تمهيد

إيجاد معيار مقبول، يجب أن يكون المهمة الحاسمة لكل إبستمولوجي لا يقبل المنطق الاستقرائي.١

(١) ها نحن ذا قد وصلنا إلى بيت القصيد من هذه الدراسة: المعيار الذي وضعه بوبر لتمييز المعرفة العلمية التجريبية، أي معيار التكذيب، أو بدقة أكثر: معيار القابلية لإثبات الكذب، ولما كان هذا المعيار هو صلب فلسفة بوبر، فقد تناثر الحديث عنه في ثنايا البحث، مما يساعدنا أكثر على أن نعرضه في هذا الباب بصورةٍ واضحةٍ متكاملة.

(٢) فقد انتهينا حتى الآن إلى الآتي: ليس هناك استقراء من أي نوع كان، لا منطقي ولا سيكولوجي ولا براجماتي؛ لذلك فالحكم بأن العبارة علمية يستحيل أن يستند على أنها قائمة على عدد كبير جدًّا من الملاحظات، أو على كونها آتية من الخبرة، فضلًا عن أن أصل النظرية ومن أين أتت لا ينبغي أن يعنينا كثيرًا، بل إطلاقًا.

وإن معايير الوضعية واقعة في تناقضات ومصاعب، جعلتها غاية في الخلخلة والاهتراء؛ بحيث إنها لا تميز شيئًا، وكانت نتيجة مناقشة كل طور من أطوار معايير الوضعيين، هي أننا نبقى في فوضى معرفية في كنف معيار للتمييز لا مبرر لإقامته.

ولكننا انتهينا أيضًا — في مناقشة الوضعيين — إلى التباس حدود الميتافيزيقا بالعلم، فحقًّا أنها طوال تاريخها تقود تقدُّم العلم، إلا أنها ليست علمًا بالطبع، واختلاطها بالعلم دون حدود أو معايير، يمثِّل خطرًا معرفيًّا بالإضافة إلى ما هو أهم ألا وهو العلوم الزائفة التي تدَّعي القدرة على الإخبار عن الواقع في حين أنها ليست كذلك.

وكما أوضحَت مقدمة البحث، كانت العلوم الزائفة هي الشرارة التي فجَّرت مشكلة التمييز في ذهن بوبر، والتي من أجلها أساسًا بحث عن معيار لتمييز العلم، والتي من أجلها أيضًا توصل إلى أنه القابلية للتكذيب، وكان الصخب العلمي الذي ملأ أجواء النمسا إبان شباب بوبر حول القدرات المعرفية لنظريات فرويد وأدلر وماركس وآينشتين، في حين أن نظرة بوبر العلمية الفلسفية العميقة تؤكد له أنها ليست سواءً في المنزلة أو حتى في السمة العلمية، كان هذا هو الذي أكد له أن المهمة الأولى لمنطق المعرفة هي أن يقدم محاولة لتمييز العلم التجريبي تحكم استعمال هذا المصطلح، «محاولة لرسم خط بأفضل الطرق المستطاعة بين عبارات أو اتساق عبارات العلم الطبيعي، وبين سائر العبارات الأخرى سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية أو عبارات علوم زائفة.»٢ أو تحصيلات حاصل، فلنلاحظ أن بوبر — مثل الوضعيين ومثل غالبية المناطقة المعاصرين — يأخذ بالنتيجة العظيمة التي انتهَتْ إليها المدرسة المنطقية في فلسفة الرياضة بزعامة رسل ووايتهد، وهي الطابع التحليلي، التحصيل حاصل لقضايا المنطق الرياضية، أي الانتهاء إلى أنها لا تخبر بشيء البتة عن الواقع.
فالمعيار هو اقتراح مبدأ إذا خضع له نسق من الأفكار اعتبرناه علمًا تجريبيًّا طبيعيًّا أي يعطينا أخبارًا ومحتوى معرفيًّا، وقوة شارحة عن العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نعيش فيه، دونًا عن سائر العوالم الممكنة منطقيًّا، وهي فئة لا متناهية، ومن الناحية الأخرى ترومه نسقًا تجريبيًّا، يمثل عالمًا غير متناقض، أي عالمًا محتملًا منطقيًّا، لا يكون ميتافيزيقيًّا، بل وممثلًا لعالم الخبرة الممكنة: العالم التجريبي الواقعي.٣

وبوبر يزعم أن القابلية للتكذيب هي المعيار الذي يميز كل هذا، والذي يفرد نسق العلم التجريبي عن سائر الأنساق المعرفية الأخرى، مهما كانت صورتها المنطقية.

هذا الباب سيعرض لزعم بوبر هذا: معيار القابلية للتكذيب، يعرض الفصل الأول ماهية هذا المعيار أو كيف يمكن إجراؤه ونتائج هذا الإجراء، وأيضًا محاولة التخلص منه أو التحصين من التكذيب، في الفصل الثاني نناقش أسس هذا المعيار التجريبية، وفي الفصل الثالث نتعرض لتفاوت منزلة النظريات، أي درجات قابليتها للتكذيب، أما الفصل الرابع فهو لتطبيقات المعيار، وننهي الحديث بتعقيب هو مناقشة لمعيار التكذيب وفلسفة بوبر التكذيبية.

١  K. P., L. S. D., p. 3.
٢  K. P., C. and R., p. 39.
٣  K. P., L. S. D.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤