الجزء الأول

الموت في جيردلر

ثمة اعتقادٌ عام بأن الأطفال الصغار والحيوانات الدنيا تتمتع بقوًى سحرية غامضة على التكهن بالأمور، لا تتأتى للإنسان البالغ المتمتع بمهارات الاستدلال المنطقي، ويميل أصحابُ هذا الاعتقاد لتقبُّلِ أحكامها وتغليبها على ما تُمليه التجربة الفعلية.

ليس من المجدي أن نبحث فيما إذا كان وراء هذا الاعتقاد أساسٌ خلاف الولع العام بالمفارقات؛ فهو اعتقاد راسخ عمومًا، ولا سيما لدى سيدات طبقة اجتماعية معينة؛ وقد وقر هذا الاعتقادُ في وجدان السيدة توماس سولي ووصل إلى مرتبة العقيدة الراسخة.

قالت السيدة سولي بلهجةِ وعظٍ: «نعم، مدهشةٌ هي قدرة هؤلاء الأطفال الصغار وتلك الحيوانات البلهاء على معرفة الأمور، ولكنهم يعرفون، ولا يمكن خداعُهم. يمكنهم تمييزُ الغثِّ من السمين في لحظة، ويقرءُون ما يُكنُّه قلبُ البشر ككتاب مفتوح. إنه شيء مبهر! أعتقد أنها غريزة لديهم.»

بعد أن صرحت بدُرر الفكر الفلسفي تلك، غمست ذراعيها حتى المرفقين في طست الغسل المزبد، وألقت على المستأجر الجالس عند مدخل المنزل نظرةَ إعجاب وهو يحمل على إحدى ركبتَيه طفلًا سمينًا عمره ثمانية عشر شهرًا، وعلى الأخرى قطًّا مرقطًا رائعًا.

كان جيمس براون بحَّارًا عجوزًا، ضئيلَ البنية دمثَ الخُلق، ولكنه لم يخلُ من التملق وشيءٍ من المكر. لكنه أحب الأطفال والحيوانات ويملك كلَّ براعة البحارة في التودد إليهم، وبينما تأرجح غليونُه الفارغ بين لثتَيه الدرداوَين، كان وجه الطفل يشعُّ بابتسامات سال معها لعابُه، فيما كوَّر القطُّ جسمَه وصار ككرة وبراء، وخَرخَرَ كماكينة الحياكة، وهزَّ أصابعه منتشيًا كأنه يجرِّب قفازًا جديدًا.

تابعتِ السيدة سولي حديثها: «لا بد أن الوحدة قاتلة في المنارة. ثلاثة رجال فحسب، بلا جارٍ يتسامرون معه، يا إلهي، لا بد أنهم يعيشون في فوضى بدون امرأة تعتني بهم وترتب أمورهم. ولكنك لن تجد الكثير لتفعله يا سيد براون في هذه الأيام التي يطول نهارُها حتى ما بعد التاسعة. لا أعلم كيف ستقضي وقتك.»

ردَّ براون: «بل أتوقع أن أجد الكثير لأفعله؛ من تنظيف المصابيح والزجاج ودهان الأدوات المعدنية. وهذا يذكرني بأن الوقت …» ثم التفت إلى الساعة وأضاف «قد أزف. إن موعدي الساعة العاشرة والنصف، وقد تجاوزتُ الثامنة بالفعل.»

فهمت السيدة سولي التلميح، فبدأت من فورها في إخراج الملابس المغسولة من الطست وعصرها طوليًّا، ثم جفَّفت يدَيها في مئزرها، وأخذت الطفلَ المشاغب من السيد براون لتريحه منه.

قالت: «ستكون غرفتُك جاهزةً يا سيد براون عندما يحين موعدُ مناوبتك على المنارة، وسيُسعدنا أنا وتوم أن نلقاك مجددًا.»

ردَّ براون وهو يضع القط على الأرض برفق: «أشكرك يا سيدة سولي؛ لن تكون سعادتك بذلك أكثرَ من سعادتي.» وصافح مالكة منزله بحرارة، ثم قبَّل الطفل، وربتَ على أسفل ذقن القط، وأخذ صندوقه الصغير من حلقته، حاملًا إياه على كتفه وخرج من الكوخ.

كان طريقُه ممتدًّا عبر المستنقعات، ومثل السفن المبحرة في عرض البحر، استرشد في سيره ببرجَي ريكولفر اللذين يقفان على نحوٍ غير متناسق عند حافة اليابسة، وعندما وطئت قدماه العشب الرطب، نظرتْ إليه نعاج توم سولي ذات الصوف الأبيض الناعم بنظراتها الخالية من التعبير وودَّعته بأصوات ثُغائها، وعندما وصل إلى بوابة حاجز صخري توقف ليُلقيَ نظرة أخيرة على الطبيعة النضرة لمقاطعة كِنت، حيث برج سانت نيكولاس آت ويد الرمادي الذي يرتفع فوق الأشجار المحيطة، وطاحونة الهواء البعيدة عند سار وهي تدور بتؤدة مع نسيم الصيف، وأطال النظر إلى الكوخ المنعزل الذي عرف فيه لفترة قصيرة في حياته الصاخبة هناءَ الحياة الأسرية وسلامها. حسنًا، لقد انتهى كلُّ ذلك الآن، ولاحت المنارة أمامه. وبتنهيدة قصيرة عبر البوابة ومضى في طريقه نحو بُرجَي ريكولفر.

خارج الأكواخ المطلية باللون الأبيض ذات المداخن السوداء وقف ضابط صفٍّ بحري من خفر السواحل يعدل حبال الرايات على السارية. وعندما التفت رأى براون يقترب فناداه مبتهجًا.

قال الضابط: «ها أنت ذا متألقًا في ملابسك الجديدة. ولكن لدينا مشكلة صغيرة. علينا الإبحار إلى ويتستابل هذا الصباح، لذا لا يمكنني أن أرسل معك أحدَ الرجال ولا يمكنني أن أوفر لك قاربًا.»

تساءل براون: «أعليَّ السباحة إذن؟»

ابتسم الضابط وقال: «ليس بملابسك الجديدة يا صديقي، ولكن قارب ويليت العجوز متاح. لن يستخدمه اليوم؛ فهو ذاهب لزيارة ابنته في مينستر، وسيُعيرنا القارب. ولكن لا يوجد أحدٌ يُرافقك، وسأكون أنا مسئولًا عن القارب أمام ويليت.»

غمرت براون ثقةُ البحارة الشديدة (التي عادة ما تكون في غير موضعها) في قدرته على التعامل مع القارب، وتساءل: «وماذا في ذلك؟ أتعتقد أني لا أُجيد التحكم في قارب وأنا من خاض في البحر منذ كنت في العاشرة؟»

رد الضابط: «أجل، ولكن مَن سيعيد القارب؟»

ردَّ براون: «الرجل الذي سأستلم المناوبة منه؛ فهو أيضًا لا يود أن يقطع طريق عودته سباحةً.»

فكر ضابط خفر السواحل، موجِّهًا تليسكوبه نحو صندل بحري مار، ثم قال: «حسنًا، أعتقد أن كلَّ شيء سيكون على ما يرام، لكن ليتهم استطاعوا إرسال قارب الخدمات. ومع ذلك، إذا تعهدت بإعادة القارب، فسنعطيك إياه. لقد حان وقت انطلاقك.»

ذهب إلى خلف الأكواخ ثم عاد بعد قليل مع اثنين من رفاقه، وسار الرجال الأربعة بمحاذاة الساحل حتى وصلوا إلى مكان قارب ويليت قبل علامة ذروة المد.

كان قارب إيميلي قاربًا عريضًا من نوع محلي معروف، وكان مصنوعًا من البلوط المتين، وألواحه مطلية بالورنيش، ومزود بأشرعة عروة أمامية وخلفية. ولم يكن بالحِمل الهين على الرجال الأربعة معًا، وبينما كان ينزلق على الصخور الجيرية الناعمة مصدرًا قعقعةً جوفاء، ناقش أفراد خفر السواحل مدى صوابية التخلص من أكياس الحصى التي كان مثقلًا بها لتثبيته. ولكنهم تمكنوا من إنزاله إلى حافة الماء بحِمله من الحصى بعد لأيٍ، بعدها، وبينما كان براون يحاول رفع الصاري الرئيسي، أعطاه الضابط البحري تعليماته قائلًا: «ما عليك فعله هو الاستفادة من اتجاه المد. أبقِ مقدمة القارب في اتجاه الشمال الشرقي، وبهذا ستدفعك الرياحُ القادمة من الشمال الغربي حتى توصلك إلى المنارة بسلاسة. ولا تدعْه ينجرف إلى شرق المنارة، وإلَّا فستقع في ورطة إذا انحسر الماء.»

استمع براون لهذه التنبيهات بدون أن يُعيرَها اهتمامًا، بينما كان يرفع الأشرعة ويراقب المد القادم يرتفع ويغمر الساحل المستوي. طفَا القارب على الماء الذي ارتفع من تحته رويدًا رويدًا. دفع براون مجدافًا مانحًا الماء دفعة قوية حتى غادر القارب الساحل باحتكاك أخير، وبعد أن أنزل دفة التوجيه على محاور ارتكازها، جلس وأخذ يضبط حبل الشراع الرئيسي.

صاح ضابط خفر السواحل مزمجرًا: «ها هو ينطلق، يضبط شراعه لزيادة سرعة القارب. سوف يفعلونها، وهذا ما يُسبب وقوع الحوادث (كان هو نفسه دائمًا ما يفعل المثل). أتمنى أن يرى ويليت العجوز قاربَه سليمًا مرةً أخرى.»

وقف الضابط لبعض الوقت يراقب القارب يخطُّ صفحة المياه في حركة جانبية ويبتعد شيئًا فشيئًا، ثم التفت وتبع زملاءه إلى المخفر.

على الطرف الجنوبي الغربي لرصيف جيردلر الرملي، وعند نقطةٍ وصل فيها عمقُ المياه إلى قامتين، وقفت المنارة على دعاماتها الرفيعة المتباعدة فبدا منظرُها كطير خوَّاض فظ أحمر اللون. كان المد الآن قد وصل إلى نصف ارتفاعه الأقصى. كانت المياه قد غمرت حتى أكثر البقع ضحالة قبل فترة طويلة، وارتفعت المنارة فوق البحر الهادئ فبدت كسفينة عبيد انقطعت عنها الريحُ فعلقت في «الممر الأوسط».

كان ثمة رجلان، هما كلُّ من يعمل بالمنارة، على المنصة الكائنة أمام مصباح المنارة، جلس أحدهما رابضًا في أحد المقاعد، مسندًا ساقَه اليسرى بالوسائد فوق اليمنى، بينما أسند الآخر تليسكوبًا على درابزين المنارة وأخذ يتأمل خطَّ البرِّ الرمادي البعيد، وبرجَي ريكولفر اللذين ظهرَا كنقطتين صغيرتين.

قال: «لا أرى أثرًا للقارب يا هاري.»

زمجر زميله وتذمَّر قائلًا: «سيفوتني المدُّ وسيضيع عليَّ يومٌ آخر.»

قال الأول: «يمكنهم توصيلُك إلى بيرتشنجتون لتستقل القطار.»

زمجر زميله العليل: «لا أريد أن أستقل القطار. فالقارب وحده سيئ بالقدر الكافي. لا شيءَ قادمٌ نحونا، أليس كذلك يا توم؟»

أدار توم وجهه ناحية الشرق وظلل عينَيه براحة يده ثم قال: «ثمة سفينة ذات صاريَين تتقدم مع تيار المد من جهة الشمال. تبدو كسفينة فحم.» ثم وجَّه التليسكوب نحو السفينة المقتربة وأضاف: «شراعها العلوي الأمامي يتكوَّن من قطعتَي قماش جديدتَين، واحدة على كلِّ ضلعٍ من ضلعيه.»

نهض زميله متلهفًا وسأل: «وكيف يبدو شراع العواصف بها يا توم؟»

أجاب توم: «لا يمكنني رؤيته.» ثم استدرك: «أستطيع رؤيته الآن؛ إنه مدبوغ. لا بد أنها السفينة يوتوبيا القديمة يا هاري؛ فهي السفينة ذات الصاريَين الوحيدة التي أعرف أن لها شراعَ عواصف مدبوغًا.»

صاح زميله: «اسمع يا توم، إذا كانت السفينة القادمة هي يوتوبيا حقًّا، فستكون متوجهةً نحو منزلي وسأصعد على متنها. أنا متأكد أن الكابتن موكيت سيسمح لي بذلك.»

ردَّ توم بنبرة شك: «عليك ألا تغادرَ قبل أن تُسلِّمَ المناوبة، أنت تعرف ذلك يا بارنيت؛ إنَّ ترْكَ موقعك مخالف للوائح.»

صاح بارنيت: «تبًّا للوائح! ساقي تهمني أكثر مما تهمني اللوائح. لا أريد أن أُمضيَ ما تبقَّى من عمري قعيدًا. كما أنه لا داعي لوجودي هنا، وهذا الرجل الجديد — براون — قادم بعد قليل. كُن زميلًا صالحًا وأطلق الإشارة يا توم، واستدعِ السفينة.»

قال توم: «حسنًا، هذه مناوبتك على أي حال، ولا أمانع في أن أقول إنني لو كنتُ مكانَك لعُدت إلى المنزل واستشرتُ طبيبًا إذا سنحت لي الفرصة.» ومشى على مهل نحو خزانة الرايات، فتخيَّر رايتَي إشارة، وثبَّتهما بتأنٍّ بحبال الرايات. وعندما اقتربت السفينةُ وصارت داخل نطاقهما، رفع الرايتين على الصارية وهزَّ الحبال، فرفرفت الرايتان لتُعطيَا إشارة «نحتاج إلى المساعدة.»

سريعًا ارتفعت راية استجابة مثلثة الشكل، وملطخة بآثار الفحم في أعلى صارية السفينة الأساسية، وأبطأت السفينة قليلًا، وبعد أن دارت مقدمتُها في اتجاه التيار، انجرفت مؤخرة السفينة ببطء باتجاه المنارة. ثم خرج من السفينة قاربٌ على متنه رجلان أخذَا يحركان مجاديفه بقوة.

صاح أحد الرجلين عندما صار القارب في مرمى السمع: «يا أهل المنارة! ما المشكلة؟»

صاح حارس المنارة: «انكسرت ساق هاري بارنيت، ويريد أن يعرف إذا ما كان الكابتن موكيت سيسمح له بالذهاب إلى ويتستابل.»

استدار القارب الصغير عائدًا إلى سفينة الفحم، وبعد مشاورات قصيرة وصاخبة، عاد القارب إلى المنارة مجددًا.

صاح البحَّار عندما صار في مرمى السمع: «لقد وافق القبطان، ولكنه يحثكما على الإسراع، حتى لا يفوتَه المد.»

أطلق المصاب تنهيدة ارتياح وقال: «خبر سار، ولكني لا أعرف كيف سأنزل على السلم. ما رأيك يا جيفريز؟»

رد جيفريز: «الأفضل أن تدعَني أُنزلك بالرافعة. يمكنك أن تجلس في حلقة في حبل، وسأعطيك حبلًا آخر لتتشبث به.»

قال بارنيت: «حسنًا، سيفي هذا بالغرض يا توم، ولكن أرجوك أن تُنزل الحبل برفق.»

جرت الترتيبات بسرعة كبيرة؛ فلم يكد القارب يأخذ مكانه حتى كان كلُّ شيء جاهزًا، وبعد دقيقة كان الرجل المصاب يتدلَّى من طرف الرافعة كعنكبوت ضخم، وأخذ ينزل ببطء في حين انطلق لسانُه بسباب مسموع خالط صوتَ صرير بكرات الحبال. ثم أُنزل صندوقه وحقيبة معداته، وما إن انفكَّا من الرافعة حتى عاد القارب الصغير إلى سفينة الفحم التي كانت الآن تتحرك ببطء متجاوزة المنارة ومؤخرتها موجَّهة للأمام. رُفع الرجل المصاب إلى أعلى من جانب السفينة، وتبِعه صندوقُه، وانطلقت سفينة الفحم في مسارها جنوبًا عبر المناطق المسطحة من مقاطعة كنت.

وقف جيفريز على منصة المنارة يراقب السفينة تبتعد ويُنصت إلى أصوات أفراد طاقمها تَخفِتُ كلما ابتعدت. وبعد أن غادر رفيقُه الفظُّ، غمرت المنارةَ وحشةٌ غريبة. وكانت آخر السفن العائدة إلى البر قد مرت منذ وقت طويل في قناة برنسيس وتركت البحر موحشًا وخاويًا. كانت العوامات البعيدة تبدو كنقاط سوداء صغيرة تطفو على صفحة الماء اللامعة، والفنارات ذات الأشكال الطويلة الرفيعة البارزة من البقاع المائية الضحلة الخفية، ولكنها زادت من وحشة البحر الخاوي، والأصوات الواهنة للعوامات ذات الأجراس القابعة عند شيفرنج ساند، التي اختلستْها أذنُه عبر الرياح، والتي بدا وقْعُها غريبًا وشجيًّا. كانت مهام اليوم قد نُفذت بالفعل. فقد صُقلت العدسات، وقُلِّمت فتائل المصابيح، ونُظِّف المحرك الصغير لإشارة التحذير من الضباب وزُيِّتَ. صحيح أنه كان لا يزال هناك العديد من المهام العابرة، في انتظار القيام بها، كما هو الحال دومًا في أي منارة، لكن جيفريز لم يكن متحمسًا للعمل عندئذٍ. سيدخل رفيقٌ جديدٌ حياتَه اليوم، غريب سينفردان بعضهما ببعض ليلًا ونهارًا لشهر كامل، وقد يصبح هذا الغريب بمزاجه وميوله وعاداته إما نديمًا تحلو رفقتُه أو خصيمًا لا ينقطع التشاحنُ والخلاف معه. مَن يكون براون هذا؟ وماذا كان فيما مضى من حياته؟ وماذا عن طباعه؟ كانت هذه هي الأسئلة التي دارت بخلد حارس المنارة بطبيعة الحال، وألهتْه عن أفكاره ومهامه المعتادة.

بعد قليل فجأةً لمح نقطةً تلوح في الأفق ناحية البر. سارع بالإمساك بالتليسكوب في لهفة ليتفحصها. كان قاربًا، ولكنه ليس زورقَ خفر السواحل السريع الذي كان يبحث عنه. كان واضحًا أنه قاربُ صيد يحمل رجلًا واحدًا على متنه. فوضع التليسكوب وتنهَّد في إحباط، ثم ملأ غليونه واتكأ على الدرابزين بعين حالمة تركزت على خط البر الرمادي البعيد.

كان قد أمضى ثلاث سنوات طوالًا في هذه الوحدة المقبضة التي تتناقض تمامًا مع طبيعته من النشاط والسعي المتواصل بلا كلل؛ ثلاث سنوات خالية كما لو بدت بلا نهاية، لم تترك له من الذكريات سوى تعاقب لا نهائي من أجواء الصيف الساكنة، والليالي العاصفة، والضباب الشتوي البارد حين تنطلق أبواق السفن البخارية غير المرئية الفراغ وتُصدر إشارةُ الضباب صافراتِها التحذيرية المبحوحة.

ما الذي أتى به إلى هذا المكان القميء؟ ولماذا مكث فيه والعالم الواسع من حوله يناديه؟ عندئذٍ رسمت له ذاكرتُه صورةً لطالما تمثَّلت حيةً أمامه، والتي حينما لاحت أمامه مرة أخرى الآن، طمست البحر الهادئ والبر البعيد. كانت صورةً مفعمة بالألوان، أبرزت سماءً صافية تعلو البحر الاستوائي الأزرق العميق، وقاربًا أبيض يتمايل بخفة على الأمواج الهادئة، يتمركز في منتصف الصورة.

كانت أشرعةُ القارب مطويةً على صَواريه كيفما اتُّفق، وكانت عوارض شراعه المتأرجحة تهتز بين دعاماتها الرخوة، في حين أخذ مقبض الدفة المتروك بلا قائد يدور جَيئةً وذهابًا مع تأرجح القارب.

لم يكن القارب مهجورًا، بل كان على سطحه أكثرُ من اثنَي عشر رجلًا، ولكنهم جميعًا كانوا سكارى وأغلبهم كان نائمًا، ولم يكن بينهم ضابط.

ثم رأى بعد ذلك إحدى مقصورات القارب من الداخل. كانت منضدة الخرائط والبوصلة وأجهزة قياس الزمن تُشير جميعًا إلى أنها قمرة القبطان. كان فيها أربعة رجال، سُجِّيَت جثتَا اثنين منهما على سطح القارب. أما الاثنان الآخران، فكان أحدهما صغيرَ الحجم تبدو على وجهه ملامحُ الدهاء والمكر وكان جاثيًا بجوار إحدى الجثتين ليمسح السكين في معطفها، أما الرابع فكان هو نفسه.

مرة أخرى رأى القاتلَين يلوذان بالفرار في قارب نجاة، بينما جنح القاربُ بطاقمه الثمل نحو الأمواج المتدفقة عن أحد الحواجز الرسوبية النهرية. ورأى القارب يختفي وسط الأمواج كقطعة ثلج تذوب تحت أُوار الشمس، ثم رأى اثنين من البحارة تحطمت سفينتهما، يستقلان قاربًا مفتوحًا ويرسوان في مرفأ أمريكي.

هذا ما أدَّى به إلى هنا. لقد كان قاتلًا. أما المجرم الآخر، آموس تود، فقد تحوَّل إلى شاهد ملك بعدما أقرَّ للسلطات بتفاصيل الجريمة واعترف عليه، لكنه تمكَّن من الهرب بشق الأنفس. ومنذ ذلك الحين وهو مختبئ عن العالم الفسيح في هذه المنارة المنعزلة، وعليه أن يظلَّ مختبئًا هنا، ليس من طائلة القانون — إذ لم يكن يعرفه أحدٌ بعدما مات رفاقه من البحارة — بل من شريكه في الجريمة. كان خوفه من تود هو ما جعله يغيِّر اسمه من جيفري رورك إلى توم جيفريز وأرسله إلى منارة جيردلر، ليبقى حبيسًا بها لما تبقَّى من سِنِي حياته. قد يموت تود في أي وقت، وربما كان ميتًا بالفعل الآن، ولكنه لن يعلم بذلك أبدًا، ولن يصلَه خبرُ إطلاق سراحه قط.

استيقظ من أحلامه وعاد يوجه التليسكوب إلى القارب البعيد. كان الآن أقرب إلى المنارة بكثير، وبدا متوجهًا إليها بالفعل. لعل قائدَه جاء يحمل رسالة ما؛ على أي حال، لم يكن في الأفق أثرٌ لزورق خفر السواحل السريع.

دلف إلى الداخل، وتوجَّه إلى المطبخ، وأجرى بعضَ التحضيرات البسيطة لوجبة العشاء؟ ولكنه لم يجد داعيًا للطهي؛ إذ قرر أن يكتفيَ بما تبقَّى من اللحم البارد المطهي في اليوم السابق، مع بعض البسكويت عوضًا عن البطاطا. خالجه توترٌ واضطراب؛ كانت الوحدة تُزعجه، وصوت ارتطام المياه المتواصل بين أعمدة المنارة يضغط على أعصابه.

عندما خرج إلى المنصة مجددًا، كان المدُّ قد بدأ بقوة، واقترب القارب حتى لم يَعُد يفصله عن المنارة سوى ميل واحد أو أكثر قليلًا، ومن هذه المسافة أمكنه أن يرى أن الرجل الذي يقود القارب يرتدي القبعة الرسمية لمؤسسة «ترينييتي هاوس» الخيرية للملاحة. لا بد أن هذا الرجل هو رفيقه القادم المدعو براون، لكن كان هذا غريبٌ جدًّا. ماذا سيفعلان بالقارب؟ لم يكن ثمة أحدٌ ليعيده.

أخذ النسيم يتلاشى. وبينما كان يرقب القارب، رأى قائده يُنزل الشراع ويُمسك بمجدافَيه، ولاحظ جيفريز شيئًا من التعجل في إيقاف القارب مع المد المتزايد، فألقى نظرةً على الأفق. وعندئذٍ لاحظ للمرة الأولى ضبابًا كثيفًا يزحف من جهة الشرق، وقد اقترب كثيرًا؛ حتى إن الفنار الواقع شرق رصيف جيردلر الرملي قد توارى عن الأنظار. فهرع إلى الداخل لتشغيل المحرك الصغير الذي يضغط الهواء لتشغيل إشارة الضباب، وانتظر لفترة يتابعه حتى يتأكد من عمله على ما يرام. وعندما شعر باهتزاز السطح بفعل صافرة إشارة الضباب، خرج إلى المنصة مجددًا.

غمر الضبابُ جميعَ أنحاء المنارة تمامًا، وغاب القارب عن النظر. أرهف السمع، فبدا أن الجدار الضبابي الكثيف قد حجب الأصوات مثلما حجب الرؤية. ظلت إشارة الضباب تُطلق صافرة إنذارها من حين لآخر، ثم سكنت جميعُ الأصوات تمامًا، عدا صوت تدفُّق المياه بين قوائم المنارة في الأسفل، ورنين الجرس الشجي من شيفرنج ساند، وكان رنينًا خافتًا وبعيدًا للغاية.

وبعد فترة نما إلى سمعه الصوتُ المكتوم لاحتكاك مجدافَين بمرتكزيهما، بعدها، وعند حافة دائرة المياه الرمادية التي سمح الضباب برؤيتها، ظهر القارب وسط الضباب كطَيف باهت، في حين كان قائده يجدف بقوة كشبح. أطلقت إشارةُ الضباب صافرةً مبحوحة؛ فنظر الرجل حوله ورأى المنارة وعدَّل مسار القارب في اتجاهها.

نزل جيفريز على السلم الحديدي، وسار عبر المنصة السفلية حتى وصل إلى طرف السلم، فوقف يراقب الغريب المقترب بنظرات جادة. كان قد سئِم الوحدة واشتدَّ توقُه لصحبة البشر منذ رحيل بارنيت. ولكن ماذا كانت طباع هذا الغريب الذي أوشك أن يدخل حياته وجاء يحتل جزءًا كبيرًا منها؟

أسرع القارب عبر المدِّ المتسارع، واقترب أكثر وأكثر، ومع ذلك لم يستطع جيفريز أن يلمحَ وجه رفيقه الجديد. وبعد وهلة صار القارب محاذيًا للغاية لقوائم المنارة واصطدم بها. سحب الغريبُ أحد المجدافَين وقبض على إحدى درجات السلَّم الحديدي، ودلَّى جيفريز حبلًا إلى القارب، وما زال لم يرَ وجه الرجل بعد.

مال جيفريز على السلَّم وراقب الرجل باهتمام وهو يربط الحبل الذي دلَّاه ويفك الشراع من مربطه ويُنزل الصاري. وعندما فرغ الغريب من ذلك التقط صندوقًا صغيرًا وحمله على كتفه وصَعِد على السلم. كان يصعد ببطء، بسبب الحمل الملقى على كتفه، وأخذ يرتقي درجات السلم درجة تلو الأخرى دون أن يخطف نظرة واحدة إلى الأعلى، بينما جيفريز يُحدق إلى رأسه بفضول متزايد. وصلَ الغريب إلى أعلى السلم أخيرًا وانحنى جيفريز ومدَّ يده إليه ليساعده. وعندئذٍ رفع الغريب رأسه للمرة الأولى، فتراجع جيفريز إلى الخلف وامتقع لونه من هول المفاجأة.

قال لاهثًا: «يا إلهي! إنه آموس تود!»

عندما خطَا الوافد الجديد بقدمِه على منصة المنارة، أطلقت إشارةُ الضباب إنذارًا بدا كزمجرة وحش جائع. استدار جيفريز فجأةً دون كلمة واحدة، واتجه إلى الدرج يتبعه تود، وصعد الرجلان صامتَين بلا أيِّ صوت سوى قعقعة حذاءيهما الجوفاء على الألواح الحديدية. اتجه جيفريز إلى غرفة النوم في صمت، وتبعه رفيقُه، ثم استدار وأشار إليه أن يضع صندوقه عنه.

قال تود وهو يُجيل نظره في الغرفة في شيء من الدهشة: «أنت لا تتحدث كثيرًا، يا رفيق. ألن تُلقيَ عليَّ تحية الصباح؟ آمُل أن نكون رفيقَين جيدَين. أنا جيم براون، حارس المنارة الجديد، ماذا عساه يكون اسمك؟»

التفت جيفريز إليه فجأةً وقاده إلى النافذة ثم قال بنبرة صارمة: «انظر إليَّ بتمعنٍ يا آموس تود، ثم اسأل نفسك عن اسمي.»

عندما سمع تود صوتَه رفع بصره مجفلًا، وشحب لونه كالموتى ثم قال هامسًا: «مستحيل! جيف رورك!»

ضحك جيفريز بغلظة، ومال إلى الأمام، وقال بصوت خفيض: «هل وجدْتَني يا عدُوِّي!»

صاح تود: «لا تقُل هذا! لا تَدعُني بعدوِّك يا جيف. يعلم الرب أني سعدتُ بلقائك، مع أني لم أعرفك قط بدون لحيتك وبهذا الشيب الذي غزا رأسَك. أعرف أني أخطأتُ في حقك يا جيف، لكن لا طائل من اجترار ضغائنَ قديمة. لننسَ الماضي يا جيف، ولنكن صديقَين كما كنَّا.» ومسح وجهه بمنديله وراقب رفيقه في تخوُّفٍ.

أشار رورك إلى كرسي مهترئ ذي ذراعين مكسوٍّ بنسيج مضلع وقال: «اجلس، اجلس وأخبرني ما فعلت بكل هذه الأموال. بددتَها كلَّها على ما أظن، وإلا ما كان لينتهيَ بك المطاف إلى هنا.»

رد تود: «لقد سُرقت يا جيف، سُرقت كلها حتى آخر بنس منها. آه! كم كان مؤسفًا ذلك الذي حدث على مركب سي فلاور القديم! ولكنه انتهى وولَّى، ويستحسن ألا نتذكرَه. كلُّهم ماتوا إلا نحن يا جيف؛ لذا نحن في أمان تام طالما بقيت أفواهُنا مغلقة؛ كلُّ شيء أصبح الآن في قاع البحر، وهو أفضل مكان لهم أيضًا.»

قال رورك بحدة: «نعم، هذا أفضل مكان لرفاقك عندما يعرفون أكثر من اللازم، أن يبتلعَهم البحر أو يتأرجحوا على المشنقة.» وأخذ يذرع الغرفة الصغيرة جيئةً وذهابًا بخُطًى مسرعة، وفي كل مرة يقترب من كرسي تود، كان الأخير يتراجع إلى الخلف وقد بدا الانزعاجُ على وجهه.

قال رورك: «لا تجلس مكانك وتحدق فيَّ هكذا. لِمَ لا تدخن أو تفعل شيئًا؟»

سارع تود يُخرج غليونًا من جيبه وملأه من جراب من جلد الخُلد ثم دسَّه في فمه بينما أخذ يبحث عن عود ثقاب. يبدو أنه اعتاد حمل أعواد الثقاب مفردةً في جيبه؛ إذ أخرج عودًا أحمر الرأس على الفور، وقدحه على الحائط فاشتعل مُصدِرًا لهبًا أزرق شاحبًا، ثم قرَّبه من الغليون وظل يشفط وجنتيه وعيناه لا تفارقان رفيقه. أما رورك فقد كفَّ عن مشيه المتوتر ووقف يقطع شريحة من التبغ الصلب بمطواة جيب كبيرة، وظل يحدق في تود في شرود عابس.

ظل تود يسحب الدخان من المبسم بلا جدوى، ثم قال: «هذا الغليون مسدود. هل لديك قطعة من السلك يا جيف؟»

رد رورك: «كلَّا، ليس لديَّ هنا. سأجلب لك قطعةً من المخزن في الحال. خُذ هذا الغليون حتى تتمكن من تنظيف غليونك؛ لديَّ واحد آخر هناك على الرف.» في تلك اللحظة غلب طبع البحار في حسن الضيافة على العداوة التي كان يُكنُّها رورك لتود، فمدَّ يده بالغليون الذي كان قد ملأه للتوِّ نحو تود، الذي أخذه وهو يُتمتم بكلمة شكر، وعينُه معلقة في توتر بالسكين المفتوحة. كان على الحائط بجانب الكرسي رفٌّ بدائيُّ الصنع للغلايين عليه عددٌ منها، فمال رورك على الكرسي ومدَّ ذراعه يأخذ واحدًا، في حين انسحب الدم من وجه تود تمامًا.

قال تود بعد صمت بينما كان رورك يقطع «حشوة» جديدة من التبغ: «إذن، يا جيف، هل سنعود صديقَين كما كنا؟»

اشتعلت جذوةُ العداء في نفس رورك من جديد وقال بصرامة: «هل سأصبح مرةً أخرى صديقًا للرجل الذي حاول أن يوديَ بحياتي بوشايته بي؟» وتوقَّفَ لوهلة ثم تابع قائلًا: «هذا يحتاج لبعض التفكير حقًّا، أما الآن فعليَّ الذهاب لتفقد المحرك.»

عندما غادر رورك، جلس حارس المنارة الجديد يحمل في يديه الغليونَين، وهو غارق في أفكاره. وضع الغليون الجديد في فمه وهو شارد الذهن، وترك الغليون المسدود على الرف، وتحسَّس جيبه بحثًا عن عود ثقاب. أشعل الغليون ولم يزل ذهنُه شاردًا، وبعد أن دخَّن لدقيقة أو دقيقتين، نهض من كرسيه وأخذ يتجول عبر الغرفة برفق، يُجيل النظر حوله ويُصيخ السمع. توقَّف عند الباب وأخذ يُمعن النظر وسط الضباب، ثم خرج على أطراف قدميه إلى المنصة في اتجاه الدرج، ولم يَزَل يُصيخ السمع. وفجأة توقَّف فزعًا من صوت رورك.

«مهلًا يا تود! إلى أين أنت ذاهب؟»

فجاءه الرد: «سأنزل لإحكام ربط القارب فحسب.»

فقال رورك: «لا تقلق بشأن القارب. سأتولى أمره.»

قال تود ولم يزل يواصل زحفه نحو الدرج: «حسنًا يا جيف. ولكن، أين الرجل الآخر، الذي من المفترض أن أستلم المناوبة منه؟»

أجاب رورك: «لا يوجد رجل آخر؛ فقد غادر على متن سفينة فحم.»

شحب وجه تود فجأةً وبدا عليه الذبول، وقال لاهثًا: «إذن لا يوجد هنا سوانا نحن الاثنين!» ثم تساءل وهو يحاول جاهدًا إخفاء خوفه: «ولكن مَن سيُعيد القارب؟»

رد رورك: «سنتدبر أمره بعد قليل؛ ادخل أنت وأفرغْ صندوقك.»

خرج رورك إلى المنصة أثناء حديثه، وقد بدا على وجهه العبوس والاكفهرار. رمقه تود بنظرة رعب، ثم استدار وفرَّ مسرعًا نحو الدرج.

صاح رورك وهو يهرع مسرعًا عبر المنصة: «عُد إلى هنا!» ولكنَّ قدمَي تود كانت بالفعل تدبدبان بقوة على درجات السلم الحديدي، وعندما وصل رورك إلى أعلى الدرج كان تود قد اقترب من أسفله، ولكنه تعثر في غمرة استعجاله، وكاد يسقط لولا أن تشبث بالدرابزين، ولم يكد يستعيد توازنه حتى لحق به رورك. أسرع تود إلى أعلى السلم، ولكنه ما إن قبض على قائمه حتى أمسك مطاردُه به من ياقته. استدار تود في لحظة خاطفة ويده تحت معطفه، فوجَّه ضربةً سريعة، وأطلق رورك سُبةً بصوتٍ عالٍ، فردَّ عليها تود بصيحة، ثم سقط سكين وأخذ يدور في الهواء حتى استقر في مقدمة القارب القابع في الأسفل.

قبض رورك بيده النازفة على عنق عدوه وقال بصوت هادئ مخيف: «أيها الشيطان القاتل! ألم تزل بارعًا في استخدام سكينك؟ كنتَ تحاول الهرب للوشاية بي، أليس كذلك؟»

رد تود بصوت مختنق: «كلَّا، لم أنوِ ذلك يا جيف، أقسم لك إني لم أنوِ ذلك. أفلتني يا جيف. لم أقصد إيذاءك. كنت فقط أ…» وبحركة لَيٍّ مفاجئة تمكن من تحرير إحدى يديه، ووجَّه بها ضربة نحو وجه مهاجمه في اهتياج. لكن رورك تفاداها، وأمسك بمعصمه الآخر ثم دفعه بعنف وأفلت منه. فتراجع تود بضع خطوات إلى الخلف عبر المنصة حتى وصل إلى الحافة، وهنا وقف لوهلة فاغرًا فاه ومحدقًا في رعب، ثم أخذ يترنح ويتشبث بقوة بالهواء. بعد ذلك، وبصرخة حادة، مال إلى الخلف وهوَى، مرتطمًا بإحدى قوائم المنارة أثناء سقوطه، ليرتد مرة أخرى ويسقط في الماء.

على الرغم من ارتطام رأسه بالقائم بصوت مسموع، لم يُغشَ عليه؛ فعندما طفا على السطح بعد لحظات، أخذ يضرب الماء بذراعَيه بقوة، مطلقًا صرخاتِ استغاثةٍ قصيرة مكتومة. راقبه رورك بأسنان مطبقة وأنفاس متسارعة، لكن من دون حَراك. أخذ رأس تود يبتعد أكثر وأكثر وقد أحاطته دائرة من التموجات الصغيرة، إذ سحبه التيار السريع بعيدًا، وخفتت صيحاتُه المستغيثة القادمة عبر المياه الهادئة. وأخيرًا عندما بدأ الرأس يتوارى وسط الضباب، وفي محاولة أخيرة للنجاة، رفع الرجل الموشك على الغرق، رأسه فوق سطح الماء وأطلق صرخة استغاثة يائسة أخيرة نحو المنارة. أجابت إشارة الضباب على صرخته بصافرتها، ثم غاص الرأس تحت الماء، ولم يظهر مرةً أخرى، ووسط السكون المخيف الذي خيَّم على البحر، ما كان هناك سوى رنين جرس مكتوم خافت قادم من بعيد.

وقف رورك لبضع دقائق بلا حراك، مستغرقًا في تفكير عميق. وبعد قليل استفاق من شروده على صوت صافرة سفينة بخارية. كانت حركة الملاحة إثر انحسار المد قد بدأت، وكان الضباب في طريقه إلى الانقشاع في أي لحظة، ولم يزل القارب مربوطًا في الأسفل. يجب التخلص من القارب على الفور. لم يره أحدٌ حين وصوله إلى المنارة، ولا بد ألا يراه أحدٌ مربوطًا بالمنارة. إذا تخلص من القارب فسيُمحى كلُّ دليل على زيارة تود إلى المنارة. نزل على السلم، وركب القارب. كان الأمر بسيطًا. فقد كان القارب محملًا بحمولة ثقيلة من أكياس الحصى، وسوف يغرق في الحال إذا امتلأ بالماء.

نقل بعض أكياس الحصى من مكانها، وبعد أن خلع الألواح السفلية للقارب، ونزع السدادة. وفي الحال اندفع الماء بغزارة إلى قاعه. تأمَّل رورك المشهد بعينٍ فاحصة، ولمَّا أدرك أن الماء سيملأ القارب في غضون دقائق معدودة، أعاد الألواح إلى موضعها، ثم ثبَّت الصاري والشراع بمقعد مجداف مستخدمًا بضعَ لفَّات من الحبال حتى لا يُفلتا، وفكَّ القارب من حبل الربط، ثم صعد درجات السلم.

أخذ التيار يسحب القارب الحر، في حين أسرع رورك إلى المنصة العلوية يشاهد اختفاءه. وفجأة تذكَّر صندوق تود. كان لا يزال في الغرفة بالأسفل. نظر حوله نظرة سريعة في الضباب، ثم هرع إلى الغرفة، وانتزع الصندوق، وحمله إلى المنصة السفلية. وبعد نظرة خاطفة متوترة أخرى للتأكد من خلو الأفق من أيِّ أثر لسفينة أو قارب، ألقى بالصندوق من فوق الدرابزين، وعندما سقط في البحر محدثًا ارتطامًا عاليًا، مكث رورك يراقب الصندوق وهو يغطس في أثر صاحبه والقارب الغارق. ولكنه لم يطفُ على السطح قط، فعاد إلى المنصة العلوية من فوره.

كان الضباب يتلاشى الآن، وظل القارب مرئيًّا بوضوح أثناء انجرافه. ولكن مرَّ وقت أطول مما توقع قبل أن يغرق، ولما انجرف لموضع أبعد، أمسك بالتليسكوب وراقبه بتوتر متزايد. سيكون من المؤسف أن يرى أحد القارب؛ فلو انتُشل القارب واكتُشف أمر السدادة المنزوعة، فسيكون ذلك كارثة.

أخذ قلقه يزداد بحق. واستطاع من خلال التلسكوب أن يرى القارب ينقلب ببطء وقد ملأه الماء، ولكن كان لا يزال يظهر منه بضع بوصات، وكان الضباب ينقشع في كل لحظة.

بعد قليل انطلقت صافرة سفينة بخارية قريبة. أخذ ينظر حوله في عجالة فلم يرَ شيئًا، فأعاد توجيه التليسكوب إلى القارب الآخذ في الاختفاء في لهفة. وفجأة أطلق تنهيدة ارتياح. فقد انقلب القارب رأسًا على عقب، واعتدل لثانية مرةً أخرى، ثم انقلب مجددًا ببطء حتى تدفق الماء فوقه أخيرًا.

في غضون ثوانٍ أخرى قليلة اختفى القارب عن الأنظار. ترك رورك التليسكوب وأخذ نفَسًا عميقًا. لقد أصبح الآن آمنًا. لقد غرق القارب واختفى بلا رجعة. لكنه لم يَنَل أمنَه فحسب، بل نال حريته كذلك. اختفت الروح الشريرة التي طاردته وظلت تهدده طوال حياته، وها هو العالم الفسيح، عالم الحياة والانطلاق والمتعة، يناديه.

في غضون دقائق قليلة انقشع الضباب، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية على سفينة الماشية ذات المدخنة الحمراء التي أفزعته صافرتُها منذ وهلة، عاد اللون الأزرق الصيفي إلى السماء والبحر، وظهر البر مجددًا في الأفق.

عاد إلى الداخل يصفر في ابتهاج، وأوقف محركُ صافرة إشارة الضباب، ثم عاد وسحب الحبل الذي كان قد دلَّاه لتود، ورفع إشارة لطلب المساعدة، ثم عاد ليتناول وجبته وحده في سلام وسعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤