محاولة للتفكير
«بينما أثار الفن الحديث القطيعة، يجتهد الفن المعاصر، على النقيض، في حل مسألة العَلاقة بين الفن والجمهور.»
«انتهى سباق التقدم الذي أداره الطليعيون، وفي زمن مؤجل، يسعى كل عمل إلى وضع منظوره الخاص ويصبح كل متفرج نقطة مرجعية. وهو ما يفسر هنا الاتساع التدريجي للمجال الفني، الذي يجد نفسه أيضًا يدمر نفسه تدريجيًّا.»
«يضيع الفن المعاصر أحيانًا من فرط الرغبة في الانضمام للواقع أو ينسحق فيه. يحدث هذا عندما يدَّعي تحقيق برامج الحداثة حرفيًّا، أي البرامج المتمثلة في الخطاب المصاحب للأعمال، ويهمل واقعها نفسه المتناقض.»
تحقيق المشروع الحديث
نود، حتى لا نضيع بعد الآن في مجال الإبداع المعاصر، الارتفاع بمستوى المناقشة قليلًا. ولأن الضجر أصابنا من هذه «المشاكل المادية بدناءة»، التي يتصدى لها أمناء المتاحف، ومن الرِّثاء لأن المجتمع التِّجاري يعامل الأعمال الفنية كبضائع مبتذلة، ولأننا استنفدنا فحص الأعمال التي تعكس تفاهة حياتنا اليومية أو ما يجري فيها، نود تغيير المجال، وبلوغ أقطار أكثر أثيرية، تلك التي — من ناحية أخرى — كان الفن يؤدي إليها في الأزمنة القديمة، الخاصة بالقيم المفارقة، قيم السمو.
حسنًا، علينا إعلان استسلامنا. ففن القرن العشرين لا تُقدَّم الفرصة لتأمل مفاهيم كهذه إلا نادرًا. ولأن ما يحرك الفن هو الرغبة في نقل العالم كما هو، وسكانه مثلما هم، بما في ذلك غرائزهم الأكثر غموضًا، نحا أحيانًا إلى ألا يكون دنيويًّا فحسب، فاتجه إلى تفكيك نوعيته للاختلاط على نحو أفضل بالعالم. وحتى عندما طارد مثلا أعلى، لم يتوانَ عن البحث عن تحقيقه، ورأينا أنها — جزئيًّا — مهمة ما نسميه الفن المعاصر. فهو لم يكتف بصياغة نماذج، بل احتاج أيضًا إلى تسجيل هذه النماذج في الحياة اليومية.
وتعود فائدة هذا المشروع إلى أنه يُظهر بعض الحقائق بشكل فج. حقيقة الفن نفسه. فالأعمال لا تجعلنا نُعجب بموضوعاتها فحسب، وإنما أيضًا وبوضوح، بطرائقها وبخاماتها. وهي تُظهر أيضًا — على سطح وعينا — عدة حقائق مطمورة أو مكبوتة مثل حقيقة الجسد على سبيل المثال، والنشاط الجنسي، واللاوعي.
لكننا سندرك، عبر الأمثلة التالية، ما يمكن أن تكون عليه مع ذلك حدود هذه الأمانة الصارمة، عندما تُطبق القاعدة عليه، بالفعل، بأسلوب حرفي أو نسقي. فهذه الحدود المنطقية والأخلاقية والسياسية، هي نفس الحدود التي يفرضها الواقع. ينبغي على الفن المعاصر إذن، كي يحافظ على الحرية المكتسبة في العصر الحديث، أن يكون، مرة أخرى، على مسافة من العالم لا أن ينحرف عنه بالتأكيد، وإنما لا ينصهر فيه، وأن يضطلع بوظيفته كمنظم للبعد الرمزي.
الخامات
يُعتبر بارنت نيومان من كبار فناني هذا القرن، ومن أواخر المنشغلين بمفهوم السامي. كما أن مفهومه السامي شخصي للغاية! وقد نشر عام ١٩٤٨م نصًّا بعنوان «السامي هو الآن». وقد استخدم سلفًا، زمن المضارع هذا، الذي أصبح أفقنا الوحيد، وأسسي هذا «الآن» الذي لا نخرج منه حاليًّا. كان نيومان يعلم تمامًا أنه يعيش في «زمن بلا أساطير ولا خرافات»، ولم يعد باستطاعة مفهومه عن السامي أن يصبح دينيًّا، ولا أن يرتبط حتى بمثال عن الجميل، لكنه لم يحن إلى الماضي، مؤكدًا أن السامي غير مطمور في ماضٍ أسطوري، وغير مدون في مصير ينبغي إنجازه، كان هنا، داخلنا، و«معاصرًا»، إذا صح القول.
ما الذي رسمه نيومان؟ لوحات ضخمة تنتشر فيها مساحات من اللون الموحد، حاد وبلا عمق. هذه المساحات منفصلة، أو يشقها خط رأسي، و«الشريط» هو — غالبًا — شريط بسيط من قماش اللوحة لم يُعالَج بأي خامة. يحوطنا فضاء هذه اللوحات ويظل مبهمًا رغم هذا، وينحصر التوتر بين الفتحة الرئيسية للشريط والامتداد — الأفقي في أغلبه — لقطع اللوحة. ويخصص لنا فضاؤها، نحن المشاهدين، مكانًا هنا والآن. وتحمل إحدى لوحات عام ۱۹٦٥م عنوان «الآن»، ومجموعة من التماثيل لنفس العام، اسم «هنا».
بحثًا عن واقع الشيء
وبعد نصف قرن في عام ١٩٦٨م، جمع أحد المعارض — «فن الشيء الحقيقي» — فنانين أمريكيين يمكن لتاتلين وماليفيتش أن يكونا مرجعًا لهم: «كُشتُبان» توني سميث الضخم المصنوع من الفولاذ الأسود، متوازي الأضلاع المصنوع من الحديد المجلفن لدونالد جاد، تمثال بلا قاعدة، وأرضيات مصنوعة من الألومنيوم لكارل أندريه، كل هذه الأعمال لفن الحد الأدنى التي شوهدت في المعرض، مجبولة، مثلما قال كاتب المقدمة أي. سي. جوزين، بنفس حقيقة أي «عنصر من الطبيعة، صخرة، شجرة …»
ويشاء سوء حظ كليمنت جرينبرج، أكثر النقاد تأثيرًا في فترة ما بعد الحرب العالمية، أن يكتب ذات يوم هذه الجملة: «يبدو أنه من قانون الحداثة [… ] استبعاد الأعراف غير الضرورية لإمكانية حياة إحدى وسائل التعبير، ما إن يُعترف بها». كان جرينبرج جديرًا بما هو أفضل من أن يُختصر في هذا التصريح لكن الحديث بعده لم يعد يدور إلا عن «الإيجاز الحداثي». كان مصير التصوير، وقد تخلص من الإلزام الحكائي، ألا تصبح له غاية بعد ذلك سوى إظهار مشهدية قماش اللوحة ومستطيل إطار اللوحة. فيصرح فرانك ستيلا: «أسعى للمحافظة على جودة الطلاء مثلما كان في العلبة.» وفيما بعدُ خان هذه الغاية، لكن تاريخ الفن فاز …
وضَّحت سلالة هؤلاء الفنانين خصائص الخامات وكيفتها لأشكال مُصنَّعة في أغلب الأحيان. وتركت سلالة أخرى العِنان للخامات فكثافتها، وثقلها، وردود أفعالها الكيميائية تحدد شكل الأعمال مثلما تحددها القرارات التي يأخذها الفنان. فجوخ روبرت موريس المجزأ يتهاوى في شكل حلزوني على الأرض، وتستغل أعمال سيزار التوسعية إمكانيات التمدد الهائلة لكزبرة البير الجبلية.
نستطيع — دون خبث — السخرية من الصعوبات التي يواجهها الفنانون وأمناء المتاحف المعرضين للتصرفات المفاجئة أحيانًا أو التي لا يمكن السيطرة عليها للخامات الطبيعية أو المصطنعة، التي غزت المراسم والمتاحف. ألا نجد هنا تناقضًا في مرحلة اخترعت فن «المفهوم» والحقائق «الافتراضية»؟ إلا إذا رأينا — في بحثنا عن تفسير في التحليل النفسي — أن المقصود «عودة» حتمية «للأشياء المكبوتة». الواقع أن محاربة الأيقونات — التي تخترق القرن — مسئولة بالتأكيد إلى حدٍّ كبير عن هذه الظروف. فعندما نمسح الصورة، نبرز نسيج اللوحة، وعندما نبخس فكريًّا من قيمة الشيء الفني ندع المادة المتحركة تنتشر، بينما المقصود محاولة السيطرة عليها.
الجسد الحي
أمام اللوحة التي ينبغي رسمها، هناك أيضًا الفنان، وفي هباء العالم، هناك الطمي المصنوع منه الجسد. وفي اقتفائه لسلسلة السببية، أظهر الفن «الواقعي»، المطابق لذوق العصر في القرن العشرين، الجسد الحي. ويسير التطور في هذا المجال في اتجاه التشيؤ المتضخم لهذا الجسد. كان رواد فن الجسد تحركهم الرغبة في تخطي الذات. فيقتحم فيتو أكونشي — جسديًّا — زوار معرضه، للخروج من وحدة المبدع حسبما يقول، وجينا بان تشق جلدها بموسى حلاقة كي تنفتح على الآخرين. ومع أورلان لم تعد تدخلات الجسد منتظمة وإنما نظامية. فأصبحت عدة عمليات جراحية-حركية ضرورية لمطابقة وجه الفنانة مع نماذج مختلفة في تاريخ الفن ليصنع لها ذقن فينوس وَفقًا لبوتيتشيللي، أو جَبِين موناليزا. هذا الوجه المنتمي للفن الرديء هو الصورة الأخرى الدقيقة لأحد كبار أساطير الفن، وجه الرسام زيوكسيس الذي صنع «فينوس» باستلهام ملامح أجمل خمس فتيات. لم يعد واقع الشيء يقدم نماذج التمثيل، فهي تمثلات أعمال من الخيال تنطبع في الواقع، وذلك اختلاف هام، فيمكنه، بلا قيد ولا شرط، أن يؤدي بنا إلى التساؤل عما إذا كان الفن لا يزال نشاطًا رمزيًّا!
الملاحظة عادية إلى حدٍّ ما، لكن المقارنة بين أعمال ماثيو بارني وأعمال فناني الجسد، مثل أورلان، تتيح لنا تقدير المسافة الكبيرة — إلى هذا الحد أو ذاك — بين الأعمال والواقع. فبارني يتمتع بخبرة المصارع والمانيكان في آنٍ، وهي تغذي — بالتأكيد — ممارسته الفنية، وهو يضع جسده — وجسد الآخرين — على خشبة المسرح. لكن المقصود — بالتحديد — إخراج مشهد، لعبة. فما إن ينتهي تصوير أحد الأفلام، حتى يزيل الفنان مساحيقه ويتخلى أجهزة التبديل البلاستيكية باعتبارها أشياء إضافية، الأمر الذي تؤكده — من ناحية أخرى، وعلى نحو ملائم للغاية — الأعمال التركيبية التي يقدمها. ويمكننا التساؤل عما إذا كان هذا الواقع المصطنع الذي يصفه لا يحميه من الرغبة في أن تلتصق منتجاته بواقع أولي. فالواقع الذي يخشاه مصاغ مسبقًا إذن، مما يعفيه — ربما — من صياغته بنفسه. ومسعاه انعكاسي، فهو يركب صوره فوق عالم مصنوع — مسبقًا — من ظلال لا يثق ما إذا كان خلفها شيء آخر. أما أورلان فهي تدمر ما ينبغي أن نعتبره أيضًا مظهرًا — أي وجهها قبل العملية — لتصل إلى وجهٍ، مادة أولية، عليه يحدث الفعل ويُسند إليه مظهر جديد.
احتمالات
ها هو مفتاح يفسر حالة الفن المعاصر والمناقشات التي يثيرها. فالحداثة كرست نفسها لمهمة الخلاص بتحويل العالم، أو، على الأقل، أرادت احترام إحدى الأخلاقيات؛ أخلاقية الكشف عن حقيقة الأعمال، كحد أدنى. والنتيجة انهيار يبدأ من أعلى قمم الأمثلة وينتهي باحتمالات العالم الواقعي. ولأورلان الفضل — وهي تتولى مسئولية هذا السقوط على نحو شبه مسيحي، أي بكل جسدها — في أن تجعلنا نعي ذلك بعنف.
عندما ننظر إلى الفن المعاصر عن كَثَب أكثر، لن نستطيع حصر أمثلة الفنانين الذين — وقد حركتهم النوايا الطيبة السابق ذكرها — سرعان ما وجدوا أنفسهم أسرى العقد الضيقة لواقع لا يثير الحماس كثيرًا. ولأن بوران أراد ما هو أفضل من رؤيتنا للدعامة المادية لقماش اللوحة، جذب للدعامة الفكرية المتمثلة في المتحف. كانت معالجاته الأولى انتقادية، فعندما بسط عام ۱۹۷۱م قماش لوحة ضخمة (مُنع عرضها، من ناحية أخرى)، في البانر الرئيسي لمتحف جوجنهايم في نيويورك، كان يُدين ادعاءات المعماري فرانك ليلود رايت وفشله في إظهار قيمة الأعمال الفنية. لكن، ومثلما لاحظ توماس كرو، سرعان ما عبَّرت المتاحف عن «غبطتها الشديدة لأنها موضوع للتعليقات، ومن ثَم تكتسب أهمية وهيبة»، الأمر الذي شجع كثيرين على اتباع مساعٍ مشابهة لمسعى بوران، الذي لم يعد يساهم إلى هذا الحد في الكشف عن حوائطها التي انغلقت عليه. فخلال حديثه في فناء مبنى «باليه-رويال» في باريس عن عمله «كفي ميزان» — الذي يتكون من صفوف من الأعمدة، ونُفذ في إطار طلب حكومي — يصرح الفنان، أسفل نوافذ وزارة الثقافة، أن «البيئة المحيطة هي «علبة المجوهرات» بالنسبة للعمل.» قفص ذهبي.
اتبع آخرون، مثل أكونشي، الذي أراد كثيرًا الخروج من برج الفنان العاجي، تطورًا يقود من إثارة أزمة النظام الاجتماعي إلى تهيئة الفضاء الاجتماعي. وعندما تحرر قليلًا من الوهم اعترف أكونشي أن مشروعاته الفنية المخصصة للجمهور، التي تمثل طابعًا انتقاديًّا واضحًا لا يحتفظ بها — بالطبع — الشركاء أصحاب رأس المال أما المشروعات المنفذة فإنها عندما تنجح في التأثير على الجمهور، تثير لديه — على أحسن تقدير — رد فعل مرتبط باللعب. ونود تمامًا أن يُظهر كل من يدافع عن فكرة العمل المفتوح، غير المكتمل، أو الذي ينبغي إعادة بنائه انطلاقًا من بقاياه، نفس صفاء ذهن أكونشي. فأكثر الهواة امتلاكًا لحافزٍ ما لن يخصص أبدًا كل هذا القدر من الوقت والعمل الذي يمنحه فنان مستقل لعمله. وذلك إلى حد يجعل النتائج — غالبًا — قصيرة أو مصطنعة.
وأضيف هذه الملحوظة: لنتخيل أن فلاديمير نابوكوف، بدلًا من أن يكون الروائي الكبير الذي نعرفه، يصبح فنانًا في الأعمال المركبة في الفراغ ويطالب، مثل جوانزاليس توريز بمشاركة جمهوره. فهل — وهو يتمتع بنفس حريته كمؤلف أعمال خيالية — سينتج هذه الرائعة الأدبية التي هي «لوليتا».
النرجسية
منذ نهاية الخمسينيات تنبأ البعض على نحو عبقري بهذا السيناريو. فتخيل إيف كلين أعمالًا — «مناطق الحساسية التصويرية غير المادية» — تتمثل آثارها الوحيدة الملموسة في شعائرية ما تتركه في المراحل المنظِّمة بدقة للتجارة بين الفنان ومقتني الأعمال الفنية. وقبل أن يدور الحديث عن فن الجسد، وضع في أعمال أخرى — «علوم قياس الجسم البشري» — الجسد الحي على المسرح. فموديلاته سيدات شابات يَطلِين أجسادهن العارية بأحد الألوان يُلصقنه على قماش اللوحة، ليتركْنَ عليه علامتهن. فالواقعي يلتصق باللوحة بالمعنى الحقيقي. وبعض هذه اللوحات نُفِّذ أمام الجمهور، فأخذت الموديل مكان الفرشاة، بينما المشاهدون الأنيقون، «وهم في حالة تمثيل»، يذهبون عندئذٍ «ليقفوا» أمام اللوحة، وهو ما تدل عليه الصور الفوتوغرافية التي حرص الفنان على التقاطها …
سحر
في نفس الفترة التي ينسق فيها لقاء البشَرة الإنسانية بحبيبات اللوحة، حيث يتلاعب بالعناصر الطبيعية؛ الهواء والماء والنار («عمارة الهواء»، «تصوير النار» … إلخ)، يعبث كلين بفلسفة الصليب النجمي وينصب نفسه فارسًا من طبقة القديس سباستيان. ها هي مفارقة أخرى كبرى للحداثة. ﻓ «واقعيتها» ترتكز غالبًا على أفكار ممزوجة بالتدين المفرط. وترتبط «ماديتها» بمادية المشعوذ أكثر من ارتباطها بمادية العالم المتخصص الملحد. نجد ذلك بدءًا من ديشامب الذي، وهو يشرح عمله «كوب كبير»، وعنوانه الدقيق «المتزوجة وقد جردها من ثيابها العزاب أنفسهم»، يكتفي بالتذرع ﺑ «أشياء تقنية»: «الكوب بسبب شفافيته»، «اللون الذي يظل نقيًا»، «المنظور العلمي المؤكد» … لكن المفسرين كشفوا لنا أنه خضع أيضًا لتأثير أحد أعمال الصحفي والكاتب جاستون دي باولوفسكي، «رحلة إلى بلاد البعد الرابع»، الذي يسرد — وَفقًا لنموذج خيميائي — رحلة البحث عن العصر الذهبي.
ديشامب نفسه هو الذي أدان حقيقة أن التصوير الحديث لم يتوجه إلا إلى «شبكة العين»، وكان يتحسر — بعض الشيء — على الحقبة التي «استطاع خلالها أن يكون دينيًّا، وفلسفيًّا وأخلاقيًّا». وهناك فنانون، لأنهم يعادون الوضعية، ينهلون من الأفكار شبه الدينية، فزوال المحبة للأديان، الذي سيطر على حضارتنا، جعلهم يتوجهون نحو الهوامش المخالفة للحضارة، أو قادهم نحو إنعاش المعتقدات القديمة.
خيمياء جديدة
في ظل الأجواء المميزة لنهاية الستينيات، يضع جيرمانو سيلان نظرية الفن الفقير، فيمزج بمرح برنامج إزالة الإعاقات — الذي يستلهم أفكارًا على غرار أفكار ويلهيلم ريش — بوحدة وجود جديدة: «فمقابل الهيكل العظمي التجريدي للتصوير والنحت، يضع ميرز، وبيستوليتو، وبسكالي، وكويللي وكالزولاري الاندماج غير المتميز، والمتعدد، للأجسام التي تنشأ عن «جاذبية الخامات وعن الأوضاع». فكل واحد من هؤلاء الفنانين «خيميائي، ينتج مؤثرات سحرية».
قدمت «آرت جاليري» في تورينتو، ومتحف الفن المعاصر في مونتريال — عام ١٩٦٩م — معرضًا جمع أعمالًا تستخدم أجهزة تقنية متطورة إلى حد بعيد. كان عنوان المعرض «خيمياء جديدة. عناصر. أنظمة. قوى». فجزء كبير من التيار الذي ربط بين الفن والتكنولوجيا على امتداد القرن، يجتهد في تضليل المسعى العلمي وفي إفساد الآلات. ﻓ «تاكي»، أحد المشاركين في «خيمياء جديدة» — الذي سُميت بعض تماثيله «طوطم» — يزود عددًا من أعماله بقطع مِغناطيس قوي، فهو يتلاعب بالغموض الذي لا يزال قوة المِغناطيس الخفية. وتاكي، المولود في اليونان، يروق له استدعاء الأصول الوثنية لثقافتنا.
وبيل فيولا، المنتمي لجيل أصغر، متشبع بالأدب الصوفي. ففي أحد أعماله المركبة في الفراغ — «إنه يبكي من أجلك» — يرى المشاهد صورته منعكسة في قطرة ماء، صورتها معروضة على الحائط ومكبرة على نحو مبالغ فيه. و«يلمِّح هذا العمل، حسبما يقول فيولا، إلى الفلسفة التقليدية الخاصة بالمقابلة بين العالم الصغير والعالم الكبير … والأديان القديمة عبَّرت عن هذا الأمر باعتباره مقابلة رمزية للدنيوي (الأرض) والإلهي (السماوات). ونجد هذه الفكرة في نظريات الفيزياء المعاصرة …».
أعمال أعراض
حسبما أرى، توجد طرق أكبر تأثيرًا للنضال ضد التسمم التليفزيوني، وطرق أمتع لاستهلاك النقانق، لكن عليَّ الإقرار أن عددًا من المعاصرين لي، وهم أشخاص صقلهم استخدام التحكم عن بعد ولا يعتقدون — منذ فترة طويلة — أن النبيذ يتغير إلى دم المسيح خلال القداس، ينظرون إلى أعمال وأفعال بويز بجدية شديدة (لا نجد أبدًا لديه الدعابة التي نجدها عند كلين، على سبيل المثال). ولأنني أرفض الوقوع تحت وطأة الظلامية، أفضل استخلاص أحد الإرشادات. في بادئ الأمر، وعلى نقيض التقليد الذي استمر منذ عصر النهضة حتى بدايات الفن المعاصر، هناك جزء من الفن المعاصر لم يعد مرتبطًا بنظم وقيم التقدم، ويبين — على النقيض — ما لا يزال مستمرًّا في الإنسان من أشياء قديمة لا تقهر، أشياء مهجورة لم تستطع نظم التقدم الحد منها. ثم إن الفن المعاصر مكان لحرية مرصودة يتم التعبير فيه عن هذه التقاليد المهجورة التي — لأن إلغاء الحاجز بين الفن والحياة غير كامل — تعبر عن نفسها بدون مخاطرة كبرى في الانتقال إلى الفعل. والسؤال هو: هل الأعمال المنتَجة على هذا النحو هي أكثر من مجرد عَرَض؟
الفن ضحية التعليق
لنبتهج لأن الرابط بين الفن والواقع ليس كاملًا. كان بويز يبشر ﺑ «مفهوم موسع عن الفن». وقصد ﺑ «النحت الاجتماعي» تلك الخامة التي يتدخل فيها الفنان، أي مادة الحياة السياسية والاقتصادية. ولو كان قد ذهب بالفعل إلى نهاية هذا البرنامج (رشح نفسه عدة مرات في الانتخابات)، فما الذي ستكون عليه النتيجة؟ هل سيسعى لتغيير بنية المجتمع وَفقًا لأفكاره المثالية، مثلما تعيد أورلان تشكيل وجهها وَفقًا لأشكال الجمال النموذجي؟ لا شك أن ما حرك بويز هو أفضل النوايا في العالم، وبالتأكيد منعته هذه السذاجة المفرطة — هو الألماني القادم إلى العالم بعد آثار جرح أصابه خلال الحرب — من أن يدرك كيف يعيد المخطط الذي يدعو إليه، وعلى نحو دقيق، إنتاج المخطط الذي تطبقه الأنظمة الشمولية: فرض نموذج إنساني ونمط اجتماعي مثالي على الواقع.
لحسن الحظ أن كل الروابط التي يقيمها الفن المعاصر مع الواقع لا ترغب في أن تكون جذرية إلى هذا الحد. فأجيال جديدة من الفنانين أدركت المخاطر التي تحتوي عليها بعض الطوباويات عندما تجد إمكانية للتحقق. فهي تعلم نحو أي مأزق انساق إليه الطليعيون المتورطون مع النظام السوفيتي في بداياته، أو تعرُّض المستقبليين الإيطاليين للشبهات مع الفاشية. وإذا ظلوا مرتبطين ببعض خصائص الطليعية، لم يعد ذلك مصاحبًا للطموح في تغيير العالم، وإنما، مثلما رأينا، بالقصد — الأكثر وعيًا — في المساهمة، على سبيل المثال، في تحسين البيئة المدينية، أو خلق شروط اتصال جديدة بين الأفراد. ورغم هذا، يتعرضون هم أيضًا للمخاطرة، لا تلك الخاصة بالضغط على الواقع، وإنما بضغط الواقع عليهم. فكثير من الأعمال ما هي سوى مراعاة لقائمة شروط طلب حكومي، أو أيضًا الإجابة على الْتِماس من أحد قوميسارات المعارض. ولأن الفنانين يستطيعون استخدام كل التقنيات وكل الخامات المطابقة لشروط العمل هذه، يتفاعل الكثيرون، وَفقًا للظروف، دون أن يمنحوا أنفسهم الوقت ولا الوسائل للسيطرة على هذه التقنيات وهذه الخامات على أكمل وجه. وعندما تثير النتيجة حيرة الجمهور أحيانًا، فليس ذلك لغياب معنًى لا يمكن التقاطه، وإنما لأن الفنان لم يستطع دائمًا إيجاد الشكل أو التنسيق الملائمين.
أشياء عينية
ترك التعبيريون التجريديون لوحات رائعة. ورغم هذا، ومثل أغلب فناني هذا القرن، أغراهم العداء للأيقونة، وسيطرت عليهم فكرة خروج الفن من اللوحة وضرورة مواجهة التقديس الأعمى لها على أية حال. والواقع أن «تنقيط» بوللوك أو «شريط» نيومان يلحقان بتصويرهما مساحة تتجاوز بكثير الإطار التقليدي للوحة. ونتعلم من الاختلاط بهذه الأعمال أحد الأشياء: يستطيع الفنان، بنفس الحركة، إنكار أو فرض هذا الشيء الذي هو العمل الفني. إنها مفارقة، لكن ينبغي التصالح معها، لا سيما أن أفضل ما في الفن التجريدي، حاليًّا، يساعد في استمرار تماسكه وإنعاشه. وعلى أية حال، لا تُصنع الفنون البصرية لراحة العقل. وقبول هذه المفارقة يساعد كثيرًا على تذوق فن حقبتنا، فنتبين إمكانية الأعمال في استثمار الفراغ الحقيقي أو إثارة سلوك جديد للمتفرج، دون أن تكف عن كونها كينونات، أو — كي نستعيد تعبير فنان مدرسة الحد الأدنى دونالد جاد — «أشياء عينية».
ضرورة الأثر
لم نعد في وضع الحداثيين الأوائل الذين كان عليهم تحطيم المفهوم المتحجر عن العمل الفني. فالعمل تحقق من خلالهم، ومن خلال من أتوا بعدهم وعلى نحو جيد، إلى حد أن إعادة النظر في نوعية العمل الفني — الآن — وإن لم يكن في بقائه، فعلى الأقل في قدرته على أن يسجَّل في الذاكرة، قد يساعد على إزالة بعض السدود الجديدة المستقرة. ونعلم أن كثيرًا من الفنانين، لا سيما خلال السبعينيات، أنتجوا أعمالًا اجتهدوا في إزالة آثارها. وأغلب من لا يزال يلفت الانتباه اليوم، يلفته — بالتأكيد — خلال أعمال أنجزها وكانت — هي — دائمة. لكن ذلك لا يمنع من أن ترث الأجيال الجديدة تاريخًا غير واضح. فالتاريخ لا يصل إلينا أبدًا إلا متشظيًا. وتاريخ الطليعيين أكثر تشظيًا. ومن هنا، على سبيل التعويض، حقيقة أن النقاش لا يدور — إلى هذا الحد — عن هؤلاء الطليعيين مثلما حدث من قبل من جيل لآخر، فهم بالأحرى موضوع استقصاء تأسيسي جديد. فأصبح الطليعيون، على نقيض المبادئ التي دافعوا عنها، موضوعًا مقدسًا. ويبدو الأمر وكأن كل هذه المعارض الاستعادية، وواجهات العرض في المتاحف والكتالوجات لا تكفي لجمع أصغر أثر.
وبدهي أن تهرب بعض المآثر وبعض الأعمال من هذا الإحصاء. وفي هذه الحالة نخشى أن يُشيد بها الفنانون الأصغر سنًّا الذين يجهلون وجودها. وعندما يحدث الأمر بالفعل وتظهر أمام الجمهور الأكثر اطلاعًا تزداد حدة الحالة الذهنية التي تتوق إلى الماضي. فتتردد هذه العبارة المبتذلة عن أن كل شيء سبق فعله وأنه لا مفر من التَّكرار. ونغوص في الزمن الساكن.
الفن نهبًا للخطاب
لأنهم دعاة أخلاقيون، أدان الحداثيون حقيقة أكذوبة العمل الفني التقليدي. والحق أن التقاليد التي درسوها شوهها تصوير أكاديمي، يمثل عالمًا لم يعد له وجود، ويدافع بنفاق عن قيم مهجورة. وأراد الطليعيون في أعقابهم قول الحقيقة، حقيقة اللوحة التي بُترت إلى حد اختصارها في مكوناتها المادية، حقيقة السياق الذي فيه يُولد ويسجل العمل الفني، إلى حد تحريف الانتباه نحو المتحف أو نحو المتطلع. ولا شك أننا نمتلك — في ختام هذا العمل — وعيًا أعمق بماهية العمل الفني الذي فقد نزاهته في الطريق.
ولأنه فقد نزاهته، يجد العمل الفني نفسه مستلبًا من جديد، مستلبا على نحو مزدوج. ولأنه تبعثر في حقيقة العالم، يتعثر العمل على الحدود التي يفرضها عليه الواقع. وتزداد أيضًا صعوبة تحديد هويته. عندئذٍ يتدخل التعليق كمساعد ضروري لهذه المطابقة. ويستسلم الفن للخطاب. فلم يحدث أبدًا، في تاريخ الفن والنقد الفني والنظريات الجمالية، أن تضاعفت الأعمال مثلما في عهدنا. ولا حاجة بنا لذكر تصريحات الفنانين والبيانات، لذا ربما ينبغي أن نستدعي — من جديد — حقيقة العمل الفني، ليس من أجل شفائه من أوهام التمثيل، وإنما لتحريره من عصابة التأويل التي تفقدنا بصرنا أحيانًا.
إذ أكاد أصل إلى ختام تعليقاتي الخاصة، عليَّ أن أصححها إلى حد ما! اقترحت اعتبار الفن المعاصر أحد تحقيقات الحداثة. والأصدق أنه ينفذ برنامج الحداثة. وعندما يجنح — غالبًا — في الواقع، فذلك لأنه يتناول هذا البرنامج بلا تدقيق. فعندما يريد أحد الأعمال الفنية أن يكون نسخًا حرفيًّا لأحد التعاليم الأخلاقية للحداثة يتخلى — على نحو طبيعي — عن كل مسافة رمزية …
ربما كان باستطاعة الفن التجريدي تجنب بعض المآزق الشكلية إذا لم يتمسك بالمبدأ الاختزالي الذي ذكره جرينبرج، وإذا تم الانتباه — بين أشياء أخرى — إلى حقيقة أن لوحات ستيلا لم تكُفَّ أبدًا، حتى وهي أحادية اللون، عن مراعاة الإيحاء بالعمق، أيًّا ما كانت رقته. ربما كان ينبغي أن نتحمس للإبداع التشكيلي، الذي لا يكل، لوارهول، مثل حماسنا لأقواله المأثورة الاستفزازية. فربما نصبح أقل إحباطًا اليوم عندما تؤدي بنا زيارة أحد المعارض إلى الهرب من أعمال فنية تشبه السلع، نجدها في الأماكن المخصصة لعرض البضائع (عندما يستولي أحد المتاحف على واجهات المحلات المحيطة به على سبيل المثال).
نلاحظ — في سياق التناقضات — أن الأشياء الجاهزة موضوع تأويلات متضاربة. فهناك من يعتبر الأمر مسألة مفروغًا منها: يمكن شراء العمل الفني من المحلات الكبرى، إذن «الفن حياة». وشمل هذا الجزء الأكبر من فلسفة حركة «فلوكسوس». وهناك آخرون لا يستخلصون نتيجة حرفية إلى هذا الحد. وهكذا، قص برتران لافييه آلة حصاد — دراسة هائلة — من أحد كتالوجات الأجهزة الزراعية بحيث تلائم وجهة نظر وإطار آلة تصويره الفوتوغرافية، فنضطر — بناء عليه — إلى رؤية الشيء باعتباره صورة.
حقيقة العمل
هناك سؤال يتردد كثيرًا خلال السجالات التي يثيرها الفن المعاصر: هل تمت استعادة الفن المعاصر؟ والفنانون المعاصرون، الذين تُتداول أعمالهم في السوق ويحصلون على إعانات مالية من المؤسسات، هل يخونون الفكر الثوري للحداثيين الأوائل الذين ينتسبون إليهم؟ وبالإضافة إلى أن هؤلاء الحداثيين شيدوا — في أغلب الأحيان بأنفسهم — بدايات عَلاقة مماثلة في السوق ومع المؤسسات، فربما ينبغي الكشف عن آليات «الاستعادة» في مكان آخر، في الانتشار الحداثي بالتحديد، أي أيضًا في التفكير الاستدلالي لمن يطرح هذا السؤال. هذا الانتشار الذي يتناقله — من ناحية أخرى — مؤيدو الفن المعاصر وأعداؤه، يساهم في انتصار خطاب النوايا، أو التفسير، على الحقيقة المحسوسة للأعمال فيعيد إلى مجرى الدلالات المنظمة للغاية تصنيفات وتفسيرات غائية، فيفيض عن مجراه.
تقودنا هذه المعاينة إلى العودة لحكم مسيطر إلى حد بعيد في الوسط الفني. فهناك ميل إلى اعتبار أكثر الأعمال جرأة تلك التي تنجح على أفضل وجه، في مطابقة مشروعات الحداثة مع الحياة، وفي استثمار الواقع. وهي، بالتأكيد، تخترق الحدود التقليدية للفن، لكن، وحسبما رأينا، من أجل التكيف في نهاية الأمر، مع احتمالات الواقع. وهذا التكيف، مثلما آمل أن أكون قد أشرت إليه أيضًا، لا يحدث إلا عندما يجعله الفن يمر عبر عقلنة الخطاب. فالخطاب هو الصمغ الذي من خلاله ينخرط الفن في الواقع، مخاطرًا بالضياع فيه. فأكثر الأعمال حرية، وأكثرها ثراء في إمكانياتها، يمكنها، وهي تبين تحديات الحداثة، خيانة دروسها.