الفصل الحادي عشر

موقفنا من الحرب سنة ١٩١٤

(١) معظم النار من مستصغر الشرر

وقع ما كان يخشاه العالم بأسره، وعمَّ الخطب سنة ١٩١٤ ولم يبقَ بعدُ سبيلٌ إلى السلام، ولم يكن لينتظر أن الخلاف المحلي الذي قام بين النمسا والصرب يصل إلى النتيجة التي وصل إليها، وهنا نورد المثل المشهور:«معظم النار من مستصغر الشرر.»

عجزت السياسة والمفاوضات السياسية، والوساطات الملوكية والإمبراطورية عن تأييد السلم وحقن الدماء، وحماية مصالح الناس، وانفرد الشر بالحكم في أوربا؛ إذ نفخ في صوره ففزعت لدعوته الملايين، وانقلبوا عن صورهم المدنية، فأصموا آذانهم عن دعوة الإخاء الإنساني، واستدبروا نهائيًّا مبادئ المحبة والغفران والسلام، وغشي الغضب أبصارهم، فلم يعودوا يفكرون في الخسارة الكبرى التي يجنيها المحاربون من وراء الحرب؛ سواء فيهم الغالب والمغلوب، واستهانوا بالأضرار التي تلحق العالم بأسره من وراء هذه الحركة، التي ليس فيها من البركة شيء.

تلك حرب لم تكن كحروب القرون الأولى، فإن المدنية الحاضرة قد جعلت الكرة الأرضية أشبه بالوطن الواحد في المنافع الاقتصادية التي هي أساس العمران، بل علة الحياة، أجزاؤه متضامنة في الخير والشر، أقفلت أسواق أوربا وميزان الحركة الاقتصادية العامة معلق بين أصابعها، فأخلت بالموازنة في كل شيء حتى في أسعار الأقوات في كل البلاد، وأصبحنا في مصر — ونحن بمركزنا الاستثنائي بعيدون عن هذه الحركة الحربية — نشعر من أول يوم بالرجات الشديدة التي انتابت سوقنا المالية، وعلى هذا القياس كل أنحاء الكرة الأرضية، أفلا يعلم الذين يعلنون الحروب بكلمة من أفواههم، مقدار المسئولية التي يحملونها بهذه الكلمة الكبرى التي تسفك دماء الملايين من الأبرياء بالمعنى الصحيح، الذين يتمثلون بقول القائل:

لم أكن من جناتها علم اللـ
ـه وإني لحرها اليوم صالي

يقاد أحدهم من الدار إلى النار؛ لا دفاعًا عن وطن مهدد، ولكن إرضاء لشهوات العظماء، إرضاء لرؤساء الأحزاب، إرضاء لكلمات ضخمة مجوفة ترن رنين تمثال آمون وليس في بطنها من الحقيقة شيء، رحم الله «جوريس» أول قتيل لهذه الحرب، وأول ضحية من ضحاياها الذاهبة في سبيل الحق والسلام.

(٢) قلت لرشدي

هذا وقد كان لمصر وقتئذ مصالح يجب أن نرعاها، وكانت الوزارة الرشدية بالإسكندرية، فاتصلت برئيسها صديقي المرحوم حسين رشدي باشا عن طريق التليفون، وما كدت أخاطبه في أمر عادي حتى قال لي: دع عنك هذا، فإن إنجلترا أعلنت اليوم الحرب على ألمانيا.

ودعاني للقائه في اليوم التالي ببيته بالقاهرة.

وذهبت للقائه، فوجدت معه عدلي يكن باشا وزير الخارجية وهما يحلان تلغرافًا بالشفرة من زميلهما محمد محب باشا، وكان وقتئذ بصحبة الخديو عباس حلمي باستامبول، فقال لي رشدي باشا: إن إنجلترا قد دخلت الحرب، وقد كتبنا هذا بإعلان الأحكام العرفية في البلاد.

وسلمني إعلانًا، فقلت له: أتدخل الحرب مجانًا يا باشا؟!

قال: بل احترزنا مما تخاف، بأن قلنا: «نظرًا للاحتلال الفعلي لإنجلترا في مصر.»

فقلت له: أخشى أن يقول الناس: إن هذه سذاجة سياسية. فإذا كانت إنجلترا تريد أن تجرنا معها إلى هذه الحرب، فلتعترف لنا أولًا بالاستقلال!

قال رشدي: لم يفت وقت ذلك!

واتفقنا نحن الثلاثة على السعي لتعترف إنجلترا باستقلالنا، ونكفل لها مصالحها إلى حد أن نعاونها بدخولنا معها الحرب إذا كان هذا ضروريًّا.

وقد كان أكثر رجال الوكالة البريطانية وقتئذ في أوربا بالإجازة، ثم كان «سير ريجنلد ونجت» أول من حضر منهم، فكلمه رشدي باشا في ذلك، وصارحه بأن مصر مستعدة لمناصرة بريطانيا العظمى بشرط أن تعترف باستقلالنا، فارتاع «ونجت» لهذه الفكرة ووعد بأن يعرض الأمر على حكومته، ثم جاء بعد ذلك مستشار الداخلية «سير جراهام» فلقيته وقلت له: إن مركزنا الآن دقيق، فنحن تابعون لتركيا، وهي ستدخل الحرب مع ألمانيا وأنتم محتلون بلدنا الذي أعلنت حكومته الحكم العرفي تضامنًا معكم، فلا بد لنا من تنظيم هذه الحالة، ولست أرى طريقًا لذلك إلا أن نعلن استقلالنا وننصب الخديو ملكًا علينا، وأنتم تعترفون بذلك.

فقال: تركيا لن تدخل الحرب، وعندنا على ذلك ضمانات.

قلت: إن لم يكن دخول تركيا الحرب راجحًا، أفلا يكون محتملًا؟

قال: كل شيء محتمل!

قلت: إذن ماذا يكون؟

فلما ألححت عليه في الاستدلال على ضرورة دخول تركيا الحرب وسوء مركزنا في ذلك الوقت، قال: يا صاحبي نحن نعرفكم كما تعرفون أنفسكم؛ فحين ظهور أول طربوش تركي من القنال تتركوننا وتجرون وراءه!

وانقطع الحديث عند ذلك فأخبرت رشدي باشا بما حدث، فقال لي: إنه كلمه كذلك فلم ينل منه طائلًا!

وحدث أن دعا رشدي باشا سير «ستورس» السكرتير الشرقي للوكالة البريطانية؛ ليتغدى معه بالكونتننتال، وعلم بذلك محمد محمود باشا، فدعاني أن أتغدى معهم إلى جانبهم؛ كي نعلم بعد الغداء من رشدي باشا ماذا دار بينهم، ولما انتهينا قال لنا رشدي باشا: إن ستورس يؤيد فكرتنا كالسير ريجلند ونجت، ووعدني بأنه سيخابر أباه العضو في البرلمان البريطاني؛ ليثير هذه المسألة عند الحكومة البريطانية.

(٣) كسرت قلمي

وكنت وقتئذ أتردد على عدلي باشا؛ لأعرف إلى أي حد وصلت مسألتنا، وذات يوم ألفيت به فوجدته متشائمًا، وبادرني بقوله: ليس عندي أمل في نجاحنا!

فخرجت من عنده مكتئبًا كاسف البال، وزارني بعد أيام نجيب باشا غالي وكيل الخارجية في ذلك الحين، فسألني قائلًا: ما هو الأمر الذي تتردد من أجله على عدلي باشا؟

فأفضيت له بما عندي، وقلت: «إن الأمر قد انتهى بالفشل، ولهذا سأكسر قلمي، وأذهب إلى بلدي، وأعتزل السياسة.»

وفي اليوم التالي كلمني ستورس بالتليفون، وقال لي: لا تيأس!

ثم كلمني بعد دقائق نجيب غالي باشا يدعوني إلى العشاء عنده أنا وستورس — وكان اللورد كتشنر قد عين وزيرًا — فقلت لنجيب باشا: إني أقبل الدعوة بشرط أن يحضر معنا عدلي باشا فأجابني إلى ذلك، واجتمعنا نحن الأربعة في بيت نجيب باشا وحدثنا ستورس حتى ظننا أن النجاح في متناول يدنا، فوضعنا في بيت نجيب باشا صورة المعاهدة بيننا وبين بريطانيا العظمى تتضمن اعترافها باستقلالنا واعترافنا بمصالحها في مصر وفي قنال السويس.

كل ذلك في شهر أغسطس سنة ١٩١٤ وكان الأمل يحدونا جميعًا.

ذهبت بعد أيام قلائل إلى عدلي باشا بديوان الخارجية فوجدته قد يئس نهائيًّا من تحقيق مطلبنا، فخرجت من عنده وأنا مصمم على اعتزال السياسة، ثم قدمت استقالتي من رئاسة «الجريدة» لرئيسها محمود سليمان باشا، وسافرت إلى بلدتي «برقين»، وكان هذا آخر عهدي بالعمل الصحفي.

عدت موظفًا في الحكومة

ما كادت تمضي على إقامتى في برقين مدة طويلة حتى عزل الخديو عباس، وأعلنت الحماية على مصر، ونصب الأمير حسين كامل سلطانًا عليها.

وشاع بعد ذلك في البيئات السياسية في مصر أن تركيا حكمت بالإعدام على السلطان حسين وأعضاء وزارة رشدي باشا، باعتبار أنهم قبلوا الحماية، وعليَّ أنا أيضًا باعتبار أني أثرت حركة سنة ١٩١١ ضد الأتراك!

وفي سنة ١٩١٥ كنت بالقاهرة، فجاءني أبي من «برقين» مذعورًا وهو يقول: إنه قد أشيع عندنا أن سعد زغلول باشا قبض عليه، فخشي أن يكون قد قبض علي أيضًا ثم ذهبت معه إلى بيت علي شعراوي باشا، فقال لي شعراوي: «إن ستورس سألني عنك، وسأل هل جففت دموعك من يوم إعلان الحماية على مصر أم لا؟» ثم قال لي: «إن السلطان حسين يرغب في أن تدخل وظائف الحكومة.»

كل هذه الظروف جعلت أبي يستحثني على أن أقبل الدخول في الحكومة حتى لا يقبض الإنجليز عليَّ، فقبلت ذلك؛ إرضاءً لوالدي رحمه الله، وعينت رئيسًا لنيابة بني سويف؛ ليمكن ترشيحي قاضيًا بالاستئناف، ولم ألبث في بني سويف غير أشهر، وأرسل إلي عدلي باشا بأن أحضر إلى الإسكندرية، ولما حضرت أخبرني أن السلطان حسين مصمم على أن أكون مديرًا لدار الكتب المصرية خلفًا للدكتور شادة المدير الألماني، فقبلت ذلك.

لماذا ترجمت أرسطو؟

نشأت من الصغر ميالًا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، وقد لفت نظري في أرسطو أنه أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرًا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوربية؛ فقد عمد رجال هذه النهضة إلى درس فلسفة أرسطو على نصوصها الأصلية، فكانت مفتاحًا للتفكير العصري الذي أخرج كثيرًا من المذاهب الفلسفية الحديثة.

ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة أرسطو، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقًا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاءَ أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.

وفي الحق إن أرسطو لم يكن كغيره معلمًا في نوع خاص من العلوم دون سواه، بل هو معلم في الفلسفة، معلم في السياسة والاجتماع، فهو كما لقبه العرب بحق «المعلم الأول» على الإطلاق، وكما وصفه دانتي في جحيمه «معلم الذين يعلمون».

وقد ترجمت في سنة ١٩٢٤ عنه «كتاب الأخلاق»، وهذا الكتاب يعد مقدمة لكتاب السياسة، بل إن جانبًا كبيرًا منه يمهد لموضوع كتاب السياسة، فأردت أن أترجمه؛ ليستفيد منه قراء العربية.

•••

أما القواعد التي وضعها أرسطو لعلم السياسة فما زالت هي القواعد السائدة بين الساسة، وهي القواعد التي يدرسها الآن طلبة العلوم السياسية في الجامعات، ونحن نسمع الآن كلمات الأتوقراطية والديمقراطية، والدكتاتورية، وهي كلها من تعبيرات أرسطو وابتداعه.

وقد قال أوغست كونت: «الواجب عليَّ أن أنوه باسم أرسطو العظيم؛ فإن سياسته الخالدة هي بلا شك إحدى النتائج الباهرة للزمن القديم، على أنها إلى هذا الوقت هي المنوال الذي نسجت عليه أكثر الأعمال التي جاءت بعدها في هذا الموضوع.»

والسياسة عند أرسطو هي أشرف العلوم؛ لأنه يعرفها بأنها تدبير المدينة؛ ليكون سكانها فضلاء، ومن هذا التعريف ترجع إلى السياسة سائر العلوم، أو كما قال أرسطو: إن السياسة تبين ما هي العلوم الضرورية لحياة الممالك، وما هي العلوم التي يجب أن يتعلمها السكان، والى أي حد ينبغي أن يعلموها.

أول مجمع للغة العربية

في نحو سنة ١٩١٦ دعاني المرحوم إسماعيل عاصم المحامي مع عدلي باشا ورشدي باشا والأستاذ يعقوب صروف وآخرين في بيته وتحدثنا عنده في ضرورة إيجاد مجمع للغة العربية لا يكون تابعًا لوزارة المعارف، ولكنها تأويه في دار الكتب المصرية، وتمده بمساعدة عمالها وموظفيها في أعماله الكتابية، ودعوت حفني بك ناصف وعاطف باشا بركات، ووضعنا قانونًا للمجمع، وألفناه برياسة الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر، وكنت أنا سكرتير المجمع، وأذكر من أعضائه الشيخ محمد بخيت، والشيخ عبد الرحمن قراعة، وعاطف باشا بركات، والأستاذ يعقوب صروف، وحفني ناصف بك، والشيخ الإسكندري وحلمي عيسى باشا، ومن ألطف ما أذكره عن هذا المجمع أننا مكثنا سنة كاملة نتناقش في جواز التعريب!

وقد انطوى هذا المجمع ولم يعمر طويلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤