الجزء الثاني

العظمة المُغنِّية

يرويها الدكتور كريستوفر جيرفيز

ينطوي أيُّ مسعى علمي — مهما اختلفت طبيعتُه — على قدرٍ معين من الجهد البدني بطبيعة الحال؛ جهد لا يمكن للعالِم أن يبذلَه بنفسه، فالمهارة العملية تستغرق زمنًا طويلًا بينما الحياة قصيرة. فالتحليل الكيميائي يتطلب عملية «تنظيف» مرهقة للأجهزة والمختبر لا يتسع لها وقتُ الكيميائي؛ وما يتضمنه تجهيز هيكل عظمي — من تعطين وتبييض، و«تجميع العظام» وربطها — يجب أن يتولاه شخصٌ ليس وقتُه ثمينًا كوقت العالِم. ويسري ذلك على الأنشطة العلمية الأخرى. فوراء كلِّ عالم يملك أدوات العلم، فنيٌّ لا غنًى عنه يملك عدة المهارة اليدوية.

كان بولتون، مساعد ثورندايك في المختبر، خيرَ مثال على هذا النوع الأخير؛ فقد كان بارعًا، واسع الحيلة، ومبدعًا ومثابرًا لا يكلُّ. كما كان إلى حدٍّ ما عبقريًّا مبتكرًا، وكان أحدُ ابتكاراته سببًا في انخراطنا في القضية الفريدة من نوعها التي سأروي قصتها في السطور التالية.

امتهن بولتون صناعةَ الساعات، ولكنه كان أيضًا متخصصًا في البصريات بحكم الهواية. كانت الأدوات البصرية هي شغفَ حياته، وحين جلب لنا ذات يوم موشورًا زجاجيًّا مُطوَّرًا يرفع كفاءة العوامات الضوئية التي تعمل بالغاز لنفحصه أنا وثورندايك، سارع ثورندايك بعرض الاختراع على صديق له بمؤسسة «ترينيتي هاوس» للملاحة.

وعلى أثر ذلك، وجد ثلاثتُنا — ثورندايك، وبولتون، وأنا — أنفسنا، في صباح باكرٍ نديٍّ من شهر يوليو، في الطريق عبر ميدل تيمبل لين متجهين إلى مرفأ تيمبل بيير. عندما وصلنا وجدنا عند الجسر العائم قاربًا سريعًا صغيرًا يعمل بالوقود، ووجدنا رجلًا متورد الوجنتين ذا شارب أبيض واقفًا في قمرة القيادة.

قال الرجل بصوت رائع ورنَّان يميزُ البحَّارة: «طاب صباحُك يا دكتور؛ صباحٌ مناسب لرحلة إلى النهر السفلي، صحيح؟ وأهلًا بك يا بولتون! أتيتَ لتسلبنا لقمة عيشنا، أليس كذلك؟» ودوت ضحكتُه المبهجة فوق صفحة النهر فخالطت صوتَ خفقان محرك القارب الذي أوشك على التحرك من الرصيف الذي كان راسيًا عليه.

كان الكابتن جرامباس من أعضاء الهيئة العليا لمؤسسة «ترينيتي هاوس». كان عميلًا لدى ثورندايك في الماضي، ثم ارتقى ليُصبح صديقًا شخصيًّا له، كما يحدث مع عملاء ثورندايك، وقد شمل بترحيبه الحار مساعدنا الذي لا يقدر بثمن.

تابع الكابتن جرامباس الكلام بضحكة خفيفة: «كم هو لطيف أن تُعلِّم جماعةٌ من المحامين أو الأطباء جماعةً من خبراء الملاحة البحرية عملَهم، ما الأمر؟ أَكسدتْ تجارتُكم فبحثتم عن غيرها لشغل الوقت يا بولتون؟»

ابتسم بولتون ابتسامةً عريضة غريبة وردَّ قائلًا: «ليس لدينا الكثيرُ لنفعله على الصعيد المدني، لكنَّ المجرمين لا يزالون في حالة من النشاط.»

قال الكابتن جرامباس: «فرقةُ حلِّ الألغاز لم تَزَل في أوج ازدهارها! وعلى ذكر الألغاز يا دكتور، يواجه رجالُنا مشكلةً غريبة لا يجدون حلًّا لها، في صميم اختصاصك تمامًا. وبما أنك هنا، لِمَ لا أستغلُّ وجودك وأُرهق ذهنك بها؟»

ردَّ ثورندايك: «بالضبط، لِمَ لا؟»

قال الكابتن: «إذن، سأشرح لك، ولنعمل معًا جميعًا.» ثم أشعل سيجارًا، وسحب نفسين، وبدأ حديثه قائلًا: «اللغز باختصار كالتالي: اختفى أحد حراس المنارات العاملين لدينا بلا أثر، كمن انشقت الأرض وابتلعته. ربما هرب أو غرق بطريق الخطأ أو قُتل. سأعطيك التفاصيل بترتيبها. في نهاية الأسبوع الماضي جلب صندل بحري إلى رامسجيت خطابًا من المنارة التي تقوم على قوائم دعم ملولبة على رصيف جيردلر الرملي. يوجد هناك رجلان فقط، يبدو أن أحدهما — ويُدعَى بارنيت — قد أُصيب بكسرٍ في الساق، وطلب أن تُعيدَه سفينةُ الخدمات إلى البر. تصادف أن كانت سفينة الخدمات المحلية، التي تحمل اسم واردن، تخضع لأعمال صيانة خفيفة في مرفأ رامسجيت جعلتْها غيرَ متاحة ليوم أو يومين، ونظرًا لكون الأمر عاجلًا وملحًّا، أرسل المسئول في مرفأ رامسجيت خطابًا إلى المنارة حملتْه إحدى السفن البخارية الترفيهية مفادُه أن الرجل سيغادر مقرَّ عمله على متن قارب في صباح اليوم التالي، الذي كان يوافق يوم سبت. كما أرسل المسئول خطابًا إلى حارس جديد كان قد عُيِّن للتوِّ، يُدعَى جيمس براون، وكان يسكن بالقرب من ريكولفر وفي انتظار استلام عمله، يطلب منه أن يتوجه إلى المنارة صباح السبت على متن أحد قوارب خفر السواحل، وأرسل المسئول خطابًا ثالثًا إلى ضابط خفر السواحل في ريكولفر يطلب منه توصيل براون إلى المنارة وإعادة بارنيت منها. ولكنهما لم ينفذَا ما طُلب منهما بالضبط. فلم يستطع ضابطُ خفر السواحل تأمينَ قارب ليُقلَّ براون ولا رجلًا ليصاحبه، فاستعارَا قارب صيد أبحر به الأحمق براون بمفرده، لربما تمكن بارنيت من العودة بالقارب على الرغم من ساقه المكسورة.

في هذه الأثناء كان بارنيت، وهو يقطن في ويتستابل، رفع إشارة لسفينة فحم كانت متوجهةً نحو بلدته، فأخذوه من المنارة، وتُرك الحارس الآخر — توماس جيفريز — وحده إلى حين وصول براون.

لكن براون لم يَصِل إلى المنارة قط. لقد ساعده ضابط خفر السواحل في الانطلاق ورآه يُبحر في عرض البحر، ورأى الحارس جيفريز قاربًا شراعيًّا على متنه رجلٌ واحد متوجهًا نحو المنارة، ثم عمَّ ضبابٌ كثيف وغمر القارب، وعندما انقشع لم يُعثر للقارب على أثر. اختفى القارب والرجل معًا بلا أثر.»

قال ثورندايك: «ربما تعرض لحادث تصادم.»

وافقه الكابتن: «ربما، لكن لم يَرِد بلاغٌ بوقوع حادث. يعتقد خفر السواحل أن القارب ربما يكون قد انقلب بفعل عاصفة مفاجئة؛ فقد رأوه يضبط الشراع في وضع يزيد من سرعة القارب. ولكن لم يكن هناك أيُّ عواصف مفاجئة، بل كان الطقس هادئًا تمامًا.»

سأل ثورندايك: «هل كان الرجل على ما يرام عندما أبحر؟»

أجاب الكابتن: «نعم، كانت إفادة خفر السواحل مسهبة؛ في الواقع، لقد كان مليئًا بتفاصيل سخيفة لا تفيد بشيء. إليك ما يقولون.» وأخرج خطابًا رسميًّا وقرأ: ««آخر مرة شوهد فيها المفقود كان جالسًا في مؤخرة القارب موجهًا الدفة في اتجاه الرياح. ربط الشراع بحبل. كان يُمسك بغليون وكيس تبغ في يديه ويوجه القارب بمرفقه. كان يملأ الغليون من كيس التبغ.» أرأيت؟ «كان يُمسك الغليون بيده» وليس بأصابع قدمه؛ وكان يملؤه من كيس تبغ، رغم أنك كنت ستتوقع أن يملأه من وعاء فحم أو من رضَّاعة أطفال!» ثم طوى الكابتن الخطاب وأعاده إلى جيبه، ونفخ دخان سيجاره في ازدراء.

قال ثورندايك ضاحكًا من انفعال الكابتن: «أنت متحامل على خفر السواحل. واجب الشاهد أن يُدليَ بكل الوقائع، لا أن ينتقيَ ما يراه مهمًّا.»

قال الكابتن جرامباس: «ولكن يا سيدي العزيز، ما أهمية ما ملأ منه الرجل غليونه؟»

أجاب ثورندايك: «من يدري؟ ربما يتبين أنها حقيقة جوهرية للغاية في وقت لاحق. لا يمكن للمرء أن يجزم بذلك مقدمًا. فقيمةُ أيِّ حقيقة تعتمد على صلتها بباقي الأدلة.»

قال الكابتن متبرمًا: «أتفق معك.» وواصل تدخينَ سيجاره في صمت تأملي، حتى وصلنا إلى بلاكوول بوينت، وإذا به يقف فجأة.

أعلن الكابتن: «ثمة سفينة صيد بخارية على رصيفنا، ماذا تفعل هذه هنا بحق الجحيم؟» وأخذ يفحص السفينة الصغيرة بعناية، ثم واصل: «يبدو أنهم يُنزلون شيئًا ما. ناولني هذا المنظار يا بولتون! يا للهول! إنها جثة! لكن لماذا يُنزلونها على رصيفنا؟ لا بد أنهم علموا بقدومك يا دكتور.»

عندما توقَّف القارب السريع بجانب الرصيف، أسرع الكابتن بخفة واقترب من الجمع المتحلق حول الجثة وسأل: «ما هذا؟ ولِمَ جاءوا بهذه الجثة إلى هنا؟»

شرع ربان سفينة الصيد الذي كان يشرف على إنزال الجثة، في توضيح الأمر.

قال: «إنه أحد رجالكم يا سيدي. لقد رأينا الجثة ملقاة على حافة مرتفع ساوث شنجلز ساند، بالقرب من الفنار، حين كنا نمرُّ في منطقة ضحلة المياه؛ اقتربنا منها، فانتشلنا القارب وأحضرناه على متن السفينة. ونظرًا لعدم وجود شيء نستدل منه على هوية الرجل، فقد فتشتُ جيوبه ووجدتُ هذا الخطاب.» وأعطى الكابتن مظروفًا رسميًّا موجهًا إلى «السيد جيه براون، منزل السيد سولي، شيفرد، ريكولفر، كِنت.»

صاح كابتن جرامباس: «يا إلهي، هذا هو الرجل الذي كنا نتحدث عنه يا دكتور. يا لَها من مصادفة عجيبة! ولكن ماذا عسانا نفعل بالجثة؟»

أجاب ثورندايك: «سيكون عليك أن تكتب إلى الطبيب الشرعي.» والتفت إلى ربان سفينة الصيد وسأله: «بالمناسبة، هل فتشت كلَّ الجيوب؟»

رد الربان: «كلَّا يا سيدي. لقد وجدتُ الخطاب في أول جيب فتشته، فلم أفتش الجيوب الأخرى. أيوجد شيءٌ آخر تودُّ معرفته يا سيدي؟»

أجاب ثورندايك: «لا شيء سوى اسمك وعنوانك، سيحتاجهما الطبيبُ الشرعي.» أدلى الربان بالمعلومات المطلوبة، وأعرب عن أمله في ألا «يعطلَه» الطبيب الشرعي، ثم عاد إلى سفينته، ومضى في طريقه إلى بيلينجسجيت.

قال الكابتن جرامباس: «أتساءل إن كنتَ تُمانع في إلقاء نظرة على جثة هذا المسكين، ريثما يرينا بولتون ما في جعبته من بدع.»

رد ثورندايك: «لا يمكنني أن أفعل الكثير بدون أمرٍ من الطبيب الشرعي، ولكن إذا كان ذلك سيرضيك، فسيسعدني أن أُجريَ أنا وجيرفيز فحصًا مبدئيًّا.»

قال الكابتن: «سيسعدني ذلك؛ فنحن نودُّ أن نعرف إن كان المسكين قد مات ميتةً طبيعية.»

نُقلت الجثة إلى سقيفة، واقتِيدَ بولتون بعيدًا وهو يحمل الحقيبة السوداء التي تحوي ابتكاره الجديد، ودخلتُ أنا وثورندايك السقيفة لنبدأ الفحص.

كان المُتوفى رجلًا صغير الجسم كبير السن، يرتدي زيًّا بحريًّا أنيقًا إلى حدٍّ ما. كان يبدو أن الوفاة حدثت منذ يومين أو ثلاثة فقط، وخلت الجثةُ من عضات السمك ولدغات السلطعون، على عكس المعتاد في الجثث التي يلفظها البحر. لا عظام مكسورة، ولا أي إصابات بالغة، ولا جروح فيما عدا قَطْع شديد في فروة الرأس من الخلف.

قال ثورندايك بعد ملاحظة هذه التفاصيل: «يبدو من المظهر العام للجثة أن سبب الوفاة هو الغرق، ولكن بالطبع لا يمكننا أن نُعطيَ رأيًا قاطعًا إلا بعد تشريح الجثة.»

سألتُه: «أنت لا تُولي أيَّ أهمية لجرح فروة الرأس إذن؟»

فأجابني: «باعتباره سببًا للوفاة؟ كلَّا. من الواضح أنه حدث بينما لم يَزل الرجل حيًّا، لكن يبدو أنه حدث إثر ضربة مائلة فنزلت بكل قوتها على فروة الرأس دون أن تُلحقَ أيَّ إصابة بالجمجمة. ولكنَّ الجرح مهمٌّ للغاية من جانب آخر.»

سألتُه: «وما هو؟»

أخرج ثورندايك علبةً من جيبه وأخرج منها ملقطًا، وقال: «فكِّر في الظروف. لقد انطلق هذا الرجل من البرِّ ليذهب إلى المنارة، ولكنه لم يَصِل إلى هناك قط. السؤال هو: إلى أين وصل إذن؟» وبينما كان يتحدث مال على الجثة، وأزاح الشعر من حول الجرح بطرف الملقط، وتابع: «انظر إلى تلك الأشياء البيضاء بين الشعر يا جيرفيز، وبداخل الجرح أيضًا. أعتقد أنها تُخبرنا بشيء.»

فحصتُ الشظايا الطباشيرية التي أشار إليها بواسطة عدساتي وقلتُ: «تبدو كأجزاء من أصداف، وأنابيب لنوع من الديدان البحرية.»

ردَّ قائلًا: «نعم، هذه الأصداف المكسورة من الواضح أنها أجزاء من صدف محار البرنقيل البلوطي، أما الشظايا الأخرى فأغلبُ الظن أنها قِطَع من أنابيب الديدان البحرية الشائعة. وهذه البقايا تقودنا إلى استنتاج هام؛ وهو أن هذا الجرحَ سببه جسمٌ صلب مغطًّى بأصداف البرنقيل البلوطي والديدان الأنبوبية البحرية الشائعة، أي أن هذا الجرح تسبَّب فيه جسمٌ يغمره الماء على نحوٍ دوري. الآن، أي جسم عساه يكون هذا؟ وكيف يمكن أن يكون قد اصطدم به رأسُ المتوفى؟»

اقترحتُ قائلًا: «قد يكون مقدمة سفينة صدمته.»

قال ثورندايك: «لا أعتقد أننا قد نجد الكثير من الديدان البحرية على مقدمة سفينة. إن وجود الأصداف وأنابيب الديدان معًا يشير إلى شيء ثابت في مكانه بين علامات المد والجزر، كفنارة مثلًا. ولكن من الصعب تخيُّل الكيفية التي قد تصطدم بها رأسُ شخص بفنار، وفي المقابل؛ لا يوجد أيُّ أجسام ثابتة أخرى في الرافد الذي كان الرجل يُبحر فيه سوى العوامات، والعوامات لها سطح مستوٍ يصعب أن يُسبِّب جرحًا كهذا. بالمناسبة، فلنُلقِ نظرةً على ما في جيوبه، على الرغم من أنه ليس من المرجح أن يكون للسرقة أيُّ صلة بموته.»

وافقتُه الرأي قائلًا: «صحيح، وأرى ساعته لم تزل في جيبه، وهي ساعة فضية من نوع جيد.» ثم أخرجتُ الساعة وتفقدتُها وأضفتُ قائلًا: «لقد توقَّفت عند الساعة الثانية عشرة وثلاث عشرة دقيقة.»

قال ثورندايك وهو يدوِّن ملاحظة بذلك: «قد يكون هذا مهمًّا، لكن من الأفضل أن نفحص الجيوب واحدًا تلو الآخر، ثم نُعيد الأغراض إلى أماكنها بعد تفقُّدِها.»

كان أول جيب فتشناه الجيب السفلي الأيسر للسترة. كان من الواضح أنه الجيب نفسه الذي سبق أن فتشه الربان؛ إذ وجدنا فيه خطابَين يحمل كلاهما ختمَ مؤسسة «ترينيتي هاوس»، فأعدناهما دون أن نقرأهما بالطبع، ثم انتقلنا إلى الجيب الأيمن. كانت محتويات هذا الجيب عادية تمامًا، واشتملت على غليون من خشب الشجيرات البرية، وجراب من جلد الخلد، وعدد من أعواد الثقاب المفردة.

قلتُ: «إنه سلوك عفوي نوعًا ما أن يحمل أعواد الثقاب مفردة في جيبه هكذا، وغليون كذلك.»

رد ثورندايك موافقًا: «نعم، خاصة هذه الأعواد الشديدة الاشتعال. لاحِظ أن هذه الأعواد يُغطَّى طرفها العلوي بالكبريت قبل أن توضع عليها رءوسها الحمراء، لذا تشتعل بأقل لمسة، ويصعب إطفاؤها، وهذا بلا شك سبَّب رواج هذا النوع من أعواد الثقاب بين البحارة، الذين يحتاجون لإشعال الغليون في مختلف حالات الطقس.» وبينما هو يتحدث التقط الغليون وأخذ يتأمل فيه ويقلبه في يده وينظر إلى داخله. وفجأة نقل نظره من الغليون إلى وجه الرجل الميت، وسحب شفتيه بالملقط ليتفقد فمه من الداخل.

وقال: «لنرَ أيَّ نوع من التبغ يدخن.»

فتحتُ كيس التبغ المشبع بالماء فوجدتُ فيه كتلة من التبغ الناعم الداكن، فقلت: «يبدو أنه تبغ اللف.»

وافقني ثورندايك: «بالفعل، والآن لنرَ ما في الغليون. لقد دُخِّن نصف محتواه فقط.» أَدخلَ سكين جيبه في الغليون وأخرج به بواقي التبغ المحترق ووضعها على ورقة، ففحصناها معًا. كان من الواضح أن البواقي ليست من نوع تبغ اللف؛ إذ اشتملت على قِطَع خشنة، وكانت شبهَ سوداء.

قلتُ لثورندايك: «إنها قِطَع من تبغ صلب.» فوافقني ثورندايك وأعاد بواقي التبغ إلى الغليون.

لم يكن في الجيوب الأخرى ما يفيد، عدا سكين جيب، فتحه ثورندايك وفحصه بعناية. ولم نجد الكثير من النقود، وإن كانت في حدود ما كان متوقعًا، وكان كافيًا لاستبعاد فرضية السطو.

سأل ثورندايك وهو يُشير إلى حزام جلدي رفيع: «هل توجد سكين ذات غمد على هذا الحزام؟» فأزحتُ السترة، وتفقدتُ الحزام.

وأجبتُه: «ثمة غمدٌ، لكن بدون سكين. لا بد أن السكين انسلت وسقطت.»

قال ثورندايك: «هذا غريب. فالسكين ذات الغمد التي تحملها البحارة لا تنسل من غمدها بسهولة. فهذه السكين صُمِّمت لاستخدامها في التعامل مع حبال الأشرعة عندما يكون البحار في موضع عالٍ بين الأشرعة والصواري، بحيث يتمكن من سحبها من غمدها بيدٍ وهو متشبث بالصاري أو الشراع بالأخرى. يجب أن يكون ثابتًا ومحكمًا تمامًا في مكانه، وعادة ما يكون كذلك؛ إذ يحمل الغمد النصل ونصف المقبض. اللافت في هذه الحالة أن الرجل كان يحمل سكين جيب كما رأينا، ولما كان هذا السكين يصلح لكل الأغراض العادية، فيبدو أن هذا يعني أنه كان يحمل السكين ذات الغمد للدفاع عن النفس، أي كسلاح في واقع الأمر. ومع ذلك، لا يمكننا المضيُّ قُدُمًا في التحقيق بدون تشريح الجثة لتحديد سبب الوفاة، ها هو الكابتن قادم.»

دلف الكابتن جرامباس إلى السقيفة وألقى على جثة البحَّار نظرةَ رثاء.

تساءل: «هل ثمة أيُّ شيء يُلقي أيَّ ضوء على سبب اختفاء الرجل، يا دكتور؟»

أجاب ثورندايك: «ثمة أمر أو اثنان غريبان في القضية، ولكن أغرب ما في الأمر أن النقطة الوحيدة المهمة حقًّا تتعلق بما ورد في بيان خفر السواحل الذي كنتَ مستاءً منه.»

قال الكابتن متعجبًا: «حقًّا؟!»

رد ثورندايك: «نعم، يقول بيان خفر السواحل إنه في آخر مرة شوهد فيها المُتوفى كان يملأ غليونه من كيس التبغ خاصته. وكيسه يحتوي على تبغ لف ناعم، في حين يحتوي الغليون الموجود في جيبه على نوع آخر مقطوع من كتلة من التبغ الصلب.»

سأل الكابتن: «ألا يوجد في أيٍّ من جيوبه تبغٌ من النوع الصلب؟»

رد ثورندايك: «ولا قطعة صغيرة حتى. من الوارد بالطبع أنه كان يحمل قطعة ووضعها كلَّها في الغليون، ولكننا لم نجد أيَّ أثر لهذا التبغ على سكين جيبه، وأنت تعرف كيف يلطخ هذا النوع الداكن اللزج نصلَ سكين. كما أن سكينه ذات الغمد مفقودة، ولكن ليس من المرجح أن يكون قد استخدمها في قَطْعِ التبغ وهو يحمل سكين جيب.»

وافقه الكابتن: «صحيح، ولكن هل أنت متأكد من أنه لا يحمل غليونًا آخر؟»

رد ثورندايك: «كان هناك غليون واحد، ولم يكن غليونه.»

وقف الكابتن بجانب عوامة ضخمة ذات نقوش مربعة ليتمكن من التحديق في زميلي، وصاح متعجبًا: «ليس غليونه! وكيف عرفت أنه ليس غليونه؟»

قال ثورندايك: «من شكل المبسم المطاطي المقسى. بدَتْ عليها آثارٌ عميقة لأسنان أطبقت عليها بعنف حتى كادت تنزعها تمامًا. والرجل الذي يُطبق على غليونه إلى هذا الحد عادة ما يتميز بسمات جسمانية معينة، أهمها أن تكون له أسنان قوية، وفمُ المتوفى خالٍ تمامًا من الأسنان.»

فكَّر الكابتن لوهلة، ثم قال: «لا أرى أيَّ مغزًى لذلك تمامًا.»

قال ثورندايك: «حقًّا؟ بل يبدو لي أن وراءه مغزًى كبيرًا. هذا رجل كان يملأ غليونه بنوع محدد من التبغ في آخر مرة شوهد فيها. انتُشل ميتًا، ووُجد غليونه يحوي نوعًا مختلفًا تمامًا من التبغ. فمن أين جاء هذا التبغ الغريب؟ المدلول الواضح هو أن الرجل الْتقَى بشخص ما.»

وافقه الكابتن: «نعم، يبدو الأمر كذلك.»

تابع ثورندايك: «أضفْ إلى ذلك أن سكينه ذات الغمد مفقودة. قد لا يعني ذلك شيئًا، لكن علينا أخْذه في الحسبان. كما أن هناك أمرًا غريبًا آخر: ثمة جرح في مؤخرة رأسه أحدثه اصطدامٌ عنيف بجسم كان مغطًّى بصدف البرنقيل البلوطي وديدان بحرية. ولكن ما من أرصفة أو منصات في المياه المفتوحة للرافد. السؤال هو: بِمَ قد يكون اصطدم؟»

قال الكابتن: «لا يعني ذلك شيئًا. فحين يظلُّ المدُّ يقذف جثة في الأرجاء لما يقرب من ثلاثة أيام …»

قاطعه ثورندايك: «لا نتحدث هنا عن الجثة. فالجرح حدث والرجل لم يزل حيًّا.»

تعجَّب الكابتن وقال: «يا إلهي! الافتراض الوحيد الذي يمكنني تصوره هو أن الرجل اصطدم حتمًا بأحد الفنارات في الضباب، فاخترقت قاربه وصدمت رأسه، ولكني يجب أن أعترف بأنه تفسير ضعيف.» ووقف لدقيقة يُحدق في أصابع قدميه ويفكر في عبوس، ثم رفع رأسه ونظر إلى ثورندايك.

قال: «خطرتْ لي فكرة. استنادًا لما تقول، يتطلب هذا الأمر تحرِّيًا دقيقًا. سأستقل سفينة الخدمات اليوم للتحقيق في الأمر في موقع الحدث. لمَ لا تأتي معي كمستشار؟ نظيرَ مقابلٍ بالطبع، أنت والدكتور جيرفيز. سأنطلق في حدود الحادية عشرة؛ سنصل إلى المنارة في غضون الثالثة، ويمكنك العودة إلى البلدة الليلة إذا أردت. ما رأيك؟»

سارعتُ بالرد متحمسًا: «لا أرى سببًا يمنعنا.» فقد كان النهر يبدو ساحرًا ومغريًا للغاية في هذا الصباح الصيفي، حتى في مرسى باجزباي هول.

قال ثورندايك: «جيد جدًّا، إذن سنأتي معك. يبدو أن جيرفيز يتوق للذهاب في رحلة بحرية، وأنا كذلك في واقع الأمر.»

قال الكابتن بلهجة اشتراطية: «ولكنها مهمة عمل.»

رد ثورندايك: «ليست كذلك تمامًا. إنها متعة كاملة، متعة الرحلة، ومتعة صحبتك الراقية.»

قال الكابتن ممتعضًا: «لم أعنِ ذلك، لكن إذا كنتم ستأتون كضيوف، فأرسلْ صاحبك يأتِكَ بملابس للنوم وابقَ معنا حتى نعيدَك مساء الغد.»

قال زميلي: «لن نُزعج بولتون، يمكننا أن نستقلَّ القطار من بلاكوول لنجلب أمتعتنا بنفسنا. قلت سننطلق في الحادية عشرة؟»

قال الكابتن جرامباس: «تقريبًا، لكن لا تُرهقَا نفسَيكما.»

وصل مستوى وسائل المواصلات في لندن إلى درجة غير مرغوب فيها من الكمال. فبواسطة القطار و«الجندول» الطنان ذي العجلتين، تمكَّنَّا من الانتقال ذهابًا وإيابًا بين طرفَي البلدة بسرعة؛ حتى إن الساعة كانت قد قاربت الحادية عشرة عندما عدنا إلى رصيف ترينيتي نحمل حقيبة مفصلية من نوع جلادستون بالإضافة إلى حقيبة ثورندايك الخضراء الصغيرة.

كانت سفينة الخدمات قد خرجت من عند باو كريك، وتوقفت الآن أمام الرصيف وتدلَّت من رافعتها عوامةٌ ضخمة مخروطية مخططة، بينما وقف الكابتن جرامباس على الممر المدرج الممتد بين السفينة والرصيف يشعُّ وجهه الأحمر المبهج بالسرور. أُنزلت العوامة بأمان، وسُحبت الرافعة إلى مكانها عند الصاري، ولُملمت حبال التعليق السائبة، ثم أَطلقت السفينةُ أربعَ صافرات تبعث على الابتهاج، واستدارت ودفعت مقدمتها في اتجاه المد القادم.

ظل مجرى نهر لندن لأكثر من أربع ساعات يتسع وينفرج كلما تقدمنا كاشفًا عن مشهده البانورامي المتحرك. ابتعدنا عن حيِّ وولويتش ريتش بدخانه وروائحه، وغمرنا بدلًا منه الهواء العليل الذي رطبته غلالةٌ خفيفة من ضباب الصيف. ابتلع الأفق المصانع الرمادية المتكتلة وحلَّت محلَّها مراعٍ خضراء امتدت حتى المرتفعات المحيطة بوادي النهر، حيث تناثرت الماشية. ووقفت سفن التدريب المهيبة تستعرض أجسامها ذات النقوش المربعة على الساحل المشجر، وتتهامس بأيام أشجار البلوط والقنب، حين لم تكن السفن الحربية الخشبية العملاقة بما لها من مهابة وجمال، وأشرعة شاهقة كالأبراج العاجية، قد تخلَّت عن مكانتها لتحلَّ محلَّها سفنُ اليوم المصطبغة بلون الطين، التي تُشبه أواني الطهي، والتي تُبحر رافعةً علم البحرية الأبيض وتبتلع أموال دافعي الضرائب ابتلاعًا؛ حين كان البحار بحارًا بحقٍّ وليس مجرد ماكينة تعمل بالبحر. انطلقت سفينة الخدمات شامخةً في مواجهة المد العالي، لتشقَّ طريقها ين الفُلك الممتدة بلا نهاية على مد البصر: صنادل نهرية، وعمال لخدمات، وسفن شراعية وقوارب صيد متعددة الأشرعة، وبحارة سود البشرة كسالى، وسفنٌ صينية جوالة لنقل البضائع تعلوها مداخنُ زرقاء، ومراكب متداعية من البلطيق ذات طواحين هوائية دوَّارة، وسفن ركاب عملاقة تنوء بما عليها من أثقال. مررنا ببلدات إيريث وبورفليت وجرينهايت وجرايز، وكأنها كانت تُحيِّينا. مررنا كذلك بمداخن نورثفليت، وأسطح الأبنية في جريفسيند، والمرسى المكتظ بالسفن والمدافع المتربصة بالعدو. وحين غادرنا لاور هوب، امتدت صفحةُ الماء متسعةً أمامنا كثوبٍ ضخم من الساتان الأزرق.

في حوالي الثانية عشرة والنصف أدركَنا الجزرُ وسهَّل إبحارنا؛ إذ لاحظنا سرعة مرور البر البعيد في مرمى بصرنا، وأحسسنا بالهواء النقي يلفح وجوهنا.

لكن البحر هدأ من تحتنا، وسكنت السماء من فوقنا في حلقة من حلقات الهدوء الصيفي. ووسط زرقة السماء الناعمة انتشرت كراتٌ من سحُبٍ بيضاء ساكنة، وانجرفت الصنادل النهرية بفعل المد بأشرعة مرتخية متهدلة، وفي دفء الشمس القابعة فوق انعكاسها الساكن، استكانت عوامةٌ مخططة كبيرة ذات جرس حالمة — يعلوها قفصٌ وقائم وتحمل اسم «شيفرنج ساند» — لتستفيقَ من سُباتِها للحظة على اندفاع الماء من جانبنا، فاهتزَّ قفصُها متراخيًا، وأطلقت رنينًا مهيبًا، ثم عادت إلى سُباتِها.

بعدما مررنا بالعوامة بوقت قصير، لاحَ في الأفق هيكلٌ أعجف لمنارة ذات قائم لولبي، تحوَّل لونُها الأحمر الكئيب في شمس العصر إلى قرمزي. ولما اقتربنا أكثر، لاح الاسم «جيردلر» مكتوبًا بحروف كبيرة بيضاء، وظهر رجلان في المنصة المحيطة بمصباح المنارة، يتفحَّصانِنَا من خلال التليسكوب.

سأل قائد سفينة الخدمات الكابتن جرامباس: «هل سنُطيل البقاء في المنارة، يا سيدي؟ لأننا سنتوجه نحو رصيف بان ساند الرملي في الشمال الشرقي لتثبيت هذه العوامة الجديدة ورفع القديمة.»

ردَّ الكابتن جرامباس: «إذن فالأفضل أن توصِّلونا إلى المنارة ثم تعودوا إلينا عندما تنتهون من مهمتكم. فلا أعرف كم من الوقت سنمكث هناك.»

توقفت سفينة الخدمات، وأُنزِل منها قارب، وامتدت بعضُ الأيدي تساعدنا في عبور المسافة الفاصلة بينهما بأمان.

قال الكابتن: «ستتسخ ملابس البحر التي ترتدونها هذه وأنتم تصعدون على المنارة» — وكان هو أيضًا في غاية الأناقة — «ولكن سيسهل تنظيفُها مما سيعلق بها.» رفعنا رءوسنا نتأمل الهيكل الماثل أمامنا. كشف المد المنحسر عن نحو خمس عشرة قدمًا من قوائم المنارة، وكانت القوائم — والسُّلَّم على حدٍّ سواء — مغطاةً بالأعشاب البحرية وأصداف البرنقيل والديدان الأنبوبية. لكننا لم نكن من سكان المدينة المتأنقين الذين تعفُّ نفوسُهم عن تحمُّل هذه الظروف مثلما كان الكابتن يعتقد على ما يبدو؛ إذ تبعناه على السُّلَّم الزلق بسهولة، فيما كان ثورندايك متشبِّثًا بقوة بحقيبته الخضراء الصغيرة التي رفض أن تفارقه ولو للحظة.

قال الكابتن ونحن نضع أقدامنا على قمة السلم: «جئتُ أنا وهذان السيدان لإجراء بعض التحريات عن ذلك الرجل المفقود، جيمس براون. أيٌّ منكما جيفريز؟»

أجابنا رجلٌ طويلُ القامة قويُّ البنية ذو وجه مربع وحاجبين كثَّين بارزَين، ويدُه اليسرى ملفوفة في ضمادة خشنة قائلًا: «أنا يا سيدي.»

سأل الكابتن: «ماذا حدث ليدك؟»

رد الرجل: «جرحتُها وأنا أقشر بعض البطاطا. ليس جرحًا شديدًا يا سيدي.»

قال الكابتن: «حسنًا، لقد انتُشلت جثة براون وأريد أن نعرف بعض التفاصيل في إطار التحقيق. ستُستدعى باعتبارك شاهدًا على ما أظن؛ ادخل وأخبرنا بكل ما تعرف.»

دلفنا إلى غرفة المعيشة وجلسنا إلى الطاولة. فتح الكابتن دفتر جيب كبيرًا، فيما أجال ثورندايك نظره في الغرفة الغريبة الشبيهة بالكابينة بطريقته الفاحصة وكأنه يُجري جردًا ذهنيًّا لمحتوياتها.

لم تُضف أقوال جيفريز شيئًا إلى ما كنا نعرفه بالفعل. فقد قال إنه رأى قاربًا على متنه رجل واحد قادم نحو المنارة. ثم عمَّ الضباب وحجب القارب عن الأنظار. شغَّل إشارة الضباب وظل يراقب الأجواء جيدًا، ولكن القارب لم يَصِل قط. وكان هذا كل ما يعرفه. لقد افترَض أن المنارة فاتت الرجل على الأرجح ثم سحبه الجزر الذي كان شديدًا في ذلك الوقت.

سأل ثورندايك: «كم كانت الساعة عندما رأيتَ القارب لآخر مرة؟»

رد جيفريز: «الحادية عشرة والنصف تقريبًا.»

سأل الكابتن: «وكيف كان شكل الرجل؟»

رد جيفريز: «لا أعلم يا سيدي. كان يجدف. وكان ظهره موجهًا نحوي.»

سأل ثورندايك: «هل كان معه صندوقٌ أو حقيبة أدوات؟»

قال جيفريز: «كان معه صندوق.»

سأله ثورندايك: «ماذا كان شكل الصندوق؟»

رد جيفريز: «صندوق صغير، مطلي باللون الأخضر، وله حبل مزوَّد بعروة تثبيت.»

سأل ثورندايك: «وهل كان به أسلاك؟»

رد جيفريز: «كان به سلك واحد يُحيط به لتثبيت غطائه.»

سأله ثورندايك: «وفي أي جزء من القارب كان الصندوق؟»

رد جيفريز: «عند الشراع الخلفي يا سيدي.»

سأل ثورندايك: «كم كانت المسافة بين القارب وبين المنارة حين رأيتَه لآخر مرة؟»

رد جيفريز: «نصف ميل تقريبًا.»

صاح الكابتن متعجبًا: «نصف ميل! كيف أمكنك أن ترى هذا الصندوق على بُعد نصف ميل؟»

احمرَّ وجه الرجل ورمق ثورندايك بنظرة ارتياب امتزج بالغضب وردَّ في عبوس: «كنت أراقب القارب بالتليسكوب يا سيدي.»

قال الكابتن جرامباس: «مفهوم. حسنًا، هذا يكفي يا جيفريز. سنضطر إلى الترتيب لحضورك التحقيق. أخبر سميث أني أريد لقاءه.»

انتهى التحقيق، وقرَّبتُ أنا وثورندايك كرسيَّينا من النافذة التي كانت تطلُّ على الجهة الشرقية من البحر. لكن زميلي لم يكن منشغلًا بالبحر أو السفن العابرة. فقد كان معلقًا على الحائط، بجوار النافذة، رف غليون بدائي الصنع عليه خمسة غلايين. كان ثورندايك قد لاحظه منذ دخولنا الغرفة، والآن بينما كنا نتحدث لاحظتُه يتأمله من وقت لآخر باهتمام مصاحَب بالفضول.

قال ثورندايك للحارس سميث بعد أن انتهى الكابتن من ترتيبات نقل الكرسيين: «يبدو أنكما مدخنان عتيدان.»

رد سميث: «بالفعل نحب تدخين التبغ يا سيدي بالفعل، هذه حقيقة، الحياة هنا رتيبة والتبغ رخيص.»

سأل ثورندايك: «كيف ذلك؟»

رد سميث: «هذا التبغ يُهدى لنا. السفن الأجنبية الصغيرة، لا سيما الهولندية، عادةً ما يقذف لنا طاقمها بكتلة منه أو كتلتين. لسنا على البر يا سيدي، لذا ليس علينا أن ندفع رسومًا.»

سأله ثورندايك: «إذن فأنتم لا تُزعجون مَن يهدونكم التبغ كثيرًا؟ ألا تحبون التبغ المقطَّع؟»

رد سميث: «كلَّا يا سيدي؛ سنضطر لشرائه، وسينفد سريعًا. نحن هنا نأكل البسكويت المملح وندخن التبغ الصلب.»

قال ثورندايك: «أرى لديكم رفًّا للغليون أيضًا، جميل.»

قال سميث: «نعم، صنعتُه في وقت فراغي. يجعل المكان منظمًا وأكثر ترتيبًا، بدلًا من أن نترك الغلايين مبعثرة في كل مكان.»

قال ثورندايك: «يبدو أن شخصًا ما ترك غليونه مهملًا.» وأشار إلى غليون على طرف الرف يغطيه العفن.

«نعم، هذا غليون زميلي بارسونز. لا بد أنه تركه هنا عندما غادر منذ شهر. إن العفن يتكون على الغليون بفعل الهواء الرطب هنا.»

سأل ثورندايك: «كم من الوقت يستغرق تكوُّن العفن على الغليون إذا تُرك مكانه بدون أن تمتدَّ إليه يد؟»

قال سميث: «هذا يعتمد على حالة الطقس. فحين يكون الطقس دافئًا ورطبًا، يبدأ الغليون في التعفن خلال أسبوع تقريبًا. ها هو الغليون الذي تركه بارنيت — الذي انكسرت ساقه — وقد بدأ يتعفن قليلًا. من المؤكد أنه لم يستخدمه ليوم أو يومين قبل رحيله.»

سأل ثورندايك: «وهل كلُّ هذه الغلايين الأخرى لك؟»

رد سميث: «كلَّا، يا سيدي. هذا الغليون لي، والأخير غليون جيفريز، وأعتقد أن الغليون الموجود في المنتصف له أيضًا. لكني لا أعرفه.»

قال الكابتن وهو يذرع المكان: «أنت تُولي الغلايين اهتمامًا كبيرًا يا دكتور، كما لو كنتَ تُجري دراسة خاصة عنها.»

رد ثورندايك عندما انصرف الحارس: «أفضل ما يمكن للإنسان دراسته هو الإنسان نفسه، ودراسة الإنسان تشمل الأشياء التي تظهر فيها شخصيته. الغليون مثلًا شيء شخصي. انظر إلى صفِّ الغلايين على الرف. كلُّ واحد منها يحمل ملامحه الخاصة التي تعكس تفاصيل شخصية صاحبه نوعًا ما. هاك غليون جيفريز على الطرف على سبيل المثال. ستجد المبسم معضوضًا حتى كاد يفنى، ووعاءَ التبغ مكشوطًا ومحززًا من الداخل والحافة مهترئة. كلُّ شيء يدل على غلظة في الاستعمال. إنه يعضُّ بقوة على المبسم أثناء التدخين، ويكشط وعاء التبغ بعنف، ويضرب الغليون بالحائط بعنف مبالغ فيه عند إفراغ الرماد. وصفات الرجل متماشية مع صفات غليونه بالضبط: قويٌّ، ومربع الفك، وأستطيع القول إنه عنيف في بعض الأحيان.»

وافقه الكابتن: «نعم، يبدو شخصًا عنيفًا جيفريز هذا.»

تابع ثورندايك حديثه: «لدينا بعد ذلك غليون سميث، بجانب غليونه، تجويفُه شبهُ ممتلئ بالتبغ، ومعظم أجزاء حافته محترقة، وهو ما يشي بإفراط صاحبه في الحديث؛ ما يجعله ينطفئ ويُعاد إشعاله باستمرار. ولكن أكثر ما يُثير اهتمامي من بين هذه الغلايين هو الأوسط.»

سألتُه: «ألم يَقُل سميث إن الغليون الأوسط هذا هو غليون جيفريز أيضًا؟»

رد ثورندايك: «نعم، لكن لا بد أنه مخطئ في ذلك. فهذا الغليون يختلف عن غليون جيفريز تمامًا في كل شيء. بداية، على الرغم من أنه غليون قديم، لا توجد على المبسم أيُّ علامات لأسنان. إنه الغليون الوحيد على الرف الذي يخلو من أي علامات، وحافته غير متضررة، أي أن صاحبه يستخدمه برفق، والحلقة الفضية حالكة السواد سوداء تمامًا، في حين أن الحلقة المعدنية لغليون جيفريز فاتحة تمامًا.»

قال الكابتن: «لم ألاحظ أن به حلقةً معدنية. لمَ اسودَّتْ إلى هذا الحد؟»

أخذ ثورندايك الغليون من أعلى الرف وتفحصه بعناية وقال: «كبريتيد الفضة، لا شك أن الكبريت قد امتد إليه من شيء يحمله صاحبه في جيبه.»

قال الكابتن جرامباس وهو يكبح تثاؤبه ويُحدِّث من النافذة نحو سفينة الخدمات البعيدة: «مفهوم. إنه مليء بالتبغ، ماذا تستنتج من ذلك؟»

قلب ثورندايك الغليون ونظر إلى المبسم عن كثب وقال: «أستنتج أنه ينبغي أن يتأكد الشخص من أن غليونه ليس مسدودًا قبل ملئه.» وأشار إلى المبسم الذي كان تجويفه مسدودًا تمامًا بزغب ناعم عَلِق به.

وقف الكابتن وهو يتثاءب مجددًا، ثم قال: «استنتاج رائع أيضًا. أستميحكم عذرًا، سأذهب لأتفقد سفينة الخدمات وسأعود بعد دقيقة. يبدو أنها تعبر إلى إيست جيردلر.» وأخذ التليسكوب من حامله وخرج إلى المنصة.

عندما خرج الكابتن، فتح ثورندايك سكين جيبه، وأدخله في تجويف الغليون، وأخرج به بعض التبغ على يده.

صحتُ متعجبًا: «إنه تبغ اللف الناعم، يا إلهي!»

رد ثورندايك وهو يُعيد التبغ إلى تجويف الغليون: «أجل. ألم تتوقع أن يكون كذلك؟»

أجبتُه معترفًا: «لم أتوقع أيَّ شيء، كنتُ منشغلًا بالحلقة المعدنية.»

قال ثورندايك: «نعم، إنها نقطة مثيرة للاهتمام، لكن دعْنا نرَ ما الذي يسدُّ الغليون.» فتح الحقيبة الخضراء وأخرج إبرة تشريح، واستخرج كرة صغيرة من الزغب من تجويف الغليون بعناية، ووضعها على شريحة زجاجية، وفرق أجزاءها في قطرة من الجلسرين ثم وضع شريحة تغطية، في حين انهمكتُ أنا في إعداد الميكروسكوب.

قال ثورندايك: «يستحسن أن تُعيد الغليون إلى الرف.» ووضع الشريحة تحت المجهر. نفذتُ ما طلب، ثم عدتُ بحماس غير قليل إلى المجهر لأراقبه وهو يفحص العينة. وبعد فحص سريع وقف وأشار بيده نحو الميكروسكوب.

وقال: «ألقِ نظرة يا جيرفيز.»

وضعتُ عيني على الميكروسكوب، وعدلتُ موضع الشريحة، وتعرفت على مكونات كرة الزغب الصغيرة. فوجدتُ الكثير من ألياف القطن، والقليل من ألياف الصوف، ولكن كان أبرز محتوياتها شعرتين أو ثلاث شعيرات؛ كانت دقيقةً للغاية اتخذت شكلًا متعرجًا وكانت انسيابية ومستوية بالقرب من طرفها الحر مثل نصل ريشة.

قلتُ: «هذه شعيرات لحيوان صغير؛ ليس فأرًا أو جرذًا أو أيًّا من القوارض. أظنه حيوانًا صغيرًا يتغذى على الحشرات. نعم! بالطبع! إنها شعيرات حيوان الخُلد.» وقفتُ مع إدراكي لأهمية الاكتشاف، ونظرتُ إلى زميلي في صمت.

قال ثورندايك: «نعم، لا تُخطئها العين، وهي أساس الفرضية.»

سألتُه: «هل تعتقد فعلًا أن هذا غليون الرجل الميت إذن؟»

رد ثورندايك: «وفقًا لقانون الأدلة المتعددة، هذا مؤكد. فكِّر في الحقائق بالترتيب. بما أن الغليون خالٍ من أي أثر لعفن، فهذا يعني أن الغليون ربما كان هنا منذ فترة قصيرة، وهو ما يعني بالضرورة أنه غليون بارنيت أو سميث أو جيفريز أو براون. وهو غليون قديم، لكنه خالٍ من أي آثار للأسنان، وهو ما يعني أن من استخدمه رجل ليس لديه أسنان. لكن بارنيت وسميث وجيفريز جميعًا لديهم أسنان وتترك علامات على الغليون، في حين أن براون ليست له أسنان. والتبغ الموجود في الغليون من تبغ اللف. لكنَّ أيًّا من الرجال الثلاثة الآخرين لا يدخن هذا النوع، في حين أن براون كان يحمل هذا النوع في كيسه. والحلقة الفضية مغطاة بالكبريتيد، وبراون كان يحمل في جيبه بجانب غليونه أعوادَ ثقاب مفردة ذات رءوس من الكبريت. كما وجدنا شعيرات لحيوان الخُلد في تجويف الغليون، وبراون كان يحمل كيسًا من جلد الخُلد في الجيب الذي يبدو أنه يحمل غليونه فيه. وأخيرًا، كان براون يحمل في جيبه غليونًا من الواضح أنه ليس صاحبَه، وكان يُشبه غليون جيفريز كثيرًا، كما كان فيه تبغ مثل الذي يدخنه جيفريز ومختلف عن ذاك الذي كان في كيس براون. يبدو الأمر قاطعًا تمامًا بالنسبة إليَّ، وخاصة إذا أضفنا إلى هذه الأدلة الحقائق التي في حوزتنا.»

سألتُه: «وما هذه الحقائق؟»

رد ثورندايك: «أولًا لدينا حقيقة أن المتوفى اصطدم رأسُه بقوة بجسم يغمر في الماء من وقت لآخر، ومغطًّى بأصداف البرنقيل البلوطي والديدان البحرية. وقوائم هذه المنارة ينطبق عليها ذلك الوصف بالضبط دون أيِّ جسم آخر في الجوار؛ فحتى الفنارات أكبر من أن تتسبَّب في جرح كهذا. والسكين ذات الغمد التي كان يحملها المتوفى مفقودة، ويد جيفريز بها جرح أحدثه سكين. لا بد أن تقرَّ بأن الأدلة الظرفية دامغة.»

في هذه اللحظة دلف الكابتن على عجل إلى الحجرة حاملًا التليسكوب في يده، وقال: «سفينة الخدمات في طريقها إلينا، تقطُر وراءها قاربًا غريبًا. أتوقع أن يكون القارب المفقود، فلو كان هو، فقد يفيدُنا بشيء. يستحسن أن تُجهِّزَا أغراضكما وتستعدَّا للصعود على متنه.»

أعدْنا الأدوات إلى الحقيبة الخضراء وأغلقناها ثم خرجنا إلى المنصة، حيث وجدنا الحارسَين يراقبان سفينة الخدمات القادمة، بدا على سميث اهتمامٌ وفضول صريحان، في حين كان جيفريز متململًا وكثير الحركة وبدا شحوبه جليًّا. وعندما توقفت السفينة أمام المنارة، نزل ثلاثة رجال من السفينة إلى القارب وسحبوه، ثم صعد أحدهم — وهو مساعد ربان سفينة الخدمات — سُلَّمَ المنارة.

سأل الكابتن: «أهذا هو القارب المفقود؟»

رد الربان وهو يصعد على سطح المنارة ويمسح يديه على الجانب الخلفي من بنطاله: «نعم، يا سيدي. وجدناه على بر إيست جيرلدر. لقد كانت ثمة شبهة في هذا الأمر يا سيدي.»

رد الكابتن: «أتظنه عملًا إجراميًّا؟»

«بلا شك سيدي. لقد نُزعت السدادة وتُركتْ قابعةً في القاع بلا تثبيت، ووجدنا سكين غمد مغروزة في الرافدة الطولية الأمامية بين ملفات الحبال. كانت مغروزة بقوة كما لو كانت قد أُسقطت من علٍ.»

رد الكابتن: «هذا غريب. أما بالنسبة إلى السدادة، فربما نُزعت مصادفة.»

قال مساعد الربان: «ولكنها لم تُنزَع مصادفة يا سيدي. لقد نُقلت أجولة الحصى التي تُثبِّت القارب من مكانها لخلع ألواح القاع الخشبية ونزع السدادة. علاوة على ذلك، لم يكن لبحار أن يترك قاربه يمتلئ بالماء، بل كان سيُعيد السدادة ويقفز من القارب.»

رد الكابتن جرامباس: «صحيح، كما أن وجود السكين مثيرٌ للريبة بكل تأكيد. ولكن من أين يمكن أن يسقط في عرض البحر؟ فالسماء لا تمطر سكاكين، لحسن الحظ. ما رأيك يا دكتور؟»

رد ثورندايك: «رأيي أنها سكين براون نفسها، وأنها سقطت من أعلى هذا السطح على الأرجح.»

التفت جيفريز بسرعة، وقد احمر وجهه من الغضب، وسأل: «ماذا تعني؟ ألم أَقُل إن القارب لم يَصِل إلى هنا قط؟»

رد ثورندايك: «بلى، ولكن إن صح ذلك، فكيف تُفسِّر العثور على غليونك في جيب المتوفى ووجود غليونه الآن على رف الغليون الخاص بك؟»

اختفت حمرة الغضب من فوق وجه جيفريز بنفس السرعة التي ظهرت بها وقال متلعثمًا: «لا أعلم عمَّا تتحدث.»

قال ثورندايك: «سأُخبرك. سأروي ما حدث، وصحِّحْ لي أقوالي إن أخطأتُ. وصل براون بقاربه إلى هنا وصعد إلى غرفة المعيشة ومعه صندوقه. ملأ غليونَه وحاول إشعاله، لكنه كان مسدودًا ولم يتمكن براون من سحب الدخان منه. فأعرتَه أنت غليونًا من عندك وملأتَه له. وبعد ذلك بقليل خرجتما إلى هذا السطح وتعاركتما. استخدم براون سكينَه للدفاع عن نفسه، فسقطت السكين من يده إلى القارب. ثم دفعتَه أنت من أعلى المنارة وسقط، واصطدم رأسُه بأحد قوائم المنارة في طريق سقوطه. بعدها نزعتَ سدادة القارب ودفعتَه ليغرق، وبعد ذلك ألقيتَ بالصندوق في البحر. حدث ذلك في الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق تقريبًا. صحيح؟»

وقف جيفريز يُحدق في ثورندايك وقد ارتسم على وجهه الذهول والرعب، ولكنه لم يَنبِس بكلمة.

كرر ثورندايك: «صحيح؟»

غمغم جيفريز: «يا لَلعجب! هل كنتَ هنا إذن؟ تتكلم كما لو كنتَ موجودًا هنا حينئذٍ.» وتابع وقد تمالك نفسه بعض الشيء: «على أيِّ حال، يبدو أنك تعرف كلَّ شيء. ولكنك أخطأتَ في أمر واحد. لم يحدث عراك. هذا الرجل براون لم تَرُقْه صحبتي ولم يُرِدِ المكوثَ هنا. كان سينصرف ويعود إلى البر ولكني لم أكن لأدعَه يرحل. فاستلَّ سكينه وهاجمني بها وتمكنتُ من إسقاطه من يده، فترنَّح متراجعًا إلى الخلف حتى سقط من أعلى المنارة.»

سأل الكابتن: «وهل حاولتَ إنقاذه؟»

سأل جيفريز: «وكيف عساي أن أنقذه والمدُّ متسارع وكنت وحدي في المنارة؟ لم أكن سأعود لو حاولت.»

سأل الكابتن: «ولكن ماذا عن القارب يا جيفريز؟ لماذا أغرقته؟»

رد جيفريز: «حقيقة الأمر أنني ارتبكتُ، وظننت أن أبسط خطة هي أن أُغرق القارب وأُنكر معرفتي بأي شيء عنه. ولكني لم أدفع براون. لقد كان حادثًا يا سيدي. أُقسم لك!»

قال الكابتن: «يبدو تفسيرًا منطقيًّا تمامًا. ما قولك يا دكتور؟»

رد ثورندايك: «منطقيٌّ تمامًا، أما عن صحته أو عدمها، فهذا ليس شأنَنا.»

قال الكابتن: «كلَّا. ولكني سأضطر للقبض عليك يا جيفريز وتسليمك للشرطة. هل تفهم ذلك؟»

أجاب جيفريز: «نعم يا سيدي، مفهوم.»

قال الكابتن جرامباس وهو يقضي أمسية معنا بعد ذلك بنحو ستة أشهر: «كانت هذه قضية غريبة، قضية منارة جيردلر، وكانت عقوبةُ جيفريز مخففة. ثمانية عشر شهرًا، أليس كذلك؟»

رد ثورندايك: «بلى، لقد كانت قضيةً في غاية الغرابة بالفعل. لكن كان هناك أمرٌ ما وراء هذا الحادث المزعوم. أغلب الظن أن هذين الرجلين التقيا من قبل الحادث.»

وافقه الكابتن: «هذا ما رجحتُه أيضًا، ولكن أغرب ما في الأمر حينئذٍ الطريقة التي اكتشفتَ بها كلَّ شيء. لقد صرتُ أُكنُّ أشد الاحترام للغلايين المصنوعة من أخشاب أشجار الورد الجبلي منذ ذلك الحين. كانت قضيةً استثنائية. لقد بدتْ لي طريقتُكَ في جعْل الغليون يروي تفاصيل الجريمة كلَّها ضربًا من السحر.»

قلتُ: «نعم، لقد نطق الغليون مثل المزمار المسحور في الحكاية الألمانية الشعبية «العظمة المُغنِّية»، الفرق أن ذاك غليونُ تدخين. هل تتذكرونها؟ إنها تحكي عن فلاح عثر على عظمة رجل مقتول فأخذها وحوَّلها إلى مزمار. ولكن عندما حاول أن يعزف عليه، انطلق المزمار من تلقاء نفسه يُغنِّي:

قتلني أخي ودفن عظامي تحت الرمال والحجر المترامي.»

قال ثورندايك: «قصة جميلة، وبها عبرة مهمة. لكل الجمادات من حولنا أغنية تغنيها لنا إذا كنا مستعدين للإصغاء لها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤