الفصل الخامس

الديناصورات والدم الحار

جذب عدد من مجالات البحث المتعلقة بالديناصورات النظرَ إلى ما يتجاوز نطاقَ الاهتمام الأكاديمي البحت بهذه الكائنات. ويبدو أن هذا الاهتمام العام ينشأ نتيجةَ استحواذ الديناصورات على الخيال العام بطريقة لم تتوافر إلا لعدد قليل من موضوعات البحث الأخرى؛ لذا، تركِّز الفصول التالية على هذه الموضوعات من أجل توضيح التنوُّع الاستثنائي في الأساليب، وأنواع المعلومات المستخدَمة في محاولاتنا لكشف الغموض المحيط بالديناصورات وتكوينها الحيوي.

هل الديناصورات من ذوات الدم الحار أم البارد أم الفاتر؟

كما رأينا في الفصل الأول، فإن ريتشارد أوين — في وقت اختراعه لكلمة «ديناصور» — صاغ نظريةً عن التكوين الفسيولوجي للديناصورات، ويمكن أن نستخلص هذا المعنى من عبارته الأخيرة المسهبة في تقريره العلمي:

يمكن أن نخلص من ذلك إلى أن الديناصورات تتمتَّع بقدر فائق من التكيُّف مع الحياة على وجه الأرض … وهو ما يقترب مما تتميَّز به حاليًّا الفقارياتُ ذوات الدم الحار [أي الثدييات والطيور الموجودة حاليًّا].

(أوين ١٨٤٦)

على الرغم من أن نماذج إعادة تجميع الديناصورات «الشبيهة بالثدييات»، التي أعدَّها أوين للعرض في حديقة القصر البلوري، تعكس مشاعرَه بوضوح، فإن الدلالات الحيوية التي كان يشير إليها لم يدركها قطُّ أيٌّ من العامِلين الآخَرين في هذا الوقت. بطريقةٍ ما، خفَّفَ من حدة أسلوب أوين المثالي المنطقُ الأرسطي العقلاني؛ فقد كانت الديناصورات تشبه الزواحف في تكوين جسمها، ولهذا لديها جلد مغطًّى بالحراشف وتضع بيضًا له قشرة قاسية، وكانت — مثل كل الزواحف الأخرى المعروفة — ذات «دم بارد» (خارجية التنظيم الحراري).

تمامًا مثل أوين، أشار توماس هكسلي — بعد ٥٠ عامًا تقريبًا — إلى ضرورة النظر إلى الطيور والديناصورات باعتبارهما أقاربَ مقرَّبة؛ نظرًا لأوجه التشابُه التشريحية التي يمكن إثباتها بين الطيورِ الموجودة حاليًّا، وأقدمِ حفريتين معروفتين لطائر الأركيوبتركس والثيروبود الصغير المكتشَف حديثًا؛ الكومبسوجناثز. واستنتج أن:

… ليس من الصعب قطعًا تخيُّل وجود كائن وسيط قائم بذاته بين الدرميس [طائر الإيمو] والكومبسوجناثز [ديناصور] … كما لا يصعب تخيُّل فرضية أن … فئة «الطيور» تمتدُّ أصولُها إلى الديناصورات الزاحفة …

(هكسلي ١٨٦٨)

إذا كان هكسلي محقًّا فيما ذهب إليه، فمن الممكن طرح السؤال التالي: هل كانت الديناصورات في الأصل زواحف (من الناحية الفسيولوجية)، أم كانت أقرب إلى الطيور ذات «الدم الحار» (الثابتة الحرارة)؟ يبدو أنه ما من طريقة واضحة للإجابة عن مثل هذه الأسئلة.

على الرغم من هذه «الإسهامات» الفكرية، مرَّ ما يقرب من قرن على بحث هكسلي، قبل أن يبدأ علماءُ الحفريات في البحث بعزمٍ أكبر عن بيانات ربما تكون لها صلة بهذا السؤال المحوري. وجد الحافزُ لتجديد الاهتمام بهذا الموضوع صدًى له في تبنِّي البرنامج الأكثر اتساعًا وتكامُلًا لتفسير السجل الحفري؛ المتمثِّل في ظهور «علم الدراسة الحيوية للحفريات»، كما أوضحنا في الفصل الثاني. رأينا في ذلك الفصل كيف عمل روبرت باكر على ربط بعض الملاحظات الواسعة النطاق ببعضها، لتعليل ثبات الحرارة لدى الديناصورات. لنعرضِ الآنَ هذه الملاحظات وغيرها من الحجج بمزيدٍ من التفصيل.

مناهج جديدة: الديناصورات ممثِّلة للمناخ

ظهرت محاولات لدراسة إلى أيِّ مدًى يمكن استخدام الحفريات في إعادة تكوين صورة عن المناخ في العالم القديم. من المعترف به على نطاق واسع أن الكائنات ذات درجة الحرارة الثابتة (الثدييات والطيور في الأساس) لا تمثِّل إلى حدٍّ كبير مؤشرات جيدة للمناخ؛ نظرًا لوجودها في كل مكان، من المناطق الاستوائية إلى المناطق القطبية؛ فتكوينها الفسيولوجي ذو درجة الحرارة الثابتة (واستخدامها الماهر للعزل في أجسامها) سمح لها بالتصرُّف على نحوٍ مستقلٍّ إلى حدٍّ ما عن الظروف المناخية السائدة. وفي المقابل، تعتمد الكائنات ذات التنظيم الحراري الخارجي، مثل السحالي والثعابين والتماسيح، على الظروف المناخية المحيطة؛ ونتيجةً لهذا تميل إلى الوجود بصفة أساسية في المناطق المناخية الأكثر دفئًا.

ثبتَتْ جدوى استخدام هذا المنهج في دراسة التوزيع الجغرافي لذوات الدم البارد وذوات الدم الحار الواضحة في السجل الحفري، لكنه طرح العديد من الأسئلة المثيرة؛ على سبيل المثال: ماذا عن الأسلاف المباشِرة في سلسلة تطوُّر الثدييات ذوات الدم الحار في العصرين البرمي والترياسي؟ هل استطاعت أيضًا التحكُّم في درجات الحرارة الداخلية لأجسامها؟ إنْ حدث هذا، فكيف أثَّر هذا في توزيعها الجغرافي؟ والأكثر أهميةً في هذا السياق أن الانتشار الجغرافي للديناصورات بَدَا واسع النطاق، إذن هل يعني هذا أنها استطاعت التحكم في درجة حرارة جسمها مثل ذوات الدم الحار؟

أنماط في السجل الحفري

كان أساس منهج باكر في التعامل مع الثبات الحراري لدى الديناصورات، هو النمط الموجود في تعاقُب أنواع الحيوانات في أوائل حقبة الحياة الوسطى؛ ففي أثناء فترة نهاية العصر الترياسي، كانت زواحف السينابسيدا أكثر الحيوانات وفرةً وتنوُّعًا على سطح الأرض.

في نهاية العصر الترياسي وبداية العصر الجوراسي (منذ ٢٠٥ ملايين سنة)، ظهرت أولى الثدييات على الإطلاق على سطح الأرض، وكانت في صورة كائنات صغيرة تشبه الزبابات (حيوانات ثديية تشبه السنجاب). وعلى النقيض تمامًا، شهد الجزء الثاني من العصر الترياسي أيضًا ظهورَ الديناصورات الأولى (منذ ٢٢٥ مليون سنة). وطوال الفترة الفاصلة بين العصرين الترياسي والجوراسي، أصبحت الديناصورات منتشرةً وشديدةَ التنوُّع، ومن الواضح أنها كانت الأعضاء المهيمنة بين الحيوانات الأرضية. إن هذا التوازُنَ البيئي — من ثدييات نادرة وصغيرة وباحتمال كبير ليلية، وثدييات وفيرة وضخمة وفي تنوُّع متزايد — استمرَّ طوال المائة والستين مليون سنة التالية، حتى نهاية العصر الطباشيري (منذ ٦٥ مليون سنة).

بوصفنا من الكائنات التي تعيش في عصرنا الحالي، فإننا نرتاح إلى فكرة أن الثدييات — والطيور — هي أكثر الفقاريات التي تعيش على سطح الأرض وضوحًا وتنوُّعًا. من البديهي أن الثدييات كائنات سريعةَ الحركة وذكيةً وذات قدرة عالية على التكيُّف بوجه عام، ويرجع قدرٌ كبير من «نجاحها» في العصر الحالي إلى حالتها الفسيولوجية؛ كارتفاعِ معدل الأيض الأساسي لديها، وهو ما يسمح لها بالحفاظ على درجة حرارة أجسامها مرتفعة وثابتة، والتركيبِ الكيميائيِّ المعقَّد لأجسامها، وأدمغتِها الكبيرة الحجم نسبيًّا، ومن ثَمَّ ارتفاع مستويات النشاط لديها، وحالتها العامة بوصفها من ذوات الدم الحار. في المقابل، نلاحظ بوجه عام أن الزواحف أقلُّ تنوُّعًا بكثيرٍ ومقيَّدةٌ بشدة بالمناخ، ويمكن تفسير هذا إلى حدٍّ كبير بحقيقة انخفاض معدل الأيض لديها كثيرًا، وأنها تعتمد على المصادر الخارجية للحرارة من أجل الحفاظ على دفء أجسامها ومن ثمَّ تنشط كيميائيًّا، كما أن مستويات نشاطها أقل وأكثر تقطعًا؛ وهو الوضع الذي تكون عليه ذوات الدم البارد.

إن هذه الملحوظات — التي لا ننكر أنها عامة للغاية — تسمح لنا بتقديم توقُّعات يمكن إضافتها إلى السجل الحفري. إذا جرت الأمور كما توقَّعنا، فسيمكننا التنبؤ بأن الظهور الأول للثدييات الحقيقية في الحد الفاصل بين العصرين الترياسي والجوراسي — في عالم كانت ستسيطر عليه الزواحفُ لولا ذلك — حثَّ على الازدهار التطوري السريع للنوع الأول (الثدييات) وتنوُّعه على حساب النوع الثاني (الزواحف)؛ لذا، كان من المتوقَّع أن يُظهِر السجلُّ الحفري للثدييات زيادةً سريعة في وفرتها وتنوُّعها في أوائل العصر الجوراسي، حتى هيمنت بالكامل على النُّظُم البيئية في حقبة الحياة الوسطى. لكن، السجل الحفري يُظهِر نمطًا مناقِضًا تمامًا لهذا؛ فقد وصلت الديناصورات — الزاحفة — إلى السيادة في أواخر العصر الترياسي (منذ ٢٢٠ مليون سنة)، ولم تبدأ زيادةُ الثدييات في الحجم والتنوُّع إلا عقب انقراض الديناصورات في نهاية العصر الطباشيري (منذ ٦٥ مليون سنة).

كان تفسير باكر لمجموعة الأحداث المناقضة للمنطق هذه، أن الديناصورات لم تكن لتستطيع النجاح — تطوُّريًّا — أمام الثدييات الحقيقة، إنْ لم تكن تتمتَّع هي الأخرى بمعدلات أيض أساسية عالية تشبه ذوات الدم الحار، واستطاعت أن تكون نشيطةً وواسعةَ الحيلة تمامًا مثل الثدييات المعاصرة. لقد كان من الحقائق البديهية لدى باكر، أن الديناصورات ببساطة «لا بد» أنها كانت من ذوات الدم الحار النشيطة. وفي حين كان النمط الظاهر في السجل الحفري واضحًا بالفعل، كان لا بد من جمع الأدلة العلمية الضرورية لدعم «حقيقته» وفحصها.

الأرجل والرأس والقلب والرئتان

تضع الديناصورات أقدامها عموديًّا تحت أجسامها في وضع مستقيم؛ فتشبه أرجلُها الأعمدةَ. الكائنات الحية الوحيدة التي تتخذ أيضًا هذه الوضعية هي الطيور والثدييات؛ فكل الكائنات الأخرى «تبسط أقدامها» بحيث تخرج أقدامُها من جانبَيِ الجسم. كانت ديناصورات كثيرة أيضًا نحيفةَ الأطراف وتتناسب بنيتُها بوضوح مع الحركة السريعة؛ تعكس هذه الحجج حقيقةَ أن الطبيعة لا تميل إلى فعل أشياء دون الحاجة إليها، فإذا اتضح من بنية حيوانٍ ما أن باستطاعته الركض سريعًا، فإنه على الأرجح كان يفعل هذا؛ ومن ثَمَّ يبدو من المنطقي أن نتوقَّع تمتُّع هذا الكائن ﺑ «محرك» نشيط — أو بتكوين فسيولوجي ثابت الحرارة — ليسمح له بالحركة السريعة. ومع هذا لا بد لنا من التأنِّي والحذر؛ لأن ذوات الدم البارد باستطاعتها أيضًا التحرُّك بسرعة كبيرة في الحقيقة، فقد تفوق سرعةُ التماسيح وتنانين كومودو البشرَ غير المنتبهين، ومن ثَمَّ تستطيع الانقضاضَ عليهم! النقطة الفاصلة أن التماسيح وتنانين كومودو لا تستطيع تحمُّلَ الجري السريع؛ إذ تفتقر عضلاتها إلى الأكسجين بسرعة كبيرة، وتحتاج هذه الحيوانات إلى الراحة حتى تستطيع عضلاتُها التعافيَ. في المقابل، تستطيع ذوات الدم الحار التحرُّكَ بسرعة لفترات أطول بكثير؛ لأن نظام ضغط الدم المرتفع ورئاتها الفعَّالة يعيدان تزويدَ عضلاتها بالأكسجين بسرعة كبيرة.

كتنقيح إضافي لهذا النقاش يأتي اقتراحُ أن القدرة على السير على قدمين ترتبط حصريًّا بثباتِ درجةِ الحرارة؛ فثدييات كثيرة والطيور كلُّها وديناصورات كثيرة، تسير على قدمين. لا ترتبط هذه الحجة بوضعية الكائن فحسب، لكن ترتبط أيضًا بطريقة الحفاظ عليها؛ فالكائنات التي تسير على قوائمها الأربع تتمتَّع بميزة التوازن الكبير عندما تسير، أما الكائنات التي تسير على قدمين، فهي فطريًّا غيرُ مستقرة، وحتى تسير بنجاحٍ فمن الضروري أن يتوافر لديها نظامٌ متطوِّر من أجهزة الاستشعار التي تراقب الاتزانَ، ونظامٌ سريع لتنسيق الحركة (المخ والجهاز العصبي المركزي)، بالإضافة إلى عضلاتٍ سريعةِ الاستجابة من أجل تصحيحِ التوازُن والحفاظِ عليه.

إن المخ عضو محوري في هذه «المشكلة» الحركية بأكملها، ولا بد أن تتوافر فيه قدرةٌ مستمرة على العمل بسرعة وكفاءة، ويقتضي هذا ضمنيًّا قدرةَ الجسم على توفير إمداد مستمر بالأكسجين والغذاء والحرارة، من أجل السماح لكيمياء المخ بالعمل على النحو الأمثل طوال الوقت؛ فالشرط الأساسي لهذا النوع من التوازن أن يوجد تكوين فسيولوجي «مستمر»، له درجةُ حرارةٍ ثابتة. تُوقِف ذواتُ الدم الحار من وقتٍ لآخر نشاطَها على جميع المستويات عند شعورها بالبرد — على سبيل المثال — وتقلِّل من إمدادات العناصر الغذائية الواصلة إلى المخ، الذي يكون بالتبعية أقلَّ تطوُّرًا وأكثرَ تكامُلًا مع الوظائف العامة للجسم.

يمكن ربط إحدى الملاحظات الأخرى المتعلِّقة بالوضعية، بكفاءةِ عملِ القلب وقدرتِه على تحمُّل مستويات النشاط المرتفعة. تتسم وضعيةُ كثيرٍ من الطيور والثدييات والديناصورات بأنها منتصِبةٌ، بحيث يكون وضْعُ الرأسِ عادةً في مستوًى أعلى على نحوٍ ملحوظ من مستوى وضع القلب؛ وإن لهذا الاختلاف بين مستويَيِ الرأس والقلب نتائجَ مهمةً على توازن السوائل في الجسم؛ فنظرًا لأن الرأس أعلى من القلب، فلا بد أن تكون لدى القلب القدرةُ على ضخِّ الدم بضغطٍ مرتفعٍ «لأعلى» صوبَ المخ. لكن الدم الذي يُضَخُّ في الوقت نفسه من القلب مع كل نبضة من نبضاته إلى الرئتين، لا بد أن يتحرَّك بضغط منخفض، وإلا سيؤدي إلى انفجار الشعيرات الدموية الدقيقة المبطِّنة للرئتين. للسماح بهذا التفاوُت في الضغط، ينقسم قلبُ الثدييات والطيور إلى نصفَيْن، بحيث يمكن للجانب الأيسر من القلب (الدورة الجهازية، أو دورة الرأس والجسم) العملُ بضغطٍ أعلى من الجانب الأيمن (الدورة الرئوية، أو دورة الرئتين).

يوجد رأس كل الزواحف التي تعيش حاليًّا في نفس مستوى قلبها تقريبًا؛ لذا، فإن قلوبها ليست مقسومةً إلى نصفين مثل قلوب الثدييات والطيور؛ نظرًا لعدم وجود حاجة إلى التمييز بين الدورتين الجهازية والرئوية. ومن المثير للاهتمام أن قلب الزواحف ودورتها الدموية يمدَّانِها ببعض المميزات؛ فهي تستطيع نقلَ الدم في جميع أجزاء الجسم بطريقةٍ لا تتوافر لدى الثدييات؛ على سبيل المثال: تقضي ذواتُ الدم البارد كثيرًا من الوقت في الاستلقاء تحت أشعة الشمس من أجل تدفئة أجسامها، وفي أثناء استلقائها في الشمس تفضِّل نقلَ الدم إلى الجلد، حيث يمكن استخدامه في امتصاص الحرارة (مثل الماء الموجود في أنابيب التدفئة المركزية في لوحات الطاقة الشمسية). أكبر عيب في هذا النظام هو أن الدم لا يمكن أن يتحرَّك تحت الضغط المرتفع — وهي سمة أساسية لدى أي حيوان يتصرَّف بنشاط كبير، ولا بد له من توصيل الغذاء والأكسجين إلى عضلاته التي تبذل مجهودًا كبيرًا.

نستخلص من كل هذه الآراء أن الديناصورات — نظرًا لشكل وقفتها — كان نظامُ الدورة الدموية لديها عاليَ الضغط؛ مما يتلاءم مع مستويات نشاطها المرتفعة والمستمرة التي توجد فقط لدى ذوات الدم الحار الموجودة حاليًّا. وهذه المجموعة من الآراء الأشمل والأكثر تفصيلًا تدعم على نحوٍ مدوٍّ تخمينَ ريتشارد أوين المثير.

إنَّ إمداد العضلات بقدرٍ كافٍ من الأكسجين يرتبط بالتأكيد ارتباطًا وثيقًا بكفاءة عمل القلب والجهاز الدوري؛ من أجل السماح بمستويات مرتفعة من النشاط الهوائي. توجد لدى بعض مجموعات الديناصورات، خاصةً الثيروبودات والصوروبوديات العملاقة، إشاراتٌ تشريحية مثيرة تتعلَّق بتكوين الرئة وعملها؛ ففي هاتين المجموعتين من سحليات الورك (لكن ليس في طيريات الورك)، توجد آثارٌ لأكياس أو تجويفات مميَّزة (تُسمَّى الفتحات الجنبية) على جانبَيْ فقرات العمود الفقري. إن هذه السمة في حد ذاتها ربما لم تكن تلقَى اهتمامًا خاصًّا، إلا أن الطيور التي تعيش حاليًّا قد ظهرت عليها سماتٌ مشابهة تعادِل وجودَ أكياس هوائية شاملة؛ فالأكياس الهوائية هي جزء من آليةٍ تشبه المنفاخَ تسمح للطيور بالتنفس بكفاءة عالية. وثمة احتمال كبير أن سحليات الورك كانت لديها رئتان تشبهان رئتَي الطيور؛ ومن ثمَّ كانتا فعَّالتين للغاية.

fig33
شكل ٥-١: توفِّر الأكياسُ الهوائية لدى الطيور جهازَ تنفُّسٍ عاليَ الكفاءة.

تدعم هذه الملاحظة بالتأكيد ادِّعاءَ أن بعض الديناصورات (الثيروبودات والصوروبوديات) كانت لديه القدرةُ على المحافظة على مستويات مرتفعة من النشاط الهوائي، إلا أنها تؤكِّد أيضًا حقيقةَ أنه لا يمكن افتراض أن كلَّ الديناصورات (سحليَّات الورك وطيريَّات الورك) متشابهةٌ في كل جوانب تكوينها الفسيولوجي؛ لأن طيريَّات الورك لا تظهر عليها أيُّ آثار لنظام الأكياس الهوائية.

«تعقُّد» تكوين الديناصورات وحجم أدمغتها

بالرغم من أن الحجة التالية لا تنطبق على كل الديناصورات، فإنها تقدِّم معلوماتٍ مفيدةً من خلال إظهارها ما كانت «بعض» الديناصورات تستطيع فعله، والمثال التقليدي على هذا درومايوصور جون أوستروم المذكور من قبلُ؛ داينونيكس (الشكل ٤-٢). كما ذكرنا بإيجاز في الفصل الثاني، فقد كان هذا الديناصور مفترسًا كبيرَ العينين، ومن الواضح أنه كان قادرًا على الركض بسرعة؛ وهذا بناءً على أبعاد أطرافه وبنيته العامة. بالإضافة إلى هذا، كان لديه ذيلٌ مميَّز قوي ورفيع، وأصابعُ داخلية استثنائية في قدمَيْه الخلفيتين تشبه الخُطَّاف، وذراعان طويلتان بهما مخالب حادَّة من أجل الإمساك بالأشياء. ومن المنطقي افتراضُ أن هذا الحيوان كان مفترِسًا مطارِدًا، وكانت لديه القدرةُ على استخدام ذيله الرفيع كأداةٍ مساعِدةٍ في حفْظِ توازنه أثناء الحركة (تحريك الذيل في أحد الجانبين يسمح لهذا الحيوان بتغيير اتجاهه بسرعة كبيرة)، وثمة احتمال كبير بأنه كان يقفز على فريسته، التي كان يشلُّ حركتَها بعد ذلك باستخدام المخالب الموجودة في قدميه. لم نرَ قطُّ هذا السلوك من الداينونيكس في الواقع، لكنَّ هذا السيناريو يعتمد على السمات الملحوظة في هيكله العظمي، وتدعمها جزئيًّا حفريةٌ مميزة اكتُشِفت في منغوليا.

تضم هذه الحفرية ديناصورَيْن: ديناصور كيراتوبسي صغير آكل للعشب يُدعَى بروتوسيراتوبس، وديناصور قريب الصلة بالداينونيكس يُدعَى فيلوسيرابتور. تُظهِر هذه الحفرية الاستثنائية أن هذين الديناصورين قد هلكَا في قتال مميت؛ وربما ماتا إثر اختناقهما بسبب عاصفة ترابية في أثناء قتالهما معًا؛ فقد تحجَّرَ الفيلوسيرابتور وهو ممسك برأس فريسته باستخدام ذراعَيْه الطويلتين، وفي أثناء توجيه ركلة لعنق ضحيته السيئة الحظ.

يشير مثل هذا «التعقيد» العام في التكوينِ والوظيفةِ المستنتَجة وأسلوبِ الحياة، إلى مستويات من النشاط أكثر شبهًا بتلك التي نجدها عند ذوات الدم الحار في العصر الحديث.

وبالاتفاق مع بعض الحُجج التي ظهرت في النقاش المتعلِّق بقدرة الديناصورات على التحرُّك على قدمَيْن، فإن أدمغة كلٍّ من الثدييات والطيور كبيرةٌ للغاية، وتُظهِر كلتا المجموعتين ما يبدو أنه سلوك ذكي. في المقابل، تمتلك الزواحف ذات الدم البارد أدمغةً أصغرَ حجمًا، ولا تشتَهر عادةً ببراعتها الفكرية (على الرغم من أن هذا وَهْمٌ إلى حدٍّ ما ساهمنا في نشره). لكن، يبدو أن ثمة صلةً عامةً بين الحجمِ العام للدماغ، وثباتِ درجة الحرارة في الجسم؛ فالأدمغةُ الكبيرة تكويناتٌ شديدة التعقيد تحتاج إلى إمدادات متواصِلة من الأكسجين والغذاء، بالإضافة إلى درجة حرارة مستقرة من أجل العمل بكفاءة. ومن الواضح أن الزواحف ذات الدم البارد تستطيع إمدادَ أدمغتها بكلٍّ من الغذاء والأكسجين بفاعلية، لكن درجة حرارة أجسامها تتفاوت على مدار دورة طبيعية كلَّ ٢٤ ساعة؛ ونتيجةً لهذا لا تستطيع توفيرَ احتياجات الدماغ الكبير والمعقَّد.

من المتعارف عليه أن الديناصورات تشتهر بافتقارها إلى القوة العقلية (يُستشهَد دومًا بمخِّ الستيجوصور الذي لا يزيد حجمُه عن حجم حبة جوز كمثال تقليدي)؛ إلا أن جيم هوبسون من جامعة شيكاجو فعل الكثيرَ من أجل تصحيح وجهة النظر الخاطئة هذه، وبمقارنة نسبة حجم الدماغ إلى حجم الجسم في عددٍ من الحيوانات — منها الديناصورات — استطاع هوبسون إثباتَ أن معظم الديناصورات كانت أدمغتُها بوجهٍ عامٍّ تشبه في حجمها إلى حدٍّ ما أدمغة الزواحف. مع هذا، كان بعضها وفيرَ الحظ على غير المتوقَّع في «جزء الدماغ»؛ لذا ربما من غير المفاجئ أن تكون هذه الديناصوراتُ ثيروبوداتٍ عاليةَ النشاط تسير على قدمَيْن.

التوزيع العَرضي

ذكرنا في جزء سابق من هذا الفصل أن رسمَ مخططٍ لبيانات توزيع الديناصورات كان أحد الدوافع وراء تعقُّب حالتها الفسيولوجية. ومؤخرًا، أظهرتِ التقاريرُ وجودَ أعداد من الديناصورات في منطقة يوكون في أمريكا الشمالية وفي أستراليا والقارة القطبية الجنوبية؛ كانت هذه المناطق تقع داخل نطاق المناطق القطبية الخاصة بكلٍّ منها في العصر الطباشيري، واستُخدِمت من أجل تدعيم فكرة أن الديناصورات كانت بالضرورة من ذوات الدم الحار حتى تستطيع البقاءَ على قيد الحياة. ومن الواضح في نهاية الأمر أن الفقاريات الأرضية من ذوات الدم البارد في عصرنا الحالي، غيرُ قادرةٍ على الحياة في دوائر العرض المرتفعة هذه.

لكن، بعد تفكير متأنٍّ، لا تكون هذه الملاحظات مقنعةً كما تبدو من الوهلة الأولى؛ فتشير الأدلة المستقاة من السجل الحفري النباتي إلى أن أشكال الحياة النباتية في مناطق البحر المتوسط والمناطق شبه الاستوائية، كانت موجودةً في هذه المناطق القطبية في العصر الطباشيري. على غير المعتاد، تشترك هذه النباتات في عادةِ فقدانِ أوراقها موسميًّا، وربما يكون ذلك استجابةً لمستويات الضوء ودرجة الحرارة المنخفضة في فصل الشتاء. لا تظهر أدلةٌ على وجود صفائح جليدية في العصر الطباشيري، ومن المحتمل فيما يبدو أن درجة الحرارة كانت شديدةَ الاعتدال حتى في دوائر العرض المرتفعة؛ في أثناء فصل الصيف على الأقل. وفي ظل هذه الظروف، من المرجَّح للغاية أن الديناصورات الآكلة للعشب كانت تهاجر إلى الشمال أو الجنوب — بناءً على الفصل المناخي — من أجل الاستفادة من المراعي الغنية؛ ونتيجةً لهذا، ربما يعكس العثورُ على بقايا حفرياتها في دوائر عرض مرتفعة للغاية من حقبة الحياة الوسطى نطاقَ هجرتها، ولا يعكس أنها كانت تعيش في المناطق القطبية.

اعتباراتٌ بيئية

كان قياس بنية المجتمع في حقبة الحياة الوسطى أحد أكثر اقتراحات باكر المبتكرة في بحثه عن سُبُلٍ وسيطة يتعرَّف بها على التكوين الفسيولوجي للديناصورات. كانت الفكرة بسيطة على نحو مذهل؛ إذ تحتاج الحيوانات ذوات الدم الحار وذوات الدم البارد إلى كميات من الطعام لتظلَّ على قيد الحياة، وتعكس تلك الكمياتُ «النفقاتِ الجاريةَ» الأساسيةَ المرتبطةَ بكون الكائن من ذوات الدم الحار أو البارد. تكون النفقاتُ الجارية لدى ذوات الدم الحار — مثل الثدييات والطيور — أعلى؛ لأن معظم ما تتناوله من طعام (أكثر من ٨٠٪) يتعرَّض للحرق لإنتاج حرارة الجسم. وفي المقابل، تحتاج ذوات الدم البارد إلى طعام أقل؛ لأنها تستخدم كمًّا قليلًا للغاية في توليد حرارة الجسم. وكمؤشر تقريبي، تحتاج ذوات الدم البارد نحو ١٠٪ — وأحيانًا أقل بكثير — من الاحتياجات الغذائية لذوات الدم الحار من نفس الحجم.

بناءً على هذه الملاحظة، وعلى أساس فَهْم أن التدبير العام للطبيعة يميل إلى إحداث توازُنٍ إلى حدٍّ ما بين العرض والطلب، اقترح باكر أن المجموعات الحفرية ربما تشير إلى وجود توازن بين المفترس والفريسة، وهو ما يشير ضمنيًّا إلى توازن في التكوين الفسيولوجي لهذه الحيوانات. بحث باكر جيدًا في المجموعات الموجودة في المتحف، ليجمع البيانات التي يحتاجها؛ وضمَّ هذا بياناتٍ من مجموعات الزواحف القديمة (حقبة الحياة القديمة)، والديناصورات (حقبة الحياة الوسطى)، والثدييات الحديثة نسبيًّا (حقبة الحياة الحديثة). بَدَتْ نتائجُه مشجِّعةً؛ فقد أشارت مجموعاتُ الزواحف من حقبة الحياة القديمة إلى مساواةٍ تقريبيةٍ بين أعداد المفترسات والفرائس، وفي المقابل أشارَتْ مجموعات الديناصورات والثدييات من حقبة الحياة الحديثة إلى كثرة عدد الفرائس، مقارَنةً بعدد المفترسات القليل للغاية.

في البداية، انبهر المجتمع العلمي بهذه النتائج، لكنْ يوجد حاليًّا شكٌّ كبير حول أهمية البيانات الأصلية؛ فإن استخدام المجموعات الموجودة في المتحف في تقدير أعداد المفترسات أو الفرائس، هو إجراء غير جدير بالثقة إلى حدٍّ كبير؛ فلا يوجد دليلٌ على أن الحيوانات التي أحصاها عاشَتْ معًا في المقام الأول، كما توجد تحيُّزات هائلة فيما يتعلق بالأشياء التي جُمِعت (أو التي لم تُجمَع) في هذا الوقت، كما ظهرت كل أنواع الافتراضات بشأن ما يتناوله المفترس أو لا يتناوله، وحتى في حال وجود إشارة حيوية من نوع ما، فإنها تنطبق بالتأكيد على المفترس فقط. بالإضافة إلى هذا، فإن الأبحاث التي أُجريت على المجتمعات الموجودة حاليًّا من المفترسات ذات الدم البارد وفرائسها، أوضحت أن عدد المفترسات ربما يقل بنسبة ١٠٪ عن أعداد فرائسها المحتملة، وهذا يحاكي النِّسَب التي ظهرت في مجموعات ذوات الدم الحار المزعومة لباكر.

إن هذا مثال رائع على فكرة ذكية لا يمكن للأسف تدعيمها؛ لأن البيانات ببساطةٍ لن تؤدِّي إلى نتائج ذات مغزًى علمي بأي حال من الأحوال.

دراسة أنسجة العظام

وُجِّه اهتمام كبير نحو فهم التفاصيل الدقيقة للتكوين الداخلي لعظام الديناصورات. لم يتأثَّر تكوين المعادن في عظام الديناصورات عمومًا بعملية التحجُّر؛ ونتيجةً لهذا، يمكن دومًا أخذ مقاطع رفيعة من العظام، توضِّح تكوينَ العظامِ الداخليَّ (تكوين الأنسجة) بتفاصيل مذهلة. هذا، وقد أشارت الملاحظات المبدئية إلى أن عظام الديناصورات كانت قريبةَ الشبه في تكوينها الداخلي بعظام الثدييات ذات الدم الحار الموجودة حاليًّا، أكثر من عظام الكائنات ذات الدم البارد الحديثة.

بوجهٍ عام، أظهرت عظامُ الثدييات والديناصورات مستوياتٍ مرتفعةً من تكوين الأوعية الدموية (فقد كانت مَساميَّة للغاية)، بينما تفتقر عظامُ ذوات الدم البارد إلى الأوعية الدموية. يمكن أن ينشأ تكوينُ العظام المليئة بالأوعية الدموية بعدة طرق؛ فعلى سبيل المثال: يشهد أحد نماذج تكوين الأوعية الدموية (سرطان الخلية الكبدية الليفي الصفاحي) مراحلَ شديدةَ السرعة من نموِّ العظام، في حين يمثِّل نموذجٌ آخَر (النفق الهافيرسي) إحدى مراحل تقوية العظام، عن طريق إعادة التشكيل التي تحدث في وقت لاحق من حياة الكائن.

ما يمكن أن يُقال في هذا السياق أن كثيرًا من بقايا الديناصورات يقدِّم أدلةً على أنها كانت تستطيع النموَّ بسرعة، وتستطيع تقويةَ عظامها عن طريق عملية إعادة تشكيلٍ داخلية. يتعرَّض نمطُ نموِّ الديناصورات أحيانًا إلى تقطُّع دوري (يحاكي النموذجَ المتقطِّع الموجود في عظام الزواحف الموجودة حاليًّا)، لكن لا شكَّ أن أسلوب النمو هذا منتظم. بالمثل — لكن باحتمال أقل — يظهر لدى بعض ذوات الدم الحار (الطيور والثدييات) تكوينٌ عظمي (موضعي)، به عدد قليل للغاية من الأوعية الدموية، في حين قد يظهر لدى ذوات الدم البارد، التي تعيش حاليًّا، تكوينٌ عظمي مليء بالأوعية الدموية في أجزاء من هياكلها العظمية. ومن المثير للدهشة عدمُ وجود علاقات واضحة بين التكوين الفسيولوجي للحيوان والتكوين الداخلي لعظامه.

نظرة عامة على التكوين الفسيولوجي للديناصورات

يوضِّح النقاش السابق الكمَّ الكبير والمتنوِّع في المناهج المستخدَمة في محاولة دراسة عملية الأيض لدى الديناصورات.

كان موقف روبرت باكر هو التصديق المطلق عند تقييمه لأهمية إحلال الديناصورات محلَّ الثدييات على الأرض، في أوائل العصر الجوراسي؛ فقال إن هذا النموذج يمكن تفسيرُه فقط إذا كانت الديناصورات لديها القدرةُ على منافسة نموذجه عن الثدييات «العليا» ذات الدم الحار؛ ومن أجل فعل هذا كان عليها ببساطة أن تكون من ذوات الدم الحار. هل هذا صحيح؟ الإجابة فعليًّا: لا … ليس بالضرورة.

في نهاية العصر الترياسي وبداية العصر الجوراسي، لم يكن من الممكن لنا، نحن البشرَ المنتمين للثدييات، أن نعيش في العالَم آنذاك؛ فقد كان جزء كبير من قارة بانجيا في هذا الوقت متأثِّرًا بالظروف الموسمية — الجافة بوجه عام — حيث أصبحت الصحاري منتشرةً عالميًّا. تمارس مثلُ هذه الظروف، من درجات الحرارة المرتفعة وقلةِ سقوط الأمطار، ضغوطًا انتقائيةً على أيض ذوات الدم الحار وذوات الدم البارد بطرق مختلفة للغاية.

إن ذوات الدم البارد — كما قلنا آنفًا — تحتاج إلى تناوُل طعام أقلَّ مقارَنةً بذوات الدم الحار؛ ومن ثمَّ لديها قدرةٌ أفضل على البقاء على قيد الحياة في أوقات الإنتاجية الحيوية المنخفضة. فتتمتَّع الزواحف بجلد حرشفي لديه قدرةٌ كبيرة على مقاومة فقدان الماء في الظروف الصحراوية الجافة؛ كذلك فإنها لا تتبوَّل، وإنما بدلًا من ذلك تُخرج مادةً جافة لزجة (تشبه فضلات الطيور). تناسب درجاتُ الحرارة المحيطة المرتفعة ذواتِ الدم البارد جيدًا؛ لأنه من السهل نسبيًّا الحفاظ على الكيمياء الداخلية لأجسامها في درجات الحرارة القصوى. إجمالًا، يمكن توقُّع أن تتعامل ذوات الدم البارد — المتمثِّلة في الزواحف التقليدية — جيدًا مع ظروفٍ مثل الظروف الصحراوية.

تعاني ذوات الدم الحار — مثل الثدييات — من إجهاد فسيولوجي في ظروف ارتفاع درجة الحرارة؛ فالثدييات «مهيَّأة» لتكون قادرةً على فقدان حرارة من أجسامها في البيئة (منظِّم الحرارة في أجسامها يحافظ على درجة حرارتها أعلى في المتوسط من الظروف البيئية العادية)، وتضبط حالتَها الفسيولوجية وفقًا لذلك. في حالة البرد، تستطيع الثديياتُ تقليلَ الحرارة المفقودة من أجسامها، عن طريق رفع فرائها من أجل حبس الهواء وزيادة كفاءة عزل أجسامها، أو استخدام «الارتعاش» لتوليد حرارة إضافية سريعًا في العضلات، أو رفع معدل الأيض الأساسي لديها. لكن، في ظروف ارتفاع درجة الحرارة المحيطة، يصبح فقدان الحرارة في البيئة مَطلبًا أساسيًّا لمنع التعرُّض لفرط السخونة المميت. إن التبريد بالتبخير هو أحد الخيارات القليلة المتاحة، ويتحقَّق إما عن طريق اللُّهاث، وإما عن طريق التعرُّق عبر سطح الجلد؛ تزيل هاتان العمليتان كمياتٍ كبيرةً من الماء من الجسم. وفي الظروف الصحراوية، قد يكون فقدان الماء — الموجود بكميات قليلة — مُمِيتًا. وإمعانًا في تعقيد الأمور، تتخلَّص الثدييات من المواد الناتجة عن عملية الأيض من أجسامها عن طريق التبوُّل، الذي يطرح الفضلاتِ خارجَ الجسم في محلول مائي. وبالإضافة إلى مشكلات العبء الحراري وفقدان المياه، تحتاج الثدييات إلى كميات ضخمة من الطعام من أجل الحفاظ على تكوينها الفسيولوجي الثابت الحرارة. والمناطق الصحراوية هي مناطقُ قليلةُ الإنتاجية؛ لذا فإن مخزون الطعام فيها محدودٌ، ولا يقوى على تغذية أعداد هائلة من ذوات الدم الحار.

بالنظر إلى الأمر من هذا المنظور البيئي البحت، ربما نجد أن العالم في أواخر العصر الترياسي وأوائل العصر الجوراسي، كان فريدًا من نوعه؛ ففي هذا الوقت ربما كانت البيئة تحابي ذوات الدم البارد، وقصرت الثدييات الأولى على الأنواع الصغيرة الحجم والليلية في المقام الأول. في الصحاري حاليًّا، تكون جميعُ الثدييات تقريبًا (باستثناء هذه الكائنات الرائعة حقًّا المعروفة بالإبل) آكلاتِ حشرات وقوارضَ ليليةً صغيرةَ الحجم؛ إنها تنجو من الحرارة الشديدة في فترات النهار عن طريق الاختباء في جحور تحت سطح الرمال، حيث الحرارةُ أقلُّ والرطوبةُ أعلى، وتخرج ليلًا بمجرد انخفاض درجة الحرارة، وتستطيع استخدامَ حواسِّها الحادة في العثور على فرائسها من الحشرات.

تحسَّنَ في النهاية الجفافُ الشديد الذي ساد فترةَ أواخر العصر الترياسي وأوائل العصر الجوراسي، مع بدء قارة بانجيا في الانفصال بعضها عن بعض، وانتشارِ البحار الداخلية عبر مساحات من الأراضي وفيما بينها. يبدو أن النظام المناخي العام قد أصبح شديدَ الدفء والرطوبة، وانتشرت هذه الظروفُ المناخية عبر أشرطة عرضية شديدة الاتساع. ولا بد من التأكيد على عدم وجود مناطق قطبية مغطَّاة بالجليد طوال عصر الديناصورات. يبدو نوعُ العالَمِ الذي نعيش فيه حاليًّا غريبًا للغاية، عند مقارنته بقدر كبير من تاريخ الأرض، من حيث احتواؤه على قطبَيْن جنوبي وشمالي يغطِّيهما الجليد؛ ومن ثمَّ تكون الأشرطةُ المناخية العرضية فيه محصورةً في أضيق الحدود على نحو استثنائي. وفي ظل هذه الظروف الخصبة نسبيًّا في العصر الجوراسي، ارتفعَتِ الإنتاجيةُ كثيرًا؛ فقد أُودِعَتْ رواسب الفحم الضخمة في المناطق التي شهدت وجودَ غابات كثيفة ومعمِّرة؛ لذا، ربما يكون من غير المفاجئ اكتشافُ ارتفاع أعداد الديناصورات وأنواعها للغاية خلال العصر الجوراسي.

هل كان التكوين الفسيولوجي للديناصورات مميَّزًا؟

تجدر الإشارة إلى أن الديناصورات كانت كائنات ضخمة؛ فحتى متوسطة الحجم منها كان طولها يتراوح بين ٥ و١٠ أمتار، وهو ما تعتبره معظم المقاييس كبيرًا للغاية؛ فمتوسطُ حجم جميع الثدييات ربما يكون في حجم قطة أو كلب صغير في عصرنا الحالي. والحقيقة الأكيدة هي عدم وجود ديناصورات في حجم الفأر (إلا عند خروجها من البيض).

للحجم الكبير مميزات في بعض الظروف، وأبرز هذه المميزات أن الحيوانات الأكبر حجمًا تميل إلى فقدان الحرارة في البيئة واكتسابها منها على نحوٍ أبطأ بكثير من الحيوانات الصغيرة؛ على سبيل المثال: تحافظ التماسيحُ البالغة على درجة حرارة داخلية مستقرة للغاية طوال النهار والليل، في حين يعكس مدى درجات حرارة الجسم لدى التماسيح التي فقست حديثًا التغيُّراتِ التي تحدث طوال النهار والليل؛ لذا فإن وجود كائن في حجم الديناصور يعني أن درجة حرارة جسمه الداخلية تتغيَّر تغيُّرًا طفيفًا للغاية مع مرور الوقت. يعني كِبر الحجم كذلك أن العضلات المسئولة عن وضعيته لا بد أن تعمل جاهدة على منع الجسم من الانهيار بسبب وزنه. يُنتِج هذا «العمل» العضلي المستمر كمياتٍ كبيرةً من الطاقة (كالحال تمامًا عندما نصبح «محتقنين» بالحرارة بعد ممارسة تمارين عضلية)، ويمكن لهذه الطاقة أن تساعد في الحفاظ على درجة حرارة الجسم الداخلية.

بالإضافة إلى مميزات الحجم هذه، رأينا أن سرعة الحركة المحتملة للديناصورات ووقفتها — كثير منها كانت رءوسها أعلى بكثيرٍ من مستوى صدورها — تشير إلى أنه من المرجح بدرجة كبيرة أن هذه الكائنات قد تمتَّعَتْ بقلب مقسَّم بالكامل عالي الكفاءة، استطاع أن ينقل الأكسجين والطعام والحرارة بسرعة في جميع أنحاء الجسم، بالإضافة إلى إزالة النواتج الثانوية الضارة الناتجة عن عملية الأيض. وحقيقة أن سحليات الورك ربما كان لديها نظامُ تنفُّسٍ يشبه رئة الطيور، تؤكِّد على نحوٍ أكبر قدرتها على توفير الأكسجين الذي كانت أنسجتها بحاجةٍ إليه في أثناء ممارسة الأنشطة الهوائية الفعَّالة.

عند التفكير في هذه العوامل وحدها، يبدو من المحتمل للغاية أن الديناصورات قد تمتَّعَتْ بصفات كثيرة، ترتبط حاليًّا بثبات درجة الحرارة الذي نراه في الثدييات والطيور الموجودة حاليًّا. بالإضافة إلى هذا، كانت الديناصورات إجمالًا ضخمة الحجم؛ ومن ثمَّ ثابتة حراريًّا بدرجة نسبية. كذلك عاشت الديناصورات خلال فترة من المناخ العالمي الدافئ وغير الموسمي.

ربما كانت الديناصورات الوريثةُ الأسعدَ حظًّا لنوع مثالي من التكوين الحيوي، الذي مكَّنَها من الازدهار في ظروف مناخية فريدة سادت حقبةَ الحياة الوسطى. لكن على الرغم من مدى إقناع هذه الحُجة في هذه المرحلة، فإنها لا تضع في اعتبارها دليلًا آخَر شديدَ الأهمية ظهر على مدار السنوات القليلة الماضية؛ وهو العلاقات الوثيقة بين الديناصورات والطيور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤