيار على التاريخ. والحق أن التاريخ — من الآن فصاعدًا — لا يريد أن يتخطى «حوارات الشارع الاستطلاعية» فيما يتعلق بالتمييز العنصري.

يستند بلتينج إذن على ادعاء أن المؤرخين جعلوا من أنفسهم علماء في البشرية إلى حدٍّ ما، مقتفين في ذلك مثال الفنانين. «والفن المعاصر، حسبما يقول أيضًا، يسعى إلى إلغاء الحدود بين الفن والحياة». (ربما يتذكر هنا روشينبرج وهو يضع نفسه «في المسافة بين الفن والحياة»). وكلما تعاقبت الأجيال، جرت معاينة جومبريش عن «غياب مشكاة بيئوية طبيعية للفن في حياة زمننا». وعلى نحو مفارق، أكد فن القرن العشرين على استقلاله المرتبط به للغاية، بعقد صلات ملتبسة مع نظم أخرى متعددة وبخلط الحدود بين العمل الفني والحقيقة الفنية.

هناك — بالتأكيد — منطق يربط بين الخروج من الإطار التقليدي وتخطي الحواجز الاجتماعية والحدود الجغرافية. وقد التقط الأمر أحد أمناء المتاحف، بيير مارتان، ما دام كان — في آنٍ – منظم معرض «سحرة الأرض»، حيث تتعايش أشياء تقترب من وضع العمل الفني وأعمال طليعية مسكونة بممارسات شعائرية، ومعرض «فن ودعاية»، الذي أقيم عام ۱۹۹۰م في مركز جورج بومبيدو، حيث تجاورت الملصقات الدعائية مع أشكالها المحرفة في الأعمال الفنية، والمسئول عن «غرفة الأشياء النادرة» التي تجمع تحت الأسقف المطلية لقصر «أوريون»، في «دو-سيفر»، أعمالًا معاصرة تتظاهر بأن تبدو مثل وحوش طبيعية أو أدوات علمية غامضة. فمنذ عصر النهضة، غادر الفن تدريجيًّا «غرفة الأشياء النادرة» للتأكيد على خصوصيته الرمزية. وتثبت عودة هذا النموذج من المجموعة أن هذه النوعية لم تعد مؤكدة إلى هذا الحد.

يسلك إلغاء «الحاجز بين الفن والحياة» طرقًا مختلفة وَفقًا للحظة. فعندما يكون الفن والمجتمع أقرب إلى التوافق، تحدث المراوحات بين «الفن والدعاية»، بين «المرتفع والمنخفض» (إذا ما استعدنا عنوان أحد المعارض التي أقيمت أيضًا عام ۱۹۹۰م في متحف نيويورك للف الحديث). وفي عام ١٩٦٠م، أدخل فنانو «البوب» الدعاية في المتحف، وفي عام ۱۹۸۰م، ينتقل فنانون مثل جان ميشيل باسكيا وكيت هارينج من حوائط محطات المترو إلى متكأ لوحات قاعات العرض.

عندما يبتعد الفن عن المجتمع التجاري، يحدث النقيض. ففي عام ۱۹۷۰م، كم من الأعمال اختفت، بعد انتهاء المعرض، عندما تم تنظيف المتحف من الخامات التي وضعها الفنانون فيه، فواصلت مصيرها إلى المزبلة. وبعد ذلك بخمسة وعشرين عامًا استمر الإنقاص الذاتي من قيمة الفن في شكل سخرية ذاتية، وأضر حتى بشخصية الفنان. والاتجاه واضح إلى حدٍّ كافٍ ليأخذ شكلًا نظريًّا، بل يبيح لنفسه سلسلة نسب يسندها إيف جوانيه، على سبيل المثال، إلى «المتنافرين»، هؤلاء الفنانين الذين نظموا، في نهاية القرن التاسع عشر، معارض ليقدموا فيها أعمالًا للهزليات أو للمحاكاة الساخرة. فالناقد يطالب، من أجل الفنانين الذين يدافع عنهم، بحق الإعلان عن نوع من «الغباء» المخرِّب؛ غباء مثل الذي يظهره ماريزيو كاتيلان الذي «يدعي أنه فنان» بتوزيع صورة فوتوغرافية له، نراه فيها وعيناه هزيلتان، يتدحرج أرضًا ويُخرج لسانًا هائلًا …

على سبيل الخاتمة

يتلخص أحد الانشغالات الكبرى للحداثة في السؤال التالي: هل يكمن الفن في الشيء الذي يلخص الفكرة أم في الفكرة نفسها؟ عدد قليل من الفنانين استطاع الهرب من إغراء محاربة الأيقونات، وهم ليسوا بالتأكيد الدادائيين ولا أصحاب فن المفهوم. والفنانون أنفسهم دبروا الأمر ليثبتوا لنا قابلية قماش اللوحة والحامل للجرح بل للسوقية. وأيًّا ما كانت العَلاقة التي تقيمها هذه اللا-أشياء أو هذه الأشياء المفككة، أو المحتقرة مع المجال الاجتماعي، نلاحظ تماثلًا في النتيجة. وإذا كانت التجارة تستولي عليها لتفاهة مادتها أو للصورة التي تقدمها، فهي تخاطر عندئذٍ بأن يبتلعها بالفعل النظام الأساسي للسلع التجارية، وألا تصبح غير مبررات للتداول الاقتصادي. وإذا ما حافظت، بالمقابل، على الهيكل الوظيفي الصارم، ربما بالتحديد بهدف التهرب من السوق، فهي تندثر عندئذٍ وتصبح، مثل كل أداة، شفافة. وهي تترك المكان — في هذه الحالة أيضًا — للمقايضات التي تثيرها. يجعل «كاتيلان» الأطفال يشاركون بكتبهم المدرسية في معرض الكتاب، أو ينظم، حول مائدة كرة قدم، مباراة بين فريق كرة قدم وفريق يجمعه هو من المهاجرين السنغاليين، نجح في تمويله من شركة نقل شهيرة. ونيقولا بوريو، الذي نظم معرض «حركة مرور» (عام ١٩٩٦م، في كابك، وشارك فيه كاتيلان) يدافع عن فكرة «الجمالية الترابطية» وعن «العمل الفني باعتباره فجوة اجتماعية».

ولانعدام مفاهيم أخرى فاعلة، استخدم منظرون أمريكيون مفهوم «عالم الفن». والعمل الفني هو الذي يقبل على هذا الأساس في قلب مجموعة اجتماعية تشكل «عالم الفن». وإذا تم تعميم «العمل الفني باعتباره فجوة اجتماعية»، نتصور أن هؤلاء المنظرين سرعان ما سيصيبهم الإرهاق، وأنا، في محاولتي المتواضعة لحصر الفن المعاصر، قد عدت إلى خانة البداية. لذلك، لنتركْ هذا الميدان الشاسع بلا أدنى شك، ولْنحاول السمو بعض الشيء.

١  آلة أنبوبية تحتوي على مرائيَ مركَّزةٍ بحيث إن الأشياء الصغيرة الملونة تتحرك فتولِّد رسومًا مختلفة الأشكال والألوان. (المترجمة)
٢  جهاز تليفزيون مستقبِل. (المترجمة)
٣  مجموعة عناصر متجانسة من السهل الانتقال باستمرارٍ من واحد منها إلى الآخر.
٤  أجزاء واقعة على الجهة المقابلة من الكرة الأرضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥