الفصل الثاني عشر

في ثورة سنة ١٩١٩

(١) لماذا طلبنا الاستقلال التام

في سنة ١٩١٩ نهضنا نطالب بالاستقلال التام، وقبل ذلك بزمن بعيد طلبناه ودعونا إليه؛ طلبناه على طرق متنوعة، وبصنوف مختلفة، طلبناه من فرنسا، ومن إنجلترا، ومن السلطة الشرعية، طلبناه بأقلام الكتاب، وبألسنة الزعماء.

طلبنا الاستقلال التام؛ لأن الحرية هي الغذاء الضروري لحياتنا، ولو كنا نعيش بالخبز والماء، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا، ومن أجله نحب الحياة ليس هو شبع البطون الجائعة، بل إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.

إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئًا كثيرًا، إنما نطلب ألا نموت، ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلا الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرمًا من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة.

لست أعجب من الذي يستهين بحياة الرجل، فيستعجل عليه القدر المحتوم، ولكني أعجب من الذي يبالغ في الرحمة بالإنسان فيريد له الحياة شبعانَ ريَّانَ معطلَ الحرية، قد ضرب بين عقله وبين الأشياء والمعاني بحجاب فلا يتناولها، وحيل بين مشاعره وبين موضوعات غذائها، فلا تتحرك بل تموت.

أعجب من الذي يظن الحياة شيئًا والحرية شيئًا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية، هي المقوم الأول للحياة، ولا حياةَ إلا بالحرية.

أجل، إن المرء يحفظ حرية الفكر، وحرية المشاعر، أي يحفظ حرية الطبيعة حتى في غيابه في السجن، يحفظها في كل حال هو عليها ما دامت روحه في جسده، إنه خلق حرًّا، حر الإرادة، حر الاختيار بين الفعل والترك، حرًّا في كل شيء حتى في أن يعيش وفي أن يموت متى قدر له.

لا فائدة من حرية معطلة

إن هذه الحرية الطبيعية لا فائدة منها إذا تعطلت من آثارها، فالذي سجن، والذي منع الكلام، والذي منع الكتابة؛ كل أولئك يحفظون حريتهم في نفوسهم، ولكنهم فقدوا الانتفاع بها؛ أي فقدوا بذلك الحرية المدنية.

لا أريد بذلك أن أتصدى للتعريفات الاصطلاحية لأنواع الحرية، ولكن جرنا إليه التدليل على أن الحرية المعطلة عن الاستعمال هي في حكم المفقودة، وأن الحرية الطبيعية الملازمة للإنسان لا يصح أن تسمى حرية إلا إذا كان ميسرًا له استعمالها، رأيت أن المرء يرى الطريق بعينيه المكتوفتين، لكن العين المعصوبة واليد الموثوقة كلتاهما في حكم المعدومة، إنما يكون المرء حرًّا بمقدار ما لديه من وسائل استعمال هذه الحرية، وإنما يكون حيًّا بمقدار ما حاز من الاستمتاع بالحرية، فالحرية الناقصة حياة ناقصة، وفقدان الحرية هو الموت؛ لأن الحرية هي معنى الحياة.

طبعنا على حب الكمال

طبعنا على حب الكمال في حياتنا ومعاداة كل العوارض التي تعرض لنا في طريق المثل الأعلى للمعيشة المستكملة وسائل الحرية وآثارها، ولا خيرة لنا فيما طبعنا عليه، وسواء أكان هذا الشوق الطبيعي إلى حياة الحرية مصدر سعادة أم مصدر شقاء، فإنه على كل حال نار تتأجج بين ضلوع الحي لا تبرد أو تصل به إلى المرغوب، أجل، إن المثل الأعلى ليس نقطة ثابتة، ولا غرضًا محدود المسافة يمكن بلوغه، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى على بعد مرمى النظر لسنا بالغيه ولا منصرفين عن التشبث بتركه، بل تسوقنا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر عن قضائها، ولو كلفنا أن نركب متن التعسف!!

ولهذا يستغلق علينا فهم الأباطيل القديمة التي كانت الغطرسة الجنسية تأخذ بها الكتاب؛ ليسقطوا في هاوية التناقض.

يقولون: إن بعض الناس خلق للسيادة أبدًا، وبعضهم خلق للعبودية أبدًا، ولا نزال نرى هذا خطأ يتردد في آراء الساسة المستعمرين على صورة أقل شناعة، وبعبارة أكثر ائتلافًا مع مدنيتنا الحديثة، يضعون أصابعهم في أعينهم؛ إذ تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هي هذه الجزئية: «بعض الإنسان لا إنسان.»

كذبت فلسفتهم

كذبت فلسفتهم، وصدق الذي يشعر به كل إنسان منا في نفسه من الميل إلى الرقي في كل شيء، وإلى الحرية قبل كل شيء، صدق هذا الأثر الذي نجده في طليق الأسير أو السجين يوم إطلاقه، وفي محاولة المعقول أن ينشط من عقاله، صدق ذلك الألم الذي يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها، فتظل تجول في نفسه، ويغلي في صدره حب أبدانها، ويقلق ذلك خاطره، ويكد ضميره، ويحتوي على كل مشاعره، حتى يفضل الموت في إرضاء هذا الحب على الحياة في كتمانه، وكم من عالم استحب الموت على الحياة في سبيل حبه لحريته العلمية، فمنهم من قتل، ومنهم من أحرق، ومنهم من حبس أو عذب، وجلهم من تلك الأمم التي يقولون: إنها خلقت لغير السيادة. فإذا وجدت عبدًا لم يؤثر الحرية على العبودية، ولم يطلب نفسًا بالعتق من الرق، فذلك مثل من الأمثلة النادرة في بني الإنسان، وليس قاعدة يصح الأخذ بها.

إن الذي يراجع الماضي لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية — كما يزعمون — إلا قاتلت عن حريتها، وإذا كان أصدق المعلومات هي تلك المعلومات التي تقدمها لنا المشاهدة الواقعة، فالإنسان — على الرغم من فلسفة المستعمرين — حر بطبعه، ميال إلى الحرية، ميال إلى الارتقاء فيها إلى المثل الأعلى، وفي سهولة الوسائل الموصلة إليه.

الحرية طبيعة

الحرية طبيعة وميل الناس إلى تحصيلها طبيعي بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أن القوي لا يموت جوعًا كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية.

ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأصلي الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان؛ فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة ومن كل قانون ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية والمدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور، ومنا من لا يخشى أن يصرح بأن استقلال الأمة هو الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، فلم يبق علينا للتدرج في مراقي الحرية والتقريب من مثلها الأعلى المتفق عليه بيننا، إلا الوسائل المنتجة؛ فإن إدارة الأمر شيء، والقدرة عليه شيء آخر.

أما القوة فإن طبيعتها تختلف في كل زمان ومكان؛ تبعًا لطبيعة عيشة الأمة واعتقاداتها الدينية وعاداتها وأخلاقها، ونتيجتها تختلف دائمًا باختلاف طبيعة الوسائل التي يمكن استخدامها، وعندنا أن أول مظهر للقوة هي القوى المعنوية، قوة الحرية العلمية؛ فإن الآراء العلمية ليس من شأنها أن تجد من القوة القاهرة — خصوصًا في الأزمان الحاضرة — معارضة تذكر، فإذا استخدم المتعلمون إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية، كان لهم من ذلك مرانة تنفعهم في تربية أخلاق الشعب وتعويده على حرية الرأي والصبر على الأذى الذي ينتج دائمًا عن حرية الرأي؛ سواء أكان من الحكام أم من المحكومين.

إن الذين يبخلون علينا بالقرب من المثل الأعلى من حريتنا التي أتانا الله إياها من فضله، يجدون أمثلة تقصيرنا في إظهار حرية الرأي في العلم وفي السياسة ما يحتجون به في إرادتنا على البقاء على ما نحن عليه، فإذا أحسوا من حريتنا في الآراء العلمية الإرادية قوة لا يقف أمامها استهزاء الجهلاء ولا غضب الكبراء ولا استدرار المنافع الخسيسة، لا يجدون مندوحة من التخلية بيننا وبين طريقنا إلى المثل الأعلى لحريتنا، ومن قصر النظر أن يظن أن هذه القوة المعنوية — قوة التمسك بالحرية والتماسك على نصرتها — غير كافية في تقريبنا من مثلها الأعلى، أقول وأؤكد أنها هي وحدها كافية في إنالتنا طلبتنا، فلنرض نفوسنا على الاستمساك بها ولننتظر النتيجة.

إنَّ تقدُّمَنا في نيل قسطنا الطبيعي من الحرية يستحيل أن يوجد ولو كانت في أيدينا أكبر معدات القوة الوحشية، وكان عددنا أضعاف ما نحن عليه، إذا كنا لا نتخلص من وصمة عبادة الآراء والأفكار من غير تمحيص؛ اعتمادًا على مكانة قائلها، وإذا كنا لا نقطع بأيدينا تلك السلاسل التي قيدت عقولنا والأوهام التي أفسدت علينا الاستفادة من المبادئ الجديدة. إننا إذا جربنا أن نرفع منار الحرية في الميدان الذي لنا فيه حرية العمل وليس لنا فيه مزاحم ولا شريك كان ذلك فاتحة خير لإظهار شيء من القوة الضرورية لظهور الحرية وتأييدها.

(٢) الأصدقاء الخمسة

ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأعلى الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان، وصرنا نمتعض من كل فكرة، ومن كل قانون، ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنيةً، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور وأن الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، هي الاستقلال التام.

لهذا نهضنا نهضة مباركة، وهدفنا هذا الغرض العظيم، وبدأنا نحن الاصدقاء الخمسة: «سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، ومحمد محمود، وأنا»، نفكر في كيفية الاستفادة من المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة، تلك المبادئ الحرة التي تنص في جملتها على أن كل أمة، مهما صغرت، لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.

وفي نوفمبر سنة ١٩١٨ بدأنا نؤلف الوفد المصري، واستقلت من دار الكتب المصرية، وأخذنا نعمل في ذلك الحين على ما جاء في «مذكرات صديقي عبد العزيز فهمي» باشا.١

ولا أستطيع بالضبط أن أروي الآن ما جرت به الحوادث من وقت تأليف الوفد، وإن كنت قد كتبت بها يوميات لكني اضطررت لإحراقها، كما سأقص هنا:

بعد أن نفي إلى مالطة أصحابنا الأربعة: سعد زغلول، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، وحمد الباسل، قامت في البلاد ثورة عنيفه في أوائل سنة ١٩١٩، كانت من الخطر بحيث لم نكن نتوقعها، حتى لقد ألفت في مديرية المنيا جمهورية برياسه الدكتور محمود عبد الرزاق بك الطبيب، وقطعت سكة الحديد بينها وبين القاهرة، وكذلك قيل عن تأليف جمهوريات في بعض مديريات الوجه البحري، فدعتنا نحن أعضاء الوفد الباقين السلطة العسكرية للمثول أمامها في فندق سافوي، وكان بين ضباطها العظام مستر إيموس، فلما مثلنا أمامها وجه القائد العام إلينا الكلام، محملًا إيانا مسئولية الثورة، فكان جوابي على هذه التهمة: «إن الوفد بريء منها، وإن تبعتها تقع على السلطة العسكرية التي نفت أربعة من رجال الوفد المصري بلا ذنب أتوه إلا أن يطالبوا بحرية بلادهم، ثم قابلت المظاهرات البريئة بالمترليوز، فغضب أهالي البلاد لقتل أبنائهم، وقاموا بهذه الحركة، وإني أنصح للسلطة العسكرية أن تستدعي حسين رشدي باشا، أو عدلي يكن باشا، أو ثروت باشا؛ ليؤلف وزراة تعمل على ترضية الأمة ترضية كافية، وبهذا يقضى على الثورة.»

وبعد لقائنا لرجال السلطة العسكرية بأيامٍ قلائلَ، كنت مع صديقي عبد العزيز فهمي مجتمعين في منزل علي شعراوي، فوفد علينا صديقنا الدكتور يوسف نحاس، فقال لنا: «إنه علم عن ثقة أن السلطة العسكرية الإنجليزية ستفتش بيوت أعضاء الوفد الباقين، وتقبض على أربعة منهم لتقتلهم بالرصاص في اليوم التالي، وتصادر أملاكهم.»

على هذا الخبر قمت أنا وعبد العزيز باشا، وركبنا سيارة شعراوي باشا، وأوصلت عبد العزيز إلى منزله بمصر الجديدة، وذهبت إلى بيتي بالمطرية، فأحرقت كل أوراقي السياسية؛ لأنه لم يكن عندي الوقت الكافي لفرزها، وكان من بينها يوميات الوفد التي لم تخلُ صحيفة منها من ذكر رشدي باشا وعدلي وثروت باشا، أحرقتها خوفًا عليهم من أن يصيبهم ما سيصيبنا من عنت واستبداد ونكال.

(٣) ويلسون يوافق على الحماية

جلست بعد حرق هذه الأوراق في مكتبي، أنتظر التفتيش والقبض حتى الصباح، ولكن لم يكن من ذلك شيء، وفي هذا الحين عين المارشال اللنبي معتمدًا بريطانيًّا في مصر، وأعلن أنه يقبل من أي كان ما يراه في أمر وقف الثورة القائمة، وعودة السكينة والسلام إلى البلاد، فأرسل إليه الوفد تقريرًا شرح فيه أسباب الثورة، وعزا حدتها إلى تصرف السلطة العسكرية العنيف، ونصح بتنصيب واحد من الثلاثة المذكورين سالفًا رئيسًا للحكومة، والإفراج عن المنفيين الأربعة، وإعطاء البلاد الترضية الكافية.

وعلى إثر وصول هذا التقرير إليه استدعانا وأخذ يناقشنا، حتى اقتنع بما فيه، فتألفت وزارة برياسة حسين رشدي باشا، وصدر الأمر بالإفراج عن المنفيين، وأبيح لنا السفر إلى إنجلترا على باخرة عسكرية إنجليزية، ذهبت بنا إلى مالطة، فاصطحبنا زملاءنا: سعدًا، ومحمد محمود، وصدقي، وحمد الباسل، حتى إذا ما وصلنا إلى مرسيليا جاءنا تلغراف بأن مستر ويلسون رئيس الولايات المتحدة قد وافق على الحماية الإنجليزية على مصر، فكانت صدمة قوية من هذا الذي نادى بحرية الشعوب، وأعلن مبادئه الحرة التي قوبلت في العالم أجمع بالغبطة والإعجاب، وبخاصة عند الشعوب المهضومة.

في مؤتمر السلام

ذهبنا إلى باريس، وتقدمان لمؤتمر السلام، فأغلق أبوابه أمامنا، وقابلنا أعضاؤه على النحو الذي أيأسنا منه، ووصفه صديقي عبد العزيز فهمي باشا في مذكراته.

ولما وقع الخلاف بين سعد وعدلي على رياسة المفاوضات، وانتقل الأمر إلى خصومة كان مظهرها التلاحي، اعتزلت السياسة، ثم عرض علي أن أرجع لدار الكتب المصرية، فرجعت إليها، وأخذت أشتغل بها وبترجمتي لمؤلفات أرسطو، وبالجامعة المصرية القديمة التي كان رشدي باشا رئيسًا لها، وكنت وكيلًا لها.

وأذكر أني في سنة ١٩٢٢ وضعت منهاجًا لهذه الجامعة باعتبارها كلية للآداب، وقابلت الملك فؤاد، وعرضت عليه هذا المنهاج، وطلبت أن تجعل الحكومة شهادتها كشهادات المدارس العليا، ما دام منهاجًا يقضي بموافقة الحكومة عليه وتمثيلها في الامتحانات، فكان جواب الملك فؤاد: «إن الحكومة عازمة على إنشاء جامعة، فيمكن اعتبار الجامعة القديمة كلية آداب فيها.» فاغتبطت بذلك وجمعنا مجلس إدارة الجامعة العمومية؛ ليوكل رشدي باشا في التعاقد مع الحكومة بشروط وضعت لتحقيق هذا الانضمام.

هوامش

(١) هذه المذكرات صفحات نفيسة من الثورة الوطنية في مصر، لا غنى لقارئ تاريخ مصر عن قراءتها، وسننشرها قريبًا في سلسلة كتاب الهلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤