أسرار مُعْلَنَة

في صبيحة يوم سبتٍ،
عُدَّ من أجمل الأيام،
خرجتْ سبعُ فتياتٍ وقائدتُهن الآنسة جونستون،
للتخييم ضمن برنامج الفتيات الكنديات المتدربات.

قالت فرانسيس: «كِدْنَ لا يذهبن بسبب الأمطار التي هطلت صباح السبت. كُنَّ ينتظرن لنصف الساعة في الطابق السفلي للكنيسة المتحدة، وقالت: أوه ستتوقف الأمطار. لم تعرقل الأمطار قطُّ رحلاتي الخلوية! والآن أراهن على أنها تتمنَّى لو أعاقتها الأمطار؛ إذن لَاختلفت القصة تمامًا عمَّا حدث.»

توقَّفت الأمطار بالفعل، وخرجن في رحلتهن الخلوية، وأمسى الجو حارًّا جدًّا في جزء من الطريق لدرجةِ أن الآنسة جونستون سمحت لهن بالتوقُّف عند بيتٍ بمزرعة، وجلبت لهن امرأةٌ من البيت زجاجات المياه الغازية، بينما سمحَ لهن رجلٌ باستعمال خرطوم الحديقة ليرشُشْنَ أنفسَهنَّ به فتبرد أجسادهن. كُنَّ يتبادلن الخرطوم الواحدة تلو الأخرى ويلهَوْنَ به، وقالت فرانسيس إن ماري كاي قالت إن هيذر بيل هي الأكثر عبثًا وجرأةً؛ حيث أمسكت بالخرطوم ورشَّتِ الأخريات بالمياه في كل الأماكن الحساسة.

قالت فرانسيس: «سيحاولن تفسير الأمر بأنها بريئة مسكينة، لكن الحقائق تفيد بخلاف ذلك تمامًا. كان من الممكن أن يكون الأمر برمته خطةً مُسبَقة خطَّطت لها للقاء شخصٍ ما؛ أعني رجلًا ما.»

قالت مورين: «ظني أن ذلك أمرٌ مستبعَد جدًّا.»

قالت فرانسيس: «حسنٌ، لا أصدِّق أنها غرقت. لا أصدق ذلك مطلقًا.»

الشلالات الواقعة على نهر بيريجرين لم تكن شيئًا بالمقارَنة بالشلالات التي نراها في الصور؛ فهي مجرد مياه تسقط على سلسلة من الصخور الجيرية التي لم يتجاوز ارتفاعُ أيٍّ منها ست أو سبع أقدام. ثمة بقعة رائعة للاستجمام حيث يستطيع المرءُ أن يقف وراء ستار من الماء يندفع بقوة، ومن حوله في منطقة الأحجار الجيرية ثمة حمَّامات ذات حوافَّ ملساء، ولا تزيد على أحواض الاستحمام من حيث الحجم، حُوصِر فيها الماءُ وصار دافئًا. وإنْ شئتَ أن تغرق فيها، فلا بد أن تكون حريصًا كل الحرص على الغرق. لكنهن بحثن هناك — الفتيات الأخريات جَرين في المكان ونادين اسم هيذر، وفحصن كل البرك، ومدَدْنَ رءوسهن إلى ما وراء الستار المائي للشلال الصاخب — وجرين برشاقة حول الصخور العارية، وصرخْنَ وبللنَ أنفسهن بالماء، وخضنَ الستار المائي، حتى نادت عليهن الآنسة جونستون وأمرتهن بالعودة.

ها هي بيتسي وإيفا ترويل،
ولوسيل تشامبرز أيضًا،
وها هي جيني بوس وماري كاي تريفيليان،
وروبن ساندز والمسكينة هيذر بيل.

قالت فرانسيس: «سبعٌ فقط هن اللائي استطاعت أن تجمعهن، وكلٌّ منهن لسببٍ محدد: روبن ساندز هي ابنة الطبيب، ولوسيل تشامبرز ابنة القَس، لا يمكنهما الخروج من هذه العباءة؛ بلدة آل ترويل، يسعدهما المشاركة في أي شيء. وجيني بوس العابثة الرشيقة — رافقتنا لممارسة السباحة وركوب الخيل — وماري كاي تسكن إلى جوار الآنسة جونستون؛ كفاها تلك الجيرة. وهيذر بيل وافدة جديدة على المدينة، وأمها سافرت خلال عطلة نهاية الأسبوع؛ لقد استغلت الفرصة وقرَّرت أن تنطلق في رحلة استكشافية خاصة بها.»

•••

مضى حوالي ٢٤ ساعة منذ اختفاء هيذر بيل خلال الرحلة الخلوية السنوية التي يقوم بها برنامج الفتيات الكنديات المتدربات، وصولًا إلى الشلالات التي تصبُّ في نهر بيريجرين. كانت ماري جونستون، التي أمست في أوائل الستينيات من عمرها، تقود هذه الرحلة منذ سنوات، من قبل الحرب، وجرى العُرْف على أن تشارك ٢٤ فتاة تقريبًا في تلك الرحلة على طريق كاونتي صباح السبت في شهر يونيو. كُنَّ يرتدين جميعًا سراويلَ قصيرة زرقاء زُرْقة داكنة، وبلوزاتٍ بيضاء، وأوشحةً حمراء حول أعناقهن، وكانت مورين من بينهن منذ عشرين سنة تقريبًا.

وكانت الآنسة جونستون دومًا تحثُّهم على إنشاد الأغنية نفسها:

تقديرًا لجمال الأرض
وجمال السماوات
والحُبِّ الذي يُحلِّق فوقنا منذ الميلاد
ويحيط بنا …

ويتسلَّل إلى مسامعك طنينٌ من كلمات مختلفة مصاحبة للأنشودة بحذرٍ مَشُوبٍ بالإصرار:

تقديرًا لمشهد مَقْعَدة الآنسة جونستون
وهي تتمايل على طول طريق كاونتي
نحن الحمقاوات اللائي ينشدن هذه الأنشودة
أَلَا تبدو أشبه بضفدع الطين؟

هل تذكر إحدى مَنْ هنَّ في عُمْر مورين هذه الكلمات الآن؟ اللائي بقين في البلدة أمسوا أمهاتٍ — ولديهن فتيات في سن مناسبة للخروج في هذه الرحلة الخلوية، وفتيات أكبر سنًّا أيضًا — وكانت تصيبهن النوبات التي تصيب الأمهات حيال استخدام ألفاظ نابية. إنجاب الأطفال يُغيِّر من طباع النساء؛ فهو يعطيك نصيبَك الذي لا غنى عنه من النُّضْج، فيمكن حينئذٍ استبعاد أجزاءٍ محددة من حياتك — أجزاء قديمة — والتخلِّي عنها، ولا يكون للعمل والزواج الأثر نفسه؛ كلُّ ما في الأمر أنهما يجعلان المرءَ يتصرَّف وكأنَّ ثمة أشياءَ طواها النسيان.

لم يكن لدى مورين أطفال.

كانت مورين بصحبة فرانسيس وول يحتسيان القهوة ويدخنان حول طاولة الإفطار التي وُضِعت في غرفةٍ تحتوي على خزانة طعام قديمة ودواليب عالية ذات واجهة زجاجية. كان هذا بيت مورين في مدينة كارستيرز عام ١٩٦٥. مضى على عيش مورين في ذلك البيت ثماني سنوات، لكنها لا تزال تشعر وكأنها تتحرَّك فيه — في نطاق محدود نوعًا ما — من جزءٍ تشعر فيه بالألفة إلى جزءٍ آخَر. جهَّزَتْ هذه الزاوية بحيث يتاح مكانٌ لتناوُل الطعام بخلاف طاولة غرفة الطعام، وكانت قد وضعت أقمشة قطنية جديدة في الغرفة المشمسة لتغيير الستائر. استغرَقَ الأمرُ منها وقتًا طويلًا لإقناع زوجها بالتعديلات الجديدة؛ فالغرف الأمامية كانت مملوءةً عن آخِرها بأثاث قَيِّم ثقيل الوزن من خشب البلوط والجوز، وكانت الستائر مصنوعة من قماش ثقيل مطرَّز باللون الأخضر ولون التوت البري، كما هي الحال في الفنادق الفاخرة؛ فليس بمقدور المرءِ أن يبدأ في تغيير أي شيء هناك.

تعمل فرانسيس عند مورين بالبيت، لكنها لم تكن خادمة؛ كانتا بنات عم، ولو أن فرانسيس كانت تكبر مورين بجيل كامل. كانت فرانسيس تعمل في هذا البيت قبل أن تطأه مورين بفترة طويلة — كانت تعمل لدى الزوجة الأولى — وأحيانًا ما كانت تنادي مورين «سيدتي» على سبيل السخرية، بنبرةٍ فيها من الودِّ ما فيها من النفور. كَمْ دفعتِ لقاء هذا الفستان، سيدتي؟ أوه، لا بد أن البائع خدعك! وكانت تقول لمورين إنها تعاني ترهُّلًا في منطقة الأرداف، وأن طريقة تصفيف شعرها والصبغة التي تستخدمها لم تكونا تناسبانها؛ كل هذا على الرغم من أن فرانسيس نفسها كانت امرأةً سمينة غطَّى الشيبُ شعرها، وبَدَتْ على وجهها أماراتُ الوقاحة. لم تعتبر مورين نفسَها هلوعة؛ فقد كانت تتمتع بهيئة مهيبة. وبالتأكيد لم تكن الكفاءة تعوزها؛ حيث كانت تدير مكتب المحاماة الخاص بزوجها قبل أن «تتأهَّل» (على حدِّ تعبيرهما) لإدارة بيته وتدبير شئونه. كانت تحدِّث نفسها أحيانًا بأنه ينبغي عليها أن تحاول أن تحظى بقدرٍ أكبر من الاحترام من جانب فرانسيس، لكنها كانت بحاجةٍ لمَنْ تمزح وتتشاجر معه بالبيت. لم يكن لها أن تثرثر نظرًا لحساسية موقف زوجها، وهي لم تعتقد أن الثرثرة من طبيعتها على أية حال، لكنها تسامحت مع فيض التعليقات الخبيثة والتخمينات الطائشة القاسية والواثقة التي كانت تَصدُر من فرانسيس.

(على سبيل المثال: ما قالته فرانسيس عن والدة هيذر بيل، وعن ماري جونستون والرحلة الخلوية بصفة عامة. حسبت فرانسيس أنها خبيرةٌ في هذا المضمار لأن ماري كاي تريفيليان كانت حفيدتها).

كان من الصعب أن يأتي أحدٌ على ذِكْر ماري جونستون في مدينة كارستيرز دون أن يُلحِق بذِكْرها صفةَ «رائعة»؛ فقد أُصِيبتْ بمرض شلل الأطفال، وكادت تقضي نحبها تأثُّرًا به في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها، وأفضى المرض إلى أن صارت ساقاها قصيرتين، وقوامها قصيرًا ومكتنزًا، وكتفاها مائلتين، وعنقها متقوِّسًا بقدر طفيف؛ ممَّا أدَّى إلى أن مال رأسُها الكبير بعض الشيء إلى جانب واحد. درست ماري إدارة الحسابات، وحصلت على وظيفة مكتبية في مصنع آل دُودْ، وكرَّست أوقات فراغها للفتيات، وغالبًا ما كانت تقول إنها لم تلتَقِ فتياتٍ سيئات قطُّ، بل بعض الفتيات اللائي كُنَّ مرتبكات. وكانت مورين كلما التقت ماري جونستون على قارعة الطريق أو في محل من المحلات يخفق قلبها من فرط الحزن والأسى. كانت ماري تلقاها أولًا بتلك الابتسامة الفاحصة حيث تحملق في عينيها، وبإعلان سعادتها بحالة الجو أيًّا كانت — سواء أكانت عاصفةً أم باردة أم مشمسة أم مطيرة — ثم بطرح السؤال المُغلَّف بضحكة عذبة: «كيف حالك إذن سيدة ستيفنز؟!» كانت ماري جونستون دومًا حريصة كل الحرص على تلقيبها ﺑ «السيدة ستيفنز»، لكنها كانت تلفظه وكأنه عنوان مسرحية، وكانت تُحدِّث نفسها طوال الوقت بأنها مورين كولتر فحسب. (كان آل كولتر شأنهم شأن آل ترويل تمامًا الذين علَّقَتْ عليهم فرانسيس واصفةً إيَّاهم بأنهم مَعْلَمٌ من معالم المدينة لا أكثر ولا أقل). سألتها ماري قائلةً: «ما الأشياءُ المثيرة التي قمتِ بها مؤخرًا، سيدة ستيفنز؟»

حينئذٍ شعرت مورين وكأن الأضواء سُلِّطت عليها، ولم تستطع أن تفعل شيئًا حيال ذلك، وكأنها في مواجهةِ تحدٍّ ما، وكان الأمر يتعلَّق بزواجها المبني على الحظ، وقوامِها الممشوق الغضِّ الذي كان الشيءُ الوحيد المعيب فيه خفيًّا — فقد رُبِطتْ قناتا فالوب لمنعها من الإنجاب — وبشرِتها وردية اللون، وشعرِها الكستنائي، والملابسِ التي أنفقت أموالًا طائلة ووقتًا طويلًا عليها؛ وكأنها يجب أن تكون مَدِينةً لماري جونستون بشيء ما؛ تعويض لا يمكن تحديده أبدًا، أو كأن ماري جونستون بإمكانها أن ترى نوعًا من القصور أكبر بكثير ممَّا تواجهه مورين نفسها.

لم تعبأ فرانسيس بماري جونستون هي الأخرى بنفس الطريقة البسيطة المحضة التي لا تعبأ بها بأي شخصٍ يبالغ في تقديره لذاته.

•••

صحبتهم الآنسة جونستون في رحلةِ تسلُّق لمسافة نصف ميل قبل الإفطار كعادتها دومًا لارتقاء الصخرة؛ كتلة الحجر الجيري التي برزت أعلى نهر بيريجرين، وكانت شيئًا نادرًا جدًّا في هذه البقعة من البلدة، لدرجة أنها لم يُطلَق عليها سوى «الصخرة». صباح الأحد، يتعيَّن القيام برحلة التسلُّق هذه مهما كان المرء خَدِرًا من فرط محاولة مغالَبة النعاس طوال الليل، وشاعرًا بشبه غثيان من فرط تدخين السجائر المُهَرَّبَة، ومرتعِشًا أيضًا؛ لأن الشمس لم تكن تتخلل الغابات في تلك الساعة من النهار. كاد الطريق لا يُوصَف بأنه طريق؛ إذ كان يتعيَّن على المرء أن يتسلَّق جذوع أشجارٍ متعفنة، ويخوض عبر السراخس، وما بَيَّنَت الآنسة جونستون أنه نبات اليَبْروح ونبات إبرة الراعي البري والزنجبيل البري. كانت تجذبه لأعلى وتقضمه برفق دون أن تتمكَّن من إزالة القذارة عنه بالكامل. انظروا بِمَ تحبونا الطبيعة!

نسيتُ سترتي. هكذا قالت هيذر عندما قطعَا نصف الطريق لأعلى. هل يمكنني العودة لجلبها؟

في الأيام الخوالي، كانت إجابة الآنسة جونستون على الأرجح هي النفي. أسرعي الخُطى وستشعرين بالدفء من دونه. هكذا كانت تقول. لا بد أنها شعرت بعدم الارتياح هذه المرة؛ نظرًا لأن شعبية رحلات التسلُّق خاصتها ما برحت تتضاءل، الأمر الذي ألقت باللائمة فيه على التليفزيون والأمهات العاملات والتكاسُل في البيت. أجابت لها طلبها.

حسنٌ، ولكن أَسْرِعي. أَسْرِعي والحقي بنا.

وهو ما لم تفعله هيذر قطُّ. عند الصخرة، استمتعن بالمنظر (تذكَّرَتْ مورين بحثها عن موانع الحمل بين زجاجات الجعة ولفافات الحلوى) ولم تلحق بهن هيذر، وفي طريق عودتهن لم يقابِلْنَها. لم تكن في الخيمة الكبيرة ولا في الصغيرة؛ حيث كانت الآنسة جونستون تنام، أو حتى بين الخيام. لم تكن في أي ملاذٍ أو مَخْبَأ من مخابئ العشَّاق بين أشجار الأرز المحيطة بأرض المعسكر. اختصرت الآنسة جونستون عملية البحث.

قالت: «الفطائر المُحلَّاة. الفطائر المُحلَّاة والقهوة. تُرَى هل ستقاوِم الفتاة العابثة رائحةَ الفطائر والقهوة فتخرج من مَخْبَئِها؟»

تعيَّن عليهن الجلوس وتناوُل الطعام — بعد أن تلت الآنسة جونستون صلاتها شاكرةً الرب على كل شيء في الغابة وفي البيت — وبينما شرعن في تناوُل الطعام، صاحت الآنسة جونستون: «يا للطعم اللذيذ!» وتساءلت بأعلى صوتها: «أَلَا يفتح الهواءُ المنعش شهيتنا؟ أليست هذه ألذَّ فطائر مُحلَّاة تتناولنها؟ من الأفضل أن تسرع هيذر وإلا فلن يكون لها نصيبٌ من الفطائر. هيذر؟ هل تسمعينني؟ لن يتبقَّى لكِ شيء!»

فور أن انتهوا، تساءلت روبن ساندز إن كان بإمكانهن الذهاب الآن للبحث عن هيذر؟

قالت الآنسة جونستون: «الصحون أولًا يا سيدتي، حتى لو لم تكوني معتادةً على غسل الصحون بالبيت.»

كادت روبن أن تجهش بالبكاء؛ لم يُكلمها أحدٌ من قبلُ بهذه الطريقة.

بعد أن انتهين من غسل الصحون، سمحت لهن الآنسة جونستون بالرحيل، وحينئذٍ عُدْنَ مرةً أخرى إلى الشلالات، لكن سرعان ما استدعَتْهن جميعًا وأمرتهنَّ بالجلوس على شكل نصف دائرة مبللاتٍ كما هنَّ، وجلست هي القرفصاء أمامهن، وصاحت أنْ مرحبًا بأي شخص يسمعهن ويودُّ الانضمام لهن، «مرحبًا بأي شخص يختبئ هنا ويحاول أن يمارس علينا خدعةً! فَلْتظهر الآن ولن نسألكَ عن شيء! وإلا فسيتعيَّن علينا أن نمضي قدمًا من دونك!»

وبعدها بدأت حديثها بحماس، وألقت على مسامعهن عظتها التي عادةً ما تلقيها صباح الأحد خلال رحلة التسلُّق دون تردُّد أو قلق. ظلت تسهب في عظتها وتطرح بين الحين والآخر بعضَ الأسئلة لتتأكد من إنصاتهن إليها. جفَّفَتْ حرارةُ الشمس سراويلهن القصيرة، ولم ترجع هيذر بيل. لم تخرج من بين الأشجار، وما برحت الآنسة جونستون تتكلم. لم تتركهن حتى وصل السيد ترويل بشاحنته إلى المعسكر مُحمَّلًا بالآيس كريم للغداء.

لم تُعطِهنَّ الإذن حينئذٍ، لكنهن انطلقن من تلقاء أنفسهن على أية حال. قفزْنَ وجرينَ باتجاه الشاحنة، وأخذْنَ يقصصن عليه ما حصل على الفور. قفز جوبيتر؛ الكلب الخاص بترويل، على الجزء الخلفي للشاحنة، ولفَّت إيفا ترويل ذراعَيْها حوله وطفقت تنوح وكأنه هو الذي ضلَّ الطريق.

نهضت الآنسة جونستون واتجهت نحو الشاحنة، ونادت على السيد ترويل بصوتٍ عالٍ يعلو على الضجيج الذي أحدثَتْه الفتيات.

«واحدة من الفتيات قرَّرَتْ أن تختفي!»

خرجت فِرَق البحث، وأغلَقَ مصنع آل دُودْ أبوابه بحيث يستطيع كلُّ مَن يود المشاركة في البحث أن يشارك، وشاركت الكلاب أيضًا في البحث. دار حوارٌ عن البحث في النهر باتجاه سريانه من الشلالات.

عندما قصد الشرطيُّ والدةَ هيذر بيل ليخبرها باختفاء ابنتها، وجدها قد رجعت توًّا من عطلة نهاية الأسبوع مرتدية لباسًا صيفيًّا خفيفًا كاشفًا للظهر، وحذاءً عالي الكعبين.

قالت له: «حسنٌ، من الأفضل أن تجدوها؛ فهذه مهمتكم.» كانت تعمل ممرضة بالمستشفى. قالت فرانسيس: «إنها إما مطلقة وإما لم تتزوَّج من قبلُ قطُّ. الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد؛ ذلك هو مبدؤها.»

•••

كان زوج مورين يناديها، فأسرعت إلى الغرفة المُشمِسة. بعد السكتة الدماغية التي أُصِيبَ بها منذ عامين وهو في التاسعة والستين من عمره، ترك مهنةَ المحاماة، لكنه ما زال منكبًّا على بعض الرسائل التي يتعيَّن عليه كتابتها، وبعض الأعمال المُعلَّقة لوكلاء قدامى لم يعتادوا التعامُل مع محامٍ غيره. طبعت مورين كل مراسلاته، ومدَّت له يد المساعدة كلَّ يوم فيما سمَّاه مهامَّه.

سألها: «ماذا تفعلين هناك؟» كانت كلماته تخرج منه أحيانًا بلا وضوح؛ لذا كان يتعيَّن عليها ملازمته لتفسِّر كلامَه لمَنْ لا يعرفونه جيدًا. وكلما اختلى بها، لم يكن يبذل جهدًا كبيرًا لتنقيح ألفاظه، وكانت نبرته متبرمة وفيها نَزَق.

أجابته مورين: «كنت أتكلم مع فرانسيس.»

«عمَّ تتكلَّمان؟»

قالت: «موضوعات عامة.»

«حسنٌ.»

أطالَ مقاطع الكلمة بكآبة وهو ينطقها وكأنه يقول إنه على دراية بمضمون حوارهما، وإنه لا يعبأ به؛ النميمة والشائعات، والاستمتاع دون مبالاة بما تُحدِثه كوارثُ الآخرين من إثارة. لم ينخرط في حواراتٍ ممتدة، سواء في هذه المرحلة أم عندما كان باستطاعته أن يتحدَّث بطلاقة، حتى تعنيفه كان مقتضبًا؛ حيث يعوِّل على نبرة صوته وتلميحاته. بَدَا وكأنه يدعو إلى مجموعة من المبادئ والقواعد المعلومة لكل المحترمين من الناس، بل ربما للناس جميعًا أيضًا، والمعروفة حتى للذين عاشوا حياتهم في حالةٍ من القصور. بدا أنه يألم نوعًا ما، وينتابه شعورٌ بالحَرج بعض الشيء لكل المعنِيِّين بالأمر كلما اضطرته الظروفُ أن يتحدَّث عن الآخرين، وبَدَا مهيبًا أيضًا. وكانت توبيخاته فعَّالةً على نحوٍ مذهل.

كان الناسُ في كارستيرز يتحلَّلون تدريجيًّا من عادة دعوة المحامين بالمحامي فلان الفلاني، تمامًا كما ننادي الأطباء بألقابهم. لم يَعُدْ أحدٌ في المدينة ينادي محاميًا بلقبه المهني، لكنهم دومًا يشيرون إلى زوج مورين بالمحامي ستيفنز، والأدهى أن مورين نفسها كانت تفكِّر فيه من هذا المنطلق أيضًا، ولو أنها كانت تدعوه «ألفين». كان يرتدي كلَّ يوم نفس ملابس الخروج التي اعتاد أن يرتديها عند الذهاب إلى مكتبه — بَذلة رمادية أو بُنية اللون من ثلاث قِطَع — وبَدَا أن ملابسه، على الرغم من تكلفتها الباهظة، لا تناسبه تمامًا، أو تمتد بحيث تغطي جسمه الطويل المترهل، وبدا أنها لم تكن تخلو قطُّ من آثارٍ ولو طفيفةً لرمادِ السجائر وفتات الطعام، بل ربما حتى شذرات من الجلد المنسلخ أيضًا. وكان رأسه محنيًّا لأسفل، وشحومُه متدلية من فرط استغراقه وانهماكه، وتعبيرات وجهه تنمُّ عن الدهاء وشرود الذهن — لا يسع أحدٌ أن يجزم أيُّهما الغالب على مُحَيَّاه. وراقَ ذلك للناس؛ فهم يحبون هيئته الرثة بعض الشيء، وشروده الذي يخرج بغتةً منه بتفصيلةٍ مخيفة. إنه ضليع بالقانون — هكذا يقولون — ولا يحتاج إلى الرجوع إلى كتاب قانون للاطِّلاع على مسألة معينة؛ فكلُّ كتب القانون مطبوعة في ذاكرته. لم تهزَّ سكتته الدماغية ثقتهم به، ولم تُغيِّر من مظهره أو سلوكه كثيرًا؛ جُلُّ ما في الأمر أنها عزَّزت من تلك الصفات.

آمَنَ الجميع بأنه كان من الممكن أن يصبح قاضيًا لو كان قد استغلَّ الفرص التي سَنَحتْ له. كان يمكن أن يصبح عضوًا بمجلس الشيوخ، لكنه كان أشرف من ذلك بكثير؛ لم يكن يعرف كيف يتزلَّف. كان رجلًا فريدًا من نوعه.

جلست مورين على مسند القدم على مقربة منه لتكتب بطريقة الاختزال. كان اسمها بالنسبة إليه، في المكتب، «الجوهرة»؛ لأنها كانت فَطِنة ويُعوَّل عليها، والواقع أنها كانت بارعة في وضع مسوَّدات للمستندات وكتابة الرسائل بمفردها. وحتى في البيت، كانت زوجته وأبناؤه هيلينا وجوردون ينادونها بالاسم نفسه. وما زالت هيلينا وجوردون يستخدمان الاسم نفسه ولو أنهما شبَّا عن الطوق ويعيشان بعيدًا الآن. هيلينا كانت تستخدمه بعطف واستفزاز، وأما جوردون فبلطف مشوب بالوقار والإطراء. كانت هيلينا عزباء مضطربة نادرًا ما تزور البيت، وكثيرًا ما تدخل في مجادلات كلما جاءت، أما جوردون فكان معلمًا بكلية عسكرية، وكان يطيب له اصطحاب زوجته وأولاده لزيارة كارستيرز مستعرضًا المكان وأباه ومورين وفضائلهم الراسخة.

ما زال بإمكان مورين أن تستمتع بكونها «الجوهرة»، أو على الأقل وجدت تلك المكانة مريحةً لها. بعض أفكارها كانت تشرد من تلقاء نفسها. كانت الآن تفكِّر في الطريقة التي بدأت بها المغامرة الليلية الطويلة بالمعسكر في ظلِّ غطيطِ الآنسة جونستون المروع، والغاية منها مغالبة النوم حتى الفجر، وفي كل الاستراتيجيات والفقرات الترفيهية التي كان يُعَوَّل عليها لتحقيق هذه الغاية، ولو أنها لم تسمع قطُّ أنها آتت ثمارها.

الفتياتُ لَعِبْنَ بوَرَق اللعب، وتبادلن النكات، ودخَّنَّ السجائر، وفي منتصف الليل تقريبًا بدأْنَ لعبة «الحقيقة أم التحدي»، ومن بين التحديات التي اقترحنها: اخلعي الجزء العلوي من منامتك واكشفي عن صدرك، كلي عقب السيجارة، ابتلعي الأوساخ، ضعي رأسك في سطل الماء وحاولي العد حتى مائة، اذهبي وتبولي أمام خيمة الآنسة جونستون، ومن بين الأسئلة التي استدعت قول الحقيقة: هل تكرهين أمك؟ أباك؟ أختك؟ أخاك؟ كَمْ عدد الأعضاء التناسلية الذكورية التي رأيتها في حياتك؟ ولمِنْ كانت؟ هل كذبتِ أو سرقتِ أو مسستِ شيئًا ميتًا في حياتك من قبلُ؟ وتذكَّرَتْ أيضًا مورين الإحساسَ بالغثيان والدوار الناجمَيْنِ عن تدخين عدد كبير من السجائر بسرعة مبالغ فيها، وكذلك رائحة الدخان تحت القماش السميك الذي تشبَّعَ بشمس النهار، ورائحة الفتيات اللائي سبِحن لساعاتٍ في النهر، وجرين واختبأن بين عيدان القصب على طول ضفتي النهر، وتعيَّنَ عليهن أن يحرقن العلقات ليُبْعِدْنَها عن أرجلهن.

تذكرتْ كَمْ كانت مزعجة آنذاك، كَمْ كانت صاخبة وميَّالة إلى قبول التحديات! قبل أن تلتحق بالمدرسة الثانوية تحديدًا، تمكَّنَتْ منها حالةٌ من الطيش، سواء أكانت حقيقية أم مزيَّفة أم وسطًا بين الحقيقة والزيف، وسرعان ما تبدَّدت تلك الحالة، واختفى جسدُها الجريء داخل هذا الجسد الكبير، وأمست فتاةً مولعة بالدراسة، خجولة، يتورَّد وجهها خجلًا. اكتسبت الخِصالَ التي سيَرَاها زوجُ المستقبل ويقدِّرها كلَّ التقدير عندما يتقدَّم لطلب يدها.

أتحدَّاكِ أن «تهربي». هل كان ذلك ممكنًا؟ أحيانًا ما يهبط الإلهام على الفتيات عندما يُرِدن للمخاطر أن تستمر دون توقُّف، فترى الواحدة منهن تتمنَّى لو كانت بطلةً مهما كلَّفها الأمر. يتعاطين مع مزحة، فترى لديهن رغبة في حملها على مَحْمَلٍ يتجاوز ما حملها عليه غيرهن من قبلُ. تجد لديهن رغبة في أن يكنَّ طائشاتٍ جريئاتٍ ومدمِّرات. كان هذا الأمل الضائع لدى الفتيات.

من مَسند القدم المغطَّى بنسيج قطني مطرَّز إلى جوار زوجها، تطلَّعَتْ إلى أشجار الزان النحاسي، فتجلَّى لها عَبرها، ليس العُشب المشمس، بل الأشجار الجامحة بطول النهر؛ أشجار الأَرْز الوارفة، وأشجار البلوط ذات الأوراق النحيلة، وشجر الحور بأوراقه اللامعة. بدت الأشجار جدارًا مخلخلًا نوعًا ما ببواباتٍ خفية، ودروب مستترة خلفه؛ حيث كانت تمضي حيواناتٌ، وبشر منعزلون أحيانًا، أصبحوا مختلفين عمَّا كانوا عليه بالخارج، ومُحمَّلين بمسئولياتٍ وقناعاتٍ ونوايا مختلفة. كان بإمكانها أن تتخيَّل فكرة الاختفاء، لكنَّ المرء — بالطبع — لا يختفي هكذا وحسب؛ فهناك دومًا شخصٌ آخَر يقطع دربًا يتقاطع مع دربك، وعقله يحفل بخططٍ لك حتى قبل أن يلتقي بك.

عندما قصدَتْ مكتبَ البريد ظُهْرَ ذاك اليوم لإرسال خطابات زوجها، سمعت مورين روايتين جديدتين: ثمة فتاة شقراء شُوهِدت وهي تهمُّ بركوب سيارة سوداء على طريق بلووتر السريع شمالي والي في تمام الواحدة تقريبًا ظُهْر الأحد. ربما كانت تتطفَّل للركوب مع أحد أصحاب السيارات، أو ربما كانت تنتظر سيارة بعينها. كان ذلك على بُعْد ٢٠ ميلًا من الشلالات، وكان الطريق إلى هناك يستغرق سيرًا على الأقدام حوالي خمس ساعاتٍ عبر البلدة. من الممكن القيام بذلك، أو ربما حصلتْ على توصيلة في سيارة أخرى.

لكن بعض الناس مِمَّنْ يعكفون على تنظيف مدافن عائلاتهم في مقابر الكنيسة المهجورة بالبلدة في الجانب الشمالي الشرقي المليء بالمستنقعات؛ زعموا أنهم سمعوا صرخةً في منتصف النهار. تذكَّروا أنهم تساءلوا عمَّنْ يمكن أن يكون صاحب الصرخة. ليس «ما»، ولكنْ «مَنْ»؟ «مَنْ كان ذلك الشخص؟» ولكنْ لاحقًا، حسبوا أنه ربما كان ثعلبًا.

كانت هناك مواطئ أقدام في بقعة على مقربة من المعسكر، وأعقاب سجائر مطفأة حديثًا متناثِرة في المكان، ولكن علامَ يمكن الاستدلال من ذلك كله؟ فالناسُ كثيرًا ما يتردَّدون على ذلك المكان؛ العشاق، والصبية الذين يدبِّرون مقالب.

وربما التقى بها رجلٌ هناك
وكان بحوزته مسدس أو سكين
التقى بها هناك
ولم يعبأ بها
فقتل تلك الفتاة الصغيرة.
لكن البعض سيزعمون أن هذا ليس ما حدث
وأنها التقت غريبًا أو صديقًا
في السيارة السوداء الفارهة
التي حملتها إلى مكان بعيد
ولا أحدَ يعرف ما حلَّ بها.

صباح الثلاثاء، بينما كانت فرانسيس تُجهِّز الإفطار، ومورين تعين زوجها على ارتداء ملابسه، ثمة مَنْ كان يطرق الباب الأمامي متجاهِلًا الجرس أو غير واثق فيه. لم يكن غريبًا أن يتزاور الناس في تلك الساعة المبكرة من النهار، لكن هذه الزيارات المبكرة كانت تمثِّل صعوبات؛ لأن المحامي ستيفنز كان يجد مشكلةً أكبر في الصباح تتعلَّق بقدرته على الكلام بطلاقة، وعقله أيضًا كان يستغرق بعضَ الوقت كي ينشط.

رأت مورين عبر الزجاج السميك أمام الباب ظلًّا مشوشًا لرجل وامرأة؛ كانا متأنِّقين، على الأقل هكذا كانت المرأة بقبعتها التي تعتمرها. هيئتهما تدل على جدية الأمر الذي جاءا بشأنه، لكن الأمر الجاد بالنسبة إلى الشخص المعنيِّ قد يبدو على أية حال روتينًا مملًّا للآخرين؛ فثمة تهديداتٌ بالقتل بسبب ملكية خزانة ملابس، وصاحب عقار ثارَتْ ثائرته على جَوْرِ أحدهم على ستِّ بوصاتٍ من ممره الخاص بالسيارات؛ أحطابٌ مفقودة، وكلابٌ نابحة، وخطاباتٌ بذيئة؛ كل هذه الأشياء يمكن أن تجعل الناس يطرقون بابهم، فتجد أحدهم يقول: «اذهب واسأل المحامي ستيفنز. عليكَ بالاستفسار عن الوضع القانوني.»

وهناك احتمالٌ طفيف أن هذين الطارقين ربما يُروِّجان لأفكار عقائدية.

لم يكونا كذلك.

قالت المرأة: «جئنا لمقابلة المحامي.»

قالت مورين: «حسنٌ، ما زال الوقت مبكرًا.»

لم تتعرَّف عليهما على الفور.

قالت المرأة وقد دلفت إلى الممر الأمامي بطريقةٍ ما بينما تراجعت مورين لتُفسِح لها المجال: «معذرةً، لكن لدينا شيء مهم جدًّا يجب أن نُطلِعه عليه.» هزَّ الرجل رأسه وكأنه يُعرِب عن انزعاجه أو اعتذاره، ومشيرًا إلى أنه لم يكن لديه خيار إلا أن يتبع زوجته.

عبقت الردهة برائحة صابون الحلاقة ومزيل العرق وكولونيا زهيدة الثمن؛ زنبق الوادي. الآن تعرَّفت مورين عليهما.

إنها ماريان هيوبرت. كلُّ ما في الأمر أنها بَدَتْ مختلفة في حُلَّتها الزرقاء — التي كانت ثقيلة بدرجةٍ لا تُحتمَل مع المناخ في هذا الوقت من العام — وقفازَيْها القماشيَّيْن البُنيَّيْن، وقبعتها البُنية المصنوعة من الريش. عادةً ما كانت تظهر في المدينة وهي ترتدي سروالًا أو حتى ما يبدو وكأنه سروالُ عملٍ للرجال. كانت امرأةً ضخمةَ البنية من عُمْر مورين تقريبًا — فقد التحقتَا بالمدرسة الثانوية معًا، على الرغم من أنه فصل بينهما عامٌ أو عامان. كانت ماريان تعوزها اللياقة، لكنها كانت سريعة الحركة مع ذلك، وكان شعرها الرمادي مقصوصًا قصَّة قصيرة؛ مما سمح بظهور الشعر القصير الخشن الذي نما على عنقها، وكان صوتها جَهْوَرِيًّا يصدر عنها أغلب الوقت بنبرةٍ صاخبة نوعًا ما؛ أما الآن، فقد تراجعتْ حدَّةُ نبرتها.

كان الرجل الذي بصحبتها هو نفسه الذي تزوَّجَتْه منذ وقتٍ ليس ببعيد؛ ربما منذ عامين. كان طويل القامة، صبياني الهيئة، يرتدي سترة رخيصة صفراء صُفرةً باهتة تحتوي على بطانة ضخمة على الكتفين، شعره بُني مثبَّت بمشط مبلل. قال بصوتٍ خافت — ربما بنبرة لم يكن ينوي أن تسمعها زوجته: «معذرة.» بينما صحبتهما مورين إلى غرفة الطعام. لم تكن عيناه عن قُرْب عينَيْ شابٍّ؛ ثمة إجهادٌ وجفاف أو حيرة فيهما. لعله لم يكن على قدرٍ كبير من الذكاء. تذكَّرت مورين روايةً ما عن أن ماريان تعرَّفت إليه من إعلان؛ كان الإعلان: «امرأةٌ تملك مزرعة ملكيةً خالصة.» كان من الممكن أن يكون الإعلان: «سيدة أعمال تملك مزرعة.» وذلك لأن الاسم الآخَر لماريان هيوبرت هو «بائعة المِشَدِّ»؛ فلسنوات طويلة كانت تبيع المِشَدَّات المصنوعة خصوصًا لزبائنها، ولعلَّها ما زالت تبيعها للسيدات القلائل اللائي ما بَرِحن يرتدينها. تخيَّلَتْها مورين وهي تأخذ المقاسات وتملي أوامرها كالممرضات، وتتصرَّف بتعالٍ وعلى نحوٍ مُهين، لكنها كانت تعامِل والدَيْها العجوزين بلطفٍ وكرم؛ والديها اللذين يعيشان في مزرعةٍ وبلَغَا من العُمْر أرذلَه، لدرجةِ أنهما أُصِيبا بكلِّ ما يصاب به العجائز من عِلَلٍ. والآن، ثمة روايةٌ جديدة شاعتْ عن زوجها، روايةٌ أقل خبثًا: كان زوجها يقود الحافلة التي تنقل المُسِنِّين إلى جلسة السباحة العلاجية التي يتلقَّوْنها في والي بحمَّام السباحة الداخلي، وهكذا التقَيَا. كانت لدى مورين صورة أخرى له في ذاكرتها أيضًا؛ تذكَّرَتْه وهو يحمل الأب العجوز بين ذراعَيْه إلى مكتب الدكتور ساندز. اندفعت ماريان مُسرِعةً إلى الأمام وحقيبتها تهتزُّ من سرعتها، وكانت على أهبة الاستعداد لفتح الباب.

راحت تخبر فرانسيس عن الإفطار في غرفة الطعام، وتطلب منها إحضارَ المزيد من أقداح القهوة، وبعدها ذهبتْ لتُنْذِر زوجها.

قالت: «إنها ماريان هيوبرت، أو هكذا كان اسمُها. وأيًّا كان اسم الرجل الذي تزوَّجت منه.»

قال زوجها بالطريقة نفسها التي يستحضر بها — دون مبالاة — تفاصيل صفقة بيعٍ أو عقد إيجار لم يكن يخطر ببال أحد أنه يعرفه بهذه السهولة: «سليتر، ثيو.»

قالت مورين: «أنت مطَّلِع على مستجدات الأمور أكثر مني.»

سألها عمَّا إذا كان حساءُ الشعير جاهزًا. قال: «تناولي الطعام وأنصتي.»

جلبت فرانسيس حساءَ الشعير، فانكبَّ عليه على الفور. كان حساء الشعير المغطَّى بسخاءٍ بالكريمة والسكر البُني وجبتَه المفضَّلة شتاءً وصيفًا.

وعندما جلبت فرانسيس القهوة، حاولت أن تتسكَّع في المكان، بَيْدَ أن ماريان رمقتها بنظرة ثابتة جعلتها تشيح بوجهها وتنطلق إلى المطبخ.

حدَّثَتْ مورين نفسها أن ماريان تستطيع أن تتدبَّر أمرَها أكثر منها شخصيًّا.

لم تكن ثمة ميزة واحدة جلية تميِّز ماريان هيوبرت؛ فرأسها كبير، وخداها مترهلان، حتى إن مورين كانت تَحْضُرها صورةُ كلبٍ من نوعٍ ما كلما وقعت عيناها عليها. ليس بالضرورة كلبًا دميمًا؛ فلم يكن وجهُها قبيحًا حقًّا؛ كل ما في الأمر أنه كبير وصارم الملامح، ولكنْ في كل مكان كانت تطؤه ماريان، كما في غرفة طعام مورين الآن، كانت توحي للآخرين بأنها تتمتَّع بحقوق مُطْلَقة، وعلى الآخرين أن يحسبوا لها ألفَ حساب.

كانت قد بالغت في مقدار المساحيق التي وضعتها على وجهها، وربما كان ذلك سببًا آخَر وراء عدم تعرُّف مورين عليها لأول وهلة. كان تبرُّجُها شاحبًا ومائلًا إلى اللون الوردي، فلم يناسِب بشرتَها الزيتونية اللون وحاجبَيْها الأسودين الكثيفين. جعلها التبرُّج تبدو غريبةَ الشكل، لكنه لم يجعلها بائسة. وبَدَا أنها وضعت مساحيق التبرُّج مثلما تضع الحُلَّة على جسدها والقبعة على رأسها؛ لتُثبِت أنها قادرة على مسايرة غيرها من النساء في اللباس والزينة؛ حيث كانت تعلم ما هو متوقَّع، ولكن لعلها كانت تريد أن تبدو جميلة فحسب. ربما رأت أن المسحوقَ الباهت العالق بوجنتيها، وأحمرَ الشفاه الوردي الكثيف يُحدِثان تحوُّلًا في هيئتها، ولعلها التفتت إلى زوجها بخجل بعد أن انتهت من تزيُّنها. كادَ يضحك ضحكة مكتومة وهو يُجِيب نيابةً عن زوجته عندما سألَتْها مورين عن كمية السكر التي تفضِّلها في قهوتها؛ إذ قال: «قِطَعًا كبيرة.»

كان كثيرًا ما يردِّد «رجاءً، وشكرًا»، قال: «رجاءً. شكرًا جزيلًا لكِ. شكرًا لكِ. نفس الكمية لي. شكرًا لك.»

كانت ماريان تقول: «لم نكن نعرف شيئًا عن تلك الفتاة إلى أن بَدَا أن الجميع يعرفون قصتها؛ أعني أننا لم نكن نعرف، أيضًا، أن ثمة شخصًا مفقودًا أو أيَّ شيء من هذا القبيل. لم نكن نعرف إلى أن وصلنا إلى المدينة أمسِ. أمسِ؟ الإثنين؟ أمسِ كان الإثنين. التبستْ عليَّ الأيام كلها لأنني أتعاطى مسكناتٍ للألم منذ فترة.»

لم تكن ماريان ممَّن يصرِّحون بتعاطيهم حبوبًا وكفى، بل كانت تحدِّد سببَ تعاطيها.

قالت: «كنتُ أعاني من بثرة كبيرة وفظيعة على عنقي. هنا، أليس كذلك؟» أدارت رأسها إذ حاولت أن تريهم الضمادة التي تغطِّي البثرة، ثم استطردتْ قائلةً: «كانت تؤلمني كثيرًا، وشعرتُ بصداع أيضًا، وأعتقد أن ثمة علاقة بينهما، فتدهورت حالتي يوم الأحد بشدة، لدرجة أنني أخذت خِرقة ساخنة ووضعتها على عنقي، وابتلعت قرصين من مسكن الآلام، وذهبتُ للاستلقاء قليلًا. كان زوجي عاطلًا عن العمل ذاك اليوم، لكنه الآن يعمل، كما أن لديه الكثير من الأعمال التي ينجزها في البيت. إنه يعمل بمحطة الطاقة الذرية.»

تساءل المحامي ستيفنز رافعًا عينَيْه عن حسائه: «دوجلاس بوينت؟» ثمة اهتمام أو احترام يُبْدِيه الرجال جميعًا — بمَنْ فيهم المحامي ستيفنز — على ذِكْر محطة الطاقة الذرية الجديدة الكائنة في دوجلاس بوينت.

أجابته ماريان: «هذا هو مقر عمله.» شأنها شأن الكثير من نساء الريف ونساء مدينة كارستيرز أيضًا، كانت تفضِّل أن تشير إلى زوجها بالضمير الغائب — مع التشديد عليه تشديدًا خاصًّا — بدلًا من تسميته باسمه. واكتشفت مورين أنها تفعل الشيء نفسه بضع مراتٍ، لكنها أسقطت هذه العادة من حساباتها دون أن يشير عليها أحدٌ بذلك.

قالت ماريان: «تعيَّنَ عليه أن يُخرِج قوالب الملح للأبقار كي تَلْعَقها، وبعدها عاد وأصلح السياج. ولمَّا كان يتوجَّب عليه أن يقطع مسافةَ نصف ميل تقريبًا، فقد ركبَ الشاحنة، لكنه ترك باوندر. انطلق بالشاحنة من دونه. باوندر هو كلبنا الذي لا يستطيع أن يقطع أيَّ مسافة إلا راكبًا. تركه ليتولَّى الحراسة؛ لأنه كان يعلم أنني ذهبتُ واستلقيت؛ فقد تعاطيتُ قرصين مسكنين للألم، واستغرقتُ في نوم عميق، ثم سمعتُ نباحَ باوندر وأفقْتُ مباشَرةً. كان باوندر ينبح.»

•••

حينئذٍ نهضت من غفوتها، وارتدت مِبذلها، ونزلت الدَّرَج. كانت مستلقية بملابسها التحتية فحسب. تطلَّعَتْ من الباب الأمامي على الطريق، ولم يكن ثمة أحدٌ. لم تَرَ باوندر أيضًا، وكان آنذاك قد توقَّفَ عن النباح؛ عادته أنْ يتوقَّف عن النباح إذا كان الزائر معروفًا له، أو إذا كان ثمة عابرُ سبيلٍ يقطع الطريق مارًّا أمام البيت. لكنها كانت لا تزال على حالتها من عدم الرضا. تطلَّعت من نوافذ المطبخ المُطِلَّة على الباحة الجانبية لا على الباحة الخلفية من البيت، فلم تَرَ أحدًا أيضًا. لم تستطع رؤية الباحة الخلفية من المطبخ؛ فحتى يتسنَّى لها رؤيتها، كان يتعيَّن عليها المرور مباشَرةً إلى ما كانا يُطلِقان عليه المطبخ الخلفي؛ لم يكن سوى غرفة تُوضَع فيها أغراض متنوعة، وكانت أشبه بسقيفة أعلى البيت تُلقَى فيها الأشياء بلا نظامٍ. كانت بها نافذة تطلُّ على الجزء الخلفي من البيت، لكن من الصعوبة بمكانٍ أن يصل المرءُ إلى تلك النافذة أو يتطلَّع من خلالها، بسبب أكوام الصناديق المتراكمة، وليَّات الأريكة القديمة الملقاة هناك. كان على المرء أن يتجه نحو الباب الخلفي مباشَرةً ويفتحه ليرى ما بالخارج. والآن، تناهَى إلى مسامعها صوتُ شيءٍ ما عند ذاك الباب؛ صوتٌ أشبه بصوت مخالب تنبش؛ ربما كان الكلب باوندر، وربما لا.

كان الجو شديدَ الحرارة في ذلك المطبخ الخلفي المُغلَق والمُحتشِد بالخردة، لدرجة أنها كادت لا تقوى على التنفُّس. تصبَّبَ العرقُ منها تحت مبذلها. حدَّثَتْ نفسها أنها على الأقل لم تُصَبْ بالحُمَّى، فهي تتصبَّب عرقًا.

طغى حرصها على أن تتنفس بشكل طبيعي على خوفها ممَّا قد يكون بالخارج؛ لذا فقد فتحت البابَ بقوةٍ على مصراعَيْه. فُتِحَ الباب للخارج دافعًا الرجل الذي كان مُتَّكِئًا عليه إلى الوراء؛ ترنَّحَ لكنه لم يقع، وتعرَّفَتْ هي عليه؛ السيد سيديكاب من البلدة.

بالطبع تعرَّفَ باوندر عليه؛ لأنه كثيرًا ما كان يمرُّ من أمام البيت، وأحيانًا ما كان يقطع فناء البيت مباشَرةً اختصارًا لطريقه خلال سيره، ولم يعترضَا قطُّ. كان يفعل ذلك لأنه لم يَعُدْ يعرف طريقًا أفضل يقطعه فحسب. لم تصرخ في وجهه قطُّ شأن بعض الناس، بل إنها دَعَتْه للجلوس على الدَّرَج لينال قسطًا من الراحة إنْ كان متعبًا، وقدَّمَتْ له سيجارة. كان يأخذ السيجارة، لكنه لم يكن يقبل دعوتها قطُّ للجلوس على الدَّرَج.

كل ما كان يفعله باوندر أنه كان يتشمَّم المكان من حوله ويتزلَّف له. لم يكن باوندر نيِّقًا.

عرفت مورين السيد سيديكاب شأنها شأن جميع الناس. اعتادَ على العمل ضابطًا لنغمات البيانو بمصنع آل دُودْ. كان رجلًا إنجليزيًّا يعلوه الوقار ويميل إلى السخرية، وكانت زوجته امرأة رائعة. كانا يعشقان قراءة الكتب من المكتبة، واشتهرا بحديقتهما، لا سيَّما لما يُزرَع فيها من فراولة وورود. وبعدها، منذ سنواتٍ قلائل، بدأت الكوارث تنهال عليهما؛ خضع السيد سيديكاب لعملية جراحية في حنجرته — لا بد أن السبب إصابته بالسرطان — وبعدها عجز عن الكلام، ولم يصدر منه سوى صوتِ أزيز وهمهمة. وكان قد تقاعَدَ بالفعل من عمله بمصنع آل دُودْ؛ حيث أمست لديهم طريقةٌ إلكترونية لضبط نغمات البيانو تتفوَّق على الأذن البشرية في دقتها. وفجأةً تُوفِّيت زوجته، وبعدها حلَّتْ به سلسلةٌ من التغيُّرات السريعة، فتدهوَرَ حاله من عجوز يعلوه الوقار إلى متشرِّدٍ كالح الوجه مثيرٍ للاشمئزاز في غضون أشهر؛ لحية متسخة، ولعاب يسيل على ملابسه، ورائحة عَفِنة دخانية تفوح منه، ونظرة ريبة مستديمة في عينيه تتحوَّل أحيانًا إلى نظرة سخط. إذا لم يجد ما يبحث عنه في محل البقالة، أو إذا بدَّلَ أصحابُ محل البقالة أماكنَ الأغراض، كان يطيح بالمعلبات وعلب الحبوب على الأرض عن عمدٍ منه، ولم يَعُدْ محلَّ ترحيبٍ في المقهى، ولم يَعُدْ يقرب المكتبةَ مطلقًا. واظَبَ نسوة من رفقة زوجته بالكنيسة على زيارته لفترةٍ؛ منهن مَنْ كانت تحمل له وجبة من اللحم، ومنهن مَنْ حملت بعض المخبوزات، لكن رائحة البيت كانت مؤسفة، والفوضى فيه عارمة — حتى بالنسبة إلى رجل يعيش بمفرده، لم يكن ثمة ما يبرِّر تلك الفوضى — ولم يكن يُبدِي أيَّ امتنانٍ لهن. كان يُلقِي ببقايا الفطائر وأطباق الطعام على المَمْشَى الأمامي لبيته، فيكسر الأطباق. لم تُرِدْ أيُّ امرأة أن يتندَّر الناس بأن السيد سيديكاب يأنف أن يتناول طعامها، فتَرَكْنَه وشأنه. أو حتى ربما أثناء القيادة على الطريق، يمكن للمرء أن تقع عيناه عليه واقفًا لا يحرِّك ساكنًا في قناة الري، مختفيًا بكامل جسمه تقريبًا بين الأعشاب والحشائش الطويلة بينما تمرُّ السياراتُ من أمامه مُسرِعة، ويُحتمَل أيضًا أن يصادفه المرءُ في بلدةٍ ما على بُعْد أميال من البيت، وحينئذٍ ثمة شيء غريب يحدث؛ كان وجهه يكتسي بمسحةٍ من تعبيراته القديمة، جاهزًا لمفاجأة ودية، فيُلقِي التحية على مَنْ يعيشون في مكانٍ ويلقاهم في مكانٍ آخر. وبدا أنه كان يعقد الآمال على أن تفتح له اللحظة ذراعَيْها، وأن تخترق الكلمات جدارَ العجز، بل ربما انمحت أيضًا كلُّ التغيُّرات التي طرأت عليه، هنا في مكان مختلف قد يسترد صوتَه وزوجتَه واستقرارَه القديم في الحياة.

كان الناسُ ودودين عادةً، وصبورين إلى حدٍّ ما. قالت ماريان إنها لم تكن لتُجبِره على الابتعاد أبدًا. قالت إنه بدا جامحًا جدًّا هذه المرة، على عكس ما بدا عليه؛ إذ كان يحاول بيان ما يودُّ أن يقوله فلا تخرج الألفاظ من فِيه، أو عندما تثور ثائرته بسبب بعض الأطفال الذين كانوا يضايقونه. كان رأسه يتمايل للأمام والخلف، وبدا وجهه منتفخًا كرضيع ينوح بصوتٍ عالٍ.

قالت له: «ما الخطبُ الآن، سيد سيديكاب؟ ما الذي تحاول أن تقوله لي؟ هل تريد سيجارة؟ هل تريد أن تقول إن اليوم الأحد، وإن السجائر نفدَتْ منك؟»

ظلَّ يهُزُّ رأسه للخلف والأمام، ثم لأعلى ولأسفل، ثم للخلف وللأمام مرةً أخرى.

قالت ماريان: «هيا، احزم أمرك الآن.»

كلُّ ما قاله هو: «آه، آه!» ووضَعَ كفَّيْه على رأسه فأطاح بقبعته، ثم ابتعد أكثر وطفق يمشي في مسار متعرِّج في الساحة بين المضخة وحبل الغسيل، مُصدِرًا الأصوات نفسها: «آه، آه!» التي لم تَسْتَحِلْ إلى كلماتٍ مفهومة قطُّ.

وهنالك دفعت ماريان كرسيها على حين غرَّة لدرجةِ أنه كاد يسقط. وقفت وبدأت تريهم كيف كان السيد سيديكاب يتصرَّف، فترنَّحَتْ وربضَتْ وضربَتْ رأسها بكفَّيْها، ولو أنهما لم يطيحا بقبعتها. هنالك استعرضت هذا المشهد أمام البوفيه، أمام طقم الشاي الفضي الذي أُهدِي للمحامي ستيفنز تقديرًا لسنوات عمله الطويلة في مهنة المحاماة. أمسَكَ زوجها قَدَحَ القهوة بكلتا يديه، وظلَّ يراقبها بعينيه مراعاةً لمشاعرها بكل ما أُوتِي من قوة إرادة. ثمة شيء ظهر على وجهه؛ تقلُّصٌ لا إرادي أو عصبٌ نفرَ في إحدى وجنتيه. كانت تراقبه هي الأخرى على الرغم من تصرُّفاتها الغريبة، وبدا أن نظرتها تُمْلِي عليه أن يتمهَّل وألَّا يحرِّك ساكنًا.

لم يرفع المحامي ستيفنز عينَيْه قطُّ حسبما تجلَّى لمورين.

قالت ماريان: «هكذا تصرَّف.» ثم جلستْ مجددًا. هكذا تصرَّفَ، ولأنها كانت تشعر بتوعُّك حينئذٍ، خطر لها أنه ربما يعاني من ألمٍ ما.

«سيد سيديكاب، سيد سيديكاب، هل تحاول أن تخبرني أن رأسك يؤلمك؟ هل تريد أن أُحضِر لك قرصًا مسكِّنًا؟ هل تريد أن أصحبك إلى الطبيب؟»

لم يُجِبْها ولم يتوقَّف لأجلها، بل واصَلَ كلماته: «آه، آه!»

أثناء تخبُّطه في أرجاء المكان، وجَدَ نفسه عند المضخة. المياه الجارية تصل إلى البيت الآن، لكنهما ما برحا يستعملان المضخة خارج البيت، ويضعان لباوندر الطعامَ إلى جوارها، وعندما أدرك السيد سيديكاب ماهيتها انشغل بها، وأخذ يحرِّك ذراع المضخة لأعلى ولأسفل بسرعة جنونية. لم يكن ثمة كأس يشرب منها كالعادة، ولكن فور انبثاق الماء وضع رأسَه تحت المضخة. تدفَّقَ الماء ثم توقَّفَ عندما أوقَفَ الضخَّ، وبعدها عاد ليضخ مجددًا، ووضع رأسه تحتها مجددًا وأعاد الكَرَّة. طفق يضخ ويغمر نفسه بالماء تاركًا إياه يتدفَّق على رأسه ووجهه وكتفَيْه وصدره دون أن يتوقَّف عن إصدار أصواتٍ كلما أمكنه ذلك. شعر باوندر بالحماس وشرعَ يجري في المكان ويصطدم به متعاطفًا معه بنباحه وأنينه.

صرخت ماريان أنْ كفاكما! دَعَا هذه المضخةَ! دعاها واهْدَآ!

رضخ لها باوندر وحده، أما السيد سيديكاب فظلَّ على ما هو عليه حتى أغرق نفسه وحُجِبت رؤيته مؤقتًا من شدة المياه، وحينئذٍ تعذَّر عليه أن يجد ذراع المضخة. بعدها توقَّف. رفع إحدى ذراعَيْه لأعلى وأشار باتجاه الغابة والنهر؛ كان يشير بهذا الاتجاه ويُصدِر الأصوات المزعجة نفسها. آنذاك لم يكن كل ما يفعله منطقيًّا بالنسبة إليها، ولم تفكِّر في الأمر إلا لاحقًا. بعدها هدأ تمامًا، وجلس فحسب على غطاء البئر مبلَّلًا بالكامل وجسده يرتعد ويداه على رأسه.

حدَّثَتْ نفسها بأن الأمر ربما كان بسيطًا على أية حال؛ لعلَّه يتذمَّر لأنه لا يوجد كأس تحت المضخة.

إذا كان مرادك كأس فسأذهب وأجلبها لك. لا حاجةَ لأن تتصرَّف كالأطفال. لا تبرح مكانك، سأذهب وآتي لك بكأس.

عادت إلى المطبخ وأحضرت كأسًا. خطرت لها فكرةٌ أخرى. جهَّزَتْ له طبقًا من المكسرات الممزوجة بالزبد والمربى. كانت هذه الوجبة المُفضَّلة لدى الأطفال، لكن الكبار يعشقونها أيضًا؛ هكذا قال أبوَاها.

رجعت إلى الباب، ودفعته ويداها مشغولتان بالوجبة التي جهَّزَتْها، لكن لم تجد له أثرًا؛ لم يكن في الساحة سوى باوندر الذي بدا على وجهه التعبير نفسه كلما جعل من نفسه أضحوكة.

إلى أين ذهب يا باوندر؟ في أي اتجاه ذهب؟

كان باوندر يشعر بالخجل والضجر، ولم يُبْدِ أي ردة فعل؛ جُلُّ ما فعله أنِ انسلَّ إلى مكانه المعتاد تحت ظلة البيت في الوحل إلى جوار الأساسات.

سيد سيديكاب، سيد سيديكاب، تعالَ وانظر ما جلبتُ لك!

خيَّم الصمت على المكان، وكان رأسها يؤلمها بشدة. بدأت تتناول المكسرات التي أعدتها، لكن لم يكن يجب أن تتناولها؛ فبعد حفنتين شعرت بالغثيان وبرغبة في التقيُّؤ.

تعاطت قرصين آخَرين، وصعدت إلى الطابق العلوي. النوافذ مفتوحة والستائر منسدلة. تمنَّتْ أن لو كانت اشترتْ مروحةً خلال فترة التخفيضات بمحل كاناديان تاير، لكنها نامت دون مروحة، وعندما استيقظت كان الظلام قد حلَّ تقريبًا. تناهَى إلى مسامعها صوتُ جزَّازة العشب؛ لا بد أن زوجها يُقلِّم العشب بجانب البيت. نزلت إلى المطبخ ورأت أنه قطَعَ بعض ثمار البطاطس الباردة، وسلَقَ بيضةً، وأخرَجَ البصل الأخضر ليصنع سلاطة. لم يكن شأن غيره من الرجال الميئوس منهم، الذين ينتظرون زوجاتهم السقيمات لينهضن من السرير ويجهِّزْنَ لهم وجبةً. حاولتْ أن تتناول السلاطة، لكنها لم تستطع. ستتناول قرصًا آخَر، وتصعد الدَّرَج، وتُلْقِي ببدنها على السرير وتنعزل عن العالم حتى الصباح.

حينئذٍ قال زوجها إنها لا بد أن تُعرَض على الطبيب. اتصل بربِّ عمله وقال إنه لا بد أن يصحب زوجته إلى الطبيب.

قالت ماريان ماذا لو غَلَتْ إبرةً فيحقنها هو بها؟ لكنه لم يكن ليتحمَّل إيلامها، وعلى أية حال كان يخشى ألَّا تسير الأمور على ما يرام. ركبا الشاحنة، وقصدا الطبيب ساندز. كان الطبيب بالخارج، فاضطرَّا لانتظاره. غيرهما ممَّنْ كانوا بانتظار الطبيب أطلعوهما على الأخبار. ذُهِلَ الجميع لأنهما لا يعرفان. لكنهما لم يشغِّلا المذياع. كانت هي التي تشغِّله دومًا، لكنها لم تستطع أن تتحمَّل الضجيج وهي سقيمة هكذا، ولم يلاحظا أيَّ حشد للناس في طريقهما أو أي شيء يسترعي الانتباه.

عالَجَ د. ساندز البثرةَ دون أن يحقنها بأي إبر؛ كان أسلوبُ تعامُله مع البثرات يتمثَّل في ضربها ضربة سريعة قوية على قمتها في الوقت الذي يظن فيه المريض أنه يفحصها فحسب. قال: «ها قد انتهينا! هذه الطريقة أسهل من استخدام الإبر، وليست مؤلمة جدًّا في المجمل؛ لأنني لم أمهلك كثيرًا، فوفَّرْتُ عليكِ التوتُّر.» نظِّفَ مكان البثرة ووضع ضمادة عليها، وقال إنها سرعان ما ستشعر بتحسُّن.

وبالفعل شعرت بتحسُّن، لكنها كانت تشعر بالنعاس. كانت تشعر بأنها عديمة الجدوى ومشوشة جدًّا، لدرجة أنها خلدت إلى النوم حتى عاد زوجها في الرابعة، تقريبًا، حامِلًا قَدَحًا من الشاي. حينئذٍ تذكَّرَتِ الفتيات اللائي رافقْنَ الآنسة جونستون صباح السبت وطلبن شرابًا. كانت لديها كميات كبيرة من مشروب كوكاكولا، فأهدتهن إياه في كئوس مزخرفة بالأزهار مع مكعبات الثلج. لم تطلب الآنسة جونستون سوى الماء. تركهن يعبثْنَ بالخرطوم، فأخذْنَ يقفزْنَ، وأخذت كل واحدة منهن ترش الأخريات بالماء، وأمضين وقتًا ممتعًا. كنَّ يحاولن تفادي سيل الماء فجَنحن إلى الجنون بعض الشيء كلما غفلت عنهن الآنسة جونستون. كان عليه فعليًّا أن ينتزع خرطوم المياه من بين أيديهن، ويرشهنَّ بالماء ليُحْسِنَّ التصرُّف ويتأدَّبْنَ.

حاولت أن تتذكَّر أي فتاة كانتْ تلك الفتاة. كانت تعرف ابنة القَس وابنة د. ساندز وبنات آل ترويل؛ حيث كان يسهل التعرف عليهن أينما كُنَّ بأعينهن الشبيهة بأعين الأغنام، ولكن أيُّهن كانت من بين الأخريات؟ تذكَّرت واحدة منهن كانت صاخبة جدًّا؛ حيث كانت تقفز في محاولة لانتزاع الخرطوم حتى بعد أن أبعده عن أيديهن، وأخرى كانت في حالة من النشوة والسعادة، وثالثة فاتنة ونحيلة وشقراء، ولكنْ لعلها كانت تفكِّر في روبن ساندز — كانت روبن شقراء. ليلتَها سألتْ زوجها إن كان يعرف أيُّهن هي، لكنه كان أجهلَ منها؛ فهو لم يعرف الناس الذين يعيشون هنا، ولم يكن يستطيع أن يفرِّق بينهم.

وأخبرته أيضًا بموقف السيد سيديكاب. استرجعتِ المشهدَ كله الآن؛ كَمْ كان منزعجًا! وكيف كان يعبث بالمضخة، والاتجاه الذي كان يشير إليه. استاءتْ من عجزها عن تفسيرِ ما يعنيه. ناقشَا الأمر، وتساءلا عمَّا كان يعنيه، وانشغلَا بتساؤلاتهما كثيرًا لدرجة أنهما بالكاد حصلَا على قسط من النوم. وأخيرًا، قالت له إنها تعرف ما يتعيَّن عليهما فعله؛ يجب أن نذهب ونتحدَّث إلى المحامي ستيفنز.

فنهضا وجاءا بأسرع ما يمكن.

•••

قال المحامي ستيفنز: «الشرطة. مخفر الشرطة هو الذي كان يجب أن تقصداه.»

تكلَّمَ الزوج وقال: «لم نكن نعرف ما إذا كان يتعيَّن علينا فعْلُ ذلك أم لا.» وضع كلتا يديه على الطاولة، وأصابعه ممدودة تضغط على الطاولة وتشد مفرشها.

قال المحامي ستيفنز: «ليس اتهامًا. مجرد معلومات.»

جرَتْ عادته على التحدُّث بهذه الطريقة المقتضبة حتى قبل إصابته بالسكتة الدماغية، ولاحظتْ مورين منذ وقتٍ طويل كَمْ أنَّ بضع كلمات ينطق بها زوجُها بنبرة تكاد تخلو من المودة؛ نبرة تكاد تنمُّ عن التأنيب الفظِّ، من شأنها رفع الروح المعنوية للناس وإزالة عبء ثقيل عن كاهلهم.

كانت تفكِّر في السبب الآخر الذي دعا النساء إلى الإعراض عن زيارة السيد سيديكاب. لم تعجبهن الملابس؛ ملابس النساء، الملابس التحتية — اللباسات النسوية التحتية، وحمَّالات الصدر القديمة المهترئة، والسراويل التحتية الرَّثَّة، والجوارب الخشنة المَلمس المتدلية من ظهور الكراسي، أو من حبل الغسيل المعلَّق أعلى المدفأة، أو المُكوَّمة فحسب على الطاولة. لا بد أن كل هذه الأشياء كانت لزوجته بالطبع، وبدا لأول وهلة أنه ربما يغسلها ويُجفِّفها ويفرزها قبل أن يتخلَّص منها، لكنها لم تبرح مكانها أسبوعًا تلو الآخَر، وبدأ النساء يتساءلن: هل تركها ملقاةً هناك هكذا ليوحي بأشياء معينة؟ وهل كان يرتديها هو نفسه؟ هل كان مُنحرِفًا؟

كل هذه التكهُّنات ستطفو على السطح الآن، وسيكون كل ذلك قرينةً ضده.

«منحرف.» لعلهن على حق، وربما سيقودهن إلى حيث انهالَ على هيذر ضربًا حتى الموت خلال نوبة هياج جنسي، أو ربما عثرن على شيء يخصُّها في بيته. وسيقول الناس بأصوات خافتة بغيضة إن ذلك لم يكن بمنزلة المفاجأة بالنسبة إليهم؛ سيقول بعضهم لبعض: «لم أُفاجَأ البتة. هل فُوجِئْتَ؟»

طرحَ المحامي ستيفنز بعض الأسئلة عن طبيعة العمل بمحطة دوجلاس بوينت للطاقة الذرية، وأجابته ماريان: «إنه يعمل بقسم الصيانة. كلَّ يوم عندما يهمُّ بالرحيل، يجب أن يخضع لفحص بالأشعة السينية، وحتى الخِرَق التي يمسح بها حذاءَه يجب دفنها تحت الأرض.»

عندما أغلقت مورين الباب بعد رحيلهما ورأت شبحهما من وراء الزجاج المعتم، لم تكن مقتنِعة تمامًا، فصعدت ثلاث درجات وصولًا إلى بَسْطَة الدَّرَج؛ حيث كانت ثمة نافذة مقوسة، وراقبتهما منها.

لم تكن في الأفق أيُّ سيارة أو شاحنة أو غيرهما من العربات التي ادَّعَيَا امتلاكها. لا بد أنهما أوقفاها بالشارع الرئيسي، أو في ساحة الانتظار خلف دار البلدية. من المُحتمَل أنهما لم تكن لديهما رغبة في أن يراها أحدٌ أمام بيت المحامي ستيفنز.

كانت دار البلدية ومخفر الشرطة في المكان نفسه. انعطفا بهذا الاتجاه، لكنهما عبرا الشارع بزاويةٍ وجلسا، دون أن يغادِرَا مَرْمَى بصر مورين، على الجدار الحجري الخفيض المحيط بالمدافن القديمة وتلك البقعة الغنَّاء الوافرة الأزهار المعروفة باسم متنزه بايونير.

ما الذي يدفعهما إلى الجلوس بعد أن جلسا في غرفة الطعام لمدة ساعة على الأقل؟ لم يتكلَّم أو ينظر أحدهما إلى الآخَر، لكن بَدَا أنهما متحدان وكأنهما يأخذان قسطًا من الراحة في خِضَمِّ أعمالٍ شاقة يضطلعان بها معًا.

عندما يميل مزاجُ المحامي ستيفنز إلى استرجاع الماضي، كان يتحدَّث عن هذا الجدار وكَمْ كان الناس يلجئون إليه طلبًا للراحة؛ المزارعات اللائي كنَّ يَزُرْنَ المدينة لبيع الدجاج أو الزبد، والفتيات الريفيات في طريقهن إلى المدرسة الثانوية، قبل وجود ما يُعرَف باسم حافلة المدرسة، كُنَّ يتوقَّفنَ ويُخبِّئن أحذيتهن الفوقية، ثم يستعدنها في طريق عودتهن إلى البيت.

في أوقات أخرى، لم يكن يُحتمَل استرجاع الماضي.

«الأيام الخوالي. مَنْ ذا الذي يتمنَّى عودتها؟»

نزعت ماريان بعض الدبابيس من شعرها ورفعت قبعتها بحرص. كان هذا هو السبب إذن؛ كانت قبعتها تؤلمها. وضعتها في حجرها، ومدَّ زوجُها يدَه وأبعدها، وكأنه كان حريصًا كل الحرص على أن ينزع عنها كلَّ ما يمثِّل عبئًا عليها. وضَعَها في حِجْره، ثم مالَ وأخذ يمرِّر يدَه عليها بلطفٍ ورِقَّةٍ. أخذ يمسِّد تلك القبعةَ المصنوعة من الريش البُني البَشِع وكأنه يهدِّئ من روع دجاجة مرتعبة.

لكن ماريان أوقفَتْه، قالتْ له شيئًا ما، وثبَّتَتْ يده بيدها كأمٍّ تقاطِع عبثَ طفلها الأبله بنوبةٍ من الغضب، أو بحرمانه للحظةٍ من حبها الذي تُغدِقه عليه.

•••

شعرت مورين بصدمة؛ شعرتْ بتقلُّص في عظامها.

جاء زوجها من غرفة الطعام. لم تُرِدْ أن يراها وهي تراقبهما؛ فأدارت مزهريةَ الأعشاب المجفَّفة المستقرة على حافة النافذة وقالت: «حسبتها لن تفرغ من الكلام.»

لم يلاحظ هو ذلك؛ كان ذهنه شاردًا في شيءٍ آخَر.

قال: «تعالي هنا.»

في بداية زواجهما، قال زوج مورين لها إنه وزوجته الأولى قرَّرَا الانقطاع عن العلاقة الحميمية بعد ميلاد هيلينا الابنة الصغرى. قال: «لقد أنجبنا صبيًّا وفتاةً.» وكان مراده أنه لا داعيَ لمحاولة إنجاب المزيد؛ لم تفهم مورين حينئذٍ أنه ربما كان يرمي لانقطاعٍ شبيهٍ عنها. كانت واقعة في حبه عندما تزوَّجته. صحيحٌ أنه عندما طوَّق خصرها بذراعه لأول مرة في المكتب، حسبت أنه اعتقد لا محالةَ أنها متَّجِهة إلى الباب الخاطئ وأنه يُعِيد توجيهها، لكنها خلصتْ إلى هذا الاستنتاج بسبب تحفُّظه وحشمته، لا لأنها لم تكن تتوق للإحساس بذراعه وهو يطوِّقها. لكن لا بد أن الناس الذين حسبوا أنها مُقدِمة على زواجٍ لأغراض المصلحة قد أصابهم الذهول من فرط سعادتها أثناء شهر العسل، على الرغم من أنها اضطرت لتعلُّم لعبة البريدج. كانت تعلم مواطن قوته، وكيف كان يستغلها، وكيف كان يكبحها. كانت تراه جذَّابًا، بغضِّ النظر عن عمره وحُمقه وآثار النيكوتين على أسنانه وأصابعه. كانت بشرته دافئة. بعد الزواج بعامين، فقدتْ جنينَه، وأُصِيبت بنزيف شديد، لدرجة أن الحاجة استدعتْ رَبْطَ قناتَيْ فالوب لديها لمنع تكرار النزيف. وبعد هذه الواقعة، انتهى الجزء الحميم في علاقتها مع زوجها، وبدا أنه كان يجاريها فحسب؛ لأنه شعر أنه من الإجحاف حرمان أي امرأة من فرصة الإنجاب.

أحيانًا ما كانت تضايقه بعض الشيء، فيقول لها: «مورين، عَلامَ كل هذه الجلبة؟» أو يخبرها بأن تُحسِن التصرُّف، قائلًا: «تصرَّفي بنضج.» كانت عبارةً يراد بها الزجر اقتبَسَها من طفلَيْه، وظلَّ يستخدمها بعد أن توقَّفَا هما عن استخدامها لفترة طويلة. في واقع الأمر، لفترة طويلة منذ رحيلهما عن البيت.

كانت تشعر بالإهانة من قوله هذا، وتغرورق عيناها بالدموع. كان أكثر ما يكرهه الدموع.

حدَّثت نفسها الآن قائلةً: أَلَمْ يكن من الأفضل أن يعود الحال إلى ما كان عليه من جديد؟! ذلك لأن شهوة زوجها عاودَتْه، أو ظهرت لديه شهوة جديدة تمامًا. لم يكن هناك أثرٌ الآن للطقوس الخرقاء بعض الشيء، والولع الرسمي الذي تميَّزت به الأيام الخوالي؛ الآن أصبحت عيناه مكفهرتين، ويبدو وجهه مُثقلًا. كان يتحدَّث إليها بطريقة مقتضبة ومخيفة، وأحيانًا كان يدفعها ويلكزها ويجذبها نحوه بشدة. لم تكن بحاجة إلى أيٍّ من ذلك لتتعجَّل؛ فقد كانت تشتاق لأن تدعوه لمعاشرتها خشيةَ أن يسيء التصرُّف في مكانٍ آخَر. استحال مكتبه القديم إلى غرفة نوم بالطابق السفلي مُلحَق بها حمَّام كي لا يضطر إلى صعود الدَّرَج. على الأقل كان لهذه الغرفة قفلٌ فلا تقتحم خلوتُهما فرانسيس، لكن يُحتمَل أن يرنَّ جرس الهاتف، وقد تضطر فرانسيس إلى البحث عنهما. قد تقف خارج الباب فتسمع أصوات علاقتهما الحميمة؛ أنفاس المحامي ستيفنز المتلاحقة ونخيره واستئساده عليها، وهسهسته وهو يملي عليها أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، وضربه لها في النهاية، والأمر الذي يُصدِره حينئذٍ؛ الأمر الذي ربما لم يكن لأحد أن يفهمه سوى مورين، الأمر الذي ينمُّ، على الرغم من ذلك، عن الكثير من تطرُّفه.

«قولي ألفاظًا بذيئة! قولي ألفاظًا بذيئة!»

صدر هذا الأمر من الرجل الذي حبس ذات مرة ابنته هيلينا في غرفتها عقابًا لها على سبِّ أخيها بعبارة: «ابن سِفاح لعين.»

تعرف مورين الكثير من الألفاظ البذيئة، لكن كان من الصعب عليها في حالتها المرتبكة هذه أن تميِّز أيُّها الأنسب، وأن تنطقها بنبرة مقنعة. حاولت على أية حال؛ فقد كانت تريد أن تساعده أكثر من أي شيء آخَر.

بعدها غطَّ في نوم عميق بَدَا وكأنه يمحو الواقعة من ذاكرته. تسلَّلَتْ مورين إلى الحمَّام، واغتسلت أولًا، ثم أسرعت إلى الطابق العلوي لتغيِّر بعض ملابسها. كثيرًا ما كانت تضطر إلى التعلُّق بالدرابزين؛ حيث كان يخالجها شعور بالخواء والضعف، وكان عليها أن تلتزم الصمت، ليس خشية أن تصدر منها صرخات احتجاجية، بل خشية أن يفلت من بين شفتيها أنينُ الشكوى الذي يجعلها تبدو أشبه بكلبٍ انهال عليه أحدُهم ضربًا.

تدبَّرت أمرها اليومَ بقدرٍ أفضل من المعتاد؛ استطاعت أن تتطلَّع إلى مرآة الحمَّام، وتحرِّك حاجبيها وشفتيها وفكَّها، بحيث تستعيد تعبير وجهها المعتاد. بدا أنها تُحدِّث نفسها أنْ كفَاها تفكيرًا فيما حدث. حتى أثناء العلاقة الحميمة كان باستطاعتها أن تفكِّر في أشياء أخرى؛ فكَّرت في إعداد الكاسترد، وما إذا كان لديهم ما يكفي من الحليب والبيض. وفي خضم هياج زوجها، فكَّرَتْ في الأصابع التي كانت تتخلَّل الريش؛ يد الزوجة الموضوعة على يد زوجها وتضغط عليها.

سننشد إذن أنشودتنا عن هيذر بيل
وسنظل ننشدها حتى نهاية اليوم.
وسط الغابة الخضراء اختفت عن الأنظار
ولو أن حياتها لم تكدْ تبدأ.

قالت فرانسيس: «ثمة قصيدة ألَّفَها أحدهم بالفعل وكتبها. حصلتُ عليها الآن مطبوعة.»

قالت مورين: «خطرَ لي أن أصنع الكاسترد.»

تُرَى ما مقدار ما استطاعت فرانسيس أن تسمعه من حديث ماريان هيوبرت؟ الأرجح أنها سمعته كله. بدت أنفاسُها متلاحقةً من فرط ما اجتهدت لإخفاء كل ذلك. مدَّت يدها المُمسِكة بالأشعار إلى مورين، وقالت الأخيرة: «إنها قصيدة طويلة جدًّا، وليس لديَّ وقتٌ لقراءتها.» وشرعت في فصل البيض.

قالت فرانسيس: «إنها قصيدة جميلة؛ جميلة بما يكفي لتأليف لحن يتماشى مع كلماتها.»

قرأتها بصوت عالٍ، فقالت مورين: «أنا بحاجة إلى التركيز.»

قالت فرانسيس وهي متَّجِهة إلى الغرفة المشمسة: «أعتقد إذن أن هذا أمرٌ لي بالانصراف.»

وبعدها استمتعت مورين بالهدوء والسكينة في المطبخ؛ البلاط الأبيض العتيق، والجدران الصفراء العالية، والقدور والصحون وأدوات المطبخ المألوفة التي أشعرتها بالارتياح، كما أشعرت سيدة البيت التي سبقتها على الأرجح.

•••

لم تأتِ ماري جونستون بجديدٍ في حديثها إلى الفتيات دومًا، وأغلبهن كنَّ يتوقَّعن ما ستقوله. كان باستطاعتهن أن يرسمن تعبيراتٍ مسبقة على وجوههن يغمز بها بعضُهن بعضًا عندما تتحدَّث. كانت تخبرهن كيف جاءَ المسيحُ وتحدَّث إليها عندما كانت مستلقيةً في جهاز الرئة الاصطناعية؛ لم تكن تعني أنه جاءها في الحُلم، أو في رؤيا، أو عندما كانت تهلوس؛ كانت تعني أنه جاءها وتعرَّفَتْ عليه، لكنها لم تكن ترى عجبًا في ذلك. تعرَّفَتْ عليه على الفور، ولو أنه كان يرتدي معطفَ طبيبٍ أبيض. فكَّرت أن ارتداءه معطفَ طبيبٍ أمرٌ منطقي، وإلا فلم يكن ليُسْمَح له بالدخول؛ هكذا تقبَّلتِ الأمر. وبينما كانت مستلقية هناك في جهاز الرئة الاصطناعية، كانت في حالةٍ وَسَط بين العقل والسذاجة، كحال البشر عندما يطرأ عليهم حدثٌ كهذا (كانت تعني زيارة المسيح، لا الإصابة بشلل الأطفال). قال المسيح: «يجب أن تعودي لممارسة البيسبول يا ماري.» كان هذا كل ما قاله. كانت لاعبة بيسبول بارعة، واستخدم المسيح لغةً كان يدري أنها ستفهمها، وبعدها تركها ورحل. وتشبثت بالحياة كما قال لها.

كان هناك بقية لحديثها عن تفرُّد وخصوصية أجسادهن وحياتهن؛ الأمر الذي أفضى بطبيعة الحال إلى ما سمَّتْه ماري جونستون «حديثًا صريحًا» عن الصبية والشهوات (وهنالك اصطنعن تعبيراتٍ بوجوههن؛ كنَّ في غاية الحرج إذ كانت تتحدَّث عن المسيح). تحدَّثت عن الخمر، وعن السجائر، وكيف أن إحداهما تفضي إلى الأخرى. حسبْنَها مجنونةً. ولم تستطع حتى أن تميِّز ما عكفنَ على تدخينه، لدرجةِ أنهنَّ أُصِبْنَ بشيء من الإعياء ليلة أمسِ. كانت رائحة الدخان الكريهة تفوح منهن، لكنها لم تُعلِّق على هذا الأمر قطُّ.

إذن كانت مجنونة، لكنهن جميعًا تركْنَها تتحدَّث عن المسيح ولقائها به في المستشفى؛ لأنهن ظننَّ أنَّ من حقها أن تؤمن بما تؤمن به.

ولكنْ لنفترِضْ أن عينيك وقعتا على شيءٍ بالفعل، لا على غرار المسيح، ولكنْ شيء ما. هذا ما حدث لمورين؛ فأحيانًا وهي على وشك أن تخلد إلى النوم، وقبل أن تستغرق فيه وتداهمها الأحلام، كانت ترى أشياء، أو حتى خلال النهار وأثناء ما تعتبره حياتها العادية، قد ترى نفسها جالسةً على درجات حجرية تتناول الكرز وتراقِب رجلًا يصعد الدَّرَج حاملًا رزمة. لم تقع عيناها قطُّ على تلك الدرجات أو ذاك الرجل، ولكنْ، لوهلةٍ، بدتِ الدرجاتُ والرجلُ جزءًا من حياةٍ أخرى تحياها؛ حياة طويلة ومعقدة وغريبة ومملة كحياتها هذه. وهي لم تُفاجَأ؛ فإحاطتها علمًا بالحياتيْن في الوقت نفسه مجرد ضربةِ حظٍّ، خطأ سرعان ما جرى تصحيحه. حدَّثَتْ نفسها فيما بعدُ بأنَّ الأمر يبدو عاديًّا جدًّا؛ الكرز، والرزمة.

ما تراه الآن لا وجودَ له في حياتها. ترى يدًا من هاتين اليدين غليظتَي الأصابع اللتين قبضتا على مفرش طاولتها، ومسَّدَتَا على الريش، ترى تلك اليد وهي مُثبَّتة في مكانها دون مقاومة، ولكن بفعل إرادة شخص آخَر؛ تراها مُثبَّتة على مشعل الموقد حيث تعكف على تقليب الكاسترد في القدر المزدوج، واستقرت هناك لثانية أو ثانيتين بما يكفي فحسب لتلفح النارُ اللحمَ الموجود على مشعل الموقد الملتهب، لتلفحه لا لتشوِّهه. كلُّ ذلك يحدث في صمتٍ وباتفاق سابق؛ فعلٌ عارض وبربري وضروري. هكذا بَدَا الأمر. اليد التي أُنزِل بها العقاب داكنة كقفاز أو كظل يد، والأصابع مبسوطة. ما زالت ترتدي الملابس نفسها؛ الكُم الأصفر الفاتح والأزرق الباهت.

•••

سمعت مورين أصوات حركة زوجها في الردهة الأمامية، فأطفأت الموقد ووضعت الملعقة وذهبت إليه؛ كان قد هندَمَ ثيابه وأعَدَّ نفسه للخروج. كانت تعلم دون أن تسأله إلى أين هو ذاهب؛ سيقصد مخفر الشرطة ليبحث عن البلاغات المقدَّمة والإجراءات التي اتُّخِذَتْ.

قالت: «ربما من الأفضل أن أُقِلَّكَ؛ فالجو حارٌّ بالخارج.»

هزَّ رأسه رافضًا وتمتم بشيء غير مفهوم.

«أو يمكنني أن أسير إلى جوارك.»

لا؛ فهو سيخرج في مهمة جادة، وسيقلِّل من شأنه أن تصحبه زوجتُه أو تُقِلَّه.

فتحت له الباب الأمامي وقال لها: «أشكرك.» بنبرته القاسية النادمة على نحوٍ غريب. وبينما يمر من أمامها، يميل بجسده نحوها ويزمُّ شفتَيْه على مقربة من وجنتها دون أن يمسَّها.

لقد رحلا، ولم يَعُدْ ثمة أحدٌ يجلس على الجدار الآن.

•••

لن يعثر أحدٌ على هيذر بيل. لا وجودَ لجثتها، ولا أثرَ لها. اختفت كالرماد. صورتها التي انتشرت في الأماكن العامة ستذوي وتمسي باهتة، وستبدو ابتسامتها الصامتة بشفتَيْها المزمومتين وكأنها تحاول كتْمَ ضحكة عديمة الاحترام، ستبدو مرتبطةً باختفائها أكثر من ارتباطها بسخريتها من مصوِّرة المدرسة، وسيظل في صورتها دومًا إيحاءٌ طفيف بإرادتها الحرة وروحها الوثَّابة.

ولن يُجْدِي السيد سيديكاب نفعًا أبدًا؛ سيظل مذبذبًا بين حيرته ونوباته، ولن يجدوا شيئًا عندما يفتِّشون بيته، إلا إذا وُضِعتْ في الحسبان تلك الملابس الداخلية القديمة لزوجته، وعندما ينقبون في حديقته، لن يعثروا إلا على عظام قديمة دفنتها الكلاب، وسيظل كثيرون يعتقدون أنه أَقْدَمَ على شيءٍ ما أو رأى شيئًا ما. «كان له علاقة بما حدث.» وعندما سيُودَع مستشفى الأمراض العقلية الإقليمي، الذي سُمِّيَ فيما بعدُ مركزَ الصحة العقلية، ستتلقى الصحيفةُ المحلية رسائلَ من القُرَّاء عن الاحتجاز الوقائي، والتحرُّك بعد فوات الأوان.

وستتلقَّى الصحيفة أيضًا رسائلَ من ماري جونستون تفسِّر فيها لِمَ كانت تتصرَّف هكذا، وستشرح لمَ كانت تتصرَّف هكذا يوم الأحد المشئوم. وفي نهاية المطاف، سيتعيَّن على رئيس التحرير أن يخبرها بأن هيذر بيل طواها النسيان، وأن المدينة لا تودُّ فحسب أن يَعْلق ذِكْرها بهذه القصة، وأنه إذا قُدِّر لرحلات التسلُّق أن تنتهي، فهذه لن تكون نهاية العالم، وأنه لا يسعنا أن نجترَّ القصةَ إلى الأبد.

ما زالت مورين شابة، ولو أنها لا تعتقد ذلك، وما زالت الحياة تفتح لها ذراعَيْها. ستشهد وفاة زوجها أولًا — التي باتت وشيكة — وستتبع وفاتَه زيجةٌ أخرى، وأماكن وبيوت جديدة. في مطابخ على بُعْد مئات وآلاف الأميال، سترى انعكاسَ صورةِ بشرتها الناعمة على ظَهْر ملعقةٍ خشبية، وستتذبذب ذاكرتُها، لكنها لن تكشف لها عن تلك اللحظة التي تبدو فيها وكأنها تطَّلِع على سرٍّ علني؛ شيء لا يدعو إلى الذهول إلا عندما تفكِّر في إِطْلَاع الآخَرين عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤