مقدمة
الديناصورات: ما بين الحقيقة والخيال
عندما أجرى أوين أبحاثه، كان من الغريب أنه يعمل على مجموعة قليلة من العظام والأسنان المتحجرة (المتحوِّلة فعليًّا إلى حجر) المكتشَفة حتى ذلك الوقت، وكانت مبعثرة في جميع أنحاء الجزر البريطانية. وعلى الرغم من أن الحديث عن الديناصورات ونشأتها كان أمرًا غير محبَّب نسبيًّا (حيث ظهر لأول مرة كفكرة ثانوية في التقرير المنشور للاجتماع الحادي عشر للجمعية البريطانية لتقدُّم العلوم)، فإن الديناصورات سرعان ما أصبحت مركز اهتمام العالم كله، والسبب في هذا بسيط؛ فقد عمل أوين في لندن — في متحف الكلية الملكية للجراحين — في وقتٍ ربما كانت فيه الإمبراطورية البريطانية في أوج ازدهارها. واحتفالًا بهذا التأثير والإنجاز أُقِيم «المعرض الكبير» عام ١٨٥١، ولاستضافة هذا الحدث، بُنِيَت قاعةُ عرضٍ ضخمة مؤقتة («القصر البلوري» لجوزيف باكستون المصنوع من الفولاذ والزجاج) في هايد بارك بوسط لندن.


إن حقيقةَ أن الديناصورات كائناتٌ منقرضة كانت تسكن عوالم زمنية قديمة، لم تكن بالحقيقة المعروفة حتى هذا الوقت، وكانت الديناصورات هي التجسيد الفعلي للتنانين الموجودة في الخرافات والأساطير، وربما ضمِنَ هذا تقبُّلَ المجتمع بأكمله لها؛ حتى إنها ظهرت في أعمال تشارلز ديكنز، الذي كانت تربطه علاقة شخصية بريتشارد أوين. وانطلاقًا من هذه البدايات المؤثرة، نما الاهتمام العام بالديناصورات واستمر منذ ذلك الحين. وقد خضع السببُ وراء استمرار جاذبية هذا الموضوع لتفكير عميق؛ فربما يرجع قدر كبير منه إلى أهمية سرد القصص كوسيلة لتحفيز القدرات التخيلية والإبداعية لدى البشر، ويبدو لي أنه ليس من قبيل المصادفة أن الأطفال — كما يشهد كثيرٌ من الآباء — يُظهِرون أكبرَ قدر من الحماس تجاه الديناصورات، خلال السنوات التي تسهم بالقدر الأكبر في تشكيل النمو الفكري والتطور الثقافي لديهم؛ أيْ ما بين سن الثالثة والعاشرة. فالحماس الشديد الذي ينشأ عندما يرى الأطفال هيكل الديناصور الأول في حياتهم، لا يكاد يخفى على أحد؛ فالديناصورات — كما أشار على نحو بارز الراحِل ستيفن جاي جولد، الذي يُقال إنه أكبر مروِّج للتاريخ الطبيعي العلمي — مشهورةٌ لأنها «كبيرة ومخيفة وميتة [لحُسْن حظنا]»، وصحيحٌ أن هياكلها العظمية النحيلة تمارس قوةَ جذبٍ هائلة على المشهد التخيُّلي للأطفال الصغار.

عند النظر إلى الأمر بموضوعية، نجد أن الانتشار الثقافي للديناصورات أمر استثنائي؛ ففي نهاية الأمر، لم يرَ أيُّ إنسان قطُّ ديناصورًا على قيد الحياة من النوع الذي لا يطير (بصرف النظر عمَّا قد يدَّعِيه بعضٌ من أكثر أدبيات نظرية الخلق لا منطقيَّةً)؛ فقد عاش أوائل البشر الذين أمكَن التعرُّف عليهم منذ ٥٠٠ ألف سنة، وفي المقابل، سار آخِر ديناصور على سطح كوكبنا منذ نحو ٦٥ مليون سنة، وربما لقي حتفه مع كثير من الكائنات الأخرى في كارثة حدثت إثر اصطدام نيزك عملاق بالأرض في هذا الوقت (انظر الفصل الثامن). إن الديناصورات — بوصفها مجموعة من الحيوانات بها قدرٌ من التنوُّع المحيِّر — يُعتقَد أنها قد عاشت على سطح الأرض لأكثر من ١٦٠ مليون سنة قبل زوالها المفاجئ؛ ولا شك أن هذا الأمر يضع مدَّةَ وجود الإنسان، وسيطرتَنا الحالية على هذا الكوكب الضعيف (لا سيَّما النقاشات الدائرة حول استخدامنا الموارد، والتلوُّث، والاحترار العالمي) في منظور جاد بلا شك.
إن حقيقة معرفتنا اليومَ بالديناصورات، والعالَمِ المختلف تمامًا الذي عاشت فيه؛ هي دليل على القوة التفسيرية الفائقة للعلم. والقدرة على التساؤل، وسبر أغوار العالم الطبيعي وكل نواتجه، والاستمرار في طرح هذا السؤال الخادع في بساطته: «لماذا؟» هي إحدى السمات الجوهرية المميِّزة للبشر. لا عجبَ إذن أن يكون تطوير أساليب بالغة الدقة من أجل التوصُّل إلى إجابات عن مثل هذه الأسئلة العامة؛ أمرًا يقع في صميم العلوم كافة.
مما لا يمكن إنكاره أن موضوع الديناصورات يحظى باهتمام لدى كثير من الناس؛ فمجرد وجودها يبعث على الفضول، ويمكن استخدام هذا في بعض الحالات كوسيلةٍ لتعريف جمهورٍ يفتقر إلى الوعي على متعة الاكتشاف العلمي وتطبيق العلم، واستخدامه على نحو أكثر تعميمًا؛ فتمامًا كما يؤدِّي الإعجاب بأناشيد الطيور إلى الاهتمام بفيزياء انتقالِ الصوت، وتحديدِ الموقع بصدى الصوت، وأخيرًا الرادار، من ناحية، أو بعلم اللغة وعلم النفس من ناحية أخرى؛ فإن الاهتمام بالديناصورات يمكنه بالمثل فَتْح مساراتٍ على نطاق واسع مذهل وغير متوقَّع من المجالات العلمية. وأحد الأهداف الأساسية لهذا الكتاب هو تقديم نبذة عن بعض هذه المسارات العلمية.
-
ما نوع هذا الكائن عندما كان على قيد الحياة؟
-
منذ متى حدثت الوفاة؟
-
هل كانت وفاته طبيعيةً بسبب هرمه، أم أنه قُتِل؟
-
هل مات في المكان الذي عُثِرَ عليه فيه — مدفونًا داخل الصخرة — أم أن جسده قد نُقِل إلى هنا من مكان آخَر؟
-
هل كان ذكرًا أم أنثى؟
-
كيف كان شكل هذا الكائن عندما كان حيًّا؟
-
هل كان لونه زاهيًا أم باهتًا؟
-
هل كان سريع الحركة أم بطيء الحركة؟
-
ماذا كان يأكل؟
-
ما مدى قوة حاسة الرؤية أو الشم أو السمع لديه؟
-
هل له صلة قرابة بأي كائنات على قيد الحياة في وقتنا هذا؟
هذه بضعة أمثلة فقط على الأسئلة التي قد تُطرح، لكنها جميعًا تصبُّ في عملية إعادة البناء التدريجية لصورة الكائنِ والعالَمِ الذي عاش فيه. لقد علمتُ من تجربتي — عقب الإذاعة الأولى للمسلسل التليفزيوني «السير مع الديناصورات»، وما عرضته من ديناصورات افتراضية تبدو حقيقيةً بدرجة مذهلة — أن كثيرًا من الناس أذهلهم ما شاهدوه أو سمعوه في التعليق، بما يكفي ليسألوا: «كيف علمتم أنها كانت تتحرَّك هكذا؟ … وأن هذا هو شكلها؟ … وأنها كانت تتصرَّف على هذا النحو؟»
يرتكز هذا الكتاب على أسئلةٍ مدفوعةٍ بالملاحظات غير المعقَّدة والفطرة السليمة؛ فكلُّ حفرية تُكتشَف تكون مميَّزة في حد ذاتها، ولديها القدرة على تعليم محبِّي البحث والاستطلاع منا شيئًا عن تراثنا بوصفنا أعضاءً في هذا العالم. مع هذا، لا بد أن أعدِّل هذه العبارة بأن أضيف إليها أنَّ نوع التراث المحدَّد الذي سأناقشه يتعلَّق بالتراث «الطبيعي»، الذي نتشارك فيه مع جميع الكائنات الموجودة على كوكبنا؛ يمتد هذا التراث الطبيعي لفترة تزيد عن ٣٨٠٠ مليون سنة وفقًا لأحدث التقديرات الموضوعة. سألقي الضوء على قسم ضئيل جدًّا من هذه الفترة الزمنية الطويلة للغاية على نحو مذهل؛ حيث سنتحدَّث فقط عن الفترة ما بين ٢٢٥ و٦٥ مليون سنة ماضية، عندما سيطرَتِ الديناصورات على معظم أوجه الحياة على الأرض.