تصدير

منذ سبع سنوات خَلَتْ تقدَّمتُ لنيل درجة الماجستير، من كلية الآداب جامعة القاهرة، بأطروحة هي أول دراسة عربية على وجه الإطلاق، لفلسفة العلم عند كارل بوبر.

إن المبادأة والمبادرة باقتحام المعاقل الرحيبة الدافقة لهذا الفيلسوف المجدد العملاق لم تأتِ جزافًا، بل كادت تكون ضرورة قومية فرضت نفسها، فبوبر من أهم فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين؛ وذلك أولًا لأنه أقْدَر من استوعب وتمثل ومثَّل أحدث تطورات العلم المعاصر، وغني عن الذكر مسيس احتياجنا الحضاري الملح في هذه المرحلة المتعثرة إلى جرعات متزايدة من روح المنهج العلمي، إلى التشبع به؛ كيما يداني بيننا وبين اللحاق بركاب العصر، وكيما نكف عن استيراد الحلول الجاهزة لمشاكل واقعنا والذي يبلغ حد استيراد الإدارة الأجنبية لبعض المؤسسات! ولكي نتجاوز مرحلة أن نظل مستهلِكين مقتصرين على النقل دون الإضافة في العلم؛ أي في البحث الهادف إلى استكناه المجهول وإشباع نزوع العقل الإنساني نحو الفهم والتفسير، ومستهلِكين في التكنولوجيا؛ أي في التطبيق العملي لنتائج هذا البحث، غير منتجين لا في هذا، ولا في ذاك. فقط مستهلكون، هذا اللفظ الذي تربطه أواصر القربى اللغوية والواقعية بالهلاك، بينما ينتج آخرون، في شرق آسيا وشرق أوروبا، أضعاف احتياجاتهم، وهم ذوو موارد طبيعية أقل كثيرًا مما وهبنا الله إياه، لكنهم يملكون ما هو أهم، يملكون الأسلوب الأمثل لمواجهة الواقع واستغلال الطبيعة وتسخيرها؛ أي المنهج، أصول التفكير العلمي وطبائع الروح العلمية.

فكان لا بد من مد الجسور إلى كارل بوبر؛ لإثراء الفكر العربي بفلسفته الثرية، التي تحمل أكمل وأنضج النظريات في هذا الصدد.

وعلى الرغم من أنني تحت وطأة مقتضيات الطبع والنشر قد اضطررتُ لحذف الكثير من متن أطروحتي الضخمة، فإن الكتاب في صورته الراهنة ظل يحوي مجمل فلسفة بوبر، بسائر عناصرها بل وتفاصيلها، لم يترك كبيرةً ولا صغيرةً إلا وعالجها بإطناب أو أشار إليها باقتضاب، حسبما يقضي السياق. وعلى الرغم أيضًا من أن الأطروحة كانت أصلًا صدرت عنه خلال السنوات الماضية دراسات بوبرية أو متعلقة ببوبر … على الرغم من هذا وذاك، فإن هذا الكتاب يظل يحوي أشمل إحاطة عربية بنظريات بوبر، التي هي أشمل إحاطة فلسفية بالعلوم الطبيعية.

وبعدُ، فإن أطروحتي المتواضعة جدًّا، قد تجلَّلت وتكلَّلت بأن ناقشَتْها — في السابع عشر من شهر يونيو عام ١٩٨١م — لجنةٌ من كبار أساتذة الفلسفة في مصر، مكونة من أستاذتي الأثيرة الدكتورة أميرة مطر رئيس قسم الفلسفة بآداب القاهرة، وأستاذَيَّ الجليلَيْن الدكتور يحيى هويدي والدكتور صلاح قنصوة، وقد أجازتها اللجنة بامتياز، مع التوصية بتبادلها مع الجامعات الأخرى.

ويبقى امتناني وعرفاني لزوجي الفاضل، فبفضل ما أفاءه عليَّ من ظلالٍ وريفةٍ طوال رحلة العمر؛ استطعتُ إنجاز هذا العمل، وكل ما أنجزته قبله وبعده، بتوفيق من العزيز الحكيم.

يمنى طريف
منيل الروضة، في فبراير ١٩٨٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤