الفصل الرابع عشر

من الوزارة إلى المجمع اللغوي!

(١) كيف دخلت الوزارة

لما أسند الملك فؤاد الأول إلى محمد محمود باشا أَمْرَ تأليفِ الوزارة في يونيو سنة ١٩٢٨ دعاني وقتئذٍ إلى الاشتراك معه في الحكم، فاعتذرت له؛ مؤثرًا العمل كمدير للجامعة بعيدًا عن السياسة ومشاكلها، فقال لي رحمه الله: وهل يرضيك يا صديقي أن تتركنى وحدي؟! فمست هذه العبارة شعوري، وقبلت الاشتراك معه في الوزارة، وكان من حظي أن أتولى وزارة المعارف، وهي الوزارة التي تتفق وميولي الشخصية وما أهدف إليه من خدمة الأمة عن طريق العلم والتربية والتعليم، طريق الحرية والاستقلال، فإن التعليم هو الأساس الذي يبنى عليه تحقيق الأطماع القومية، ولو أن العظمة القومية التي تبغيها مصر تنال بالجهل، وبتفكك الروابط القومية الدالة على عدم التربية، لكان ذنبًا علينا أن نفكر في حال التعليم والأخلاق عندنا، ولا جدال في أن العلم ضروري لتقدمنا بل هو ضروري لحياتنا الحاضرة، وأنه هو السلاح الوحيد الصالح للانتصار في معترك الحياة للفرد، والعامل الوحيد للاكتشافات والاختراعات وقوام هذه المدنية الحديثة، كما أن تربية الأخلاق هي أساس قوة الأمم.

وقد قال جوستاف لوبون:

إن الرومانيين في زمن انحطاطهم كانوا أشد ذكاء من أجدادهم الأشداء، ولكنهم فقدوا الخواص الأخلاقية؛ كالصبر، والعزيمة، والثبات، والاستعداد لتضحية النفس في سبيل الغاية، والاحتفاظ باحترام القوانين، تلك الخواص الأخلاقية كانت هي سر عظمة آبائهم الأولين.

بعد ذلك أعود، فأقول: إن وزارة المعارف حين أُسندت إلي ارتحت للعمل فيها، لما قدمت؛ فقد اهتممت أول ما اهتممت بتطبيق اللامركزية، وقسمنا العمل فيها باعتبار أن الوزير رجل سياسي، لا يشتغل إلا بالمشروعات الجديدة وتطبيق سياسة الوزارة، وليس له معرفة بموظفي الديوان، فأمرهم ينبغي أن يتعلق بوكيل الوزارة وشهادات المراقبين.

(٢) العودة للجامعة

لم أستمر طويلًا في وزارة المعارف؛ لأن وزارة محمد محمود باشا لم يزد عمرها عن خمسة عشر شهرًا وبضعة أيام؛ إذ تألفت في ٢٥ يونيو سنة ١٩٢٨ واستقالت في ٢ أكتوبر سنة ١٩٢٩ بعد عودة رئيسها من مفاوضاته بلندن مع مستر هندرسون، وقد اعتكفت بين كتبي وأوراقي حتى كانت أوائل سنة ١٩٣٠ حين استدعيت للعودة مديرًا للجامعة، فارتحت لاستئناف نشاطي بين أبنائي شباب الجامعة، وبين زملائي أساتذتها، واغتبطت كل الاغتباط؛ لأني أمضيت عهدًا غير قصير في العمل الجامعي، وألفت هذه البيئة الجامعية التي تقوم على الإخلاص للعلم والتضحية في خدمته، والاستقلال في الرأي والفكر والعمل.

وأقول: الاستقلال؛ لأن أساس التعليم الجامعي حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، ولأن التربية الجامعية قوامها حرية العمل والبعد عن التأثيرات الحكومية، وتأثيرات البيئات العامية، وعن تأثيرات البيئات السياسية المختلفة.

(٣) استقالتي من الجامعة

وقد حرصت منذ توليت منصب مدير الجامعة على أن تكون بعيدة عن هذه التأثيرات، وأن يكون استقلالها محل الاحترام والقداسة، ولكن حدث في مارس سنة ١٩٣٢ أن اعتدت وزارة المعارف على هذا الاستقلال، فنقلت الدكتور طه حسين من عمادته بكلية الآداب إلى إحدى الوظائف بديوان الوزارة دون أخذ رأي الجامعة، وإن لم تكن الوزارة في ذلك قد جاوزت حدود القانون الجاري العمل به إلا أنها جاوزت حدود التقاليد الجامعية، فغضبت لهذا الاعتداء على هذه التقاليد، وقابلت دولة رئيس الوزراء في ذلك الحين إسماعيل صدقي باشا، وشرحت له هذا الموقف الذي يتنافى مع التقاليد الجامعية، ويسيء إلى الجامعة وقلت له: إن الجامعة لا تستغني عن طه حسين، واقترحت عليه — تلافيًا للضرر، واحترامًا لرأي الوزير حلمي عيسى باشا — أن يرجع الدكتور طه بك أستاذًا بكلية الآداب لا عميدًا، وقد وافقني رئيس الوزارة على اقتراحي، وفي اليوم التالي علمت برفض اقتراحي، وتنفيذ رأي الوزير، فلم أذهب إلى الجامعة، وحررت استقالتي وبعثت بها إلى وزير المعارف العمومية في هذا الكتاب التالي:

هليوبوليس ٩ مارس سنة ١٩٣٢
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية
سيدي الوزير

أتشرف بإخبار معاليكم أني أسفت لنقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف؛ لأن هذا الأستاذ لا يستطاع — فيما أعلم — أن يعوض الآن على الأقل، لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور، ولا من جهة هذه البيئة التي خلقها حوله وبث فيها روح البحث الأدبي وهدى إلى طرائقه، ثم أسفت لأن الدكتور طه حسين أستاذ في كلية الآداب تنفيذًا لعقد تم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف، وعلى الأخص لأن نقله على هذه الصورة بدون رضا الجامعة ولا استشارتها — كما جرت عليه التقاليد المطردة منذ نشأة الجامعة فيما أعرف — كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضرورييْن لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شك يفوت عليَّ أجلِّ غرض قصدت إليه من خدمة الجامعة.

من أجل ذلك قصدت يوم الجمعة الماضي إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، واستعنته على هذا الحادث الجامعي الخطير، واقترحت على دولته — تلافيًا للضرر من ناحية، واحترامًا لقرار الوزير من ناحية أخرى — أن يرجع الدكتور طه حسين إلى الجامعة أستاذًا لا عميدًا، خصوصًا أنه هو نفسه ألح علي في أن يتخلى عن العمادة منذ شهر فلم أقبل، فتقبل دولة الرئيس هذا الاقتراح بقَبول حسن، وأكد لي أنه سيشتغل بهذه المسألة منذ الغد، فاشتغل بها إلى أن علمت الآن أن اقتراحي غير مقبول، وأن قرار النقل نافذ بجملته وعلى إطلاقه.

ومن حيث إني لا أستطيع أن أقر الوزارة على هذا التصرف الذي أخشى أن يكون سنة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها، أتشرف بأن أقدم بهذا إلى معاليكم استقالتي من وظيفتي، أرجو قبولها، كما أرجو أن تتقبلوا شكري على ما أبديتم من حسن المجاملة الشخصية مدة اشتراكنا في العمل، وأن تتقبلوا فائق احترامي.

ثلاث مخالفات

هذا هو خطاب استقالتي، وهو يدل على أن وزارة المعارف ارتكبت في حادث نقل الدكتور طه حسين ثلاث مخالفات

  • الأولى: خاصة باستقلال الجامعة
  • والثانية: خاصة بمصلحة التعليم الجامعي وحرمانه من هذا الأستاذ النابغ
  • والثالثة: خاصة بالعقد الذي أبرم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف حين نقلها إلى الجامعة الجديدة، وقد اشترط في هذا العقد أن يكون الدكتور طه حسين أستاذًا بكلية الآداب.

قُبلت استقالتي، ومكثت بعيدًا عن الجامعة حتى أبريل سنة ١٩٣٥ حين جاء نجيب الهلالي باشا وزيرًا للمعارف في وزارة محمد نسيم باشا الثانية، فجاءني وطلب إليَّ العودة إلى الجامعة، فاشترطت أن يعدل قانونها بحيث ينص فيه على أنه لا ينقل أستاذ منها إلا بعد موافقة «مجلس الجامعة»، وقد بَرَّ نجيب باشا بوعده، وطلب تعديل القانون، وعدل فعلًا.

وفي تلك السنة طلبت أن يضم إلى الجامعة بعض الكليات فضمت كلية الهندسة، وكلية التجارة، وكلية الزراعة، وكلية الطب البيطري.

مكثت مديرًا حتى أوائل أكتوبر سنة ١٩٣٧، وفي ذلك الحين اشتد الخصام بين طلبة الجامعة على المسائل الحزبية؛ لأن الأحزاب كانت تتصل بهم اتصالًا يضر بالإخاء الجامعي، ويسقط قيمة الشمائل الجامعية، فطلبت من وزارة الداخلية تعيين كونستبلات لحفظ النظام؛ لأن البوليس لا يجوز له أن يدخل الحرم الجامعي، فلم تجب الداخلية طلبي؛ لذلك استقلت للمرة الثانية.

وبعد ثلاثة أشهر — أي في ٣١ ديسمبر من تلك السنة — تألفت وزارة محمد محمود باشا الكبرى، وقد اشتركت فيها جميع الهيئات السياسية ما عدا الوفد، والهيئة السعدية، وكنت وزير دولة في هذه الوزارة، ثم أجريت الانتخابات، وكلف محمد محمود باشا مرة ثانية بتأليف الوزارة، فكنت بها أيضًا وزير دولة، ثم وزيرًا للداخلية بضعة أشهر، ثم ظهر لي أن المصلحة السياسية تقضي باشتراك الهيئة السعدية في الوزارة، فعرضت هذا العرض على خشبة باشا، وأصررت على أن أخرج من الوزارة لأفسح الطريق لغيري من السعديين.

ودعت الجامعة سنة ١٩٤١

وبعد ذلك بقليل زارني الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في ذلك الحين، وطلب إلي الرجوع إلى الجامعة، فاعتذرت، ثم جاءني مرة ثانية من قبل محمد محمود باشا، وألح علي ورجاني أن أضع شروطي، فقلت: لا شروط لي إلا أن يبتعد رجال الحكومة عن الاتصال بالطلبة؛ لأن اتصالهم بهم كان يفضي دائمًا — كما ذكرت — إلى فقدان الإخاء الجامعي بينهم، وذلك من أضر الأشياء على التربية الجامعية.

فأجابوني لطلبي، وقبلت الرجوع إلى الجامعة، ولكن لم يمضِ قليل حتى أخبرني أحد الوزراء أن الطلبة متصلون بوزراء الأحرار الدستوريين فقدمت استقالتي لمحمد محمود باشا، فاعتذر، وأكد لي أنه لا يعلم ذلك وأنه سيصدر أمرًا مشددًا بعدم اتصال الطلبة بالوزراء لأغراض سياسية، فبقيت في الجامعة إلى سنة ١٩٤١؛ إذ عرض عليَّ رئيس الحكومة وقتئذ حسين سري باشا أن أكون عضوًا في مجلس الشيوخ، فقبلت ذلك؛ لأني أحسست بأني محتاج إلى الراحة بعض الشيء من أعمال الجامعة بعد أن خدمتها في عهدها القديم وعهدها الجديد زمنًا طويلًا، ثم توليت بعد ذلك رياسة «مجمع اللغة العربية» ومكثت فيه مع رجال أحبهم، وهم رجال اللغة والعلم والأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤