لمحة تاريخية

(١) ديار العرب

إذا قيل ديار العرب تبادرت إلى الذهن خيالات جزيرتهم الصحراوية العارية، مع أنه كان لقوم منهم مواطن في الربوع الشامية والعراقية، إلا أن هذه المواطن — على جمالها وتحضر بعضها — لم تكن إلا غديرًا من غدران الجزيرة، وطللًا من أطلال البادية. فالجزيرة مهد العروبة الخالصة، وكل عربي صحيح النِّجار يعتزي إليها، وإن شطَّت به الدار عنها.

وسُميت جزيرة من قبيل التوسع؛ لأن البحر لا يكتنفها إلا من ثلاث نواحيها: من الغرب البحر الأحمر؛ ومن الشرق بحر فارس أو خليج العجم؛ ومن الجنوب المحيط الهندي؛ وأما الشمال فمتصل بأرض الشام والعراق.

والجزيرة خمسة أقسام: الأول: اليمن في الجنوب، ويقال لها الخضراء؛ لما فيها من المزارع والأشجار والمراعي والمياه، وهي خمسة أصقاع: حَضْرَمَوْت، وَمَهْرَة، والشِّحْر، وعُمَان، ونَجْران، ومدنها الشهيرة: صَنْعاء، وكانت سرير ملوك اليمن، وفيها قصر غُمْدان؛ ومأرِب، ويقال لها سَبَأ، وفيها العَرِم؛ وزَبيد، وعَدَن، وظفَار قاعدة بلاد الشِّحْر.

والقسم الثاني: العروض، وتشمل البحرين واليمامة، سُمِّيت كذلك لاعتراضها بين اليمن ونجد.

والقسم الثالث: تِهامة، على شاطئ البحر الأحمر، بين اليمن والحجاز، وفيها طريق القوافل إلى الشام، ومن مدنها مكة، وفيها البيت، والكعبة، وغار حِراء.

والقسم الرابع: الحجاز، بين نجد وتهامة، أشهر مدنه يثرب (مدينة الرسول)، والطائف، وخَيْبَر، وفيه سوق عُكاظ، وماء بدر.

والقسم الخامس: نجد، بين العراق شرقًا، وبادية الشام شمالًا، والحجاز غربًا، واليمامة جنوبًا: صقع مرتفع، طيِّب الهواء، يلهج بذكره الشعراء، وفيه أرض العالية التي كان يحميها كليب.

وفي الجزيرة جبال وأودية، وصحراوات، وحَرَّات. فمن جبالها أجأ وسلمى، في جنوبي بادية السماوة، وهما منازل لبني طيِّئ؛ وَرَضْوَى بالقرب من يَنْبُع، وأُحُد في شمالي يثرب، وأبو قُبَيْس في شرقي مكة، وأبان الأبيض في شمالي وادي الرُّمة. ومن أوديتها وادي القُرى بالقرب من يثرب، ووادي الرُّمة بعالية نجد، ومن صحراواتها بادية السماوة، رمال وُعْس شاقَّة السير، قليلة الماء والكلأ؛ والدهناء، سبعة أجْبُل من الرمل بين يَبْرين وفَيْد،١ كثيرة الكلأ على قلة ماء. قال ياقوت: «إذا أخصبت الدهناء، ربَّعت العرب جمعاء.» ورمال الأحقاف بأرض اليمن بين عمان وحضرموت، ومن حرَّاتها: حَرة سُلَيم في عالية نجد، وحرة واقم شرقي يثرب، وفيها كان يوم الحرة في خلافة يزيد بن معاوية.

وهواء الجزيرة يختلف باختلاف ارتفاعها وانبساطها؛ ففي الجبال وعلى شاطئ البحر الجنوبي ينسم معتدلًا؛ وفي السهول يلفح حارًّا؛ وتهب ريح محرقة من الجنوب والغرب تعرف بالسَّموم.

ويهطل المطر شرقي اليمن في أوانه، وشماليِّها من حزيران إلى تشرين الثاني، وتكثر الأمطار في حضرموت أيام الربيع، وأما الأقاليم الشمالية فقليلة المطر، قليلة المياه، لا تنبت العشب ولا الشجر إلا في بعض الأماكن، وأكثر شجرها شائك لظمئه إلى الماء، ويشتدُّ البرد إذا احتبس المطر، وثارت الريح من ناحية الشآم،٢ ريح الشمال، فإذا أقلعت خفَّ القُرُّ، وسال الوادي، فتفيض الغدران، وتبشر الأرض الصالحة بربيع قريب.

(١-١) مراجع

  • ياقوت: معجم البلدان.

  • الألوسي: بلوغ الأرب.

  • نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.

  • Henri Lammens. Le berceau de l’lslam.

(٢) الجيل العربي

يرى جمهرة المؤرِّخين أن الشعوب الساميَّة، أي التي تحدرت من سام بن نوح، هم: الأشوريون والبابليُّون والعبرانيون والفينيقيون والآراميون والحبشان والعرب.٣ ويقال إن هذه الشعوب كانت في عهدها الأول تستوطن أرضًا واحدة، اختلف المؤرخون فيها، فزعم بعضهم أنها شطوط الفرات، وآخرون أنها بادية العرب، وقال غيرهم إنها أرمينية، ومنهم من رأى أنها الحبش. فلمَّا تكاثروا وضاقت بهم أرضهم، شتَّت الدهر شملهم فتفرَّقوا وتشعَّبوا، وتفرعت لغتهم إلى لهجات مختلفة باختلاف الديار والأمصار.
واتخذ العرب أرضَ الجزيرة موطنًا لهم يعيشون فيها بدوًا يألفون الخيام، وحضرًا يعمرون المدائن والقرى؛ وكان معظم البدو في الشمال، ومعظم الحضر في الجنوب، ومنهم من نزل بأطراف الشام والعراق. ويقسم العرب إلى بائدة وعرباء٤ ومستعربة؛ فأما البائدة فأصلها مجهول، وأما العرباء فهي القحطانية، وأما المستعربة فهي العدنانية.

(٢-١) العرب البائدة

المراد بالعرب البائدة القبائل التي محتها الحروب كطَسْم وجَديس، أو أهلكها الله بغضب منه كعاد وثمود. ولا نعلم عن هذه القبائل إلا أخبارًا موجزة ذكرها القرآن، وأساطير مستملحة وشَّاها الرواة: منها أن طسمًا كانت تسكن البحرين، وأن جديسًا كانت تسكن اليمامة، وكان على طسم ملك غاشم يقال له عملاق، فغلب على جديس، واستبدَّ بها، وهتك حرمة نسائها. فثارت جديس على طسم، وبطشت بها وهي غافلة في وليمة أهدتها إليها، ونجا طسمي فلجأ إلى اليمن واستغاث تُبَّع حسان، فأمدَّه بجيش من قحطان فأفنى جديسًا.

ومنها أن عادًا كانت تسكن حضرموت، فبغت في الأرض وعبدت الأصنام؛ فبعث الله إليهم نبيًّا اسمه هود ليصلح فسادهم، فكذَّبوه، فدعا عليهم، فاحتبس المطر عنهم ثلاث سنوات، وأمحلت الأرض، فأوفدوا إلى مكة نفرًا يستسقون لهم، فأرسل الله عليهم ريحًا عاتية فلم تبقِ منهم أحدًا.

ومنها أن ثمود كانت تسكن الحِجْر من وادي القرى، فسخرت بنبيها صالح، وأبت أن تطيعه أو يصنع لها معجزة. فأخرج من الصخر ناقة وفصيلها، وأوصاهم ألَّا يمسوها بسوء، فاجترأ أحدهم — قُدار الأحمر — وعقرها؛ فغضب الله على ثمود كما غضب على عاد، فأبادهم بالزلزال، وضرب المثل بشؤم عاقر الناقة؛ أحمر ثمود.

ولم تخلُ أساطير العرب البائدة من الشعر، ولكنه منحول وضعه الرواة تزيينًا لأقاصيصهم فما يصحُّ التعويل عليه.

(٢-٢) العرب القحطانيَّة

نزلت العرب القحطانية في الجنوب، واتخذت اليمن موطنًا لها. وقيل إن أول من نزلها يَعرُب بن قحطان وأولاده، وتزعم الرواية العربية أنه أول من نطق باللسان العربي، وأول من جُعلت له التحايا الملوكية. قال حسان بن ثابت:

تعلَّمتُمُ من مَنطِقِ الشيخ يَعرُبٍ
أَبِينا، فصِرْتُم مُعربين ذوي نَفْرِ٥
وكنتم قديمًا ما لكم غيرَ عُجمةٍ
كلامٌ. وكنتم كالبهائمِ في القَفْرِ
واشتهر بعد يعرب حفيده عبد شمس سبأ، مؤسس المملكة السبئية، وباني السد العظيم٦ على بضعة أميال من قاعدتها مأرب توفيرًا للري، وصيانة للمدينة من الغرق؛ لأن النهر الذي يجري بقربها يجفُّ ماؤه في الصيف، فيخشى على الزرع، ويطغى سيله في الشتاء فيخشى منه الفيضان.

وكانت أرض سبأ طيبة الترب، خصبة العشب، فنمت زراعتها، وأثمرت غلالها، وزادها الله خيرًا بإحياء تجارتها، فكانت السفن تُقِلُّ حمولة الهند إلى حضرموت، ومنها إلى مصر، منذ القرن العاشر قبل المسيح. وكانت الملاحة في البحر الأحمر عسيرة شاقة، فعُدل عنها إلى البر، وتعهدت القوافل حمل بضائع الهند وحضرموت إلى مأرب فمكة، ففلسطين فمصر.

على أن هذا اليسر أخذ يتبدَّل عُسرًا منذ القرن الأول للميلاد؛ إذ تحولت التجارة الهندية عن طريق البر في اليمن إلى البحر الأحمر بتقدُّم الملاحة الرومانية واتساع نطاقها. فساءت أحوال السبئيين، واضطربت جماعتهم فنفروا إلى الشمال يلتمسون فيه موطنًا جديدًا لهم، فأوحشت مرابعهم، وضعفت شوكتهم. ثمَّ كان انفجار السدِّ٧ ففاضت المياه على مأرب، فأزعجت عنها السكان، وقضت على دولة السبئيين، فتمزَّقوا أشتاتًا، وضُرب بهم المثل فقيل: «تفرَّقوا أيدي سبا.» وغلبت عليهم دولة الحميريين.
والحميريون شعب من ذراري السبئيين٨ اتسع سلطانهم فجاوز اليمن، وانبسط على عرب الشمال، وكانت عاصمتهم صنعاء، وملوكهم يلقبون بالتبابعة، أولهم الحارث الرائش، وعرف بعضهم بالأذواء.٩ وفيهم ملوك صغار يسمَّون بالأقيال، يسيطرون في مخاليفهم أو إقطاعاتهم، ويعودون بشئونهم العامة إلى تُبَّع الملك الأكبر.
وكان من أثر هجرة القحطانيين إلى الشمال أن ضعفت شوكة اليمن، كما ذكرنا، فطمعت فيها الحبشان، فوالت عليها الغارات البحرية، يشدُّ ساعدها قيصر الروم، فافتتحت بعض بلادها سنة ٣٥٦، وجعلت عليها الولاة المسيحيين، فتداولوا الملك فيها، حتى قام ذو نواس في أواخر القرن الخامس للميلاد،١٠ وكان يهوديًّا من أعقاب التبابعة، فتعصَّب لدينه واضطهد النصارى. وحدث أن قُتل طفلان يهوديان في نجران واتُّهم النصارى بقتلهما، فسخط ذو نواس عليهم، وخيَّرهم بين اليهودية والقتل، فأبوا أن يتهوَّدوا، فأعمل السيف فيهم، وقيل: إنهم هم أهل الأخدود الذين أخبر عنهم القرآن، أُضرمت عليهم النار فكانوا لها وقودًا.

ولا شيء يدل على أن ذا نواس استطاع أن يستأصل شأفة النصارى، ولكن نعلم أن جماعة منهم فزعوا إلى يوستين الأول — قيصر الروم — يستغيثونه، فكتب إلى النجاشي هيلستيوس أو الأصبح — وكان من غلاة النصارى — بأن ينوب عنه في غزو اليمن، والإثئار لقتلى نجران، فأغزاها قائده أرياط بسبعين ألفًا من الحبشان، فانهزم أمامهم ذو نواس، وخاض البحر بفرسه، فلم يظهر له أثر. وصارت اليمن إمارة حبشية في نحو سنة ٥٢٥م، تولاها أرياط ثم أبرهة الأشرم من بعده.

وفي نحو سنة ٥٧٠م سار أبرهة بجيشه إلى مكة يريد هدم البيت الحرام، فدهاهم وباء الجدري، وسرى فيهم يفتك فتكًا ذريعًا، ولم يسلم منه أبرهة، فارتدَّ عن الكعبة بمن نجا من جيشه، ومات في صنعاء. وتعرف غزوة أبرهة بعام الفيل؛ لأن الرواية العربية تقول إنَّه جاء مكَّة راكبًا على الفيل.

وظل الحبش مستولين على اليمن حتى قام سيف ذو يزن سنة ٥٧٥م يعمل لتحرير بلاده، واسترجاع ملك آبائه، فاستنجد كسرى، فأمدَّه بجيش من أهل السجون، يقودهم وهرز الديلمي، وكان على اليمن مسروق بن أبرهة، فانكشفت الحبشان وقُتل مسروق، ومَلَكَ ذو يزن، أو خلفه ابنه معدي كرب، وهو آخر ملوك اليمن من القحطانيين. ثم ثار على معدي كرب عبيدُه الأحابش فقتلوه، فاستولت الفرس على اليمن سنة ٥٩٧م، وجعلتها بعض ولاياتها، فلم يتحقق لها استقلال حتى ظهر الإسلام.

وفي أساطير العرب القحطانيَّة وأخبارهم شعر موضوع لا يصحُّ الركون إليه؛ لأنه جاءنا باللغة العدنانية، ولم تكن يومئذ لغة أهل اليمن، بل كانت الحميرية لغتهم، وبينها وبين لسان عدنان اختلاف عظيم.

(٢-٣) اليمانية المهاجرة

تفرقت القبائل القحطانية في وسط الجزيرة وشمالها بعدما نبت بها اليمن. فمنها من سكن البادية وعاش فيها عيشة الأعراب الجفاة؛ ومنها من نزل القرى وأطراف الشام والعراق. وكان الذين هاجروا من حمير قبائل قُضاعة، فاستوطنت تنوخ العراق، وكلب بادية الشام، وعُذرة وادي القُرى في الحجاز. وكان الذين هاجروا من كهلان قبائل الأزد فنزلوا عُمان. ومنهم الغساسنة في الشام، وخزاعة بمكَّة، والأوس والخزرج بيثرب. ومن كهلان بنو لخم ملوك العراق، ومنهم المناذرة، وبنو طيِّئ في جبليْ أجأ وسلمى، وبنو عاملة وبنو جُذام في بادية الشام، وبنو كندة، وكانوا أقيالًا في حضرموت يخضعون للتبابعة، فاتسع سلطانهم إلى الأنحاء الشمالية، فسادوا قبائل غطفان وأسد في نجد، وقبائل بكر وتغلب في ديار ربيعة، حتى بلغ الأمر بأحد ملوكهم الحارث بن عمرو أن ينافس المناذرة والغساسنة، وأغار مرة على الحيرة فشرَّد ملكها المنذر الثالث ابن ماء السماء. فلما عاد المنذر إلى ملكه، أوقع بالكنديين، فأخذ منهم نحو خمسين أميرًا وذبحهم بجفر الأملاك في ديار بني مَرينا بين دير هند والكوفة، وفيهم يقول امرؤ القيس:

ألا يا عينُ بكِّي لي شَنينا
وبكِّي لي الملوكَ الذَّاهبينا١١

ثمَّ قتل الحارث في أرض بني كلب، وقتل بعده ابنه حُجر والد امرئ القيس الشاعر. فتحلحل بناءُ كندة منذ اليوم، وكر بعضهم إلى مواطنه الأولى في حضرموت.

وكانت اللغة العدنانية صاحبة السلطان على القبائل القحطانيَّة المهاجرة إلى الشمال؛ ذلك بأنها لغة البلاد التي استوطنوها، فاصطلحوا عليها في أدبهم، ونظموا بها شعرهم، ونبغَ منهم شعراء مجيدون، هدهدوا البادية بأنغامهم، وتبوَّءوا سدَّة الرئاسة بشاعرهم امرئ القيس أمير بني كندة.

(٢-٤) ملوك العراق

كان العراق في أوائل القرن الثالث للميلاد يضم إليه شعوبًا من القبائل اليمانية المهاجرة عرفوا جميعًا بالتنوخيين، على ما فيهم من قبائل لخمية وأزدية وأخرى عدنانية. فعاش منهم جماعة عيشة البدو، دأبهم الغزو وشنُّ الغارات، وانصرف آخرون إلى حرث الأرض وعمارتها، فأنشئت المزارع والقرى، ومصِّرت الحيرة١٢ قاعدة الإمارة اللخمية التي أقامها الفرس وقاية لحدودهم، وسدًّا يدفعون به غارات الروم وعمالهم الغساسنة، وأقطعوها اليمانية، كما أقطع الروم إمارة الشام، لما لقبائل اليمن من حضارة قديمة، ويد سابقة في إدارة الملك وسياسة الرعية.
وكان أول أمير من اللخميين عمرو بن عدي، ولي الملك من قبل سابور الأول في نحو منتصف القرن الثالث، ثمَّ تداول الملك خلفاؤه، وتقدمت الحيرة في عهدهم تقدمًا بيِّنًّا، فأنشئت فيها المدارس الفارسيَّة، فنالت قسطًا من الثقافة، وشاعت بها الكتابة العربية، ولا سيما عند القبائل النصرانيَّة التي كانت تُعرف بالعِبَاد، لعبادتها الله. وفتح الأمراء أبواب قصورهم لشعراء البادية، منافسين أعداءهم الأمراء الغسَّانيين، متوسِّلين بالشعر إلى بسط نفوذهم على القبائل العربية ليستعينوا بها في حروبهم، ويستفيدوا منها في حياتهم الاقتصادية. فكان عَبِيد بن الأبرص يفد على المنذر الثالث صاحب الغريين،١٣ وعمرو بن كلثوم والحارث بن حِلِّزة وطرفة والمتلمِّس والمُثقب العبدي يفدون على عمرو بن هند،١٤ والنابغة والمنخل اليَشكُريُّ ولبيد وحسان بن ثابت والربيع بن زياد … وسواهم، يفدون على النعمان الثالث أبي قابوس. ونبغ في زمن النعمان هذا شاعر الحيرة الأوحد عدي بن زيد النصراني.

وكان ملوك الحيرة وثنيين، مع انتشار النصرانية في العراق، ومنهم مَن كان مزدكيًّا كالمنذر الثالث، ويزعم بعضهم أنه تنصَّر، وليس هذا بثابت، وربما تنصَّر غيره من أمراء الحيرة.

وتضعضع ملك المناذرة بعد النعمان أبي قابوس،١٥ وصارت ولاية الحيرة إلى إيَاس بن قَبيصة الطائي. ثمَّ تولاها الفرس حتى جاء الإسلام وافتتحها خالد بن الوليد سنة ٦٣٣م.

(٢-٥) ملوك الشام

هاجرت القبائل اليمانية إلى أطراف الشام، كما هاجرت إلى أطراف العراق، واتخذ القياصرة منها عمالًا لحماية الحدود؛ كما اتخذ منها الأكاسرة. فكان الضجاعم من بني سَليح يلون البلقاء في عبر الأردن، ويرجعون بأُمورهم إلى ملك الروم، حتى جاء الغساسنة بنو جَفنة، فزاحموهم في عقر دارهم وأزعجوهم عنها في أواخر القرن الخامس، واستولوا على البلقاء وما يليها من الأردن وحوران وغوطة دمشق. ولم يجد العاهل البيزنطي بأسًا في استعمال الغسانيين بدلًا من الضجاعمة، فأقطعهم تلك البلاد، ومنح أمراءهم الألقاب السَّنية، وألبسهم الأكاليل والتيجان.

واختلف في أول مَن ملك منهم لغموض تاريخهم، فقيل إنَّه جفنة بن عمرو، وقيل بل هو ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وجارى نيكلسون ابنَ قتيبة فجعله الحارث بن عمرو. أما نولدكه — وهو أوثق من يُعتمد عليه في تاريخ الغساسنة — فيرجح أنه أبو شَمِر جبلة بن الحارث بن ثعلبة. بيد أن أول أمير اشتهر منهم واتَّسع سلطانه هو الحارث بن جَبَلة المعروف بالحارث الأكبر صاحب الغزوات المظفرة، والألقاب الرفيعة.١٦ وخلفه ابنه المنذر فحارب اللخميين، وقهر ملكهم قابوس بن المنذر سنة ٥٧٠، يوم عين أُباغ١٧ قرب الحيرة، وزار عاصمة الروم سنة ٥٨٠م، وعليها طيباريوس، فتوِّج فيها. إلا أن القيصر لم يلبث أن سخط عليه، فأمر باعتقاله، وجاء به إلى القسطنطينية في أواخر سنة ٥٨١م،١٨ ومَنع عن أبنائه الجعالة السنوية، فثاروا في الشام، وشنُّوا الغارات على الأراضي البيزنطية، فطاردتهم جيوش الروم، وأسرت النعمانَ أخاهم الأكبر، فمال عرش الغساسنة إلى الضعف، وانفصلت عنه عدة إمارات، حتى إذا استولى الفرس على ديار الشام هوى العرش، وذابت الإمارات، وخضع أكثر أصحابها للفاتحين. على أنه عاد للغساسنة شيء من ملكهم بعدما طرد هرقل الفرس من سورية وفلسطين سنة ٦٢٨، فإن مؤرخي العرب يجمعون على أنَّ جبَلة بن الأيهم آخر من ملك من بني جفنة، وأنه كان في مقدمة جيش الروم يوم اليرموك سنة ٦٣٦ ثم انحاز إلى الأنصار وقال لهم: «أنتم إخوتنا وبنو أبينا.» وأظهر الإسلام ثم ارتد وخرج إلى بلاد الروم.١٩ ويروون عن إسلامه وارتداده أخبارًا مختلفة لا تخلو من الاصطناع.
وكان للغساسنة قسط من الحضارة لا ينبغي إنكاره لتأثُّرهم بحضارة البيزنطيين، ولم تكن دولتهم بدوية خالصة، لا عاصمة لها، كما زعم بعض المستشرقين، بل كان لهم مستقر في جابية الجَولان حينًا، وفي جِلَّق٢٠ آخر، وربما كانت بُصرى من قواعدهم. ويضيف إليهم مؤرخو العرب بناء القصور العالية، والبنايات العامة؛ فمهما يكن في أقوالهم من الغلوِّ، فهي أقرب إلى الدلالة على الترف والعمران منها على البداوة والخشونة. وفي بائية النابغة التي يمدح بها أبناء جفنة وصف لملابسهم وحفلاتهم الدينية يدل على نعمتهم وتقدمهم في الحضارة، ويذهب المستشرق نيكلسون إلى أن مدينة الغساسنة كانت أوثق من مدينة اللخميين.

ووفد شعراء البادية على قصورهم، كما وفدوا على قصور ملوك العراق، ومدحوهم بأحاسن الأشعار، فرجعوا من عندهم بأحاسن الصلات، وأشهر مدَّاحيهم: علقمة الفحل، والنابغة، وحسَّان بن ثابت.

وكان الغساسنة يدينون بالنصرانية، على مذهب اليعقوبية المبتدعة، فأسخطوا عليهم — غير مرة — قياصرةَ الروم الكاثوليكيين، ولكن حاجة هؤلاء إليهم كانت تحملهم على أخذهم بالحسنى والتساهل. وربما كانت عقيدتهم المخالفة من أسباب سقوط بعض ملوكهم، كما سقط المنذر بن الحارث بعدما أمر القيصر باعتقاله ونفيه.

(٢-٦) العرب العدنانية المستعربة

يعود المؤرخون بنَسَب العرب العدنانيَّة إلى إسماعيل بن إبراهيم من جاريته هاجر، ويروون على ذلك أنه لما ولد إسماعيل أمر الله إبراهيم أن يذهب به وبأمه إلى مكة، ففعل. وجاءت جُرهُم وقَطُوراء، وهما قبيلتان من اليمن، فنزلوا مكَّة، فتزوج إسماعيل من جرهم، وكان من ذريته عدنان أبو العرب المستعربة، ومن عدنان كانت القبائل النزارية بشعبيها الكبيرين ربيعة ومُضَر. ولا تخلو سلسلة الأنساب — كما يرتبها النسابون متحدرة من عدنان إلى مَعدّ، إلى نزار، إلى ربيعة ومضر، إلى البطون والأفخاذ المتفرعة — من وَهْمٍ واختلاط.

وكان الشمال موطن العرب العدنانيَّة، كما كان الجنوب موطن العرب القحطانية، وهذا لا يعني أن الشمال استأثر بالعدنانيَّة وحدها، ولا أن العدنانية لم يتخذ بعض قبائلها موطنه في الجنوب، أو في أطراف الشام والعراق.

وغلبت البداوة الخشنة وسكنى الخيام على عرب الشمال، فكان العدنانيون في كثرتهم بدوًا رُحَّلًا لا يأنسون بقرية، ولا يتفيَّئون ظلًّا معمورًا إلا أقلهم كبني قريش في مكة، وبني ثقيف في الطائف.

على أن هؤلاء البدو الجفاة هم الذين أنبتوا فحول الشعراء، وجاءنا عنهم الشعر الكثير.

(٢-٧) مراجع

  • المسعودي: مروج الذهب ١.

  • البلاذري: فتوح البلدان.

  • الألوسي: بلوغ الأرب ١-٢-٣.

  • نولدكه: أمراء غسان، الترجمة العربية، زريق وجوزي.

  • أحمد أمين: فجر الإسلام.

  • الأصفهاني: الأغاني.

  • ابن عبد ربه: العقد الفريد ٣.

  • نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.

  • الطبري: تاريخ الأمم والملوك.

  • ابن رشيق: العمدة.

  • الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.

(٣) أحوال العرب الاجتماعية

عُرف الشعر الجاهلي بأنه ديوان العرب؛ لاشتماله على أخبارهم، وسائر أحوالهم، فجدير بنا، ونحن نمهِّد لهذا الشعر بلمحة تاريخيَّة، أن نلمَّ بأخلاقهم وصفاتهم، وما لهم من عادات وعقائد ونُظم وعلوم؛ وإن الإلمام بهذه الشئون لمِمَّا يساعد على دراسة شعرهم واستجلاء مراميه.

(٣-١) شخصيَّة العربي

للعربي شخصية قوية تظهر بأنانيته، ونزوعه إلى الحرية والاستقلال، وحبه الخير لنفسه دون غيره، والاستئثار بالجاه والذكر الحسن وحميد الصفات. وتظهر في جلَده وصبره على الفقر والجوع والظمأ ومغالبة الطبيعة في صحرائه العاتية، تلك الصحراء التي لفحته بحرِّها فتركته أسمر اللون يابس الجلد خفيف اللحم، أسود العينين والشعر؛ واستولت على إحساسه بوحشتها، فجعلته حديد السمع والبصر، سريع التأثر، متوتر الأعصاب، مذعنًا للقضاء والقدر؛ وعلمته بقحطها الغزو والترحُّل في طلب الماء والكلأ؛ وصيرته كريمًا مقدامًا يقري الضيوف ويلتقي الأهوال، ويمنع الجار ويغيث الملهوف، لتعرضه في ترحاله إلى أن ينزل ضيفًا على غيره؛ وفي مخاوفه إلى أن يستغيث قومًا يجيرونه، ويدفعون الضر عنه، حتى أصبح حبُّ القِرى وحسن الجوار من طبائعه، يفاخر بهما، ويرى من العار عليه ألا يكرم الضيف ويحامي عن الجار.

(٣-٢) القبيلة

كانت عرب البادية تعيش قبائل متقاطعة، لا يجتمع بعضها إلى بعض إلا في حِلفٍ موقوت. فلم يستطيعوا في صحرائهم، وما يقتضي لها من حياة قبلية، أن ينشئوا مجتمعًا راقيًا، وقومية شاملة، ودولة موحدة، ولم تبتعد عصبيتهم عن القبيلة، وإن فاخروا بجنسهم واعتدُّوا به على سائر الأمم.

وبين الفرد والقبيلة صلة مكينة تجعل الفرد بجميعه للقبيلة، والقبيلة بجميعها للفرد. فإذا نزل عار بالقبيلة أصاب كل شخص منها، وإذا نبه ذكر شخص عاد فخره إلى القبيلة بأسرها، وتتحمل القبيلة جناية أخيها، وتنصره ظالمًا أو مظلومًا.٢١

(٣-٣) السيد

والعرب في استقلالهم القبلي ينكرون سيطرة الغريب عليهم، ولا يقبلونها إلَّا على كره، حتى إذا أصابوا فرصة، انتقضوا عليه وأزالوه، كما انتقضت بنو أسد على الملك الكندي، وعمرو بن كلثوم على عمرو بن هند. ولكنهم يذعنون لسيد منهم، إذا رأوا في سيادته خيرًا لهم، فكان لكل قبيلة سيدها يجمع شملها ويقودها في الملمِّ العصيب.

ولا تستقر السيادة في بيت واحد لأنانية العربي، ونزوعه إلى المنافسة،٢٢ فكانت تنتقل في القبيلة من بيت إلى آخر،٢٣ وقلما تعددت في بيت واحد؛ فكان تعددها من مفاخرهم. وأشرف البيوت عندهم بيت تتابعت فيه رئاسة آباء ثلاثة، ثم اتصلت بالرابع، فيسمى الكامل، كبيت حُذيفة بن بدر في بني ذبيان، وبيت ذي الجَدَّين في بني شيبان.

والبدوي في عُنجهيته وحبِّه للرئاسة لا يخضع لمساوٍ له، وإنما يخضع لمن هو أقوى منه، وينبغي أن يتحلى الرئيس بصفات محمودة عندهم، لتحقَّ له السيادة في قبيلته، وأجلُّ هذه الصفات: الغنى والكرم والحلم والشجاعة والفصاحة. وإذا قالوا: سيِّد معمَّم، أرادوا أنَّ كلَّ جناية في العشيرة معصوبة برأسه. قال دُريد بن الصمَّة:

عاري الأشاجع معصوبٌ بلمَّته
أمرُ الزَّعامة في عرنينه شَمَمُ٢٤
على أن هذه الصفات يندر أن تجتمع كلها في سيِّد واحد، بل يندر أن يخلو الرؤساء من عيوب الرئاسة.٢٥

(٣-٤) المرأة

تغلب صفرة اللون على النساء العربيات، وتستحسن فيهنَّ إذا كانت ضاربة إلى البياض،٢٦ ويوصفن بسواد الشعر والعينين، واعتدال القامة، ورقة الخصر، وثقل الأوراك. والبدوي ينظر إلى المرأة كأداة للذة والنسل يريد منها أن تلد له غلمانًا ينافس بهم غيره من الناس. والمنافسة بكثرة البنين من عاداتهم؛ لأن الصبي يرجى للذود عن الحمى، وإحياء الذِّكر، وبه يتسلسل النسب. فكانوا يكرهون ولادة البنت، وربما تشاءموا بها فوأدوها، وعُرف الوأد في قبائل العرب قاطبة، بيد أنه لم يكن شاملًا، فإذا استعمله واحد تركه عشرة، حتى جاء الإسلام فأبطله.٢٧

وكان يهمهم تزويج الحرَّة البيضاء؛ لأنها عرضة للسبي، فإذا صارت في كنف زوج، وضمها حماه كانت غلًّا في عنقه. وقد تُخيَّر في أمر زواجها، إذا كانت فطنة رشيدة، كما خُيِّرت الخنساء في دُريد بن الصمَّة.

والبدو يتزوجون صغارًا لطبيعة أرضهم، ولرغبتهم في البنين. فالفتى يتزوج في الخامسة عشرة، والفتاة في العاشرة. وكانوا يرغبون في زواج البعداء؛ ليتألفوا أعداءَهم بالمصاهرة، ويكثروا الأحلاف، وهم إلى ذلك يعتقدون أنه أنجب للولد وأبهى للخِلقة، ويجتنبون زواج الأهل والأقارب، ويرونه مضرًّا بخَلق الولد ونجابته.

ويخطب الرجل إلى الآخر ابنته، فيصدقها ثم يُعقد له عليها. وله أن يعدِّد الزوجات مقدار طاقته، إلَّا إذا اشترطت المرأة عدم التعدُّد، وتعاقدا عليه.

وكانوا لا يجمعون في الزواج بين الأختين، ولا بين المرأة وابنتها، ولكنهم استحلُّوا زواج امرأة الأب، فأبطله الإسلام، وسمَّاه زواج المقت لأنه ممقوت.

وربما تزوج بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد، أو ذهبت المرأة إلى عدة رجال، فيأتي الولد لا يدري مَن أبوه، فتلحقه أمه بمن تريد من الرجال الذين عرفتهم، ولا يرفضه الرجل إذا كان ذكرًا؛ أو يلجئون إلى القيافة ويلحقونه بأقربهم إليه شبهًا.

ويفاخرون بالولد إذا كانت أمُّه حرة بيضاء زاكية الأصل،٢٨ ويسمونها أم البنين، ويفاخرون بالأخوال، ويشبهون الأولاد بهم دلالة على النسب الحر، أمَّا الأمَة فتكون على الغالب سوداء، ولا يُعترف بأبنائها إلا بعد أن تظهر نجابتهم، كما اعترف شداد العبسي بعنترة، وكما قال عمرو بن شأس في ولده عِرار:
وإنَّ عِرارًا إن يكن غيرَ واضحٍ
فإني أُحبُّ الجَونَ ذا المنكِب العَمَمْ٢٩

وللزوج عندهم حقُّ الطلاق دون المرأة، إلا إذا اشترطته في عقد الزواج، ولا يحقُّ للزوج أن يسترجع امرأته بعد تطليقها ثلاثًا، ولكنه يسترجعها بعد تطليقها مرة أو مرتين. وإذا كانت المرأة في بيت من شعر، وأرادت الطلاق، حوَّلت بابه إلى الجهة المقابلة، فيعلم زوجها أنها طلقته، فلا يدخل الخباء، شأن حاتم الطائي عندما طلقته زوجه ماويَّة.

وإذا مات الزوج تربَّصت سنة معتدَّة٣٠ لا تخرج من بيتها، ولا تمس ماءً، ولا تقلِّم ظفرًا، حتى إذا استكملت عدَّتها خرجت بأقبح منظر وأقذره، والعدَّة للمرأة انتظار ليعلم فيها وجود الولد وعدمه.

ونساء العرب يصحبن رجالهن إلى الحرب، فيحضضنهم على الصبر في مواقف القتال، ويمنعنهم أن يلوذوا بالفرار، ويداوين الجرحى، ويحملن قِرَب الماء، ويقُتن الخيول، قال عمرو بن كلثوم:

يقُتْنَ جيادَنا ويقُلن لستُمْ
بُعُولتَنا إذا لم تمنعونا

ولهن حقُّ الجوار كما للرجال، وعلى الرجل أن يحمي جار امرأته وأخته وأُمَّه وجارته كما يحمي جاره.

وعُرف منهن غير واحدة بالشجاعة، والفصاحة والشعر، وحسن الرأي والحكمة والعرافة. على أنهن مضعوفات في الجملة، يحتقر الرجال مكانهن، ويتشاءمون بولادتهن، ويسيئون الظن بأخلاقهن، فينعتونهن بالكيد والمكر والخيانة والخداع.

(٣-٥) غزواتهم

كان للعرب حروب كثيرة، أو هي غزوات غير منظمة، يجعلون من أيامها مادةً لفخرهم وإخزاء أعدائهم. وكثيرًا ما كانت تقع من أجل النهب والسلب، أو مزاحمة على الماء والكلأ؛ ومنها ما كان يحدث لأسباب تافهة تعظمها عنجهية البدوي كحرب البسوس التي نشبت لمقتل ناقة، وكان الدافع إليها الحفاظ على الجوار؛ وحرب داحس والغبراء التي أفضى إليها التنافس في الرهان بين سيدي القبيلتين، وقلما وقعت حرب لدفع عدو غريب كحرب ذي قار بين الفرس وبني بكر، وحروب اليمن والأحابش، وإنما كانت حروبهم في الغالب داخلية قبلية، وإذا خرجوا بها عن شبه جزيرتهم فإلى تخوم العراق والشام ليتقاتلوا في سبيل كسرى وقيصر.

وهذه الحروب — على كثرتها — لم تكن تفجع البدو بالعدد الجمِّ من الضحايا؛ لأن معظمها قائم على النهب والفرار بالغنيمة، حتى إن حرب البسوس التي تعاود القتال فيها بنو بكر وبنو تغلب أربعين سنة لم يقتل بها سوى قليل من الرجال. فقد كان البدوي يتحامى القتل جهده؛ لأن تقاليدهم تقضي بأخذ الثأر أو دفع الديات الثقيلة، وربما لا تغسل الديات الأحقاد؛ لما في قبولها وترك الدم من غضاضة، ثم لاعتقادهم أنه إذا قُتل الرجل، ولم يُدرَك بثأره، خرج من رأسه طائر يشبه البوم يسمونه الهامة والصدى، فلا يزال يصيح: اسقوني اسقوني! حتى يقتل القاتل أو أحد أقاربه. قال ذو الإصبع العدواني:

يا عمرو إلا تَدَعْ شتمي ومَنقصتي
أضْربْكَ حتى تقولَ الهامةُ اسقوني!
فشريعة أخذ الثأر — كما يسميها الأب لامنس٣١ — خففت حوادث القتل؛ إذ جعلت الدم يدعو الدم، وفرضت على الموتور أن يحرِّم على نفسه أحبَّ الأشياء إليه كالنساء والخمر والعسل والطيب. لا تحلُّ له أو يأخذ بثأره.
ولم تكن جيوشهم منظمة بل أشتاتًا يقودها سيد القبيلة، ويقوم على رأس كل فصيلة قائد يقال له المَنكِب، يأمر على خمسة عُرفاء، والعريف يأمر على نَفير٣٢ من الرجال، ومن عادة القبيلة أن تشترك كُلها في الحرب للدفاع عن المال والنساء والأولاد، والبدوي لا يصبر في القتال إلا إذا خشي أن يستولي العدو على أهله وماله وولده. أما إذا غزا فإنما هو يطلب الغنيمة، فإن فاتته طلب الهرب، ولذلك كان الفرُّ في حروبهم ملازمًا للكرِّ، وقلما عرفوا قتال الزحف والثبات، ولا يستحيي أشدُّ فرسانهم بطشًا أن يحدِّثنا عن فراره، قال عمرو بن معدي كرب:
ولقد أجمعُ رجليَّ بها
حَذَرَ الموت وإني لفرُورُ٣٣

وكان سلاحهم السيف والرمح والقوس والمِجَنُّ، ويلبس فرسانهم الدروع والمغافر. وكانوا يرفعون الرايات، وربما اتخذوها من عمائم ساداتهم، ويتغنون بالشعر ويرتجزون محمِّسين أنفسهم؛ فإذا تمَّ لهم النصر، عادوا بالأسلاب والسبايا فاقتسموها أنصبة، وأما الأسرى فمصيرهم إلى القتل أو يقدموا الفداء، ولا يطلقونهم إلا بعد أن يجزُّوا نواصيهم، فتُحفظ في كنائنهم لأيام المفاخرات. قال الحطيئة:

قد ناضلوكَ فسلُّوا من كنائنهِمْ
مجدًا تَليدًا ونَبلًا غيرَ أنكاسِ

(٣-٦) معايشهم

كان عرب البادية يعتمدون في عيشهم على رعاية الإبل، ثم على الغزو والصيد وحراسة القوافل. وأما أهل الحواضر فإن وسائل الرزق اتسعت عليهم، وعرفوا أركان العمران الثلاثة: التجارة والزراعة والصناعة. وكانت اليمن في مقدمة البلاد العربية تحضرًا وخصبًا، فانبسطت تجارتها، ونمت زراعتها، وتوافرت لها الصنائع، ولا سيما الوشي والحياكة. وعرب الشمال — على بداوتهم وخشونة عيشهم — لم يحرموا التجارة في حواضرهم؛ فقد كانت مكة — في توسطها الطبيعي ومقامها الديني — محطة لقوافل اليمن والشام، وسوقًا رائجة تُعرض فيها بضائع التجار، واشتهر أهلها القرشيون برحلاتهم التجارية، فكانت لهم في السنة رحلتان: رحلة الصيف، ورحلة الشتاء. وكذلك أهل يثرب عرفوا بالتجارة، ولا سيما اليهود.

وهناك أسواق كانت تقام في أوقات معلومة للبيع والشراء، وأعظمها سوق عكاظ، وكان عرب الحيرة يتَّجرون مع الفرس، ويتولون حماية قوافلهم في عرض القفار.

وكذلك كان للزراعة شأن في بعض الحواضر الشمالية كالطائف ويثرب وخَيبر ووادي القرى وتيماء. أما الصناعة فإن الأعراب كانوا يحتقرونها ويعيِّرون صاحبها، فهم أبعد الناس عنها كما يقول ابن خلدون، ومع ذلك ألمُّوا بأشياء كالحدادة والنجارة والخياطة والصباغة، وكانت في القرى المعمورة، كمكة ويثرب والطائف.

وعلى الجملة فعرب الشمال لم يبلغوا شأو عرب الجنوب في الحضارة والأخذ بأسباب العمران، فصرفوا همهم إلى الغزو ينهبون الأموال، ويسبون النساء والأولاد، فيسترقُّونهم أو يبيعونهم في أسواق النخاسة؛ وإلى رعاية الإبل وحسن القيام على تربيتها؛ لأنها تقضي جميع حاجاتهم: تحملهم وتحمل أثقالهم، وتغذيهم بلحمها ولبنها، وتكسوهم وتبني بيوتهم بأوبارها؛ وبها يفتدون أسراهم، وعليها يقايضون في المبايعات، ومنها يؤدون المهور والديات والغرامات.

(٣-٧) أديانهم

وكانوا في جاهليتهم على أديان مختلفة، ومذاهب متعددة، يؤلهون الأصنام والكواكب، ويعبدون الله، ويخلطون المذاهب بعضها ببعض، مازجين التوحيد بالشرك، والعقائد السماوية بالعقائد الوثنية. وهم إلى ذلك ليسوا على دين ثابت، أو عقيدة مكينة، شأنهم في حياتهم المتنقلة المضطربة.

وكان اليونان والرومان قد حملوا آلهتهم إلى بادية الشام، فأخذت العرب عنهم عبادة الأصنام، وأخذت المجوسية عن الفرس، واليهودية عن الذين هاجروا من بني إسرائيل هاربين من وجه الأشوريين، ثم من وجه الرومان بعد خراب الهيكل في السنة السبعين، وأخذوا النصرانية عن الرسل الذين دخلوا مبشرين بالمسيح، ثم عن أهل الشام زمن البيزنطيين، ثم عن الحبش في غاراتهم على اليمن واستقرارهم فيها.

وكانت الوثنية في القبائل أعمَّ وأكثر انتشارًا، والأصنام منصوبة في كلِّ ناحية من نواحي الجزيرة، ولا سيما الكعبة، وتزعم الرواية العربية أن أول من دعا العرب إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحيٍّ،٣٤ وكانوا على بقية من دين إسماعيل، فأفسد عقائدهم.
والطواغيت الكبار ثلاثة: اللات والعُزَّى ومَناة. وكل واحد منها لمصرٍ من أمصار العرب، فاللات٣٥ لأهل الطائف، والعزى٣٦ لأهل مكة، ومناة٣٧ لأهل المدينة، وكانت العرب تعظم هذه الربات، وتقصدها من كلِّ صوب، وتجعل لها السدنة كما تجعلهم للبيت الحرام.
وأما أصنام الكعبة فكثيرة منتشرة حولها وفي جوفها، وأعظمها هُبَل٣٨ وكانوا يستقسمون عنده بالقداح،٣٩ ويستخيرونه في أمورهم وأعمالهم، ولعله إله الحظِّ عندهم.

والكعبة مزار لأكثر القبائل، يحجونها، ويعتمرون إليها، ويُحرِمون عندها، ويطوفون حولها سبعًا، ويلثمون حجرها الأسود، ويكسونها الحلل والديباج، ويهدون إليها الهَدْي، وينحرونه متقربين، ويريقون دمه على أوثانها، ويسعون بين الصفا والمروة، ويرمون الجِمار في مِنى، وكانت السيادة لقريش دون غيرهم، فهم سَدنة البيت ورفَدته وسقاته.

وفي العرب طائفة من عبَدة الكواكب كحمير قبل أن يتهودوا، وكانوا يعبدون الشمس. وعبدت طائفة من تميم الدّبَران،٤٠ وعبد بعض قبائل لَخْم وجُذَام وقريش الشعرى العبور.٤١

ومنهم من عَبَد النار، أو قال بالثنوية، أو بالدهرية. ومنهم من أحلَّ زواج الأب بابنته. وهذه العقائد سرت إليهم من الفرس والمجوس وما عندهم من معتقدات مزدكيَّة ومانويَّة. قيل إن المجوسية كانت في تميم، وقد تزوج حاجب بن زُرارة ابنته مخالفًا سنَّة العرب، متَّبعًا سنَّة مزدك. وقيل إن الزندقة في قريش، ولعلها المانوية التي تقول بإله النور وإله الظلام، أو لعلها الدهرية التي تنكر الخالق والآخرة.

على أن العرب — مع إشراكهم وتعدُّد معبوداتهم — كانوا يميلون في جملتهم إلى التوحيد، ويتقربون إلى الله بعبادة الأصنام والكواكب كأنهم يجعلونها ذرائع للوصول إليه، ولا ريب أن اليهودية والنصرانية كان لهما يد فعالة في توجيه الفكر العربي إلى الوحدانية.

وكانت اليهودية في يثرب وفَدك ووادي القُرى وخَيبر وتَيماء واليمن؛ فمنها قبائل عبرانية استعربت كالنَّضِير وقُرَيْظة وقَيْنُقاع؛ ومنها قبائل عربيَّة تهوَّدت أو تهوَّد بعضها كحمير وكِندة وكِنانة والحارث بن كعب.

وكانت النصرانية في حوران وبادية الشام وبين النهرين والعراق والبحرين وعُمان واليمن ومكَّة والطائف، وانتشرت في قبائل ربيعة وكِندة وقُضاعة وجُذام وغسان وتميم. وكانت كعبة نجران مزارًا للمتنصرة وحرمًا كمكة لا يحلُّ انتهاكه. ولكن النصرانية التي شاعت في قبائل العرب لم تكن صافيةً خالصةً؛ لأنهم أخذوها — في الغالب — عن المبتدعة المارقين، فمنهم النساطرة القائلون بأقنومين في المسيح، وهم نصارى حوران وبادية الشام وبين النهرين واليمن، ومنهم المريميُّون، وهم الذين يؤلِّهون مريم العذراء، وقد ورد ذكرهم في القرآن؛ ومنهم الحنيفية، ومذهبهم خليط من النصرانية واليهودية، وكان منهم أُميَّة بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل.

(٣-٨) عقائدهم

كانت العرب تؤمن بوجود الجن والعفاريت، وبمخالطتها للإنس في السكنى والاستهواء والمؤاكلة والزواج، ولهم فيها شعر وأخبار كثيرة. ويؤمنون بزجر الطائر. يتفاءلون به إذا سنح، ويتشاءمون إذا برح؛ وبالكهانة والعرافة والهامة؛ ويعوِّذون أطفالهم بسنِّ ثعلب وسنِّ هرة خوفًا من الخطفة والنظرة، ويتعوذون من الجن بالأدعية وسواها، ويتطيَّرون من الغراب، كما قال النابغة:

زعمَ العواذلُ أنَّ فُرقتنا غدًا
وبذاك خَبَّرنا الغُرابُ الأسودُ

ولهم غير ذلك عقائد كثيرة سيمر شيء منها في دراستنا لأشعارهم.

(٣-٩) علومهم

لم يكن للعرب في بداوتهم من العلوم إلا بعض إلمام بما يحتاجون إليه في حياتهم الفطرية، فقد عرفوا شيئًا من الطبِّ والبيطرة، وكانوا يداوون مرضاهم بالعقاقير والكيِّ والحجامة والأشربة، وخصوصًا العسل، علاج وجع البطن عندهم. وربما استعملوا السحر والرُّقى والتعاويذ لإبراء الملسوع وإخراج الجن والشياطين. وأطباؤهم — في الأغلب — الكهان والعرافون، وقلَّ من كانت له معرفة صحيحة بهذا الفن كالحارث بن كلدة الثَّقَفي.٤٢

وعرفوا شيئًا من علم النجوم ومهابِّ الرياح بكثرة تتبُّعها والنظر إليها؛ لأنهم كانوا يهتدون بها في أسفارهم، ويستدلُّون على سقوط الغيث.

وكانت لهم معرفة بالأنساب والأيام والأخبار والأساطير، وبالقيافة، وهي الاستدلال بهيئة الإنسان وأعضائه على نسبه، والاستدلال بآثار الأقدام على أصحابها؛ وبالكهانة، وهي معرفة الأمور المستقبلة وتعبير الرؤى والأحلام؛ وبالعرافة، وهي مختصة بالأمور الماضية، وأشهر الكهان عندهم شِقٌّ وسطيح٤٣ وهما من أهل الأساطير، وأشهر العرافين: عراف نجد وعراف اليمامة.

وكان عرب اليمن والحواضر المتاخمة أوسع علمًا وحضارةً من عرب البادية؛ لاتصالهم بالفرس والروم والسريان.

(٣-١٠) مراجع

  • المسعودي: مروج الذهب.

  • ابن الكلبي: كتاب الأصنام.

  • ابن خلدون: كتاب العبر.

  • نيكلسون: تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية لحسن حبشي في مجلة الرسالة المصرية).

  • نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.

  • ياقوت: معجم البلدان.

  • ابن خلدون: المقدمة.

  • الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.

  • الألوسي: بلوغ الأرب.

  • جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية.

  • أحمد أمين: فجر الإسلام. (Henri Lemmens, le Berceau de l’Islam).

(٤) لغة العرب وأدبهم

(٤-١) العربيَّة

العربية هي إحدى اللغات المشتقة من الأصل السامي، وبينها وبين شقيقاتها مشابهات كثيرة. وكانت في العصر الجاهلي منقسمة على لسانين: الحِميري في الجنوب، والعدناني في الشمال، وكلاهما يغاير الآخر في أوضاعه وأحكامه، وإن تشابها في كثير من الألفاظ والتراكيب. وكان عمرو بن العلاء يقول: «ما لسان حِمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا.» وقال ابن خلدون في مقدمته: «ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في كثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها.» ويرى المستشرق نيكلسون أنَّ الحروف الهجائية في لغة الجنوب أقرب إلى الحبشية منها إلى لغة أهل الشمال.

واللسان العدناني هو الذي نستعمله اليوم في الكتابة، على ما لحقه من تحضُّر وتبدُّل، وبه جاء الأدب الجاهلي، ولم يأتِنا أدب بلسان حِمير؛ لأن لغة الجنوب فقدت سيادتها بعد كساد التجارة هناك، وسيل العَرِم في مأرب، وتشتت أهلها وهجرتهم إلى الشمال؛ ثم أفضى بها إلى الضعف غزوات الحبش والفرس ونزولهم في اليمن.

وكان اللسان العدناني متعدِّد اللهجات بتعدُّد القبائل التي تنطق به، ولكنه لم يختلف في أحكام التركيب والتصريف والاشتقاق؛ بل اقتصر في تغاير لهجاته على طائفة من الأوضاع تخالفت القبائل في استعمالها، وعلى انحرافات لفظية من قلب وإبدال وزيادات.٤٤

وكانت مكة بما لها من تأثير ديني وتجاري، مجتمعًا للقبائل العربية، على اختلاف لغاتها، يحضرون المواسم، ويحجون البيت، ويتقارضون الشعر. وكانت تقام الأسواق في عكاظ وغيرها، فيؤمها الناس من كل صوب، يبيعون ويشترون حتى إذا انتهوا من متاجرهم، انصرفوا إلى اللهو والطرب، فينشد شعراؤهم على مسمع من الجماهير المحتشدة، ويتناظرون ويتفاخرون.

فهذه المجامع بما لها من صبغة أدبية على حالتيها الدينية والتجارية، مشت محمودة الخطى إلى توحيد لسان عدنان. فصار الشعراء والخطباء يختارون الألفاظ التي يألفها القبائل على اختلاف لهجاتهم، ويهملون مستقبح الكلمات والانحرافات، فنشأت عن ذلك لغة أدبية مهذبة عُرفت بلغة قُريش؛ لما لتلك القبيلة من نفوذ ديني واقتصادي في مكة وعكاظ، واقتصر انحراف اللهجات أو كاد يقتصر على لغة التخاطب، وامتدَّ سلطان الأدب إلى الجنوب؛ لاختلاط القبائل بعضها ببعض في مهاجراتها وأسفارها وشهودها المواسم؛ ثم لسيادة لسان عدنان بعد ضعف لسان حِمير؛ ولذلك استطاعت وفود اليمن أن تفهم القرآن، وتجادل النبي فيه، ونزول القرآن بلغة قريش وطَّد سلطانها، وجعل كلَّ لهجة تغايرها تنهزم أمامها.

ولسان العرب في جاهليتهم يمثل حالتهم الفطرية أصدق تمثيل بما له من ثروة متسعة في الألفاظ الدالة على حياة البداوة، وحدود مرافقها المادية، وبما به من فقر إلى أوضاع تعبر عن الشئون الحضرية المتنوعة، وفوارق الحالات النفسية الدقيقة، ومختلف العلوم والآداب والفنون.

ومع أن العرب اختلطوا في أسفارهم بالأمم المتحضرة، وشاهدوا عن كثب أسباب عمرانها، لم يتأثروا بها تأثرًا بليغًا؛ لأنهم لم يطلبوا العلم عندها لما هم عليه من الأمية والبداوة، بل اجتزءوا بالبيع والشراء، فكان ما أخذوه من الألفاظ العجمية وعرَّبوه ليسدُّوا به ثلمة لغتهم، قليلًا جدًّا بالإضافة إلى كثرة حاجاتها.

والألفاظ الدخيلة على اللغة أُخذت في الغالب من الفارسية والرومية والهندية، وأكثرها يختص بالأدوات والمنسوجات والشجر والعقاقير، جاءت بها قوافل التجار وأصحاب الرحلات؛ ومن العبرانية والسريانية والحبشية، ولا سيما الألفاظ التي لها علاقة بالدين، أدخلها اليهود والنصارى الذين خالطوا العرب في الحجاز واليمن وأمصار الشام والعراق.

وطبيعي أن تكون لغة العرب المتحضرة في اليمن وعمان والبحرين والحيرة والشام أكثر اتساعًا لمعاني الاجتماع والعمران من لغة أهل الوبر في الشمال، غير أنها لم تصل إلينا في جملتها؛ لأن الذين جمعوا اللغة من المسلمين، أهل البصرة والكوفة، نبذوا كلَّ لغة تخالف لغة القرآن، واقتصروا على اللسان المضري، ينقلون ألفاظه وتراكيبه عن قبائل مضرية خالصة البداوة، ما جاورت الأعاجم ولا خالطتهم، كتميم وقيس وأسد وكِنانة وهُذيل، ولم ينقلوا عن سكان الحواضر، ولا عن سكان البراري المجاورة للأمم الغربية، فحرموا اللغة أوضاعًا كثيرة تفتقر إليها. ولم يخلص إلينا من الألفاظ الدخيلة إلا ما تكلمت به هذه القبائل، أو جرى على ألسنة الشعراء. أو أثبته القرآن.٤٥

واللغه الجاهليَّة قوية التعبير، لا تخلو من خشونة البداوة وغرابة اللفظ، كثيرة الإيجاز، حافلة بضروب الكناية والمجاز، تسلس للشعر والوصف والاندفاعات الخطابية، ولا تلين للعلوم والآداب والفنون.

(٤-٢) الكتابة

غلبت الأميَّة على العرب في جاهليتهم، ولا سيما عرب البادية؛ لأن حياتهم الفطرية في حدودها السياسية والاجتماعية لم تتسع لصناعة الكتابة التي إنما تنشأ بنشوء الجماعة المنظمة، وتنمو بنمو القوى المفكرة، وتعظم بعظم الحاجة إليها. بيد أن سكان الحواضر من أهل اليمن اصطنعوا الكتابة لما هم عليه من تقدم العمران، ويُعرف خطهم بالمُسند الحِمْيَري؛ حروفه منفصلة، وفيه شبه بالكتابة الحبشية، ومنه تفرَّع الخط الكوفي. وترك اليمانون من آثارهم نقوشًا حجرية يرجع أبعدها عهدًا إلى المائة الثامنة قبل المسيح،٤٦ كشف عنها المنقبون الأوروبيون من إنكليز وألمان وفرنسيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وجُعلت أساسًا للبحث التاريخي في مدينتي سبأ وحِمير.
ولم يحرم عرب الشمال فن الكتابة على شيوع الأمية فيهم؛ فإن النصارى في العراق والجزيرة علَّموا جيرانهم الخطَّ المعروف بالجَزْم،٤٧ وله صلة بالآرامي النبطي، فكانت الكتابة العربية في الأنبار والحيرة وما جاورهما. وكذلك النصارى الأنباط في فلسطين الثالثة٤٨ علَّموا من جاورهم من عرب الشام الخط النسخي الجليل المتفرع من الجزم. وتعلَّم بعض القرشيين خط الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق، فحملوه إلى مكة، فظهرت فيهم الكتابة قبل الإسلام، وظهرت أيضًا في يثرب، والفضل في ظهورها لليهود.
ولبثت الكتابة قاصرة في الجاهلية لا يتعلمها من العرب إلا أفراد من أهل الحواضر، وإذا تعلموها لا يبلغون فيها حد الإحكام والإتقان، ولا يستعملونها إلا في شئونهم الاقتصاديَّة، ولم يخلِّف الشماليون نقوشًا حجرية بلغتهم العدنانية الخالصة، كما خلف الجنوبيون بلغتهم القحطانية، إلا ما كان من الآثار التي وجدت في حوران، مكتوبة بلغة نبطية تغاير أحكام اللسان العربي في كثير من ألفاظها وتراكيبها.٤٩
وبقي العرب لأول الإسلام لا يجيدون الكتابة، ولا يسلمون من الغلط في الإملاء، كما تدلُّ المصاحف التي رسمها الصحابة بخطوطهم٥٠ حتى نزلوا الكوفة والبصرة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، فعنوا بإتقانها، وكتبوا بالخطين النسخي والكوفي. ثم ترقت الخطوط بعد الفتوح الكثيرة، وتشعبت فروعها في بغداد وإفريقية والأندلس إلى أن بلغت حالتها الحاضرة.

(٤-٣) الأدب

كان الأدب الجاهلي شفهيًّا يحفظ في الذاكرة لا في الأوراق، والشعوب الفطرية أحدُّ ذاكرةً من الشعوب المتحضِّرة التي شاعت الكتابة عندها؛ لأن الشعب الذي لا يملك الكتابة لِيعتمدَ عليها في حفظ آثاره، يضطر إلى استخدام ذاكرته للحفظ، فتقوى بالاستعمال، ويسهل عليها اختزان مختلف الآثار، وتكثر الرواة في العصور الشفهية، فتقوم مقام الكتب والدفاتر.

وكان لكل شاعر في الجاهلية راوية يحفظ شعره، ويروِّيه الناس، وربما روى الشعراء بعضهم لبعض، فقد كان زهير راوية لأوس بن حجر، والحطيئة راوية لزهير. وقد تشتهر قصيدة لشاعر فترويها قبيلته، كما اشتهرت معلقة عمرو بن كلثوم، فكانت بنو تغلب تعظمها، ويرويها كبارها وصغارها.

وبطريق الرواية دُوِّن الأدب الجاهلي في الإسلام بعد شيوع الكتابة، ولكنه لم يصل سالمًا، فقد ضاع منه شيء كثير لم ينقله الرواة، أو ضاعت روايته فلم تبلغ إلينا،٥١ ودخل عليه نحلٌ مما وضعته العشائر والرواة والعلماء في الإسلام لأسباب منها: المنافسات القبلية،٥٢ ومنافسات الرواة في الحفظ، وحرصهم على التكسب والحظوة به. حتى إنهم وضعوا أشعارًا على آدم وإبليس والملائكة والجن؛ وعلى عاد وثمود والعمالقة. ومنها منافسات علماء البصرة والكوفة في إيراد الشواهد الشعرية لتفسير الألفاظ التي أشكل فهمها، وتخريج المسائل اللغوية والنحوية.

على أن هذا النَّحل لا يجعل سبيلًا لتعميم الشك في الشعر الجاهلي، ولا سيما القصائد التي أجمع الأدباء العباسيون على روايتها، ولم يختلفوا في نسبتها إلى أصحابها. وكثير من الشعر المنحول أشار إليه النقاد الأقدمون كابن سلام والأصفهاني، وكذبوا رواته. وأما ما جاء به العلماء من الشواهد الشعرية، فإذا كان في بعضه من اصطناع فإنما هو مقتصر على أبيات متفرقة لا يتعداها إلى القصائد.

والأدب الجاهلي في معظمه قائم على الشعر؛ لأن أكثر ما جاءنا من النثر مشكوك فيه. حتي لو صحت الخطب التي خلصت إلينا، لما رأينا فيها مادة كافية للدرس، وهكذا يصح القول في الأمثال وسجع الكهان.

والإنسان الفطري، في صفاء نفسه وفيض شعوره وصدق مخيلته، شاعر بالطبع، ولذلك كانت لغة النثر في الشعوب القديمة محاكية لغة الشعر في مجازها وخيالها وموسيقى ألفاظها. والأدب العربي في طفولته لا يخرج عن هذه السنَّة الطبيعية، فلغة النثر كلغة الشعر تكاد لا تختلف إلا بالأوزان والقوافي. والشعر في أول أمره لم يكن إلا أشطرًا لا ضابط لها، يرتبها البدوي على هواه ويتغنَّى بها ويحدو إبله، والإنسان من طبعه أن يميل إلى الغناء في حزنه وسروره، في خوفه وأمنه، في راحته وتعبه. ولعل السجع الذي كان ينطق به كاهن القبيلة وشاعرها، هو المظهر الفني الأول للأدب العربي، بل هو المادة المشتركة بين الشعر والنثر. ثم أخذ الشعر ينفرد بأوزانه وقوافيه، فظهر أولًا بحر الرجز ألين البحور وأدناها إلى السجع في حال تطوره؛ ثم تفرعت البحور وتنوعت، فما تلألأت النهضة بالمهلهل وامرئ القيس إلا كان للشعر أوزان مستقلة، وأصبحت القصيدة تُنظم على بحر واحد لا تحيد عنه مهما تَطُلْ أبياتها.٥٣
وأما بدء النهضة فما يمكن الرجوع به إلى تاريخ معروف لضياع الآثار التي وجدت قبل الشطر الأخير من القرن الخامس. ولكن الرواة يتفقون على أن عهد المهلهل وامرئ القيس هو عهد ازدهار الشعر، وظهور القصائد الطويلة، واستقرار الأسلوب التقليدي. ويعود المؤرخون من أهل عصرنا بالنهضة إلى الحروب التي حدثت، فيرى المستشرق نيكلسون أن فجر العصر الذهبي للشعر هو السنوات العشر الأولى من القرن السادس، بعد اشتداد حرب البسوس، واهتمام الشعراء بذكر أيامها!٥٤ ويعود جرجي زيدان إلى أبعد من ذلك، إلى استقلال عرب الحجاز عن اليمن في أواخر القرن الخامس وما تلاه من حروب وغزوات كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وعام الفيل، وحرب الفجار.٥٥

ولا ريب أن الحروب لها أثر بليغ في إذكاء القرائح، وعلى الأخص بعد انطفاء جذوتها، وسكون النفوس المضطربة؛ إذ لا يأتي عمل فني محكم، والنفس جائشة لا قرار لها. فإذا اطمأنت الخواطر ظهر الشعر فخرًا ومنافسةً ووصفًا للمعارك يتغنى به المنتصرون، وندبًا ورثاءً للسادة المقتولين، وحضًّا على الأخذ بالثأر، تنوح به النادبات ويترنَّم الموتورون.

وكانت حروب العرب كثيرة، وأشدُّها دفعًا لقول الشعر أعظمها وقعًا في القبائل، كالحروب التي ذكرها زيدان وجعلها من أسباب النهضة؛ وكذلك مقتل عمرو بن هند وما أعقب من وقائع بين تغلب والمناذرة؛ ومقتل النعمان بن المنذر وما كان بعده من حرب ذي قار بين الفرس والعرب، ثم حروب الأوس والخزرج. فهذه المعارك — على اختلاف القبائل التي صلَت نارها — أورثتنا شعرًا غزيرًا كان خير مستند لدرس الحياة البدوية قبل الإسلام، وذكر ابن سلام تأثير الحروب في نظم الشعر فقال: «والذي قلل شعر قريش أنهم لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا.»٥٦

على أن أسباب النهضة لم تقتصر على الحروب. فهناك هجرة اليمنيين واختلاطهم بالعدنانيين، فهذا الاختلاط في السُّكْنَى والزواج أحدث — ولا بد — تفاعلًا في الأذهان، وولَّد منافسات حزبيَّة لا نهاية لها، وكذلك الأسواق — وعلى رأسها عكاظ — فإنها استحثَّت قرائح الشعراء؛ لاحتشاد القبائل فيها للبيع والشراء، والمفاخرة والمنافرة. والشاعر عند العرب له تأثير عظيم ومقام سامٍ، فهو محامي القبيلة وخطيبها ومؤرخها، وقد يكون كاهنها أيضًا؛ لما له — في اعتقادهم — من صلة بالأرواح؛ إذ جعلوا له شيطانًا أو تابعًا من الجن يوحي إليه الشعر، ويلقنه الآراء والحِكَم والمواعظ. فهذه المنزلة الرفيعة في مجتمعه جعلته ينشط للقيام بمهمته كلما دعاه الأمر إليها. فكثر الشعر وقائلوه، وتبارت القبائل في تقريب الشعراء وإكرامهم، ولا سيما الغرباء منهم، ليمدحوهم ويشيدوا بذكرهم، وكانت قصور المناذرة والغساسنة تستقبل شعراء البادية، وتحسن لهم الصلات، فأثرت في نهضة الشعر تأثيرًا بليغًا.

ويتفق المؤرخون الأقدمون على أن الشعر نهض أولًا في ربيعة، ويعود ذلك — ولا ريب — إلى حروبها الكثيرة، سواء بينها وبين اليمن، أو بين قبيلتيها بكر وتغلب، أو بين بكر والفرس، أو بين تغلب واللخميين. ثم تحول الشعر في قيس عيلان، وعرف شعراؤها في سوق عكاظ، وفي حرب داحس والغبراء. ثم صار زمن النبوة إلى قريش والأنصار بعامل الحروب التي حدثت بين المسلمين الأُوَل والمشركين.

ولبث الشعر طوال العصر الجاهلي محصورًا في البادية لا يتنفس في خارج الجزيرة إلا بشعراء منها يقصدون الشام أو العراق لمدح الغساسنة والمناذرة، ولم يُعرف في الحيرة غير شاعر واحد هو عدي بن زيد، وأصله من عرب الجزيرة من تميم. والظاهر أن اختلاف لغة مضر عن لغة الشام والعراق — وهي غير خالصة العروبة؛ لما شابها من الآرامية — صرف الرواة المسلمين عن جمع أشعارها كما صرف اللغويين عن نقل ألفاظها وتراكيبها؛ لمخالفتها لغة القرآن، وهذا لا يمنع أن يكون بنو جفنة وبنو لخم قد عرفوا لغة مضر وفهموها، واستقدموا شعراءها إلى قصورهم وأجازوهم لكي يشيدوا بذكرهم في القبائل العربية، لحاجتهم إلى بسط سلطانهم عليها، والإفادة منها في حروبهم، فكانوا لذلك مضطرين إلى معرفة اللغة العدنانية؛ وربما استرضعوا أطفالهم في البادية ليأخذوا اللسان عن الأعراب.

(٤-٤) مراجع

  • ابن سلام: طبقات الشعراء.

  • أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب.

  • نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.

  • المسعودي: مروج الذهب.

  • طه حسين: الأدب الجاهلي.

  • ابن خلدون: المقدمة.

  • ابن هشام: السيرة النبوية.

  • ابن قتيبة: الشعر والشعراء.

  • الألوسي: بلوغ الأرب ٢-٣.

  • جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ١.

  • أحمد أمين: فجر الإسلام.

  • السيوطي: المزهر.

  • الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.

هوامش

(١) يبرين: رمل كثير بين اليمامة والبحرين. فيد: بُلَيْدة في نصف طريق مكة من الكوفة.
(٢) الريح الشآمية تنذر البدوي بالبرد والقحط والجوع، فاشتق منها التشاؤم. والريح اليمانية تهب رخاءً، وتبشر بالمطر والربيع والشبع، فاشتق منها التيمن، وصار يتطير بكل ما يأتيه من ناحية الشمال، ويتفاءل بكل ما يأتيه من ناحية اليمين.
(٣) نبه المستشرق نيكلسون في كتابه تاريخ الأدب العربي على أن هذا التقسيم غير محقق اجتماعيًّا بدليل أن التوراة تذكر في سفر التكوين أن السبئيين والكنعانيين من ذرية حام، ومعلوم أن السبئيين عرب، وأن الفينيقيين من الكنعانيين.
(٤) العرباء والعاربة: أي المعرقة في العروبة.
(٥) النفر: الجماعة يتقدمون في الأمر.
(٦) ينسب بعضهم بناء السد إلى لقمان بن عاد، وآخرون إلى بلقيس.
(٧) تجعل الرواية العربية حادث انفجار السد زمن عمرو بن عامر بن مزيقيا، وكان ملكًا على سبأ في أواخر القرن الثالث للميلاد، وتعزو تهدمه إلى جرذ خربه بمخالبه. وتدل النقوش الحجرية التي عثر عليها العلماء الأوروبيون في أطلال مأرب على أن السد لم يتهدم بأجمعه وإنما تهدم أجزاء منه. فرمم بعضها أبرهة الحبشي خلال سنوات (٥٣٩–٥٤٢م)، ولبث السد قائما حتى منتصف القرن السادس للمسيح. ويستدل أيضا أن أول فيضان عرف له كان بين سنة ٤٤٧ وسنة ٤٥٠ ميلادية.
(٨) تشعب عن السبئيين بنو حمير وبنو كهلان، وصار الملك في اليمن إلى الأولين، وربما نازعهم إياه الآخرون. وحمير وكهلان عند نسابة العرب هما ابنا عبد شمس سبأ بن يشجب.
(٩) أمثال ذي يزن وذي نواس وذي جدن وسواهم. وذو هنا أضيفت إليها أسماء مواضع أو أسماء تدل على أفعال أو حروب.
(١٠) يعتقد ذو برسفال أن ذا نواس ملك من سنة ٤٩٠ إلى سنة ٥٢٥م.
(١١) الشنين: قطران الماء.
(١٢) الحيرة: هي حرثا السريانية، أي المعسكر، سمي بها الموضع الذي كان ينزل به عسكر الفرس والعرب، ثم أطلقت على المدينة التي أنشئت هناك، على بعد عدة أميال من الكوفة، وهي ذات موقع صحي جميل.
(١٣) قيل كان للمنذر الثالث نديمان يحبهما، فقتلهما، ثم ندم على فعلته، فبنى لهما قبرين، وجعل يومين في السنة: يوم بؤس ويوم نعيم، فكان يقتل أول طالع عليه يوم بؤسه وهو عند القبرين، ويغريهما بدمه، أي يطليهما، ولذلك سميا بالغريين، وكان يعطي مائة من الإبل لأول طالع عليه يوم نعيمه، وكان ملكه من سنة ٥٠٥–٥٥٤م، وكان يلقب بذي القرنين لضفيرتين له؛ قتل في محاربته الغساسنة يوم حليمة.
(١٤) عمرو بن هند: هو ابن المنذر الثالث، ملك بعده وكان جبارًا عاتيًا، حارب الروم والغساسنة وثأر لأبيه. قتله عمرو بن كلثوم سنة ٥٦٩م.
(١٥) ولي النعمان الحيرة نحو سنة ٥٨٠م. وكان الشاعر عدي بن زيد ترجمانًا وكاتبًا لكسرى، وكان يكثر من زيارة الحيرة موطنه الأول، فوشى به بعضهم إلى النعمان فحبسه، ثم علم أن كسرى طالبه فقتله تخلصًا منه، فجعل كسرى زيد بن عدي ترجمانًا له مكان أبيه، فما زال زيد يكيد للنعمان حتى حمل كسرى على استقدامه إلى المدائن، وحبسه حتى مات أو ألقاه إلى الفِيَلَةِ فداسته وقتلته نحو سنة ٦٠٢م.
(١٦) روى نولدكه عن المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس أن الحارث بن جبلة بلغ رتبة الملك زمن القيصر يوستنيانوس، وعن المؤرخ تيوفانوس أنه كان يلقب بالبطريق (Patricius) وزعيم القبيلة (Phylarch). وكانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء معارك كثيرة، فأسر ملك الحيرة أحد أولاده نحو سنة ٥٠٤م، وضحى به للعزى، ولم تخمد الحرب بينهما حتى قتل المنذر سنة ٥٥٤ يوم حليمة بالقرب من قنسرين. وزار الحارث القسطنطينية سنة ٥٦٣م فأحسنت فيها وفادته، وكان له أثر بليغ في نفوس أهلها. وكانت وفاته في أواخر سنة ٥٦٩م بعدما ملك نحو أربعين سنة.
(١٧) نولدكه: أمراء غسان، الترجمة العربية، ص٢٥.
(١٨) توفي طيباريوس في سنة ٥٨١م، فخلفه موريقيوس، وكان يكره المنذر لعداء قديم بينهما فنفاه إلى صقلية.
(١٩) البلاذري ص١٤١.
(٢٠) لا يعرف مكان جلق معرفة أكيدة، ولكن يؤخذ من الشعر الجاهلي أنها على بردى بالقرب من دمشق.
(٢١) قد يتفق أن تخلع القبيلة من تكثر معراته، أو من لا تستطيع حمايته، فيلجأ إلى قبيلة أخرى، أو يعيش عيشة الصعلوك الشريد، واجدًا في الوحش أهلًا بأهل وجيرانًا بجيران.
(٢٢) قال ابن خلدون: وهم متنافسون في الرئاسة، وقل أن يسلِّم أحد منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه، أو كبير عشيرته، إلا في الأقل، وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء. المقدمة ص٨٣.
(٢٣) قال الأب لامنس: لا شيء يمتع نفس البدوي مثل هذا التبدل المتوالي في الرؤساء، فإنه يقطع به تلك الوتيرة الواحدة التي تجري عليها الحياة في الصحراء. مهد الإسلام ص٣٢٤.
(٢٤) الأشاجع، مفردها أشجع: عروق ظاهر الكف، وعاري الأشاجع: أي قليل لحمها. وهو من الصفات المحمودة عندهم، تدل على القوة والصلابة.
(٢٥) روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: «ما رأيت شيئًا يمنع من السؤدد إلا قد رأيته في سيد؛ وجدنا الحداثة تمنع السؤدد، وساد أبو جهل بن هشام وما طر شارباه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته؛ ووجدنا البخل يمنع السؤدد، وكان أبو سفيان بخيلًا عاهرًا، وكان سيدًا؛ والظلم يمنع من السؤدد، وكان كليب وائل ظالمًا، وكان سيد ربيعة؛ والحمق يمنع السؤدد، وكان عيينة بن حصن أحمق، وكان سيدًا؛ وقلة العدد تمنع السؤدد، وكان شبل بن معبد سيدًا، ولم يكن بالبصرة من عشيرته رجلان؛ والفقر يمنع السؤدد، وكان عتبة بن ربيعة مُمْلِقًا، وكان سيدًا.
(٢٦) قال امرؤ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ
غذاها نمير الماء غير محللِ
(٢٧) منهم من كان يئد البنت لفرط الغيرة ومخافة العار إذا سبيت أو انتهكت حرمتها، وهم بنو تميم وقبائل آخرون. ومنهم من كان يئدها إذا كانت زرقاء العينين أو سوداء اللون أو برشاء أو كسحاء أو عرجاء تشاؤمًا بها. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، ويقتلونهنَّ، وهم خزاعة وكنانة.
(٢٨) قال الزوزني: إن وصف العرب بالبياض تلويح إلى الأحرار الذين ولدتهم حرائر لم تعرف الإماء فيهن، فتورثهم ألوانهنَّ.
(٢٩) الواضح: الأبيض. الجون: الأسود. العمم: الكامل التام.
(٣٠) جعل الإسلام العدة أربعة أشهر وعشرًا.
(٣١) الأب لامنس: الثأر عند العرب، المشرق ٢–٣٥–١٩٣٥.
(٣٢) النفير: من الثلاثة إلى العشرة.
(٣٣) أجمع رجليَّ بها، أي بفرسي: أضمهما عليها.
(٣٤) روى ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن عمرو بن لحي كان له رئي من الجن، فقال له: ايت ضف جدة، تجد أصنامًا معدة، فأوردها تهامة، ثم ادع العرب إلى عبادتها. فأتى شط جدة، فاستثار خمسة أصنام، ثم حملها حتى ورد تهامة وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها فأجابوه، وهذه الأصنام هي؛ وَدٌّ: وكان على صورة رجل كأعظم ما يكون من الرجال، عليه حلتان، مؤتزر بحلة، ومرتدٍ بأخرى، وعليه سيف قد تقلده، وتنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، وجعبة فيها نبل، وسُوَاع: وكان على صورة امرأة، ويغوث: وكان على صورة أسد، ويعوق: وكان على صورة فرس، ونَسْر: وكان على صورة نسر.
(٣٥) اللات: تحريف الإلهة، وكان بيتها في الطائف، وسدنها من ثقيف، تزعم أسطورتها أنه كان رجل يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره مدة، ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية مربعة، وسموها بيت الربة.
(٣٦) العزى: بيتها في بطن نخلة قرب مكة، وكان سدنتها بنو شيبان، وهم بطن من سليم حلفاء بني هاشم، ومن الأساطير التي تروى عنها أنه كان بالقرب منها شجرة يذبح عندها، فأزالها خالد بن الوليد، فخرجت منها شيطانة نافشة شعرها، واضعة ثديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، فضربها بالسيف، ففلق رأسها، فإذا هي حممة، أي فحم ورماد.
(٣٧) مناة: هي أقدم الطواغيت الثلاثة، وتأتي بعدها اللات ثم العزى. وكانت منصوبة على ساحل البحر بين مكة والمدينة، تعظمها الأوس والخزرج، وتسدنها هذيل وخزاعة.
(٣٨) هبل: صنم من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب.
(٣٩) كانت قداح الاستقسام والاستخارة توضع عند سدنة الأصنام، منها اثنان كتب في أحدهما «صريح» وفي الآخر «ملصق»، فإذا شكوا في مولود أهدوا إلى هبل هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح استلحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه. ومنها ثلاثة كتب في أحدها: «أمرني ربي.» وفي الثاني: «نهاني ربي.» وترك الثالث غفلًا. فإذا أرادوا أمرًا أجالوا هذه القداح في خريطة، ثم أخرجوا واحدًا منها، فإن كان الآمر مضوا في شأنهم؛ وإن كان الناهي عدلوا عنه؛ وإن كان الغفل أعادوا الاستخارة حتى يخرج أحد المكتوبين.
(٤٠) الدبران: منزل القمر، مشتمل على خمسة كواكب في برج الثور.
(٤١) الشعرى العبور: الكوكب الذي يطلع في الجوزاء.
(٤٢) تعلم الطب في بلاد الفرس واليمن، وكان يقيم في الطائف، توفي في السنة الثالثة عشرة للهجرة.
(٤٣) زعموا أن شقًّا وسطيحًا كانا من أبناء الخالات، قريبين من ظهور الإسلام. وكان شق نصف إنسان من أعلى إلى أسفل، وسطيح جسدًا ملقى لا جوارح له، يدرج كالثوب، ووجهه في صدره، وليس له رأس ولا عنق، ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب، فإنه ينتفخ ويجلس، وكانت ولادتهما في يوم واحد، وقيل إنهما عاشا ستمائة سنة، وقيل إن سطيحًا عاش سبعمائة سنة، ومات في زمن كسرى أنوشروان.
(٤٤) يظهر اختلاف اللهجات العدنانية في المترادفات الكثيرة للمعنى الواحد، كأسماء السيف والرمح والخمر والداهية، وفي اللفظ الواحد الذي يدل على معانٍ مختلفة، كاليد والخال والعين والعجوز؛ وفي الألفاظ المتضادة كالجون للأبيض والأسود، وكالرائحة الذفرة للطيبة والمنتنة. وأما الانحرافات اللفظية فكثيرة، منها القلب كقولهم: جذب وجبذ، وشاكي السلاح وشائك السلاح؛ ومنها الإبدال، ويكون في إقامة بعض الحروف مقام بعض، كقولهم: قصيت أظفاري بدلًا من قصصت، والأيم والأين للحية، وكإبدال الياء جيمًا في الإضافة والنسب، كقولهم: غلامج وبصرج، بدلًا من غلامي وبصري؛ وكالعنعنة في لغة قيس وتميم يجعلون الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون: عِنَّك، بدلا من إنَّك، ومنها الزيادات، وهي في جملتها مكروهة، كالكشكشة في ربيعة ومضر؛ يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينًا، فيقولون. عليكش ورأيتكش، وللسيوطي في (مزهره) مباحث مستفيضة في هذه الأشياء.
(٤٥) قال ابن خلدون: «كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم؛ ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم، وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصحة والفساد.» المقدمة ص٤٨٧، وقال السيوطي: «والذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتُدِيَ، وعنهم أخذ اللسان العربي، من بين قبائل العرب، هم قيس وتميم وأسد. هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف؛ ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين؛ ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد؛ لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية (يعني الآرامية)، ولا من تغلب؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر؛ لمجاورتهم للنبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن؛ لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف؛ لمخالطتهم تجَّار اليمن المقيمين عندهم؛ ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم.» المزهر ج١. ص١٢٨.
(٤٦) نيكلسون: تاريخ الأدب العربي. الترجمة العربية لحسن حبشي في مجلة الرسالة سنة ١٩٣٦ ص١٨٨١.
(٤٧) سمى العرب خطهم بالجزم؛ لأنه جزم من الآرامي النبطي، أي اقتُطع، لا كما توهم مؤرخو العرب أنه جزم من المسند.
(٤٨) في القرن الرابع للمسيح قسمت نواحٍ عبر الأردن والسلط والبلقاء والنبط والكرك ولايتين: فلسطين الثانية: وحاضرتها بيسان؛ وفلسطين الثالثة: وحاضرتها سلع وهي بلاد النبط، وتعرف بالعربية الصخرية. والأنباط قوم خليط من الآراميين والعرب ظهروا في القرن الخامس قبل الميلاد، وقامت لهم دولة مستقلة في القرن الثاني، حتى تغلب عليهم الرومان في أوائل المائة الثانية للمسيح، فجعلوا بلادهم في جملة ولاياتهم.
(٤٩) ذكر جرجي زيدان أنه عثر في أطلال النمارة بحوران على حجر عليه كتابة عربية بالخط النبطي نقشت على قبر امرئ القيس بن عمرو — ملك الحيرة — سنة ٢٢٣ لدخول بصرى عاصمة حوران في حوزة الرومان، أي سنة ٣٢٨ للميلاد، جاء في أولها:

تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التاج.

وتفسيرها: هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي لبس التاج. تاريخ آداب اللغة العربية. ج١ ص٢٦.
وذكر الأب لويس شيخو أنه وجد أثر في حران من أعمال حوران مكتوب باليونانية والعربية، تاريخه سنة ٤٦٣ لبصرى، أي سنة ٥٦٨ للمسيح، جاء فيه أن هناك مشهدًا للقديس يوحنا المعمدان، وهذا أوله بالعربية المتنبطة:
أنا شرحبل بر طلمو بنيت ذا المرطول سنة ٤٦٣، وتفسيره: أنا شرحبيل بن ظالم بنيت ذا المرطول، والمرطول معرب اللفظ اليوناني (Martyrium)، أي مشهد.
(٥٠) ابن خلدون: المقدمة ص٣٥٠.
(٥١) قال عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا، لجاءكم علم وشعر كثير.» ابن سلام: طبقات الشعراء ص١٧.
(٥٢) قال ابن سلام: «فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ووقائعها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، وأرادوا أن يَلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار.» طبقات الشعراء ص٢٣.
(٥٣) هذا لا يمنع وجود بعض قصائد تختلف في وزنها، كقصيدة المرقش: هل بالديار أن تجيب صمم، كما لا يمنع أن يظل بين عامة الأعراب من لا يفرق بين الشعر والنثر.
(٥٤) نيكلسون: تاريخ الأدب العربي، ترجمة محمد حبشي، الرسالة ١٩١ سنة ١٩٣٧.
(٥٥) جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية. ج١ ص٦١.
(٥٦) ابن سلام: طبقات الشعراء ص١٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤