الجزء الثاني

آلية كشف الجريمة

يرويها د. كريستوفر جيرفيز

أبرزت الملابساتُ الاستثنائية المحيطة بوفاة السيد أوسكار برودسكي، تاجر الألماس الشهير في هاتون جاردن، بقوة، أهميةَ عاملٍ أو عاملين في الطب الشرعي لطالما أصرَّ ثورندايك على أنهما لا يلقيان تقديرًا كافيًا. وسأترك لصديقي ومعلمي مهمةَ توضيحِ هاتين النقطتين في الموضع المناسب؛ ونظرًا لأن هذه القضية ذات طابع إرشادي في المقام الأول، فسأسجل الوقائع بترتيب حدوثها.

كانت شمسُ أحد أيام شهر أكتوبر موشكةً على المغيب عندما كنت أنا وثورندايك وحدنا في المقصورة المخصصة للتدخين على متن القطار، ووجدنا القطار يقترب من محطة لودهام الصغيرة، ومع تباطؤ سرعته نظرنا من النافذة إلى حشدِ الريفيين المنتظرين على رصيف المحطة. صاح ثورندايك متفاجئًا: «عجبًا، إنه بوسكوفيتش بلا شك!» وفي اللحظة نفسها تقريبًا، اندفع من باب مقصورتنا رجلٌ رشيق الحركة ضئيل الجسد فتعثَّر وسقط أرضًا من فرط الحماس.

صافحهما الرجل في ودٍّ ووضع حقيبته بعنفٍ مدوٍّ داخل الرف ثم قال: «أتمنى ألا تعتبراني متطفلًا على خلوتكما، لكني رأيتُ وجهيكما من النافذة واندفعتُ تلقائيًّا لاغتنام الفرصة للانضمام إلى هذه الصحبة الكريمة.»

ردَّ ثورندايك: «هذا لطفٌ بالغ منك، حتى إنك لم تترك لنا شيئًا نقوله. ولكن ماذا تفعل في … ما اسم البلدة؟ لودهام؟»

قال السيد بوسكوفيتش موضحًا: «إن أخي يمتلك بيتًا صغيرًا على بُعد ميل تقريبًا من هنا، وقد أمضيت معه بضعة أيام. سأغيِّر الخط في محطة بادشام وأستقل القطار المؤدي إلى المركب المتوجه إلى أمستردام. ولكن إلى أين تتجهان؟ أرى حقيبتك الخضراء الصغيرة الغامضة على رفِّ القبعات، هل يعني ذلك أنك ذاهب في إحدى مغامراتك الرومانسية؟ في طريقك لكشف غموض جريمة معقدة؟»

أجابه ثورندايك: «نحن متجهان إلى وورمينجتون في مهمة عادية تمامًا. أنا مكلَّف بمتابعة إجراءات تحقيق هناك بالغد ممثِّلًا عن مكتب جريفين للتأمين على الحياة، ونحن مسافران الليلة لأنها رحلة بين الضواحي.»

سأل بوسكوفيتش وهو ينظر إلى أعلى نحو رفِّ القبعات: «ولكن لماذا اصطحبت حقيبتك السحرية؟»

أجاب ثورندايك: «لا أغادر البلدة أبدًا بدونها. فربما يطرأ شيء ما؛ ووجود ما قد يلزمني من محتوياتها معي حالَ حدوث أيِّ طارئ يمنحني شعورًا بالراحة يعوضني عن عبء حملِها.»

واصل بوسكوفيتش التحديقَ في الحقيبة الخضراء المربعة الصغيرة المغطاة بطبقة قماشية مقاومة للماء. وبعد قليل أشار قائلًا: «لطالما تساءلتُ عما تحمله فيها عندما كنتَ في تشيلمزفورد للتحقيق في جريمة القتل التي وقعت في المصرف؛ كانت قضيةً مدهشة بالمناسبة، وكم أثارت طرقُكَ في التحري دهشة الشرطة حينها!» وبينما لم يزل نظرُه معلقًا بالحقيبة، أنزلها ثورندايك بتلقائية وفتح قفلها. كان فخورًا «بمختبره المتنقل»، وفي حقيقة الأمر كانت نموذجًا ناجحًا للتكثيف؛ فبقدر صغر حجمها — إذ كان عمقها لا يتجاوز قدمًا مربعة في أربع بوصات فحسب — فقد احتوت كلَّ ما يتطلبه إجراءُ تحقيق مبدئي من أدوات.

فتح ثورندايك الحقيبة أمام بوسكوفيتش، كاشفًا عمَّا بها من صفوف من زجاجات الكواشف الصغيرة، وأنابيب اختبار صغيرة للغاية، ومصباح كحولي صغير للغاية، ومجهر صغير أيضًا، وتشكيلة من الأدوات الأخرى بالحجم الصغير نفسه، فقال بوسكوفيتش متعجبًا: «رائع! إنها أشبه بمنزل للدُّمَى، كلُّ شيء يبدو كما لو كان يُرى من الطرف الخطأ لمجهر. ولكن هل هذه الأشياء الصغيرة فعالة حقًّا؟ هذا المجهر مثلًا …»

قاطعه ثورندايك: «فعَّال تمامًا عند الحاجة إلى التكبير بدرجة منخفضة أو متوسطة. يبدو كدُمْية، لكنه ليس كذلك؛ فعدساتُه من أفضل ما يمكن. لا شك أن جهازًا بالحجم الطبيعي سيكون أكثرَ ملاءمة بكثير، لكن لا ينبغي أن أحمله معي على الدوام، وعليَّ أن أتدبر أمري بعدسة جيب. وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية هذه الأدوات الصغيرة؛ فهي أفضل من ألا تُتاحَ لي أيُّ أدوات على الإطلاق.»

تفحص بوسكوفيتش الحقيبة ومحتوياتها بعناية، وأخذ يلمس الأدوات بأصابعه بحذرٍ، ويطرح أسئلةً لا حصر لها عن استخداماتها، ولم يكن فضوله قد أُشبع بعدُ عندما بدأ القطار يبطئ تدريجيًّا بعد نصف ساعة.

صاح بوسكوفيتش متعجبًا وقد هبَّ واقفًا وأمسك حقيبته: «يا إلهي! لقد وصلنا إلى المحطة بالفعل. ستُغيران الخط هنا أيضًا، أليس كذلك؟»

ردَّ ثورندايك: «نعم، سنستقل القطار الفرعي المتجه إلى وورمينجتون.»

عندما ترجلنا من القطار، أدركنا أن شيئًا غريبًا يحدث أو حدث بالفعل. فقد كان كلُّ الركاب ومعظم الحمَّالين والمتفرجين الآخرين مجتمعين في أحد أطراف المحطة، وكان الجميع ينظر باهتمام نحو الظلام عبر شريط السكك الحديدية.

تساءل السيد بوسكوفيتش مخاطبًا مفتش المحطة: «هل من مشكلة؟»

ردَّ المفتش: «نعم يا سيدي، دهس قطارُ نقل البضائع رجلًا على بُعد ميل على القضبان. وقد ذهب ناظر المحطة لإحضاره على نقالة، وأعتقد أن المصباح الذي ترى ضوءه مقبلًا نحونا هناك هو مصباحه.»

وبينما وقفنا نشاهد الضوء المتراقص يزداد سطوعًا من لحظة لأخرى ويُرسل انعكاسات متقطعة من القضبان المصقولة البراقة، خرج رجل من مكتب حجز التذاكر وانضم لحشد المتابعين. جذب الرجل انتباهي لسببين تذكرتُهما في وقت لاحق: الأول هو وجهه المستدير البشوش الذي بدا شاحبًا للغاية وارتسم عليه تعبيرٌ متوتر وعنيف، والثاني أنه لم يطرح أيَّ أسئلة رغم أنه كان يحملق في الظلام بفضول شديد.

استمر اقترابُ المصباح المتراقص، وفجأة برز للعيان رجلان يحملان نقالة مغطاة بمشمع أمكن من خلاله تمييز شكل جسم إنسان وإن كان بصعوبة ودون ملامح واضحة. صعد الرجلان إلى الرصيف وتابعَا المسير حاملين النقالة إلى غرفة الإشارة، بينما تحولت نظراتُ الركاب الفضولية إلى حمَّال كان يتبعهما حاملًا حقيبةَ يدٍ ومظلة، وإلى ناظر المحطة الذي كان سائرًا في المؤخرة يحمل مصباحه.

وبينما مرَّ الحمَّال، اندفع السيد بوسكوفيتش إلى الأمام بانفعال مفاجئ.

تساءل: «أهذه مظلته؟»

توقف الحمَّال وثبَّتها ليتفحصها السائل ثم أجابه: «نعم يا سيدي.»

صاح بوسكوفيتش: «يا إلهي!» ثم استدار بحدة نحو ثورندايك وصاح بانفعال: «هذه مظلة برودسكي. أُقسم على ذلك. أتتذكر برودسكي؟»

أومأ ثورندايك موافقًا، فالتفت بوسكوفيتش مرة أخرى إلى الحمَّال قائلًا: «أعرف هذه المظلة. صاحبها رجلٌ يُدعى برودسكي، وإذا نظرتَ في قبعته فستجد اسمه مكتوبًا عليها. إنه يكتب اسمه على قبعته دائمًا.»

رد الحمَّال: «لم نجد قبعته بعدُ، لكن ها هو ناظر المحطة قادم نحونا.» والتفت إلى رئيسه وأخبره قائلًا: «سيدي، لقد تعرَّف هذا السيد على المظلة.»

قال ناظر المحطة: «أتعرف هذه المظلة حقًّا يا سيدي؟ إذن، ربما يمكنك الدخولُ إلى غرفة الإشارة للتعرف على الجثة.»

تراجع بوسكوفيتش وقال مضطربًا: «هل الجثة … هل هو … هل إصابته بالغة؟»

فجاءه الردُّ: «في الحقيقة، نعم. فقد دهسته القاطرة ثم ستٌّ من العربات قبل أن نتمكن من إيقاف القطار. لقد انفصل رأسُه تمامًا في الواقع.»

لهث بوسكوفيتش: «يا لها من صدمة! يا لها من صدمة! أعتقد أنني أفضِّل … إذا لم تمانع … أفضِّل ألا أراه هكذا.» ثم خاطب ثورندايك قائلًا: «أظنك لا ترى ذلك ضروريًّا يا دكتور، أليس كذلك؟»

أجابه ثورندايك: «هذا أمر ضروري بالفعل، فالتعرف على الجثة مبكرًا قد يكون بالغَ الأهمية.»

فقال بوسكوفيتش: «إذن! لا مفر.» وعلى مضضٍ شديد، تبِع بوسكوفيتش ناظرَ المحطة إلى غرفة الإشارة، بينما دوى الجرس عاليًا للإعلان عن قرب وصول القطار المؤدي إلى الميناء. لا بد أن فحْصَه للجثة كان سريعًا جدًّا؛ فقد خرج مندفعًا بعد لحظات معدودة شاحبًا وواجمًا وهرع إلى ثورندايك.

صاح بأنفاس متقطعة: «إنه هو! هو برودسكي، برودسكي المسكين! شيء فظيع! فظيع! كان من المفترض أن يقابلَني هنا لنذهب معًا إلى أمستردام.»

سأله ثورندايك: «هل كان معه أي … أيُّ بضاعة؟» وبينما كان يتحدث، اقترب الغريبُ الذي لاحظته من قبل أكثر كمَن يريد أن يسمع الرد.

أجاب بوسكوفيتش: «كان معه بعضُ الأحجار، لا شك في ذلك، لكن لا أعلم من أيِّ نوع. مساعدُه يعلم بالتأكيد. بالمناسبة يا دكتور، هلَّا تفحصت الجثة؟ فقط لنتأكد أنه كان حادثًا وليس … شيئًا آخر. كنَّا صديقين قديمين، ومن مدينة واحدة كذلك، كلانا وُلد في وارسو. أودُّ منك أن تُلقيَ نظرة على الجثة.»

أجاب الطبيب: «حسنًا. وسأفترض أن ما يُخبرني به الشكلُ الظاهري هو الحقيقة، ثم أعطيك تقريري. أيكفي ذلك؟»

أجابه بوسكوفيتش: «شكرًا جزيلًا. هذا كرمٌ بالغ منك يا دكتور. آه، ها هو القطار آتٍ، أتمنى ألا يُزعجك المكوث هنا والاهتمام بهذا الأمر.»

ردَّ ثورندايك: «إطلاقًا. موعدنا في وورمينجتون بعد ظهر الغد، وأتوقع أن نتمكن من معرفة كلِّ التفاصيل الضرورية قبل ذلك الحين وألا يفوتَنا الموعد.»

بينما كان ثورندايك يتحدث، رمق الغريب، الذي ظل قريبًا منَّا وكان من الواضح أنه يحاول أن يسمع ما يقال، ثورندايك بنظرة متفحصة فضولية، وانتظر مكانه حتى توقف القطار تمامًا على رصيف المحطة ثم انطلق إليه ليجدَ لنفسه عربة.

ما إن غادر القطار المحطةَ حتى بحث ثورندايك عن ناظر المحطة وأخبره بالتعليمات التي تلقَّاها من بوسكوفيتش، وأضاف مختتمًا حديثه: «بالطبع يجب ألا نفعل شيئًا بهذا الشأن حتى وصول الشرطة. أعتقد أنكم أبلغتموهم، صحيح؟»

أجاب ناظر المحطة: «نعم. لقد أرسلتُ رسالة على الفور إلى رئيس الشرطة، وأتوقع مجيئه هو أو أحد مفتشي الشرطة في أي لحظة. في الحقيقة، أعتقد أنني سأتسلَّل إلى الممر وأرى إن كان قادمًا.» كان واضحًا أنه يريد أن يتحدث إلى ضابط الشرطة على انفراد قبل أن يُدليَ بأيِّ أقوال.

عندما غادر ناظر المحطة، بدأت أنا وثورندايك في التجول على رصيف المحطة الذي كان قد خلَا من الركاب، وأخذ صديقي يستعرض ملامح القضية متأملًا، كدأبِه دائمًا عند الدخول في تحقيق جديد.

قال ثورندايك: «في قضيةٍ كهذه، علينا أن نستقرَّ على توصيفٍ واحد من ثلاثة توصيفات محتملة: حادث أو انتحار أو جريمة قتل، وسيتحدد قرارُنا على أساس ما سنستنتجه من ثلاث مجموعات من الحقائق: أولها الوقائع العامة للقضية، وثانيها البيانات الخاصة التي يكشف عنها فحصُ الجثة، وثالثها البيانات التي نتوصل إليها بفحص المكان الذي وُجدت فيه الجثة. الوقائع العامة الوحيدة التي نعرفها في اللحظة الراهنة هي أن الراحل كان تاجرَ ألماس خرج في رحلة لهدف محدد، ومن المرجح أنه كان يحمل مقتنيات مما قلَّ حجمُه وغلا ثمنُه. هذه الوقائع من شأنها أن تستبعدَ فرضية الانتحار إلى حدٍّ ما وتُرجح فرضية القتل إلى حدٍّ ما. أما الوقائع التي تُشير إلى فرضية الحادث، فتتمثل في وجود أو عدم وجود مزلقان، أو طريق أو مسلك يؤدي إلى خط السكة الحديد، أو سياج له بوابة أو بدون بوابة، وأي حقائق أخرى تجعل الوجود العرضي للمُتوفى في مكان العثور على الجثة مرجحًا أو غير مرجح. ونظرًا لأننا لا نحوز أيًّا من هذه الحقائق، فالمطلوب الآن أن نوسع نطاق معلوماتنا.»

اقترحتُ قائلًا: «لمَ لا نطرح على الحمَّال الذي أحضر الحقيبة والمظلة بعضَ الأسئلة بشيء من التحفظ؟ إنه الآن يتحاور حوارًا جديًّا مع الكمساري ولا شك أنه سيسعد إذا زاد مستمعوه واحدًا.»

أجاب ثورندايك: «اقتراح ممتاز يا جيرفيز. لنستمع لما لديه.» توجهنا إلى الحمَّال ووجدناه — كما توقعت — يُفضي بالقصة المأساوية ليتحرر من عبئها.

قال الحمَّال ردًّا على سؤال طرحه ثورندايك: «إليك ما جرى سيدي. ثمة انعطافٌ حادٌّ في الطريق في هذا المكان بالضبط، وكان قطارُ نقل البضائع ينعطف معها عندما وقع نظرُ السائق فجأة على شيء ملقًى على القضبان. وبينما كان القطار ينعطف، وقع ضوءُ المصابيح الأمامية على ما كان على قضيب القطار فأدرك السائقُ أنه جسد رجل. فأسرع بإيقاف البخار على الفور، وأطلق صافرته، وضغط المكابح بقوة، ولكن كما تعرف سيدي ليس من السهل إيقافُ قطار نقل بضائع؛ لذا دهست القاطرة وستُّ عربات أخرى المتسول المسكين قبل أن يتمكنوا من إيقاف القطار.»

سأله ثورندايك: «هل رأى السائق الوضعية التي كان عليها الرجل؟»

«نعم، رآه بوضوح تام؛ لأن المصابيح الأمامية كانت مسلطةً عليه بالكامل. كان يرقد على وجهه وكانت رقبته على قضيب القطار القريب من الناحية السفلية. وكان رأسه في المسافة الفاصلة بين قضيبَي القطار، أما جسدُه فكان بجانب شريط القطار. بدا كما لو كان مستلقيًا بهذا الوضع عن عمد.»

«هل يوجد مزلقان بالقرب من هذا المكان؟»

قال الحمَّال: «كلَّا يا سيدي؛ لا يوجد مزلقان ولا طريقٌ ولا مسلك ولا أيُّ شيء. لا بد أنه جاء من الحقول المحيطة وتسلَّق السياج للوصول إلى خط السكة الحديد. يبدو أنه انتحار متعمد.»

تساءل ثورندايك: «كيف عرفتَ هذا كلَّه؟»

«بعد أن فرغ السائق من رفع الجثة عن القضبان بعونٍ من زميله، توجَّه إلى كشك الإشارات التالي وأبلغ بما حدث عن طريق البرق. وأخبرني ناظرُ المحطة بكل ما جرى بينما كنا نسير على شريط السكك الحديدية.»

شكر ثورندايك الرجل على المعلومات التي أفاد بها، وعندما عدْنا أدراجنا إلى غرفة الإشارة، تناقشنا في جدوى هذه الحقائق الجديدة وتأثيرها.

قال ثورندايك: «لا شك أن صديقنا أصاب في جزء من كلامه؛ فهذا لم يكن حادثًا. من الممكن أن يكون الرجل قد تسلق السياج وصدمه القطار، وهذا إذا ما كان الرجلُ قصيرَ النظر أو أصمَّ أو غبيًّا. غير أن الوضعية التي وُجد عليها — مسجًى على القضبان — لا يمكن تفسيرُها إلا بإحدى فرضيتين: إما أن ما حدث كان انتحارًا متعمدًا كما قال الحمَّال، أو أن الرجل كان قد فارق الحياة بالفعل أو فاقدًا للوعي. علينا ألا نذهبَ بافتراضاتنا لما هو أبعد من ذلك حتى نرى الجثة، إذا أذنت لنا الشرطة بذلك. ها هو ناظر المحطة مقبلٌ علينا ومعه ضابط شرطة. لنستمع لما لديهما.»

كان واضحًا أن ناظر المحطة وضابط الشرطة قد قررَا رفْضَ أيِّ مساعدة خارجية؛ فيقوم الطبيب الشرعي بالفحص اللازم، ويتم الحصول على المعلومات من القنوات المعتادة. غير أن إبراز ثورندايك لبطاقته المهنية غيَّر الموقف نوعًا ما. فقد تردَّد مفتش الشرطة في قراره بينما كان يُمسك ببطاقة ثورندايك في يده، ولكنه سمح لنا في النهاية بمعاينة الجثة، ودلفنا إلى غرفة الإشارة معًا يتقدمنا ناظرُ المحطة ليضيءَ المصباح.

كانت النقالة ملقاةً على الأرض عند أحد جدران الغرفة، بينما غطَّى المشمع الجثة، ووُضعت الحقيبة والمظلة على صندوق كبير، وبجانبهما إطارُ النظارة المحطم الذي سقط زجاجُ عدستيها.

سأل ثورندايك: «هل عُثر على إطار النظارة هذا بالقرب من الجثة؟»

ردَّ ناظر المحطة: «نعم، كان بجوار رأس الجثة وكان الزجاج متناثرًا بين قضيبي القطار.»

دوَّن ثورندايك ملاحظة في دفتر ملاحظاته، وعندما أزال المفتش المشمع، ألقى نظرةً على الجثة الممددة على نحوٍ هزيل على النقالة، وكان مظهرها مقززًا للغاية وقد انفصل عنها الرأسُ وتشوهت أطرافها. ظلَّ لدقيقة كاملة منحنيًا فوق الجثة الغريبة الشكل يطالعها في صمتٍ، وكان المفتش في ذلك الحين يسلط عليها ضوءَ مصباح كبير، ثم وقف وقال لي بهدوء: «أعتقد أنه يمكننا استبعادُ اثنتين من الفرضيات الثلاث.»

نظر المفتش إليه بسرعة، وكان على وشك أن يطرح عليه سؤالًا، قبل أن تُشتتَ انتباهَه حقيبةُ سفر ثورندايك التي وضعها على أحدِ الأرفف وفتحها وأخرج منها ملقطين جراحيين.

خاطبه المفتش: «لا سلطة لدينا لتشريح الجثة، كما تعلم.»

ردَّ ثورندايك: «بكل تأكيد، سأنظر إلى فمه من الداخل فحسب.» وبواسطة أحد الملقطين رفع شفة الجثة وبعد فحص دقيق لسطحها الداخلي، عاين الأسنان بعناية.

ثم خاطبني: «هلَّا أعرتني عدستك يا جيرفيز؟» وبعدما أعطيتُه عدستي المزدوجة مفتوحةً وجاهزة للاستخدام، قرَّب المفتش المصباح من وجه الميت ومال إلى الأمام في لهفة. وبطريقته المنهجية المعتادة مرر ثورندايك العدسة ببطء على الأسنان الحادة غير المتساوية، ثم أعاد تركيزها على منتصفها وتفحص القواطع العلوية بدقة أكبر. وأخيرًا، وبتأنٍّ شديد، سحب شيئًا ما من بين السنَّين الأماميين العلويين ووضعه تحت بؤرة العدسة. ونظرًا لمعرفتي بخطوته التالية، أخذتُ شريحة مجهر عليها ملصق صغير من الحقيبة وناولتُه إياها مع إبرة تشريح. وبينما كان ينقل ما سحبه من بين السنَّين إلى الشريحة وأعمل فيه الإبرة لإظهار ماهيته، أعددتُ له المجهر الصغير على الرف.

خاطبني ثورندايك: «قطرة من محلول فارانت، وشريحة تغطية زجاجية من فضلك يا جيرفيز.»

ناولتُه الزجاجة، وبعدما وضع قطرة من المحلول الذي احتوته لتسقط برفق على الشيء ثم وضع شريحة التغطية، وضع الشريحة على منصة المجهر وفحصها بعناية.

وقع نظري على المفتش بالمصادفة فوجدتُ ابتسامةً خفيفة ترتسم على وجهه حاول أن يكبحَها بتأدُّبٍ عندما التقت أعيننا.

قال المفتش معتذرًا: «لا أعتقد يا سيدي أن معرفة ما تناوله الرجل على العشاء ستفيدنا بشيء. فالرجل لم يَمُت بسبب سوء التغذية.»

نظر إليه ثورندايك مبتسمًا وقال: «ليس منطقيًّا في قضية من هذا النوع، أيها المفتش، أن نفترض عدم جدوى أيِّ شيء. فكلُّ حقيقة لا بد أن يكون لها مغزًى ما.»

ردَّ المفتش بلهجة تحدٍّ: «لا أرى أيَّ مغزًى في معرفة العادات الغذائية لرجل قُطِع رأسه.»

قال ثورندايك: «حقًّا؟ ألا فائدة من معرفة مكونات الوجبة الأخيرة لرجل مات هذه الميتة العنيفة؟ ألا يُخبرنا هذا الفتات المتناثر على معطف الرجل مثلًا بشيء. ألا نستطيعُ معرفة شيء منها؟»

أجابه في إصرار: «لا أعلم ما الذي يمكن أن يُخبركَ به.»

التقط ثورندايك قِطَع الفتات بملقطه، واحدةً تلو الأخرى، ووضعها على شريحة وفحصها بالعدسة أولًا ثم بالمجهر.

ثم قال: «يُخبرني بأن الرجل قبل وفاته بوقت قصير تناول نوعًا من بسكويت الحبوب الكاملة، يتكون في جزء منه من الشوفان على ما يبدو.»

قال المفتش: «وما قيمة ذلك؟ لسنا هنا لنعرف نوعية المرطبات التي كان المُتوفى يشربها وإنما لنعرف سبب الوفاة: أهو انتحار؟ أم قُتل في حادث؟ أم كان ثمة جريمة قتل؟»

قال ثورندايك: «أستميحك عذرًا، لكن الأسئلة التي لا يزال علينا أن نحسمَها هي: مَن قتل المُتوفى وبأي دافع؟ أما الأسئلة الأخرى، فإجابتُها باتت واضحةً حسب تقديري.»

حدَّق فيه المفتش باندهاش بالغ لم يَخلُ من عدم التصديق.

ثم قال: «لم يستغرق منك التوصل إلى نتيجة الكثير من الوقت يا سيدي.»

قال ثورندايك: «لقد كانت جريمةَ قتل واضحة تمامًا. أما عن الدافع، فالراحل كان تاجر ألماس ولا بد أن أحدهم توقَّع أنه كان بحوزته كمية منه. أقترح أن تفتش الجثة.»

تنهد المفتش ممتعضًا وقال: «لقد كان ذلك مجرد تخمين من جانبك. المُتوفى كان تاجر ألماس وكان يحمل أحجارًا قيِّمة؛ ولذا قُتِل.» ثم انتصب المفتش في وقفته ونظر إلى ثورندايك شزرًا ثم أضاف: «عليك أن تفهم يا سيدي أن هذا تحقيق قضائي، وليست منافسة على جائزة في جريدة. أما عن تفتيش الجثة، فهذا ما جئت من أجله أصلًا.» ثم أدار ظهره لنا في خيلاء وشرع يُفرغ جيوب المتوفى على نحو ممنهج، ووضع ما وجد من أغراض على الصندوق بجانب حقيبة اليد والمظلة.

في هذه الأثناء، ألقى ثورندايك على الجثة نظرةً عامة، وركز انتباهه على نعلَي الحذاء على نحو خاص، وأخذ يفحصهما بالعدسة بعناية فيما تابعه المفتش في تندُّر غير خفي.

علق المفتش قائلًا: «كنت أظن أن قدميه كبيرتان بما يكفي لرؤيتهما بالعين المجردة …» ثم نظر إلى ناظر المحطة نظرة ماكرة وأضاف: «لكن ربما كان نظرك قصيرًا.»

ضحك ثورندايك ضحكة مكتومة مرحة، وبينما واصل الضابط التفتيش، نظر إلى الأغراض الموضوعة على الصندوق، فترك المحفظة ودفتر الملاحظات للمفتش ليفتحهما بطبيعة الحال، فيما أخضع نظارة القراءة، وسكين الجيب وحافظة البطاقات والأغراض الأخرى الصغيرة التي كانت في الجيب لفحص دقيق من جانبه. تابعه المفتش من زاوية عينه بتندر مُسترَق؛ فرآه يرفع النظارة عاليًا في الضوء ليقدر مدى انكسار الضوء عليها، ويتأمل كيس التبغ، ويفتح دفتر ورق السجائر ويتفحص العلامة المائية على الورق، حتى إنه فتش محتويات عُلبة الثقاب الفضية.

تساءل الضابط وهو يضع مجموعة من المفاتيح كانت في جيب المتوفى: «ماذا كنت تتوقع أن تجد داخل كيس التبغ؟»

ردَّ ثورندايك في تبلد: «كنت أتوقع أن أجد تبغًا عاديًّا، ولكن لم أتوقع أن أجد تبغ لاتاكيا الفاخر. لا أتذكر أني رأيتُ تبغ لاتاكيا الخالص يُدخَّن في سجائر من قبل.»

قال المفتش وهو ينظر إلى ناظر المحطة المتبلد نظرة خاطفة جانبية: «أنت تهتم بالأشياء فعلًا يا سيدي.»

وافقه ثورندايك: «بالفعل، ولاحظتُ عدم وجود ألماس بين مقتنياته.»

«لا يوجد ألماس، ولا نعلم إذا ما كان يحمل أيَّ ألماس معه، لكن توجد ساعة وسلسلة ذهبيتان، ودبوس وشاح من الألماس، وحقيبة بها …» فتحها وأفرغ محتوياتِها في يده ثم تابع: «اثنا عشر جنيهًا ذهبيًّا. لا يبدو أنها سرقة، أليس كذلك؟ ما قولك الآن في نظرية جريمة القتل التي افترضتَها؟»

قال ثورندايك: «رأيي لم يتغير، وأودُّ أن أفحص المكان الذي وُجدت فيه الجثة.» ثم أضاف مخاطبًا ناظرَ المحطة: «هل فُحِصت القاطرة؟»

أجاب ناظر المحطة: «لقد أرسلتُ برقية إلى برادفيلد لفحصها. ربما يكون التقرير قد وصل الآن. يستحسن أن أطالعه قبل أن ننطلق إلى شريط القطار.»

خرجنا من غرفة الإشارة، ووجدنا مفتش المحطة منتظرًا عند الباب ومعه برقية، فسلمها إلى ناظر المحطة الذي قرأها علينا بدوره.

«فحصتُ القاطرة بعناية. وقد وجدتُ بقعة دم صغيرة على العجلة الأمامية، وبقعة أخرى أصغر على العجلة التي تليها. لا علامات أخرى.» نظر إلى ثورندايك متسائلًا، فأومأ برأسه وقال: «سيكون من المثير أن نرى إذا ما كان ذلك يتطابق مع ما سنجده على القضبان.»

بدا ناظر المحطة متحيرًا وكان واضحًا أنه يوشك على طرح سؤال، بيد أن المفتش — بعد أن وضع مقتنيات المتوفى في جيبه — كان ينتظر الانطلاق بفارغ الصبر، وهكذا، وبعدما أعاد ثورندايك محتويات حقيبته الخضراء إلى مكانها، وجيء له بمصباح بناء على طلبه، انطلقنا نحو شريط القطار، وحمل ثورندايك المصباح، فيما حملتُ أنا الحقيبة الخضراء الأثيرة.

في طريقنا، بعد أن تركتُ أنا وثورندايك ناظرَ المحطة والمفتش يتقدمانَا بمسافة جعلتهما بعيدين عن مرمى السمع، قلت: «ثمة أمورٌ غامضة كثيرة بالنسبة إليَّ في هذه الواقعة، فيما توصلتَ أنت إلى استنتاج بسرعة بالغة. فما الذي جعلك تجزم بفرضية القتل وتستبعد الانتحار بهذه السرعة؟»

أجاب ثورندايك: «شيءٌ صغير لكنه حاسم جدًّا. هل لاحظتَ وجود جرح صغير في فروة الرأس فوق الصدغ الأيسر؟ كان جرحًا سطحيًّا، وقد يُفترض للوهلة الأولى أن القاطرة هي ما أحدثته، ولكن الجرح ظل ينزف لوقت ليس بالقصير، كان الجرح ينزف من مكانين، وكان الدم متجلطًا بشدة وجافًّا جزئيًّا في كليهما. لكن الرأس انفصل عن الجسد، وإذا كانت القاطرة هي ما أحدث الجرح، فلا بد أنها أحدثته بعد انفصال الرأس عن الجسد؛ لأن الجرح كان على جانب الرأس الأبعد عن القاطرة أثناء تقدمها نحوه. والرأس إذا انفصل عن الجسد لا ينزف. إذن فهذا الجرح أصاب الرأس قبل انفصاله عن الجسد.

ولكن نزيف الجرح ليس كلَّ شيء؛ لقد انسال الدم في خطَّين متعامدين. وبحسب الترتيب الزمني الذي يكشف عنه مظهرُ خطَّي الدم، انسال خطُّ الدم الأول على جانب الوجه حتى وصل إلى ياقة القميص، وانسال خطُّ الدم الثاني من الجرح متوجهًا نحو مؤخرة الرأس. وتعلم يا جيرفيز أن قانون الجاذبية لا يعرف الاستثناءات. فإذا كان الدم قد انسال على الوجه وصولًا إلى الذقن، فهذا يعني أن الوجه كان في وضع منتصب عندما كان الجرح ينزف؛ أما إذا كان الدم قد انسال من مقدمة الرأس إلى مؤخرته، فمعنى ذلك أن الرأس كان في وضع أفقي والوجه متجهًا للأعلى. ولكن سائق القطار حين رأي الرجل وجده مُلقًى على وجهه. فالاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن الرجل كان واقفًا أو جالسًا في وضع عمودي عندما حدث الجرح، ونتيجة لذلك، وبينما كان الرجل لا يزال على قيد الحياة، استلقى على ظهره لوقت طويل بما يكفي لانسيال الدم إلى مؤخرة رأسه.»

رددت عليه في أسف: «فهمتُ الآن. لا بد أن غبائي حال دون توصُّلي لهذا الاستنتاج بنفسي.»

ردَّ ثورندايك: «سرعة الملاحظة والاستنتاج يأتيان بالممارسة. ماذا لاحظتَ بشأن الوجه؟»

«أظن أن ثمة إيحاءً قويًّا بوجود أسفكسيا الخنق.»

قال ثورندايك: «بلا شك. فهذا الوجه وجه رجل تعرض للخنق. لا بد أنك لاحظت أيضًا التورم الملحوظ للسان، والانبعاجات العميقة التي أحدثتها الأسنان في الجزء الداخلي من الشفة العليا، إلى جانب جرح طفيف أو اثنين نتجَا بوضوح عن ضغط شديد على الفم. والآن لاحظ كيف تتفق هذه الحقائق والاستنتاجات تمامًا مع ما كشف عنه جرحُ فروة الرأس. فإذا كنا قد عرفنا أن المتوفى تلقى ضربة على الرأس، وتعارك مع مهاجمه حتى تمكن في النهاية من الإطباق عليه وخنقه، فعلينا أن نبحث تحديدًا عن تلك الأدلة التي توصلنا إليها.»

سألته: «بالمناسبة، ما الذي وجدته محشورًا بين الأسنان؟ لم تسنح لي الفرصة لمشاهدته تحت المجهر.»

قال ثورندايك: «آه! ما وجدته يؤكد استنتاجنا، بل يقودنا إلى المرحلة التالية في التحقيق. لقد كان ما وجدته هو قطعة صغيرة من قماش منسوج، وعندما عاينتها تحت المجهر، وجدت أنها تتكون من العديد من الألياف المختلفة مصبوغة بألوان مختلفة. كان معظمها يتكون من ألياف صوفية مصبوغة باللون القرمزي، وكان بها أيضًا ألياف قطنية مصبوغة باللون الأزرق، وبعض ألياف أخرى بدت كالخيش مصبوغة باللون الأصفر. من الواضح أنه كان نسيجًا متعددَ الألوان وربما كان جزءًا من ثوب نسائي، وإن كان وجود الخيش يوحي أكثر بأنه من ستارة أو بساط غليظ رديء الجودة.»

«وما أهميته؟»

«أهميتُه أن النسيج إذا لم يكن مصدره أحد الملبوسات، فلا بد أن مصدره قطعة أثاث، والأثاث يعني مسكنًا.»

قلتُ معترضًا: «لا يبدو هذا حاسمًا.»

فرد: «أتفق معك، ولكنه توثيق قيِّم.»

سألته: «توثيق لأي شيء؟»

أجابني: «لما تبين لي من نعلَي حذاء المتوفى. لقد فحصتهما بدقة بالغة، فلم أجد أثرًا لرمال أو حصى أو تراب، على الرغم من أنه من المفترض أن يكون قد عبر حقولًا وأرضًا وعرة للوصول إلى حيث عُثر على جثته. أما ما وجدتُه على الحذاء فكان رماد تبغ فاخر، وبقعة متفحمة كما لو كانت نتجت عن دهس سيجارة أو سيجار، والكثير من فتات البسكويت، ونسيجًا ملونًا — عالقًا على مسمار بارز في النعل — يبدو أن مصدره سجادة. الاحتمال الأقرب للصواب هو أن الرجل قُتل في منزل مفروش بالسجاد ثم حُمل منه إلى خط السكة الحديد.»

التزمتُ الصمت للحظات. فقد عقدت المفاجأةُ لساني على الرغم من أني لم أكن حديثَ العهد بثورندايك، لكن إحساس المفاجأة هذا يتجدد لديَّ في كل مرة أصحبه في أحد تحقيقاته. كانت قدرتُه العجيبة على التنسيق بين حقائق تبدو بلا قيمة، ثم ترتيبها في تسلسل منظَّم لتُشكل قصة متماسكة، ظاهرةً لم أعتدْها مهما تكررت أمامي، بل ظلت تفاجئني في كلِّ ظهور لها تمامًا مثل المرة الأولى.

قلت له: «إذا كانت استنتاجاتك صحيحة، تكون القضية قد حُلَّت تقريبًا. لا بد أن ثمة الكثيرَ من الآثار في هذا المنزل. السؤال الآن هو: أيُّ منزل؟»

ردَّ ثورندايك: «أنت محق، هذا هو السؤال، ويا له من سؤال في غاية الصعوبة! نظرةٌ واحدةٌ على المنزل من الداخل سوف تحلُّ اللغز بأكمله دون شك. ولكن كيف لنا بتلك النظرة؟ لا يمكننا أن ندخل المنازل عشوائيًّا لنرى إذا ما كنا سنجد فيها آثارًا لجريمة قتل. في الوقت الحالي، أدلتُنا كحبل نمسك بطرف منه ولا نعلم أين الطرف الآخر. طرف الحبل الآخر في منزل مجهول، وإذا لم نَصِل طرفَي الحبل بعضهما ببعض، فستظل قضيتُنا بلا حل. تذكَّرْ أن السؤال الأهم هو: من قتل أوسكار برودسكي؟»

سألته: «ماذا تقترح أن نفعل إذن؟»

أجابني: «في المرحلة التالية من التحقيق علينا أن نربط منزلًا بعينه بالجريمة. وفي سبيل ذلك، لا يسعني إلا أن أضع كلَّ الحقائق المتاحة نصبَ عيني، وأن أستعرضها في ضوء كلِّ احتمالاتها. إذا لم أتمكن من إقامة مثل هذه الصلة، فسيفشل التحقيق، وسيتعين علينا البدءُ من الصفر … لنَقُل في أمستردام، إذا تبيَّن أن برودسكي كان يحمل ألماسًا بالفعل، وهو ما لا أشك في صحته …» وهنا وصلْنا إلى المكان الذي عُثر على الجثة فيه فانقطع حديثُنا. توقَّف ناظر المحطة، وأخذ هو والمفتش يفحصان القضيب القريب على ضوء مصباحيهما.

قال ناظر المحطة: «الدماء قليلة جدًّا. لقد رأيتُ العديد من الحوادث المشابهة وكانت تترك الكثير من الدماء دائمًا، على القاطرة وعلى الطريق. أمر غريب جدًّا.»

ألقى ثورندايك نظرةً سريعة على قضيب القطار بقليل من الاهتمام؛ فالمسألة التي كانَا يناقشانِها خرجت من دائرة اهتمامه. ولكن ضوء مصباحه سقط على الأرض بجانب شريط القطار، فوجد تربةً مفتتة يخالطها بعضُ الحصى وقِطَعٌ صغيرة من الطبشور، ثم وقع ضوء المصباح على نعلَي حذاء المفتش اللذين تجليَا بينما كان المفتش جاثيًا إلى جانب شريط القطار.

قال ثورندايك بصوت خفيض: «أترى ذلك يا جيرفيز؟» فأومأتُ بالإيجاب. كان نعلَا حذاء المفتش مغطَّيَين بحصوات علِقت بهما وعلامات بارزة من أثر طبشور وطئه.

سأله ثورندايك وهو ينحني ليلتقط خيطًا صغيرًا كان على الأرض بجانب شريط القطار: «لم تعثروا على القبعة، أليس كذلك؟»

أجاب المفتش: «كلَّا، لم نجدها، ولكن لا يمكن أن تكون بعيدةً عن هنا.» ثم أضاف وهو ينظر إلى الخيط مبتسمًا: «يبدو أنك وجدت دليلًا آخر يا سيدي.»

قال ثورندايك: «مَن يعلم؟! قطعة قصيرة من دوبارة بيضاء بها خيط أخضر. ربما تُخبرنا بشيء فيما بعد. سنحتفظ بها على أي حال.» ثم أخرج من جيبه علبةً صغيرة من القصدير تحوي، من بين أشياء أخرى، عددًا من مغلفات البذور، فوضع الدوبارة في أحد المغلفات ودوَّن عليه ملاحظةً بالقلم الرصاص. تابع المفتش ما كان يفعله ثورندايك بابتسامة تسامح، ثم استأنف فحص شريط القطار، وانضم إليه ثورندايك هذه المرة.

أشار الشرطي إلى بقايا زجاج النظارة المهشم وقال: «أعتقد أن المسكين كان قصير النظر، وربما لهذا السبب انحرف إلى شريط القطار أثناء سيره.»

رد ثورندايك: «ربما.» وكان قد لاحظ شظايا الزجاج المنثورة على إحدى العوارض المعدنية وعلى حصى الرصيف الملاصق لها كذلك، فأخرج علبة «جمع الأدلة» مجددًا وأخرج مغلفًا آخر وقال: «هلا ناولتني ملقطًا يا جيرفيز، وربما لم تمانع في أخذ ملقط آخر لتساعدني في جمع شظايا الزجاج هذه.»

فعلتُ ما طُلب مني، بينما تابعَنا المفتش باستغراب.

ثم قال: «لا يوجد أدنى شك في أن هذه النظارة كانت نظارة المتوفى، أليس كذلك؟ لقد كان يرتدي نظارة بالتأكيد؛ إذ رأيتُ أثرها على أنفه.»

قال ثورندايك: «ومع ذلك فلا ضير من التأكد.» ثم خاطبني بصوت خفيض قائلًا: «التقط كلَّ قطعة تستطيع العثور عليها يا جيرفيز. قد يكون هذا مهمًّا للغاية.»

قلت له بينما كنت أفتش بين الحصى على ضوء المصباح محاولًا العثور على قطع الزجاج الدقيقة: «لا أفهم تمامًا لماذا.»

أجابني ثورندايك: «حقًّا لا تفهم لماذا؟ انظر إذن إلى هذه القطع، بعضُها حجمه كبير نسبيًّا، لكن الكثير مما سقط على العارضة المعدنية منها مجرد ذرات صغيرة. وفكِّر أيضًا في عددها. من الواضح أن حالة زجاج النظارة لا تتماشى مع الظروف التي وجدناها فيها. لدينا هنا عدستا نظارة سميكتان مقعرتان تحطمتا إلى عدد كبير من الشظايا الدقيقة. كيف انكسرتا؟ ليس بمجرد السقوط أرضًا على ما يبدو، فمثل هذه العدسات إذا سقطت أرضًا تتهشم إلى عدد قليل من القطع الكبيرة. ولم تنكسر أيضًا بسبب مرور عجلة القطار عليهما؛ إذ كانتا حينها ستتحولان إلى مسحوق ناعم، وكنا سنجد هذا المسحوق على قضيب القطار بوضوح، وهو ما لم يحدث. علاوة على ذلك، ربما تتذكر أن إطار النظارة قد أظهر ذلك التناقض نفسه، فقد كان مهشمًا تمامًا ومحطمًا لدرجة لا تنتج عن مجرد السقوط، ولا تقارب حتى درجة التضرر التي كانت ستلحق به لو دهسته عجلة القطار.»

سألتُه: «ماذا تعتقد إذن؟»

«يبدو من مظهر زجاج النظارة أن أحدهم دهسها بقدمه. ولكن لو كانت الجثة قد حُملت إلى هنا، فالأرجح أن النظارة حملت إلى هنا هي الأخرى، وأنها كانت مكسورةً بالفعل؛ فالاحتمال الأرجح أنها تعرضت للدهس خلال العراك وليس أن القاتل دهسها بعد إحضارها إلى هنا. لذا طلبت منك ألا تترك أي قطعة.»

تساءلت بحُمق لا أُنكره: «لكن لماذا؟»

أجابني: «لأننا إذا جمعنا كلَّ القطع التي يمكننا العثور عليها، ووجدنا أن الجزء المفقود من العدستين أكبر مما نتوقع، فسيؤيد ذلك فرضيتنا، وربما نجد هذا الجزء المفقود في مكان آخر. أما إذا وجدنا أكبر عدد ممكن يمكننا أن نتوقع العثور عليه من القطع، فعلينا أن نستنتج أنهما كُسرتا في هذا المكان.»

بينما كنا نُجري بحثنا، كان مفتش الشرطة وناظر المحطة يتجولان بمصباحَيهما بحثًا عن القبعة المفقودة، وبعد أن التقطنا آخر قطعة زجاج، ولم نعثر على أيِّ قِطَع أخرى حتى بالبحث المتأني وباستخدام عدسة تكبير، شاهدنا مصباحيهما يتأرجحان كوهج طيفي على مسافة منا عبر شريط القطار.

قال ثورندايك وهو ينظر نحو المصباحين المتألقين: «لنرَ ما لدينا قبل أن يعود صاحبانا. ضع الحقيبة على الحشائش بجوار السور لنستخدمها كطاولة.»

فعلتُ ما طلب، ثم أخرج ثورندايك خطابًا من جيبه وفتحه ووضعه مستويًا على الحقيبة وثبته بحجرين ثقيلين على الرغم من أن الليل كان هادئًا بلا رياح. بعدها أفرغ محتويات مغلف البذور الصغير على الورقة، ووزع قطع الزجاج بحرص، وتأملها للحظات في صمت. وبينما كان يتأملها تسلَّل إلى وجهه تعبيرٌ غريب للغاية، وبحماس مفاجئ دبَّ فيه شرَع ينتقي الأجزاء الكبيرة ويضعها على بطاقتَي زيارة أخرجهما من حافظة بطاقاته. وبسرعة وببراعة مذهلة ركَّب الأجزاء معًا، وعندما بدأت العدستان تدريجيًّا تتخذان شكليهما على البطاقتين، نظرتُ إليه بحماس متزايد؛ فقد كان في طريقته شيءٌ ينبؤني بأننا موشكان على اكتشاف جديد.

استقرت العدستان كلٌّ على بطاقتها، مكتملتَين عدا فراغ صغير أو اثنين، وكانت كومة الزجاج المتبقية تتكوَّن من شظايا دقيقة للغاية لدرجةٍ يتعذر معها إعادةُ تشكيلها. مال ثورندايك إلى الخلف وضحك ضحكة خافتة.

ثم قال: «هذه نتيجة غير متوقعة بالتأكيد.»

فسألتُه: «ما الأمر؟»

أجابني: «ألا ترى يا رفيقي العزيز؟ الزجاج أكثر من المتوقع. لقد أعدنا تكوين العدستين المهشمتين بالكامل تقريبًا، والشظايا المتبقية أكثر بكثير مما يلزم لملء الفراغات.»

نظرتُ إلى كومة الشظايا الزجاجية الصغيرة المتبقية وأدركت صحة ما قال على الفور. هناك فائض من القطع الصغيرة.

قلتُ له: «هذا غريبٌ جدًّا. ما التفسير المحتمل لذلك في رأيك؟»

أجاب قائلًا: «ربما ستخبرنا الشظايا بالتفسير، إذا سألناها بذكاء.»

رفع الورقة والبطاقتين بحذرٍ ووضعهما على الأرض، ثم فتح الحقيبة وأخرج المجهر الصغير، وركَّب فيه العدسة الشيئية الصغرى والعدسة العينية لتُصبح قوة التكبير مجتمعة عشرة أمثال فقط. بعد ذلك نقل شظايا الزجاج الدقيقة إلى شريحة، واستخدم المصباح كمصدر إضاءة للمجهر، وبدأ فحصه.

وبعد قليل قال ثورندايك متعجبًا: «يا إلهي! إن اللغز يزداد تعقيدًا. هناك زجاج أكثر من المتوقع، ومع ذلك فهو أقل من الكافي؛ أعني أن شظية أو اثنتين فقط من شظايا الزجاج مصدرهما عدستَا النظارة لا يكفيان لإكمال تكوين العدسات. أما الباقي فيتألَّف من زجاج ناعم وغيرِ متساوٍ ومقولب، يسهل تمييزُه عن زجاج العدستين الشفاف الصلب. كلُّ قطع الزجاج الدخيلة هذه مقوسة، كما لو أنها كانت جزءًا من أسطوانة، أو بالأحرى كأس أو قدح للنبيذ.» وهنا حرَّك الشريحة مرةً أو مرتين، ثم واصل حديثه: «نحن محظوظون يا جيرفيز. ثمة قطعة زجاجية منقوش عليها خطان منفرجان، يبدو أنهما نقاطُ التفرع لنجمة ثُمانية، وها هي قطعة أخرى بها ثلاث نقاط. وهذا يمكِّنُنا من إعادة تشكيل الوعاء بالكامل. لقد كان كوبًا شفافًا رفيعًا، أو ربما كأسًا مزينة بنجوم متناثرة. أستطيع القول إنك تعرف هذا النقش. في بعض الأحيان يُنقش عليه شريط زخرفي بالإضافة إلى النجوم، ولكنه يزخرف بالنجوم فقط في الغالب. ألقِ نظرة على العينة.»

لم أكد أضع عيني على المجهر حتى جاء ناظر المحطة والمفتش. كان المشهد ونحن جالسان على الأرض والمجهر بيننا، أكبر من أن تصمدَ أمامه جديةُ المفتش، فضحك ضحكةً طويلة تشي بالابتهاج.

ثم قال معتذرًا: «معذرة أيها السادة، ولكن حقًّا، تعلمان! المنظر لرجل محنك مثلي، يبدو، حسنًا، تفهمانني. إن المجهر شيء مثير للغاية، ولكنه لا يفيدكما كثيرًا في قضية كهذه، أليس كذلك؟»

رد ثورندايك: «ربما. بالمناسبة، أين وجدتما القبعة في النهاية؟»

أجابه المفتش: «لم نجدها.»

قال ثورندايك: «إذن علينا أن نساعدكما في مواصلة البحث. إذا تكرمتما بانتظارنا لحظات فسنرافقكما.» ثم سكب بضعَ قطرات من بلسم كندا على البطاقتين لتثبيت العدستين المعاد تكوينُهما في مكانهما، ووضعهما مع المجهر في الحقيبة، ثم أعلن أنه جاهز للانطلاق.

سأل ثورندايك ناظرَ المحطة: «هل توجد أيُّ قرية أو نجع بالقرب من هنا؟»

«كورفيلد هي أقرب قرية. إنها على بُعد نصف ميل تقريبًا من هنا.»

«وأين أقرب طريق؟»

«يوجد طريق غير مكتمل يمرُّ بمنزل يبعد عن هنا ثلاثمائة ياردة. والمنزل يقع على أرض بناء لم يُبنَ عليها غيره. ويوجد ممرُّ مشاة يربط بينه وبين المحطة.»

«هل يوجد أيُّ منازل أخرى قريبة؟»

«كلَّا. هذا هو المنزل الوحيد على بُعد نصف ميل من المحطة في جميع الاتجاهات، وما من طريق آخر بالقرب من هنا.»

«إذن فمن المرجح أن يكون برودسكي اتجه إلى شريط القطار من هذا الاتجاه، لأنه وُجد على هذه الناحية من خط السكة الحديد.»

وافقه المفتش الرأيَ، وعلى ذلك توجهنا جميعًا إلى المنزل ببطء يقودنا ناظرُ المحطة، وكنا نفتش في الأرض في طريقنا. كانت الأرض الخربة التي مررنا عليها في طريقنا مغطاةً برُقَعٍ من نباتات القراص والحماض، وأخذ المفتش يركلها باحثًا بقدمه ومصباحه عن القبعة المفقودة. وبعد أن مشينا لثلاثمائة ياردة وصلنا إلى سياج قصير يطوق حديقة، ورأينا وراء هذه الحديقة منزلًا صغيرًا. وهنا توقفنا قليلًا بينما خاض المفتش وسط حوض كبير من نباتات القراص بجانب السياج وأخذ يركلها بقوة. فجأةً سمعنا صوتَ ارتطام حذائه بجسم معدني ممتزجًا بكلمات توبيخ، ثم قفز المفتش مبتعدًا وهو يُمسك بإحدى قدميه بينما انطلقت من فمه البذاءات.

صاح المفتش وهو يربتُ على قدمه المصابة: «أيُّ أحمق يضع شيئًا كهذا وسط حوض من نباتات القراص؟!» التقط ثورندايك الجسم المعدني وفحصه على ضوء المصباح، فوجده قضيبًا من الحديد المدرفل عرضُه ثلاثة أرباع البوصة وطوله نحو قدم، ثم قال: «لا يبدو أنه كان في هذا المكان لفترة طويلة؛ فلا صدأ عليه تقريبًا.»

رد المفتش مزمجرًا: «كما لو كان ظلَّ هنا فقط ليصيب قدمي! كم أودُّ أن أضرب به رأس الأحمق الذي تركه هنا!»

واصل ثورندايك فحص القضيب في هدوء غير آبهٍ لتأوهات المفتش. وأخيرًا أسند مصباحه إلى السياج، وأخرج العدسة المكبرة من جيبه، واستأنف الفحص مستخدمًا إياها، وهو ما أشعل غضب المفتش المصاب، فأخذ يعرج نحو الباب الأمامي مزمجرًا يتبعه ناظرُ المحطة، وبعد قليل سمعناه يطرق على الباب الأمامي بعنف.

خاطبني ثورندايك: «أعطني شريحةً عليها قطرة من محلول فارانت يا جيرفيز. ثمة بقايا نسيج ما عالقة بهذا القضيب.»

أعددتُ له الشريحة، وناولته إياها مع شريحة تغطية وملقط وإبرة فحص، ثم أعددتُ المجهر على السياج.

قال ثورندايك بينما كان يفحص العينة تحت المجهر: «يؤسفني ما حدث لقدمِ المفتش، لكن هذه الركلة كانت ضربةَ حظٍّ لنا. انظر إلى العينة.»

نظرت إلى العينة، وحركت الشريحةَ حتى تمكنتُ من رؤية العينة بالكامل ثم أخبرتُه برأيي: «ألياف صوفية حمراء، وألياف قطنية زرقاء وألياف صفراء من مصدر نباتي تبدو كالخيش.»

ردَّ ثورندايك: «نعم، المجموعة نفسها من الألياف التي وجدناها بين أسنان المُتوفى، وغالبًا من المصدر نفسه. لا بد أن أحدهم مسح القضيب المعدني بالستارة أو البساط نفسه الذي استُخدم في خنق المسكين برودسكي. فلنترك القضيب على السياج لعلنا نحتاج إليه لاحقًا، أما الآن فعيلنا أن ندخل هذا المنزل بأي طريقة. لا يمكننا تجاهلُ دليل واضح إلى هذه الدرجة.»

أعدْنا الأدوات إلى الحقيبة وأغلقناها على عجل، وأسرعنا إلى مقدمة المنزل، فرأينا المفتش والناظر ينظران إلى الطريق غير المكتمل بقدر من الغموض.

قال المفتش: «ثمة ضوء في المنزل، لكن لا أحد في الداخل. فقد طرقتُ الباب مرارًا ولم أجد ردًّا. ولا أعرف لِمَ نمكث هنا. أغلب الظن أن القبعة موجودة على مقربة من المكان الذي عُثر فيه على الجثة، وسنجدها في الصباح.»

لم يردَّ ثورندايك، بل دخل الحديقة وسلك الممر وطرق على الباب بخفة، ثم جثَا ووضع أذنه عند ثقب المفتاح مرهفًا السمع.

قال المفتش منفعلًا: «قلت لك إنه لا أحد في المنزل يا سيدي.» لكن ثورندايك واصل الإنصات، فابتعد المفتش متمتمًا بعبارات غاضبة. وحالما ابتعد، سلط ثورندايك مصباحه على الباب، والعتبة والممر وأحواض الزهور الصغيرة، ثم رأيتُه ينحني ليلتقط من بين الزهور شيئًا.

قال وهو يخرج متجهًا إلى البوابة حاملًا سيجارة لم يُدخَن منها سوى نصف بوصة: «هذا اكتشاف يخبرنا بالكثير يا جيرفيز.»

سألته: «يخبرنا بماذا؟ ما الذي عرفته منه؟»

قال: «أشياء كثيرة. لقد أشعلها أحدهم ثم رماها بدون أن يدخنها، وهو ما يشي بتغيير مفاجئ في الخطة. وقد أُلقي بها عند مدخل المنزل، وأغلب الظن أن من ألقاها كان على وشك الدخول إلى المنزل. هذا الشخص غريب على الأرجح، وإلا لكان دخل بها. لكنه لم يتوقع أنه سيدخل المنزل، وإلا ما كان أشعلها. ما سبق كان استنتاجات عامة، إليك الآن ما هو أدق: ورق التبغ من نوع يعرف باسم «زيج-زاج»، فالعلامة المائية واضحة ومن السهل جدًّا رؤيتها. ودفتر ورق اللف الذي وُجد مع برودسكي كان من نوع «زيج-زاج»، وهو يحمل هذا الاسم؛ نظرًا لأن حافته التي تظهر عند قطع ورقة منه تأخذ الشكل المتعرج. لكن دعْنا نفحص شكل التبغ.» ثم أخرج دبوسًا من معطفه، وأخرج به من الطرف غير المحترق القليل من التبغ البنيِّ الداكن، وأمسك به أمامي لأفحصه.

قلتُ بلا تردد: «إنه تبغ من نوع لاتاكيا الفاخر.»

ردَّ ثورندايك: «حسنًا، وها هي ذي سيجارة محشوة بتبغ غير شائع مشابه للذي وُجد في كيس التبغ الخاص ببرودسكي وملفوفة في ورق لف غير شائع مشابه لورق لف التبغ الذي وُجد في دفتر ورق اللف الخاص ببرودسكي أيضًا. ومع مراعاة القاعدة الرابعة من قواعد الاستدلال المنطقي، أخمن أن أوسكار برودسكي هو من لف هذه السيجارة. ومع ذلك فسنبحث عن تفصيلة من شأنها أن تؤيد ذلك.»

سألتُه: «وما هي تلك التفصيلة؟»

أجابني: «لعلك لاحظت أن علبة أعواد الثقاب الخاصة ببرودسكي كان بها أعواد ثقاب خشبية مستديرة، وهي أيضًا غير شائعة. ونظرًا لأنه — لا بد — أشعل السيجارة على بعد خطوات من البوابة، فمن المفترض أن نتمكن من العثور على عود الثقاب الذي أشعلها به. لنبحث عنه في الطريق من الاتجاه الذي يُرجح أن يكون قد جاء منه.»

مشينا في الطريق المحدد ببطء شديد، وأخذنا نفتش في الأرض بالمصباح، ولم نكد نخطو عشر خطوات حتى وقعت عيناي على عود ثقاب مُلقًى على الممر الوَعر، فالتقطته متلهفًا. كان عود ثقاب خشبيًّا مستديرًا.

فحصه ثورندايك باهتمام، ثم وضعه مع السيجارة في «علبة جمع الأدلة»، ثم عاد أدراجه وقال لي: «الآن يا جيرفيز لم يَعُد ثمة شكٌّ في أن برودسكي قُتل في هذا المنزل. لقد نجحنا في ربط ذلك المنزل بالجريمة، وعلينا الآن أن ندخله بالقوة وأن نتقفَّى الأدلة الأخرى.» وعُدْنا مسرعين إلى الناحية الخلفية من المبنى، فوجدنا المفتش يتحدث إلى ناظر المحطة في كآبة وتجهُّم.

قال المفتش: «أعتقد أن علينا العودة من حيث جئنا الآن، في الحقيقة لا أدري لماذا جئنا إلى هنا أصلًا؛ ولكن، انظر!» وبينما هما كذلك إذا بثورندايك يقفز بخفة ويُلقي بإحدى ساقيه الطويلتين على السياج متسلقًا إياه دون سابق إنذار، فقطع المفتش حديثَه مع ناظر المحطة وصاح في ثورندايك: «سيدي، يجب ألَّا تفعل ذلك!»

ثم واصل قائلًا: «لا يمكنني أن أسمح لك باقتحام ملكية خاصة يا سيدي.» ولكن ثورندايك أكمل تسلقه إلى الداخل في صمتٍ ثم استدار ليواجه المفتش من فوق السياج.

قال له: «استمع إليَّ أيها المفتش. لديَّ أسباب وجيهة تدفعني للاعتقاد أن المُتوفَى، برودسكي، كان في هذا المنزل، بل أنا على استعداد لأن أُقسم على ذلك. لكن الوقت ثمين، وعلينا أن نطرق الحديد وهو ساخن. وأنا لا أنتوي اقتحام المنزل؛ كل ما أريد هو أن أفحص الجاروف.»

رد المفتش متفاجئًا: «الجاروف؟! يا لك من رجل شديد الغرابة! ماذا تتوقع أن تجد في الجاروف؟»

أجابه: «أبحث عن كأس أو قدح نبيذ مكسور. إنه وعاء زجاجي رفيع مزيَّن بزخارف على شكل نجوم ثمانية صغيرة. ربما يكون في الجاروف أو ربما داخل المنزل.»

تردد المفتش، ولكن يبدو أن اللهجة الواثقة التي تحدث بها ثورندايك قد أقنعته.

فقال: «يمكننا أن نتفقد محتويات الجاروف، مع أني لا أفهم ما علاقة القدح المكسور بالقضية. ومع ذلك، فليكن ما شئت.» وتسلق السياج إلى الداخل، ثم تبعتهما أنا وناظر المحطة.

مكث ثورندايك بجانب البوابة لبضع لحظات يتفحص الأرض، بينما قطع ناظر المحطة والمفتش الممرَّ مسرعَين. لم يعثر ثورندايك على ما يُثير اهتمامه، فسار في اتجاه المنزل مجيلًا نظرَه باهتمام في كل ما يحيطه، ولكن لم نكد نصل إلى منتصف الممر حتى سمعنا صوت المفتش ينادي متحمسًا.

صاح المفتش عاليًا: «من هنا يا سيدي.» فأسرعنا الخُطَى حتى وجدناه فجأةً هو وناظر المحطة يقفان بجانب كومة صغيرة من القمامة مشدوهين. أضاء مصباحهما كومةَ القمامة، فرأينا فيها قطعًا متناثرةً من قدح زجاجي رفيع مزخرف بنجوم.

قال المفتش بلهجة بدا فيها احترام متجدد: «لا يمكنني أن أتخيل كيف خمَّنتَ أنه هنا يا سيدي، ولا أعرف ما ستفعل به بعد أن وجدته.»

رد ثورندايك وهو يُخرج من حقيبته ملقطًا ومال على كومة القمامة قائلًا: «إنه مجرد حلقة أخرى في سلسلة الأدلة لا أكثر. ربما وجدنا شيئًا آخر.» والتقط عدة شظايا صغيرة من الزجاج وفحصها عن قرب ثم ألقاها مكانها. وفجأة وقعت عيناه على قطعة زجاج صغيرة في قاعدة الكومة، فالتقطها بالملقط، وأمسك بها بالقرب من عينيه على ضوء المصباح القوي، ثم أخرج عدسته وفحصها بدقة أكبر، ثم قال أخيرًا: «نعم، هذا ما كنت أبحث عنه، أعطني هاتين البطاقتين يا جيرفيز.»

أخرجتُ بطاقتَي الزيارة الملصق عليهما العدستان المُعاد تكوينهما، ووضعتهما على غطاء الحقيبة، وسلطتُ عليهما ضوء المصباح. نظر ثورندايك إليهما بتركيز لبعض الوقت، ثم نظر مرة أخرى إلى قطعة الزجاج الصغيرة التي في يده. بعد ذلك التفت إلى المفتش قائلًا: «لقد رأيتنَي ألتقط قطعة الزجاج هذه، أليس كذلك؟»

رد المفتش: «نعم يا سيدي.»

«ورأيتَ أين وجدنا زجاج النظارة هذا وتعلم من كان صاحبها؟»

«نعم يا سيدي. إنها نظارة الرجل الميت، وقد وجدتَها حيث وجدنا الجثة.»

قال ثورندايك: «رائع، والآن راقب هذا.» وبينما اشرأبَّ المفتش وناظر المحطة وهما مشدوهَان، وضع قطعة الزجاج الصغيرة داخل فراغ في إحدى العدستين ثم وكزها للأمام بلطف، فاستقرت في الفراغ بالضبط، والتصقت حوافُّها بحوافِّ القطع المجاورة لها فاكتمل بها هذا الجزء من العدسة تمامًا.

صاح المفتش: «يا إلهي! كيف عرفت؟»

رد ثورندايك: «سأشرح هذا لاحقًا بلا شك. أما الآن فمن الأفضل أن نُلقيَ نظرة على المنزل من الداخل. أتوقع أن نجد هناك سيجارة — أو سيجارًا — مدهوسة، وبعض البسكويت المصنوع من الحبوب الكاملة، وربما عود ثقاب خشبيًّا، وربما حتى نجد القبعة المفقودة.»

وعلى ذكر القبعة، أسرع المفتش في لهفة إلى الباب الخلفي لكنه وجده محكمَ الغلق، فحاول الدخول من النافذة، فوجدها أيضًا مغلقة بإحكام. وبناء على نصيحة ثورندايك ذهبنا إلى الباب الأمامي.

قال المفتش: «هذا الباب مغلق هو الآخر. أخشى أنه لم يتبقَّ لنا إلا الاقتحام. ولكنه حلٌّ مزعج.»

قال ثورندايك مقترحًا: «ألقِ نظرة على النافذة.»

نفَّذ المفتش الاقتراح، وحاول عبثًا فتْحَ مزلاج النافذة بواسطة سكين الجيب خاصته.

عاد المفتش إلى الباب الأمامي وقال: «لن يُفلح ذلك، سنُضطر إلى …» وهنا قطع جملته وحملق متفاجئًا؛ إذ وجد الباب مفتوحًا وثورندايك يُعيد إلى جيبه شيئًا ما.

خاطبني قائلًا ونحن نتبع ثورندايك إلى داخل المنزل: «صديقُك لا يُهدر الكثير من الوقت، حتى في فتح قفل.» ولكن سرعان ما أسفرتْ تأملاتُه وأفكاره عن مفاجأة أخرى. كان ثورندايك قد سبقَنا إلى غرفة جلوس صغيرة مضاءة بضوء خافت يبعثه مصباحٌ معلَّق خُفِض ضوءُه.

عندما دخلنا زاد ثورندايك إضاءة المصباح وأجال نظرَه عبر الغرفة. كان على الطاولة زجاجة ويسكي ومسكبة، وقدَحٌ وعلبة بسكويت. فأشار ثورندايك إلى العلبة وقال للمفتش: «افتح هذه العلبة وانظر ماذا فيها.»

رفع المفتش الغطاء ونظر إلى داخل العلبة، وتابع ناظر المحطة ما يفعل من فوق كتفه، ثم حدَّقَا معًا في ثورندايك.

صاح ناظر المحطة: «بالله عليك كيف عرفتَ أن في البيت بسكويتًا من الحبوب الكاملة يا سيدي؟»

ردَّ ثورندايك: «ستُحبَط إن أخبرتُك. لكن انظر إلى هذا.» وأشار إلى قاعدة المدفأة، حيث وجدوا سيجارة مبططة ومدخَّنة حتى نصفها وعودَ ثقاب خشبيًّا. حدَّق المفتش في السيجارة وعود الثقاب في دهشة صامتة، بينما استمر ناظر المحطة يحدق بثورندايك فيما لا يسعني وصفُه إلا بالإجلال والمهابة.

قال زميلي: «أظن أن لديك مقتنيات الرجل الميت، أليس كذلك؟»

رد المفتش: «نعم، أحتفظ بالأشياء في جيبي حرصًا على سلامتها.»

التقط ثورندايك السيجارة المبططة وقال: «إذن، فلنُلقِ نظرة على كيس التبغ.»

أخرج المفتش الكيس وفتحه، وصنع ثورندايك فتحةً في السيجارة بسكينه وسأل: «والآن، ما نوع التبغ الموجود في الكيس؟»

أخذ المفتش حفنة من التبغ من الكيس، فتأملها وشمَّها متقززًا، وقال: «إنه أحد تلك الأنواع المقيتة التي يصنعون منها أخلاطًا. لاتاكيا على ما أعتقد.»

أشار ثورندايك إلى السيجارة المفتوحة وسأل: «وما هذا؟»

رد المفتش: «التبغ نفسه، بلا شك.»

قال ثورندايك: «والآن لنرَ ورق اللف.»

أخرج المفتش من جيبه الدفتر الصغير — أو بالأحرى الرزمة الصغيرة؛ إذ كانت تتألف من أوراق منفصلة — ثم سحب ورقةً منه. ووضع ثورندايك ورقة اللف المحترق نصفها بجانبها، وفحص المفتش الورقتين، ثم رفعهما ليشاهدهما على ضوء المصباح.

قال المفتش: «علامة «زيج-زاج» المائية لا تُخطئها العين. المُتوفى هو مَن لفَّ هذه السيجارة، لا شك في ذلك.»

وضع ثورندايك عود الثقاب الخشبي المحترق على الطاولة وقال: «ثمة شيء آخر. ألديك علبة أعواد الثقاب؟»

أخرج المفتش العلبة الفضية الصغيرة، وفتحها وقارن أعواد الثقاب الموجودة داخلها بالعود المحترق، ثم أغلق العلبة بقوة.

قال المفتش: «لقد أثبتَّ رأيك تمامًا. ليتنا نعثر على القبعة، وحينها يُصبح لدينا قضية متكاملة الأركان.»

قال ثورندايك: «لستُ متأكدًا أننا لم نعثر عليها بعدُ. ألم تلاحظ أن شيئًا آخر بخلاف الفحم محترقٌ في المدفأة؟»

هرع المفتش إلى المدفأة متحمسًا وبدأ في جمع ما تركته النار من بقايا محترقة بيدين مضطربتين، وقال: «لم تزَل البقايا دافئة، ويوجد قطعٌ ليست كلها بقايا فحم محترق. لقد أُحرِق حطبٌ هنا بالإضافة إلى الفحم، أما هذه الكتل السوداء الصغيرة فليست فحمًا ولا حطبًا. ربما كانت بقايا قبعة محترقة، ولكن مَن له أن يعرف؟ يمكنك تركيبُ قِطَع عدستَي النظارة المحطمة، ولكن لا يمكنك أن تُعيد قبعة محترقة إلى سيرتها الأولى من بقاياها.» وأمسك بحفنة صغيرة من بقايا أسفنجية سوداء ونظر إلى ثورندايك متحسرًا، فأخذها منه ثورندايك ووضعها على ورقة.

وافقه ثورندايك الرأي قائلًا: «من المؤكد أنه لا يمكننا إعادة تكوين القبعة، ولكن قد يمكننا أن نكتشف أصل هذه البقايا قبل احتراقها. فقد لا تكون بقايا القبعة في نهاية المطاف.» وأشعل عود ثقاب شمعيًّا، ثم أخذ إحدى القِطَع المتفحمة وعرضها للنار. فاشتعلت الكتلة المحترقة على الفور مصدرةً صوتَ قرقعة وغليان ودخانًا كثيفًا، وسرعان ما امتلأ الجو برائحة صمغية نفَّاذة مختلطة برائحة احتراق مادة من أصل حيواني.

قال ناظر المحطة: «تبدو كرائحة ورنيش.»

ردَّ ثورندايك: «نعم، من نوع شيلاك. ها قد جاءت نتيجةُ الاختبار الأول إيجابية. أما الاختبار الثاني فسيستغرق مزيدًا من الوقت.»

فتح الحقيبة الخضراء وأخرج منها قنينة صغيرة ملائمة لإجراء اختبار مارش للكشف عن الزرنيخ، ومزودة بقُمع أمان وأنبوب لتصريف البخار، وحاملًا ثلاثيًّا قابلًا للطي، ومصباحًا كحوليًّا، وقرصًا من الأسبستوس لاستخدامه كحمام رملي. ثم أسقط في القنينة عددًا من الكتل المحترقة التي اختارها بعد فحص متأنٍّ، ثم ملأ القنينة بالكحول ووضعها على القرص بعد أن وضعه على الحامل الثلاثي، ثم أشعل المصباح الكحولي تحت القرص وجلس ينتظر غليان الكحول.

بعد قليل، عندما بدأت الفقاقيع ترتفع في القنينة، قال ثورندايك: «ثمة شيء آخر يجدر بنا أن نحسمَه. أعطني شريحة عليها قطرة من محلول فارانت يا جيرفيز.»

أعددتُ الشريحة بينما التقط ثورندايك خُصلةً صغيرة للغاية من نسيج مفرش الطاولة بواسطة ملقط، قائلًا: «أعتقد أننا رأينا هذا النسيج من قبل.» ثم وضع الخُصلة الصغيرة في السائل الفوار ووضع الشريحة على منصة المجهر، وبينما كان ينظر في العدسة العينية أردف قائلًا: «نعم، ها هم أصدقاؤنا القدامى، الألياف الصوفية الحمراء، والقطنية الزرقاء، والخيش الأصفر. علينا أن نضع ملصقًا بمصدر هذه العينة عليها على الفور كي لا تختلطَ مع العينات الأخرى.»

سأل المفتش: «هل لديك أي فكرة عن كيفية وفاة الرجل؟»

رد ثورندايك: «نعم. أعتقد أن القاتل استدرجه إلى الغرفة وقدَّم له بعض المرطبات. جلس القاتل في الكرسي الذي تجلس أنت فيه الآن، وجلس برودسكي في هذا الكرسي الصغير ذي الذراعين. أتخيل أن القاتل هاجمه بعد ذلك بذلك القضيب الحديدي الذي وجدناه بين نباتات القراص، ولم يتمكن من قتله بالضربة الأولى، فتعاركَا حتى كتم نفَسَه بمفرش الطاولة في نهاية الأمر. بالمناسبة، ثمة نقطة أخرى إضافية. هل تعرفت على هذا الخيط؟» وأخرج من علبة «جمع الأدلة»، الطرف الصغير من الدوبارة التي عثروا عليها عند خط السكة الحديد. أومأ المفتش بالموافقة، فقال ثورندايك: «انظر خلفك وستجد مصدره.»

التفت المفتش بحدَّة، فوقعت عيناه على صندوق خيوط على رف المدفأة. فأخذه، ثم سحب منه ثورندايك قطعةً من دوبارة بيضاء بها فتلة خضراء واحدة، وقارن بينها وبين القطعة التي كانت في يده، وقال: «الفتلة الخضراء تُمكننا من التعرف عليها بشيء من اليقين. لا بد أن الخيط استُخدم لربط المظلة والحقيبة، لا يمكن أن يكون قد حملهما في يده؛ إذ كانت الجثة تُثقل كاهله بالفعل. لكني أتوقع أن تكون عينتنا الأخرى جاهزةً الآن.» رفع القنينة من فوق الحامل الثلاثي، ورجَّها بقوة، وفحص المكونات بعدسته. كان لون الكحول قد استحال الآن إلى البنيِّ الداكن، وقوامه أكثر لزوجة وتماسكًا على نحوٍ ملحوظ.

قال ثورندايك: «أعتقد أن لدينا الآن ما يكفي لإجراء اختبار بدائي.» واختار ماصةً وشريحة من الحقيبة. غمس الماصة في القنينة وسحب بها قطراتٍ من الكحول من القاع، ثم أسقط بعضَ القطرات على الشريحة.

غطَّى قطرات الكحول بشريحة تغطية، ثم وضع الشريحة على منصة المجهر وفحصها بعناية، بينما تابعناه في صمتٍ وترقُب.

بعد فترةٍ رفع عينه عن المجهر، وسأل المفتش: «هل تعرف مما تُصنع القبعات اللبادية؟»

رد المفتش: «لا علم لي بذلك يا سيدي.»

فقال: «الأصناف الأعلى جودة من القبعات اللبادية تُصنع من أصواف الأرانب الأليفة والبرية. أعني الفراء الذي يغطيها. إذ تُلصق طبقاتُه معًا بالشيلاك. وأغلب الظن أن هذه الكتل المحترقة تحتوي على الشيلاك، وقد وجدتُ تحت المجهر عددًا من شعيرات صغيرة لأرنب. لذا فأغلب ظني أن هذه الكتل المحترقة هي بقايا قبعة صلبة من اللباد، ونظرًا لأن الشعيرات لا تبدو مصبوغةً بأي لون، أعتقد أنها كانت قبعةً رمادية.»

في هذه اللحظة قطع اجتماعَنا صوتُ خُطًى مسرعة قادمة من ممر الحديقة، فالتفتنا جميعًا لنرى مَن القادم، فدخلت امرأة عجوز الغرفة فجأةً.

عقدت المفاجأة لسانها للحظات، ثم أجالت نظرَها فينا واحدًا تلو الآخر، وتساءلت: «من أنتم؟ وماذا تفعلون هنا؟»

هبَّ المفتش واقفًا وأجاب: «أنا ضابط شرطة يا سيدتي. لا يمكنني أن أعطيَكِ مزيدًا من المعلومات الآن، ولكن لو تسمحين لي بالسؤال، مَن تكونين؟»

ردَّت: «أنا مدبرة منزل السيد هيكلر.»

سألها: «وهل تتوقعين عودة السيد هيكلر إلى المنزل قريبًا؟»

ردَّت باقتضاب: «كلا، السيد هيكلر خارج البلاد الآن. لقد غادر على متن القطار المؤدي إلى السفينة هذا المساء.»

سأل ثورندايك: «إلى أمستردام؟»

أجابت مدبرة المنزل: «أعتقد ذلك، وإن كنتُ لا أعلم ما شأنك بذلك.»

ردَّ ثورندايك: «أظن أنه ربما يكون تاجرَ ألماس أو وسيطًا في تجارة الألماس، فالكثير منهم يسافرون على متن هذا القطار.»

ردت السيدة: «هو كذلك بالفعل، له علاقة بالألماس على الأقل.»

قال ثورندايك: «حسنًا، علينا الذهاب يا جيرفيز؛ فقد انتهى عملنا هنا، وعلينا أن نجد فندقًا أو نُزلًا. هل لي بكلمة معك سيدي المفتش؟»

تبعَنا المفتش إلى الحديقة، وقد غلب عليه التواضع والتوقير الآن، ليستمع إلى نصيحة ثورندايك قبل المغادرة.

قال له ثورندايك: «من الأفضل أن تفرضَ سيطرتك على المنزل على الفور، وتتخلص من مدبرة المنزل. يجب ألا يحركَ أحدٌ شيئًا من مكانه. احتفظْ بالبقايا المحترقة، واحمِ كومة القمامة من أيِّ عبث، والأهم ألا تسمحَ بكنس الغرفة. سيُرسَل إليك ضابطٌ ليُعفيَك من المسئولية.»

بعد تبادل كلمات الوداع، انطلقنا في طريقنا يقودنا ناظرُ المحطة، وانتهت صلتُنا بالقضية عند هذا الحد. أُلقيَ القبض على هيكلر (الذي تبيَّن أن اسمه الأول سيلاس)، بعد أن ترجل من الباخرة، ووُجدت معه حزمة من الألماس، تبيَّن أن صاحبها هو أوسكار برودسكي. لكن هيكلر لم يُحاكَم قط؛ إذ تمكَّن خلال رحلة العودة من الإفلات من حرَّاسِه للحظة خاطفة عندما أصبحت السفينة على مقربة من الساحل الإنجليزي. ومرَّ ثلاثة أيام لم تعرف فيها السلطات مصير سيلاس هيكلر، حتى عُثر على جثته مكبلة اليدين على الساحل المهجور بالقرب من منارة أورفوردنيس.

ترك ثورندايك الجريدة من يديه، وقال: «نهاية ملائمة ودرامية لقضية غريبة، ولو لم تخرج عن المألوف. أتمنى أن تكون قد أضافت إلى معارفك يا جرفيز، وأكسبتْك القدرة على التوصل إلى استنتاج مفيد أو أكثر فور رؤية مقدماته.»

أجبتُه بابتسامة عريضة ساخرًا: «أفضِّل أن أستمع إليك تصدحُ بالتفسيرات الطبية الجنائية.»

رد بجدية تهكمية: «أعرف ذلك، وآخذ عليك افتقادك للمبادرة الفكرية. على أي حال، لقد أوضحتْ هذه القضية عددًا من النقاط: أولها: خطر التأخير، أي الأهمية الحيوية لاتخاذ إجراء فوري قبل أن يتسنَّى لذلك الشيء الهش السريع الزوال الذي نطلق عليه الدليل أن يتبخر. لو كنا تأخرنا بضع ساعات فقط لما عثرنا على معلومة واحدة. ثانيًا: أهمية تتبُّع أبسط الأدلة حتى النهاية، وزجاج عدستي النظارة خير مثال على ذلك. ثالثًا: الحاجة الماسة لوجود عالم مدرب في عون الشرطة؛ وأخيرًا …» وهنا ارتسمت على وجهه ابتسامة وأردف قائلًا: «تعلمنا ألا نغادر البلاد أبدًا بدون الحقيبة الخضراء الغالية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤